المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

‌الفصل الرابع

إسبانيا بعد الفتح الإسلامي

(1)

آثار الفتح الإسلامي. سياسة العدل والتسامح. أقوال النقد الغربي الحديث في ذلك. الحرية الدينية. المجتمع الإسلامي الجديد. عناصر الضعف فيه. العرب والبربر والمولدون. الخصومة بين اليمنية والمضرية. أسباب هذه الخصومة. رأى ابن خلدون في تعليلها. الخصومة بين العرب والبربر. أثر دعوة الخوارج في إذكائها. (2) الأقاليم الأندلسية الجديدة. تفرق القبائل في المدن المختلفة. منازل البربر في شبه الجزيرة. ولاية عبد العزيز بن موسى. تنظيمه للحكومة الجديدة. زواجه بأرملة ردريك. التوجس من سياسته. مقتله. بواعث هذه الجريمة. ولاية أيوب ابن حبيب اللخمي. نقل قاعدة الحكم إلى قرطبة. ولاية الحر الثقفي. قمعه للمنازعات والفتن. غزوه لسبتمانيا وافتتاحه لقواعدها. محاربته لثوار الشمال. الإضطراب في قرطبة. ولاية السمح بن مالك. فصل حكومة الأندلس عن إفريقية. فكرة عمر بن عبد العزيز في جلاء المسلمين عن الأندلس. إصلاحات السمح ومنشآته. غزوه لسبتمانيا. زحفه على تولوشة.

- 1 -

كان فتح الإسلام لاسبانيا فاتحة عصر جديد، وبدأ تطور عظيم في حياتها العامة وفي نظمها الاجتماعية. وقد كانت لعهد الفتح كما رأينا ترزح في غمر مرهقة من الجور والعسف، وكانت أقلية باغية من الأمراء والنبلاء تسود شعباً بأسره وتستغله أشنع استغلال، وتفرض عليه رسوم الرق والعبودية، وتستبيح منه كل الحريات والحرم. فجاء الإسلام ليقضي على ذلك كله، وليحمل نعم العدل والحرية والمساواة إلى الناس جميعاً، وليعطي كل ذي حق حقه، وليقمع البغي والظلم. وبالرغم من أن العرب شغلوا حيناً بتوطيد الفتح الجديد وتوسيعه، فإنهم استطاعوا في أعوام قلائل أن يقمعوا عناصر الشر والفوضى، وأن ينظموا إدارة البلاد المفتوحة، وأن يبثوا في الجزيرة روحا جديدا من العزم والأمل، فنشطت الزراعة والصناعة والتجارة بعد ركودها، وهبت ريح من الرخاء والدعة، على مجتمع أضناه العسف والفاقة مدى عصور.

قضى الفتح على سلطان الطبقات الممتازة، فتنفس الشعب الصعداء، وخف عن كاهله ما كان ينوء به من الأعباء والمغارم. وفرض المسلمون الضرائب

ص: 62

بالمساواة والاعتدال والعدل، بعد أن كان يفرضها حكم الهوى والجشع، وأمن الناس على حياتهم وحرياتهم وأموالهم. وترك الفاتحون لرعاياهم الجدد حق اتباع قوانينهم وتقاليدهم، والخضوع لقضائهم وقضاتهم، واختاروا في معظم الأحوال لهم حكاما من أبناء جنسهم، يعهد إليهم بسن الضرائب المطلوبة، والإشراف على النظام والسكينة. أما في شأن الدين وحرية العقائد والضمائر، فقد كانت السياسة الإسلامية مثلا أعلى للتسامح. فلم يظلم أحد أو يرهق بسبب الدين أو الاعتقاد، وكان أداء الجزية هو كل ما يفرض على الذميين من النصارى أو اليهود، لقاء الاحتفاظ بدينهم وحرية عقائدهم وشعائرهم، ومن دخل الإسلام منهم سقطت عنه الجزية، وأصبح كالمسلم سواء بسواء في جميع الحقوق والواجبات. ونرى في هذا الموطن أن نقدم طائفة من الأقوال والآراء التي يعلق بها المؤرخون والنقدة الغربيون، على سياسة الفتح الإسلامي وآثاره في اسبانيا. يقول العلامة المستشرق رينهارت دوزي:

" لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي مما يدعو إلى كثير من الشكوى بالنسبة لما كانت عليه من قبل. أضف إلى ذلك أن العرب كانوا يتحلون بكثير من التسامح. فلم يرهقوا أحداً في شئون الدين. ولم تكن الحكومة - إذا لم تكن مغرقة في الدين - لتشجع إسلام النصارى، إذ كانت خزانة الدولة تخسر بإسلامهم كثيرا. ولم يغمط النصارى للعرب هذا الفضل، بل حمدوا للفاتحين تسامحهم وعدلهم، وآثروا حكمهم على حكم الجرمان والفرنج وانقضى القرن الثامن كله في سكينة، وقلما نشبت فيه ثورة. كذلك لم يبد رجال الدين في العصور الأولى كثيراً من التذمر، وإن كانت لديهم أكثر البواعث لذلك. وهذا ما تؤيده روح الرواية اللاتينية التي كتبت سنة 754 في قرطبة، والتي تنسب لإيزيدور الباجي، فإن كاتبها رغم كونه من رجال الدين، يبدي نحو المسلمين من العطف، ما لم يبده أى كاتب إسباني آخر قبل القرن الرابع عشر ". ويقول دوزي عن آثار الفتح الإجتماعية: " كان الفتح العربي من بعض الوجوه نعمة لإسبانيا. فقد أحدث فيها ثورة إجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون .. وحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزعت الأراضي توزيعاً كبيرا، فكان ذلك حسنة سابغة، وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم العربي. ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة،

ص: 63

إذ كان الإسلام أكثر تعضيداً لتحرير الرقيق من النصرانية، كما فهمها أحبار المملكة القوطية. وكذا حسنت أحوال أرقاء الضياع، إذ غدوا من الزراع تقريبا، وتمتعوا بشىء من الإستقلال والحرية " (1).

ويقول الأستاذ لاين بول: " أنشأ العرب حكومة قرطبة التي كانت أعجوبة العصور الوسطى، بينما كانت أوربا تتخبط في ظلمات الجهل، فلم يكن سوى المسلمين من أقام بها منائر العلم والمدنية ".

" ماكان المسلمون كالبرابرة من القوط أو الوندال، يتركون وراءهم الخراب والموت. حاشا، فإن الأندلس لم تشهد قط أعدل وأصلح من حكمهم. ومن الصعب أن نقول أنى اكتسب العرب تلك الخبرة الفائقة بالشئون الإدارية، فقد خرجوا من الصحراء إلى الغزو، ولم يفسح لهم تيار الفتح مجالا يدرسون فيه إدارة الأمم المفتوحة "(2).

ويقول المستشرق الإسباني جاينجوس: " لقد سطعت في اسبانيا (الأندلس) أول أشعة لهذه المدنية، التي نثرت ضوءها فيما بعد على جميع الأمم النصرانية. وفي مدارس قرطبة وطليطلة العربية، جمعت الجذوات الأخيرة للعلوم اليونانية بعد أن أشرفت على الانطفاء، وحفظت بعناية. وإلى حكمة العرب، وذكائهم، ونشاطهم، يرجع الفضل في كثير من أهم المخترعات الحديثة وأنفعها "(3).

وقال المؤرخ الأمريكي سكوت: " في أقل من أربعة عشر شهراً، قضى

(1) II، p. 277 - 278. Dozy: Histoire، V. ويذكر دوزي من جهة أخرى أن الفتح أعقبته فترة من الفوضى نهب فيها المسلمون عدة أماكن، وأحرقوا عدة مدن وشنقوا بعض الأشراف، وقتلوا الأطفال بالخناجر، ولكن الحكومة العربية قمعت في الحال هذه الفظائع (ج 2 ص 275). ويندد من جهة أخرى بقضاء العرب على حرية الكنيسة، واستئثارهم بتكوين المجالس الدينية، وتعيين الأساقفة وعزلهم. ثم يقول إن العرب بعد أن توطد سلطانهم، كانوا أقل احتراما للمعاهدات المعقودة (ج 2 ص 281). ونقول نحن إن دوزي لم يعتمد في سرد هذه الفظائع إلا على الرواية النصرانية وهي متحاملة مغرضة تحمل طابع المبالغة، خصوصا فيما يتعلق بقتل الأطفال. أما تنديده بقضاء العرب على سلطة الكنيسة فليس مما يمكن تبريره، لأن سياسة الفتح المستنيرة، وبواعث توطيد دعائم الدولة الجديدة، تقضي بأن يأخذ الغالب بزمام كل السلطات في البلد المفتوح.

(2)

Lane - Poole: The Moors in Spain، Ch. I.

(3)

p VII & VIII.I.Gayangos: History of the Mohammedan Dynasties in Spain V.P

ص: 64

على مملكة القوط قضاء تاما، وفي عامين فقط وطدت سلطة المسلمين فيما بين إلبحر الأبيض المتوسط وجبال البرنيه. ولا يقدم لنا التاريخ مثلا آخر اجتمعت فيه السرعة والكمال والرسوخ بمثل ما اجتمعت في هذا الفتح

وقد كان المظنون في البداية أن الغزو إنما هو أمر مؤقت فقط. ولم يتوقع أحد أن يكون احتلال البلاد دائما. فلما استقرت الجماعات المستعمرة، وفتحت الثغور لتجارة المشرق، وأقيمت المساجد، أدرك القوط فداحة الخطب الذي نزل بهم. ولكن اعتدال حكامهم الجدد خفف من ألم الهزيمة. وكان دفع الجزية يضمن الحماية لأقل الناس، وكان يسمح للورع المتعصب أن يزاول شعائره دون تدخل، كمكا يسمح للملحد أن يجاهر بآرائه دون خشية المطاردة، والأحبار يزاولون شئونهم في سلام. أما أقوال الكتاب النصارى التي ينسبون فيها للعرب أفظع المثالب، فهي محض مبالغة أو افتراء " (1).

أجل، لم يك ثمة ما يدعو لأن يعتبر الفتح الإسلامي لاسبانيا كارثة قومية يفزع لها الشعب ويأسو، بل كان كل ما هنالك بالعكس يدعو إلى اعتباره نذير الخلاص والأمل. ألم يكن شعار الفاتحين التسامح والعدل والمساواة؟ لقد كان تسامح الإسلام نبراساً يشع بضوئه المنقذ في هاتيك المجتمعات التي أضناها الإرهاق الديني، ولم ير الإسلام بأساً من أن يستقبل النصارى واليهود إلى جانب المسلمين في مجتمع واحد، يسوي فيه بينهم في جميع الحقوق والواجبات، ولم ير بأساً من أن تقوم الكنائس والبيع إلى جانب المساجد، ألم يكن ذلك أبدع وأروع ما في سياسة الفتح الإسلامي؟ لقدكانت حرية الضمائر والعقائد والفكر، وما زالت منذ أقدم العصور، أثمن ما تحرص عليه الشعوب الكريمة وتذود عنه.

فإذا ذكرنا أن هذا التسامح الذي أبداه الإسلام نحو الأمم المغلوبة، وهذا الاحترام لضمائر الناس وعقائدهم، وهذه الحرية التي تركها لهم في إقامة شعائرهم، إنما جاءت بعد عصور طويلة من الاضطهاد الديني، اتخذت فيها مطاردة الضمائر والعقائد أشنع الأساليب والصور، استطعنا أن نقدر ما كان لذلك الانقلاب من

(1) Scott: ibid، V.I.P 260 & 264. وينوه باحث أمريكي حديث آخر هو الدكتور لي Lea بتسامح العرب والمسلمين خلال العصور الوسطى، وترفعهم عن الخصومات الدينية، وبغض الأجناس أو التفرقة بينها. راجع: History of the Inquisition in Spain V.I.P.356.

ص: 65

أثر عميق في نفسية الشعوب المغلوبة وعواطفها، وما كانت تحبو به حكم الإسلام من التأييد والرضى.

ويبدي كثير من العلماء الإسبان أنفسهم مثل هذا التقدير، والإشادة باعتدال السياسية الإسلامية وآثار مسلكها المستنير. ذلك أن العرب تركوا الشعب المغلوب دون مضايقة، يحيا حياته الخاصة في نظمه وتقاليده. وهذا ما يسلم به المستشرق سيمونيت، بالرغم من كونه من أشد العلماء الإسبان تحاملا، فهو يقول لنا " إنه فيما يتعلق بالقوانين المدنية والسياسية، فإن النصارى الإسبان احتفظوا في ظل حكم الإسلامي بنوع من الحكومة الخاصة، واحتفظ الناس بأحوالهم القديمة دون تغيير كبير؛ وفيما يتعلق بالتشريع، فإنهم قد احتفظوا في باب النظم الكهنوتية بقوانين الكنيسة الإسبانية القديمة، واحتفظوا في الناحية المدنية بالقوانين القوطية أو قانون التقاضي " Fuero Juzgo "، يخضعون لها في كل ما له علاقة بحكومتهم. وهي حكومة بلدية محلية، وما لم يكن يتعارض مع القوانين والسياسة الإسلامية "(1).

وفيما يتعلق بالناحية النظامية يقول العلامة ألتاميرا، إن أغلبية الشعب الإسباني الروماني والقوطي بقيت في ظل حكم المسلمين محتفظة برؤسائها (وهم الأقماط أو الكونتات Condes) وقضائها وأساقفتها وكنائسها، وبالجملة بقيت محتفظة بما يشبه استقلالها المدني الكامل. وقنع الولاة بأن يفرضوا على النصارى المحكومين الضرائب الشرعية " (2).

ويقول المستشرق كارديناس: " إن الفضل يرجع إلى تسامح الولاة والأمراء الأوائل، في أنه خلال العصور الأولى من الحكم الإسلامي، كان الشعبان - المسلمون والمستعربون (النصارى) - يعيشان جنباً إلى جنب عيشة حرة ".

" واستطاع المستعربون في ظل الحكم الإسلامي أن يحتفظوا باستقلالهم، ولغتهم وعاداتهم وقوانينهم، وأحياناً بأساقفتهم وكونتاتهم، وأن يسهروا على صيانة الفنون القوطية التي كان العرب أنفسهم يقتبسون من أساليبها "(3).

(1) V. I. p. 106 (Madrid 1897) D. Francisco J. Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana

(2)

R. Altamira y Crevea: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola (Barcelona 1900) T. I. P. 217

(3)

O. Almagro y Cardenas: La Cultura Arabigo - Sevillana (Sevilla 1894) P. 10

ص: 66

ونكتفي بما تقدم من أقوال المؤرخين والمفكرين الغربيين في الإشادة باعتدال السياسة الإسلامية وتسامحها. وفي أقوالهم أبلغ رد على ما ينسبه بعض الأحبار والعلماء المتعصبين لحكم المسلمين، من ضروب التعصب والطغيان المدني والديني.

غير أن هذا الدولة الجديدة التي أنشأها الإسلام في اسبانيا، كانت تحمل منذ البداية جرثومة الخلاف الخطر. وكان هذا المجتمع الجديد الذي جمع الإسلام شمله ومزج بين عناصره، يجيش بمختلف الأهواء والنزعات، وتمزقه فوارق الجنس والعصبية. كانت القبائل العربية ما تزال تضطرم بمنافساتها القديمة الخالدة، وكان البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش، يبغضون قادتهم ورؤساءهم العرب، وينقمون عليهم استئثارهم بالسلطهّ والمغانم الكبيرة، واحتلالهم لمعظم القواعد والوديان الخصبة، وكثيراً ما رفعوا لواء العصيان والثورة. وكان المسلمون الإسبان وهم " المولدون أو البلديون "(1) محدثين في الإسلام، يشعرون دائماً بأنهم رغم إسلامهم، أحط من الوجهة الاجتماعية، من سادتهم العرب. ذلك أن العرب رغم كون الإسلام يسوي بن جميع المسلمين في الحقوق والواجبات، ويمحو كل فوارق الجنس والطبقات، كانوا يشكون في ولاء المسلمين الجدد، ويضنون عليهم بمناصب الثقة والنفوذ، هذا إلى أن العربي في الأقطار القاصية التي افتتحها بالسيف، لم يستطع أن يتنازل عن كبرياء الجنس، التي كانت دائما من خواص طييعته، فكان مثل الإنكليزي السكسوني يعد نفسه أشرف الخليقة (2). على أن الخلاف بن العرب أنفسهم كان أخطر ما في هذا المجتمع الجديد من عوامل التفكك والانحلال، فقد كانت عصبية القبائل والبطون، ما تزال قوية حية في الصدور، وكان التنافس على السلطان والرياسة بين الزعماء والقادة، يمزق الصفوف ويجعلها شيعا وأحزاباً، وكانت عوامل الغيرة والحسد تعمل عملها في نفوس القبائل والبطون المختلفة. وأشد ما كانت تستعر نار ذلك الخلاف والتنافس بين اليمنية والمضرية، وذلك لأسباب عديدة ترجع إلى ما قبل الإسلام. منها أن الرياسة كانت لعصور طويلة قبل الإسلام في حمير وتُبع، أعظم القبائل اليمنية، وكانت لهم دول ومنعة وحضارة زاهرة، بينما كانت مضر بدوا متأخرين يخضعون لحمير ويؤدون

(1) ابن القوطية - افتتاح الأندلس - ص 30.

(2)

Ameer Ali: ibid، p. 118

ص: 67

الجزية لهم. وكان بينهما خصومات وحروب مستمرة طويلة الأمد، إذ كانت حمير تعمل للاحتفاظ برياستها وسلطانها، وتجاهد مضر في سبيل استقلالها وحريتها. ولنا في " أيام " العرب ووقائعها المشهورة، أمثلة رانعة من هذا النضال. قال ابن خلدون:" واستمرت الرياسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآماداً، بما كانت صبغتها لهم من قبل، وأحياء مضر وربيعة تبعاً لهم - فكان الملك بالحيرة ْللخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في بني جفنة، ويثرب كذلك في الأوس والخزرج. وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ظواعن بادية وأحياء ناجعة. وكانت في بعضهم رياسة بدوية وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء. ثم نبضت عروق الملك، وظهرت قريش على مكة ونواحى الحجاز، أزمنة عرفت فيها منهم ْودانت الدول بتعظيمهم. ثم صبغ الإسلام أهل هذا الجيل، فاستحالت صبغة الملك إليهم وعادت الدول لمضر من بينهم، واختصت كرامة الله بالنبوة بهم، فكانت فيهم الدول الاسلامية كلها، إلا بعضاً من دولها قام بها العجم اقتداء بالملة وتمهيداً للدعوة "(1). وهكذا أسفر النضال لظهور الإسلام عن تحول في الرياسة، إذ انتهت إلى قريش زعيمة المضرية، بعد أن لبثت عصوراً طويلة في اليمنية، وانقلبت الآية، فأصبحت المضرية تعمل على الاحتفاظ برياستها، واليمنية تجاهد في انتزاعها منها. وكانت مسألة اللغة أيضاً من أسباب ذلك الخلاف. ذلك أن لسان حمير، كان أصل اللغة العربية التي اعتنقتها مضر، وأسبغت عليها آيات باهرة من الفصاحة والبيان، ونزل بها القرآن الكريم على النبي القرشي المضري صلى الله عليه وسلم، فكانت اللغة من مفاخر مضر، تغار عليها وتحافظ على سلامتها ونقائها، بينما فسدت لهجات القبائل الأخرى بالاختلاط وضعف بيانها. وفي ذلك قول ابن خلدون:" ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وتميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وأياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم "(2). أضف إلى هذا وذاك ما كان بين الفريقين من تباين شديد

(1) ابن خلدون ج 2 ص 239 و240.

(2)

ابن خلدون ج 1 (المقدمة) ص 487.

ص: 68

في الطبائع والخلال، مما كان يذكى بينها أسباب النفور والتباعد. وقد كان الإسلام مدى حين عاملا قوياً في جمع الكلمة، وتوطيد الصفوف، وتلطيف أسباب الخصومة، ولاسيما في شبه الجزيرة العربية. ولكن ما كاد ينقضي العصر الأول، حتى هبت كوامن الخصومة والنضال من مرقدها، وعادت تعصف بوحدة المجتمع الإسلامي، وكان هذا الخلاف أخطر وأشد في الأقطار القاصية التي افتتحها الإسلام، ففتحت أمام القبائل والأجناس المختلفة، التي تعمل معا تحت لوائه، مجالا واسعا للتنافس والتطاحن. وكان هذا هو بالأخص شأن المجتمع الإسلامي المضطرم المتنافر، الذي قام عقب الفتح في اسبانيا.

وكانت إفريقية وهي أقرب قطر إسلامي لإسبانيا، وتتبعها حكومة الأندلس من الوجهة الإدارية، تفيض أيضاً بعناصر اضطراب خطرة. فقد نزح إليها الدعاة الخوارج منذ أواخر القرن الأول، وذاعت مبادئ الخوارج الثورية بين البربر بسرعة، لحداثة عهدهم بالإسلام، وتعددت نحلهم وطوائفهم، واشتد الخلاف والجدل فيما بينهم، وفسد من جهة أخرى مابينهم وبين العرب من علائق الإخاء والمودة، وكثر نزوعهم إلى الثورة. وهذا ما يصفه ابن خلدون في قوله:" ثم نبضت فيهم (أى البربر) عروق الخارجية، فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق، وتعددت طوائفهم، وتشعبت طرقها من الإباضية والصفرية. وفشت هذه البدعة، وعقدها رؤوس النفاق من العرب، وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة الانتزاء على الأمر، فاختلفوا في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر، تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها، إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمر العرب "(1). واشتد تحريض الخوارج على حكومة الأمويين في إفريقية، بعد أن أخفقوا في مقاومتها في العراق، وتوالت الثورات والحروب الأهلية حينا. وكان لذلك كله صداه في اسبانيا، وخصوصا بن البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش، فاضطرب أمر الحكم والنظام في الأندلس، وذكا الخلاف بين الزعماء والقادة على نحو ما قدمنا، ولبثت حكومة اسبانيا العسكرية مدى حين عرضة للخروج والثورة، وذهب ضحية الفتنة جماعة من الحكام والزعماء كما نفصل بعد.

(1) ابن خلدون ج 6 ص 110.

ص: 69

- 2 -

عنى الفاتحون عقب الفتح بتنظيم شئون الحكم والإدارة، فقسمت اسبانيا على ضوء تقسيمها القديم أيام الرومان والقوط، في المبدأ، إلى أربع ولايات كبيرة على رأس كل منها حاكم محلي يعينه الحاكم العام، ويُسئل أمامه مباشرة عن أعماله وشئون إدارته. أما حاكم الأندلس أو واليها العام، فكان تعيينه في المبدأ راجعا إلى حاكم إفريقية يختاره بموافقة الخليفة.

وكانت الولاية الأولى تشمل إقليم الأندلس، الممتد بين البحر المتوسط ونهر الوادي الكبير، وما يلي هذا النهر حتى نهر وادي أنة أو وادي يانة، وأشهر مدنها قرطبة، وإشبيلية، ومالقة، وإستجة، وجيان. وتشمل الثانية جميع اسبانيا الوسطى، من البحر المتوسط شرقا إلى حدود البرتغال غربا (لوزيتانيا)، ثم إلى نهر دويره (دورو) شمالا، وأشهر قواعدها طليطلة، على نهر تاجُه، وقونقة وشقوبية، وبلنسية، ودانية، ولقنت، وقرطاجنة، ومرسية، ولورقة، وبسطة. وتشمل الثالثة جليقية ولوزيتانيا (البرتغال القديمة)، وأشهر قواعدها ماردة، ويابرة، وباجة، وأشبونة، وقلمرية، ولك، وأسترقة، وشلمنقة وغيرها. وتمتد الرابعة من نهر دويره إلى جبال البرنيه (جبال البرت أو الممرات) على ضفتي نهر إبره (إيبرو)، وغربا إلى جليقية. وأشهر قواعدها سرقسطة، وطرطوشة، وطركونة، وبرشلونة، وأرقلة (أرجل)، وبلد الوليد، ووشقة، وببشتر وغيرها. ولما اتسع نطاق الفتوح الإسلامية شمالا، أنشئت ولاية خامسة شمالي جبال البرنيه شاملة لأربونة، ونيمة (أونومشو)، وقرقشونة، وبزييه، وأجده، وماجويلون (أو مقلون)، ولوديف (1).

ففي هذه الولايات والقواعد الجديدة تفرقت القبائل والعشائر المختلفة، فنزلت قبائل دمشق بكورة قرطبة، وحمص بإشبيلية ولبلة وأنحائهما، وقنسرين بجيان وأنحائها، وفلسطين بشذونة والجزيرة وريُّه ومالقة وأنحائها، وقبائل اليمن بطليطلة وأراضيها، ونزل الفرس بشريش وأحوازها، والعراقيون، بكورة إلبيرة (غرناطة).

(1) يقدم لنا أبو عبيدة البكرى في وصفه للأندلس تفصيلا لهذا التقسيم، ويسميه تقسيم قسطنطين. وهو يقوم على تقسيم اسبانيا إلى ست وحدات إدارية، تقترب في أوضاعها مما ذكر. (راجع الروض المعطار - الترجمة الفرنسية ص 246).

ص: 70

والمصريون بتدمير وماردة وأشبونة وأراضيها، واستقر الحجازيون بالقواعد الداخلية (1).

وأما البربر فقد نزل أغلبهم بالأطراف الغربية في نواحي ماردة وبطليوس وأراضي البرتغال، ونواحي الثغر الأوسط شمالي طليطلة فيما وراء نهر التاجُه، وفي بعض أنحاء الثغر الأعلى، وفي قطاع قونقة والسهلة، ونزلت أقليات منهم بين القبائل العربية، بنواحي شاطبة ولقنت، وفي أحواز شذونة وأراضي الفرنتيرة (2). ويلاحظ من الناحية الإقليمية، أن القبائل العربية قد احتلت معظم البقاع والوديان الخصبة في شبه الجزيرة، وأن البربر نزلوا أو بعبارة أخرى أنزلوا بالعكس في معظم الأقاليم والهضاب القاحلة، ولم يحتلوا من البقاع الخصبة سوى القليل. وقد كان هذا التقسيم المجحف للأقاليم المفتوحة عاملا آخر في ازدياد الشقاق بين العنصرين الفاتحين - العرب والبربر -. وسنرى فيما بعد كيف كان استقرار البربر في تلك الأطراف الوعرة النائية، من العوامل التي شجعتهم على تحدي السلطة المركزية، ورفع لواء الثورة من آن لآخر.

وقد ذكرنا أن موسى بن نصير قبل رحيله إلى المشرق في شهر ذي الحجة سنة 95، اختار ولده عبد العزيز لولاية الأندلس، فكان أول ولاتها من المسلمين، وأنه استخلف ولده عبد الله في ولاية إفريقية، وأن سليمان بن عبد الملك أقر هذا الاختيار. فقضى عبد العزيز بن موسى في ولايته زهاء عامين عنى فيهما بتحصين الثغور، وقمع الخروج والعصيان، وافتتح عدة أماكن وحصون، وأبدى همة في تنظيم الحكومة الجديدة وإدارتها، وأنشأ ديوانا لتطبيق الأحكام الشرعية وتنسيقها، لتوافق مشارب الرعايا الجدد، ولتجمع حولها كلمة المسلمين من مختلف القبائل، وشجع الزواج بين العرب والإسبان، وتزوج هو بالملكة إيجلونا (3) أرملة ردريك ملك القوط، واختار في إشبيلية عاصمة، الأندلس

(1) ابن خلدون ج 4 ص 119.

(2)

يقدم لنا ابن حزم في كتاب " الجمهرة " بيانا مفصلا عن القبائل والبطون البربرية التي نزلت في شبه الجزيرة، والنواحي التي نزلت بها. راجع " جمهرة أنساب العرب "(القاهرة) ص 464، 465.

(3)

ويسميها العرب " إيلة " أو أم عاصم. وقال الواقدي، ونقله ابن عبد الحكم، إنها كانت ابنة ردريك لا زوجته (أخبار مصر ص 212)، وكذا ورد في البيان المغرب (ج 2 ص 22).

ص: 71

الجديدة، دير " سانتا روفينا " ليكون مقاما له ولزوجه، وفيه أجريت أول تعديلات على الطراز العربي، ووفد عليه المهاجرون من مصر والشأم والعراق وفارس، فأحيوا بالجزيرة سبل الزراعة والصناعة والتجارة. ولكنه لم يستطع أن يوفق بين مختلف القبائل، ولا أن يهدىء من فورة الجند. هذا إلى ما ثار من ريب حول مقاصده ونياته، بانقياده إلى زوجه، واتخاذه نوعاً من رسوم الملك، حتى قيل إنه تنصر، وقيل إنه كان يبغى الملك ويسعى إليه بتحريض زوجه، ويعمل للاستقلال بإسبانيا (1).

وهذا ما يراه المستشرق سيمونيت، إذ يقول إن عبد العزيز بن موسى كان يدبر مشروعا يرمي إلى الاستقلال بإسبانيا، والى أن يؤسس مملكة أو إمارة مستقلة فوق أنقاض المملكة القوطية، وقد كان مما يدفعه إلى هذا العزم، فضلا عن طموحه الشخصي، تحريض زوجه إيجلونا، التي كانت تضطرم رغبة في استرداد تاجها القديم، وأسباب أخرى تتعلق بالسياسة العليا. ولم يكن يخفى عليه أن سلطان خلفاء المشرق، غدا قاصراً عن أن يسيطر على هذا القطر الغربي، الذي كان سكانه الوطنيون أقل انحطاطا من الأمم الأخرى التي فتحها المسلمون، والذي كان يقدم إلى الفاتحين بعدده وحضارته مزية عظيمة (2). وبالرغم من أنه ليست لدينا أدلة حاسمة على مشروع عبد العزيز بن موسى في الاستقلال باسبانيا، فإنه يبدو ممكنا ومعقولا في الظروف التي كانت تجوزها اسبانيا يومئذ. وعلى أي حال، فإن خصومه شنوا عليه وعلى تصرفاته دعاية قوية انتهت بالثورة، فوثب به جماعه من الجند على رأسهم وزيره حبيب بن أبي عبدة الفهري، وقتلوه أثناء صلاته بأحد مساجد إشبيلية، وذلك في رجب سنة 97 (يناير 716 م)، وبعثوا برأسه إلى دمشق. ومن المرجح أن يد الخلافة لم تكن بعيدة عن هذه المؤامرة، وأن سليمان بن عبد الملك هو روحها والمحرض عليها، فمن المعقول أن يتوجس سليمان ريبة من عبد العزيز ومقاصده، بعد الذي أنزله بأبيه موسى، وأن يرى التخلص منه وسيلة لتأمين الخلافة على سلطانها في ذلك القطر الجديد. وفي اهتمام

(1) ابن الأثير، ج 5 ص 8. وراجع C. Julian: ibid، p. 778

(2)

F.J. Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana، Vol. I، P. 147

ص: 72

الجناة بإرسال رأس القتيل إلى دمشق اتهام واضح للخليفة. وقد عزل سليمان، عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية، في نفس الوقت. الذي قتل فيه عبد العزيز، وهو ما يؤيد هذا الفرض. أيضا. والواقع أن أكثر من رواية إسلامية وثيقة يلقى تبعة هذه الجريمة على سليمان، ويتهمه البعض صراحة بأنه مدبرها، بل لقد ذهب بعضهم إلى القول بأن سليمان لم يكتف بأن حمل الجناة إليه رأس عبد العزيز، وأنه عرضها على أبيه موسى زيادة في إيلامه والتشفي منه (1)، على أن سليمان لم يعدم من الرواة من يبرئه من ارتكاب هذه الجريمة، فقد ذكر لنا صاحب " أخبار مجموعة " أن سليمان أسف لمقتل عبد العزيز، أو بعبارة أخرى أنه برىء من تبعة مقتله، وهي الرواية الوحيدة من نوعها، وهي رواية ظاهرة الضعف (2).

وعلى أثر مقتل عبد العزيز، اتفق الزعماء في إشبيلية على تولية أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، وكان عاقلا صالحا، فهدأت الخواطر نوعاً، ولبث في ولايته ستة أشهر نقلت خلالها قاعدة الحكم من إشبيلية إلى قرطبة باتفاق الجماعة (3). ثم أقاله محمد بن يزيد الذي خلف عبد الله بن موسى في ولاية إفريقية، وعين لولاية الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فقدمها في ذى الحجة سنة 97 في جماعة كبيرة من وجوه إفريقية. وأنفق الحر صدر ولايته في قمع الفتن والمنازعات التي كانت قائمة بين العرب والبربر، وإصلاح الجيش، ومطاردة الخوارج والمعتدين من الجند، وتنظيم الإدارة وتوطيد الأمن، وكان صارماً جائراً شديد الوطأة. ثم سار نحو الشمال في جيش ضخم ليستعيد المدن والحصون الشمالية التي غزاها المسلمون من قبل، فعبر جبال البرنيه واخترق ولاية سبتمانيا (4) أو لانجدوك في ربيع سنة 718 (99هـ)، وكانت مدن سبتمانيا قرقشونة

(1) راجع ابن عبد الحكم ص 212 و213؛ والبيان المغرب ج 2 ص 22 و23؛ وابن الأثير ج 5 ص 8، وابن القوطية (ص 41) وهو صريح في أن سليمان هو الذي دبر الجريمة وعهد بتنفيذها إلى جماعة معينة من الجند، وابن خلدون وهو صريح أيضا في أن الجريمة تمت بتحريض سليمان (ج 4 ص 118).

(2)

راجع أخبار مجموعة ص 22.

(3)

وهناك رواية أخرى في أن الذي نقل قاعدة الحكم إلى قرطبة هو الحر الثقفي، راجع البيان المغرب ج 2 ص 24 و25؛ ونفح الطيب ج 2 ص 56.

(4)

سميت كذلك لاحتوائها على المدن السبعة أربونة وقرقشونة وأجدة وبيزييه ولوديف ونيمة وماجويلون.

ص: 73

وأربونة وبزييه ونيمة تابعة لمملكة القوط، وكانت تخلفت عن الطاعة بعد أن غزاها المسلمون لأول مرة بقيادة موسى بن نصير على نحو ما قدمنا. فافتتحها الحر واستولى عليها، وتابع زحفه حتى ضفاف نهر الجارون. ولكنه اضطر أن يعود أدراجه، إذ علم أن النصارى في منطقة نافار الجبلية (نبره أو بلاد البشكنس)، قد نظموا حركة مقاومة خطيرة، وأن الأمور قد اضطربت في قرطبة. وكان النظام قد اختل، وعادت المنازعات والدسائس تعمل عملها، في تقويض الأمن والسكينة، فأنفق الحر حينا آخر في قمع الفتنة، حتى عزله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، في منتصف سنة مائة لقسوته وصرامته، واضطراب النظام في عهده، فكانت ولايته سنتان وثمانية أشهر، سادت فيها القلاقل والفتن.

واختار عمر بن عبد العزيز لولاية الأندلس السمح بن مالك الخولاني. وقرر أن تكون الأندلس ولاية مستقلة عن إفريقية تابعة للخلافة مباشرة، لما رآه من أهميتها واتساع شئونها، وكانت إلى ذلك الحين تابعة لعامل إفريقية وإليه تعيين ولاتها. ويقال إن عمر بن عبد العزيز فكر في إخلاء الأندلس وإجلاء المسلمين قاطبة عنها، لانقطاعهم بها، وعزلتهم فيما وراء البحر عن باقي أقطار الخلافة، فقيل له إن المسلمين قد تكاثروا بها واستقروا، فعدل عن مشروعه. " قالوا وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلا أن يستنقذهم الله برحمته "(1). وقدم السمح إلى الأندلس في رمضان سنة مائة (إبريل سنة 719) مزوداً بنصح الخليفة في أن يتبع الرفق والعدل، وأن يقيم كلمة الحق والدين. وكان السمح حاكما وافر الخبرة والحكمة والعقل. فقبض على زمام الأمور بحزم وهمة، وبادر بقمع المنازعات والفتن، وإصلاح الإدارة والجيش. وخمس جميع أراضي الأندلس التي فتحت عنوة، أعني مسحها وقرر عليها الخراج بنسبة الخمس.

ويقول لنا العلامة ألتاميرا، فيما يتعلق بتوزيع أراضي الأندلس ما يأتي:

" وقد ترك الفاتحون للإسبان الذين أسلموا أو خضعوا، سواء أكانوا جندا

(1) أورد هذه الرواية صاحب البيان المغرب (ج 2 ص 25)، ونقلها المقري عن ابن حيان مؤرخ الأندلس (ج 2 ص 56)، وأشار إليها ابن الأثير أيضاً (ج 5 ص 182).

ص: 74

أم نبلاء - حقوقهم في ملكية أملاكهم كلها أو بعضها، مع فرض ضريبة عقارية عليهم مشابهة للخراج هي (الجزية)، على الأراضي المنزرعة والأشجار المثمرة، واتبعت هذه القاعدة نحو بعض الأديار، كما حدث في الامتياز الذي منح لمدينة " قُلُمرية "، وأبيح لهؤلاء الملاك فوق ذلك حرية التصرف في أملاكهم، وهو حق كان وفقا للقوانين الرومانية القديمة مقيدا أيام القوط. وأما مازاد عن الخمس في الأراضي التي استولى عليها الفاتحون، فقد وزع بين الرؤساء والجند، وبين القبائل التي يتألف منها الجيش.

" وقد روعي في توزيع الأراضي أن تخصص الولايات الشمالية، وهي جليقية وليون والأسترياس للبربر، وأن تخصص الولايات الجنوبية، أعني الأندلس للقبائل العربية. وكان يفرض على العمال الملازمين siervos من القوط، الذين يشتغلون بزرع الأرض، أن يدفعوا للسيد أو القبيلة المالكة ثلثي أو ثلاثة أخماس المحصول. وكان من أثر ذلك أن تحسنت أحوال المزارعين، كما أنه أدى في نفس الوقت إلى تقسيم الملكية وتمزيق الملكيات الكبيرة. كذلك تحسنت حال العبيد، لأن المسلمين كانوا يعاملونهم بأفضل مما كان الإسبان الرومان والقوط، ولأنه كان يكفي أن يدخل العبد في الإسلام ليغدو حرا "(1).

وأنشأ السمح قنطرة قرطبة الشهيرة، على نهر الوادي الكبير، تحقيقا لرغبة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وأبدى في جميع أعماله حزما ورفقا وعدلا، فالتف الزعماء حوله، وخبت الفتنة وهدأت الخواطر، واستقر النظام والأمن.

وكان السمح فوق كفايته الإدارية جندياً جريئاً وقائداً عظيماً. فلما انتهي من مهمة التنظيم والإصلاح، تأهب لاستئناف الغزو، وتوطيد سلطان الخلافة في الولايات الجبلية، والقواعد الشمالية، التي لم يستطع أن يتمم إخضاعها الحر الثقفي. فزحف على لانجدوك (سبتمانيا) في أواخر سنة 719 م في جيش ضخم، وفي جماعة كبيرة من وجوه الزعماء والقادة، واخترق جبال البرنيه من الشرق من ناحية روسيون، واستعاد أربونة وقرقشونة ومعظم قواعد سبتمانيا وحصونها، وعاث في تلك الأنحاء، وشتت كل قوة تصدت لمقاومته. ووقعت هذه الغزوة

(1) R. Altamira. Historia de Espana. V.I.p. 217-218.

ص: 75

الشاملة في سنة 720 م (101 هـ). ويقول إيزيدور الباجي إن العرب اجتاحوا يومئذ غاليس القوطية كلها وجميع قواعد سبتمانيا (1). ثم اتجه السمح بعد ذلك نحو الشرق ليغزو مملكة الفرنج الجنوبية أو أكوتين، وزحف توا على قاعدتها تولوشة (تولوز)(2)، وبدأ بذلك النضال بين العرب والفرنج في بسائط غاليس قوياً رائعاً.

(1) Dom Vissette: ibid. V.I.p. 781.

(2)

ويسميها ابن عذارى طرسونة (البيان المغرب ج 2 ص 25) وهو تحريف ظاهر لأن طرسونة كانت من أعمال تطيلة في شمال شرق الأندلس (راجع معجم ياقوت).

ص: 76