المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

‌الفصل الثاني

خلال المنصور ومآثره

الناصر والمنصور. المنصور يشق طريقه إلى السلطان. وسائله في ذلك. جيش المنصور وأهباته. شغفه بالجهاد. نتائج غزواته. الصوائف الإسلامية. عقمها وأثرها في إنهاك الجيوش الإسلامية. عبقرية المنصور الإدارية. استقرار الأمن والرخاء في عهده. وزراء المنصور وكتابه. أعماله الإنشائية. توسيعه للمسجد الجامع. تجديده لقنطرة قرطبة وإنشاؤه لقنطرة إستجة. جوده وبذله. مفاخرته بنشأته المتواضعة. صرامته في إقامة العدل. شغفه الشراب. براعته العلمية والأدبية. رعايتة للعلماء والأدباء. صاعد البغدادي شاعر المنصور. ديوان الندماء. مجالس المنصور الأدبية. شغفه بجمع الكتب. مقته للفلسفة والتنجيم. شعره ونثره. وصيته لابنه عبد الملك. وصيته لغلمانه. علائقه الدبلوماسية. مصاهرته لسانشو غرسية ملك نافار. وفود سانشو إلى الزاهرة. عبد الرحمن ولد المنصور وحفيد سانشو. إشادة الروايات الإسلامية بعظمة المنصور وخلاله. إشادة النقد الغربي بعبقريته السياسية والعسكرية.

كان المنصور بن أبي عامر عبقرية فذة، تمثل ذروة النبوغ الشعبي، والطموح الفردى؛ فقد خرج المنصور من صفوف الطبقة الوسطى، وشق طريقه بساعده وهمته إلى السلطان والرياسة، ولم تسعفه في ذلك نشأة ملوكية، أو انقلاب عنيف، ولم يكن عزمه في بلوغ ذلك أقل شأناً من تألق طالعه، وقد وصل المنصور إلى مرتبة من السلطان والقوة، لم يصل إليها أحد قبله من أعاظم أمراء الأندلس حتى ولا عبد الرحمن الناصر نفسه. ويمكننا أن نقول إنه إذا كان عهد الناصر ألمع صفحة في تاريخ اسبانيا المسلمة، من النواحي السياسية والحضارية، فإن عهد المنصور لا يقل عنه لمعاناً وتألقاً، بل ربما امتاز على عهد الناصر، بما أحرزته اسبانيا المسلمة خلاله، من تفوق عظيم في السلطان والقوى العسكرية، في شبه الجزيرة الإسبانية. فقد استطاعت إسبانيا النصرانية في عهد الناصر، أن تنتهز فرصة الفتن الداخلية بالأندلس، وأن توطد قواها العسكرية، وأن تغزو الأندلس غير مرة غزوات مخربة، وقد لقى الناصر على يد النصارى غير هزيمة فادحة، أما في عهد المنصور، فقد انتهت اسبانيا النصرانية إلى حالة يرثى لها من التفكك والضعف، واستمرت زهاء ثلث قرن تتلقى ضربات المسلمين الساحقة

ص: 568

المتوالية. وقد وصل المنصور في غزواته في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى مواطن لم يبلغها فاتح مسلم من قبل.

بدأ المنصور حياته في حلبة العلم والدرس، ولكن سرعان ما تفتحت مواهبه الإدارية والسياسية، فجاز مراتب المناصب السلطانية بسرعة، وظهر في كل منها بفائق كفايته وحزمه. وما كاد يختفي الحكم المستنصر من الميدان ويقوم ولده الطفل هشام في الخلافة، حتى تبلورت مطامع المنصور، واتجهت تواً إلى غايتها البعيدة، فكان الصراع مع الفتيان الصقالبة، ثم مع الحاجب جعفر، ولم يتح بعد ذلك لأية قوة معارضة أن تقف في سبيله. ولما اجتمعت سائر السلطات في يده، اتشح بثوب الحاكم المطلق، الذي لا يطيق أية مشاركة في سلطانه أو أي اعتراض لرأيه، ولم يدخر وسعاً في أن يخمد أية نزعة للخروج أو الثورة على حكمه.

وهنا تبرز النواحي القاتمة في عبقرية المنصور، فنراه يلجأ في تدعيم سلطانه وحمايته إلى نفس الوسائل الميكيافيللية التي يلجأ إليها الطغاة دائماً في كل قطر، وفي كل عصر: إلى القتل، والغيلة، والخديعة، وكل ضروب العنف المثير، ونراه يسير إلى تحقيق الغاية بأي الوسائل، ولا يعف في ذلك السبيل عن ظلم يقع، أو دم يسفك، حتى ولو كان دم ولده بالذات.

على أن هذه الوسائل المثيرة التي كانت سياجاً لسلطان المنصور، ودعامة لدولته، والتي هي دائماً من لوازم الحكم المطلق، يجب ألا تحول أنظارنا عن حقيقة ناصعة أخرى، وهي أن المنصور لم يستخدم هذا السلطان إلا لخير دينه، وخير الأمة التي نصب نفسه حاكماً عليها، ومشرفاً على مصايرها؛ ولعل الإسلام في شبه الجزيرة الإسبانية، لم يظفر قط بمجاهد في بطولة المنصور، وتفانيه في الذود عن دينه، وإعلاء كلمته، ولعل الأندلس لم تر قط مثل المنصور، زعيماً أخلص في خدمتها، وكرس جهوده ومواهبه في بناء قوتها وعظمتها، وسحق عدوها، وتحقيق أمنها ورخائها.

وقد أدرك المنصور منذ البداية، أنه يجب لتحقيق سلام الأندلس وأمنها، وردع الممالك النصرانية عن عدوانها المستمر، أن يكون للأندلس قوة عسكرية عظيمة، تكفي لإرهاب عدوها، وإعزاز دينها، ومن ثم فقد بذل جهده لإصلاح الجيش الأندلسي، وتقويته، وتزويده بأفضل العناصر المحاربة. وقد رأى

ص: 569

المنصور أن يعتمد على البربر بالأخص، لما كانوا يتصفون به من البداوة والشجاعة، فاستقدمهم من العدوة، ورغبهم بوفرة البذل والعطاء (1). وكذلك استخدم المرتزقة من النصارى الإسبان، ومنحهم الأجور والجرايات السخية؛ وكان يجمع في جيشه الكثير منهم، ومعظمهم من المستعربين، وكان يحرص على رضائهم بتوسيع النفقة عليهم، معاملتهم بالمساواة والرفق (2). واستطاع المنصور بما وضعه للجيش من أنظمة محكمة، وما أفاض عليه من وافر النفقة والعدد، أن ينشىء للأندلس قوة عسكرية عظيمة، لم تعرفها في أية عهد آخر. وكانت هذه القوة فضلا عن كونها دعامة سلطانه وحكمه، دعامة الأندلس وأداتها للدفاع والغزو.

ونستطيع أن نقدر أهمية الجيش الأندلسي وكفايته أيام المنصور، متى ذكرنا أن المنصور لبث زهاء ربع قرن، يقود قواته إلى الغزو المستمر، في أراضي الممالك النصرانية، كل ربيع وكل صيف، وأنه في نفس الوقت كان يبعث الحملات العسكرية العظيمة إلى المغرب، لتخوض سلسلة من الحروب الطاحنة. وقد بلغ من كثرة قوى الجيش النظامية وكفايتها، أن أصدر المنصور في سنة 388 هـ (998 م) أمره بإعفاء الناس من إجبارهم على الغزو، اكتفاء بعدد الجيش المرابط، وقرأ الخطباء ذلك المرسوم على الناس، إثر قراءة كتب الفتح، وعرفوا فيه " بأن من تطوع خيراً، فهو خير، ومن خف إليه، فمبرور ومأجور، ومن تثاقل فمعذور "(3).

وقد أورد لنا ابن الخطيب (عن التيجاني) بعض الإحصاءات الهامة عن جيش المنصور، فذكر لنا أن الجيش المرابط (الثابت) بلغ في عهده من الفرسان اثنى عشر ألف ومائة فارس من سائر الطبقات، جميعهم مرتزقون في الديوان، يصرف لهم السلاح والنفقة والعلوفة. وكان عدد الحرس الخاص ستمائة فارس غير الأتباع. وانتهى عدد الرجالة في الجيش المرابط إلى ستة وعشرين ألف راجل.

وكان عدد الجيش المرابط يتضاعف وقت الصوائف بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة. وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف كذلك، وقد يبلغ المائة ألف أو تزيد.

(1) البيان المغرب ج 2 ص 299 و315 و316.

(2)

Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana (Madrid 1897) p. 630.

(3)

أعمال الأعلام ص 68.

ص: 570

وأورد لنا ابن الخطيب أيضاً، بيانات مفصلة مما كان يقتنيه المنصور من عتاق الخيل برسم الجهاد، ومطايا الركوب، ودواب الحمل، وقد بلغت وحدها أربعة آلاف جمل خصصت لحمل الأثقال.

وأما عن عُدة الحرب، فقد كان المنصور يحتفظ بكميات عظيمة من الخيام والسهام والدروع، والتراس، وعدد من المجانيق وغيرها من آلات الحصار (1).

وكان المنصور يضطرم شغفاً بالجهاد في سبيل الله، وكانت غزواته التي زادت على الخمسين، فضلا عن كونها عنوان هذا الجهاد المستمر، ترمي إلى غاية عسكرية وسياسية فطنة، هي تحطيم قوى اسبانيا النصرانية، وردعها بذلك عن العدوان على أراضي المسلمين. وقد تحققت هذه الغاية في أواخر عهد المنصور على أكمل وجه. وقد عنى مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان - وقد عاش قريباً من ذلك العصر - بتفصيل هذه الغزوات في مؤلف ضخم سماه " بالمآثر العامرية " واستخرجه من تاريخه الكبير " المقتبس "(2). وكان من نتائج هذه الغزوات أن امتلأت الأندلس في عصر المنصور بالغنائم والسبي من بنات الإسبان وأولادهم ونسائهم، وتغالي الناس في تجهيز بناتهم بالثياب والحلي والمال، وذلك لرخص بنات الإفرنج وركود سوق الزواج (3).

وبلغ من شغف المنصور بالجهاد، أنه كان يتولى القيادة بنفسه في سائر غزواته الصائفة والشاتية، ولم يقعده شىء عن القيادة، والإشتراك الفعلي في كثير من المعارك، حتى أننا نراه في آخر غزواته يتولى القيادة بالرغم من مرضه، ويسير محمولا على محفة، ثم يقضي نحبه عقب الغزو، بين يدي جنده وفي معقل الثغر، بعيداً عن قصوره، ومهاد راحته ونعمائه. وكان يحرص في سائر غزواته، على أن يستخلص ما يعلق بوجهه أو ثيابه من الغبار، أثناء المعارك التي يخوضها، فكان يمسحه بمناديل اجتمعت له منها رزمة كبيرة، كان يحملها معه دائماً، حتى

(1) أعمال الأعلام ص 99 و101 و102.

(2)

جذوة المقتبس للحميدي (القاهرة 1952) ص 74، والحلة السيراء ص 149، والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 21. وذكر لنا ابن الخطيب اسم هذا المؤلف كاملا وهو:" أخبار الدولة العامرية المنسوخة بالفتنة البربرية وما جرى فيها من الأحداث الشنيعة " كما ذكر لنا أنه يحتوي على أكثر من مائة سفر (أعمال الأعلام ص 98).

(3)

المعجب ص 21.

ص: 571

إذا وافته المنية ضمت إلى أكفانه، ودفنت معه تنفيذاً لوصيته (1).

ومما يؤثر عن علائق المنصور بجيشه، أنه كان لقوة ذاكرته، يعرف كثيراً من جنده بالإسم، أو يعرف على الأقل كثيراً ممن امتاز منهم خلال المعارك بالإقدام والشجاعة، ويدعوهم إلى مائدته في المآدب الكبيرة، التي اعتاد أن يقيمها لجنده عقب كل انتصار.

بيد أننا نستطيع أن نلاحظ بعد كل ذلك، أن سياسة المنصور العسكرية وغزواته المتوالية المظفرة، وإن كانت في الأصل تنطوي على غاية عسكرية وسياسية بعيدة المدى، هي سحق اسبانيا النصرانية، لم تؤت ثمارها إلا في حيز ضيق، هو ردع اسبانيا النصرانية، وكف عدوانها عن الأراضي الإسلامية، ولم تقصد بالفعل إلى الغاية الحاسمة، وهي القضاء على قوة اسبانيا النصرانية وسحقها بصورة نهائية، وهي غاية قصرت سياسة اسبانيا المسلمة عن العمل لها منذ البداية، ومن ثم فقد استطاعت الممالك الإسبانية النصرانية، أن تعيش، وأن تنمو قواها تباعاً، وأن تغدو بمضي الزمن، مناوئاً خطراً لاسبانيا المسلمة، يستغرق قواها باستمرار، ويشغلها في كفاح مدمر مستمر.

وهنا، وعلى ضوء هذا الكفاح العقيم الذي استمر أجيالا بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية، لا نرى مندوحة، من أن نحكم على سياسة الصوائف أو الغزوات الإسلامية العارضة، التي كانت تقليداً عسكرياً إسلامياً، في معظم الدول الإسلامية المتاخمة للدول النصرانية، فنقول إنها كانت من الناحية العسكرية تقوم على أسلوب خاطىء، وقد كانت تنهك الجيوش الإسلامية بقدر ما تنهك جيوش العدو، ولم يكن لها غاية محدودة مستقرة. وليس أدل على ذلك من تاريخ الصوائف أو الغزوات الإسلامية الموسمية أيام الدولة العباسية في أراضي الدرلة البيزنطية، فقد كان معظمها حملات غازية تقصد إلى العيث في أرض العدو، وإلى إحراز الغنائم المؤقتة الإقليمية وغيرها، ولم تنجح في تحطيم قوى الدولة البيزنطية أو سحقها. وقد كان عقم هذه الغزوات العارضة أشد وأوضح في الأندلس، حيث لبثت الدولة الأندلسية، إبان قوتها وتفوقها، عصوراً، تقتصر على الصوائف وما إليها من الغزوات الموسمية برسم الجهاد أو الانتقام من العدو،

(1) البيان المغرب ج 2 ص 310، والمعجب ص 21.

ص: 572

وتنهك بذلك قوى الجيوش الإسلامية ومواردها بصورة مستمرة، وذلك دون أن تحقق غاية ثابتة مستقرة، أو توفق إلى القضاء على القوى الخصيمة بصورة حاسمة.

ولقد اجتمعت لاسبانيا المسلمة في عصر المنصور أعظم القوى والموارد العسكرية التي اجتمعت لها في أي عصر سابق أو لاحق، وكانت هذه القوى الزاخرة، التي كان رائدها المنصور، - وهو أعظم شخصية سياسية وعسكرية، أتيح لها أن تقود الأندلس، وأن تسهر على مصايرها - كانت هذه القوى كفيلة بسحق الممالك الإسبانية النصرانية لو أنها وجهت نحو هذه الغاية توجهاً صائباً. ويقدر النقد الإسباني الحديث نفسه هذه الحقيقة، فيقول لنا إن غزوات المنصور ودفعه حدود النصارى إلى ما وراء نهر دويرة، وافتتاحه لقلمرية وسمورة وليون وشنت ياقب وكويانسا وشنت منكش وأوسمة وبرشلونة، دفع اسبانيا النصرانية إلى حافة الخراب تقريباً، وقضى هذا البعث لقوة الإسلام على كل أمل في " الإسترداد " La Reconquista (1) .

ولكن غزوات المنصور على كثرتها، وعلى ما أسبغ عليها من طابع النصر المستمر، لم تخرج كثيراً عن حيز الصوائف والغزوات الإسلامية العارضة، التي تحقق أية غاية مستقرة ثابتة.

وأما عن مقدرة المنصور في الإدارة والحكم، فإن الكلام فيها حرى بأن يطول، فقد أبدى المنصور طوال حياته كفاية إدارية مدهشة، وظهر في سائر المناصب التي أسندت إليه، مذ تولى وكالة هشام ولي العهد، فأمانة دار السكة والخزانة، ثم خطة المواريث، فخطة القضاء، ثم الشرطة، فالإشراف على الحشم والخاص؛ ظهر فيها جميعاً ببراعته وحصافته، وحسن تصريفه؛ ثم ظهرت هذه المقدرة على أتمها مذ ولي الحجابة، واستأثر بسائر السلطات، واحتمل فوق كاهله سائر المسئوليات الكبرى. فقد غدا المنصور زعيم الأندلس، وحاكمها الأوحد، والمشرف على مصايرها في الحرب والسلم؛ وقد أبدى المنصور في اضطلاعه بتلك المهمة العظمى، مقدرة فائقة، لم يبدها أحد من أسلافه. فلم تر الأندلس من قبل استقراراً كالذي رأته في عهد المنصور، ولم تتمتع قط بمثل ما تمتعت به في عهد المنصور، من الأمن والطمأنينة والدعة. وكانت أيام المنصور بالأندلس كلها

(1) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. 629.

ص: 573

أيام فخار وظفر ورخاء ورغد، لم تعان خلالها من غزوات العدو المخربة، ولم تصب فيها بأية هزيمة ذات شأن، ولم تضطرم فيها أية ثورة أو فتنة، وفيها ازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة، وزهت العلوم والآداب، وعم الخصب والرخاء في جنبات الأندلس، وفاضت خزائن قرطبة بالأموال، ووصل محصل الجباية يومئذ إلى أربعة آلاف ألف دينار (أربعة ملايين) سوى رسوم المواريث، وسوى مال السبي والغنائم، وما ينتج من المصادرات وأمثالها مما لا يرجع إلى قانون.

وكانت النفقات السلطانية تبلغ في الشهر نحو مائتي ألف دينار، فاذا دخل شهر يونيه، وحلت الصائفة، تضاعفت النفقة بسب الاستعداد للغزو، ووصلت إلى خمسمائة ألف في الشهر أو أكثر (1).

وكانت حكومة المنصور تضم عدة من أقدر رجالات الأندلس في هذا العصر ما بين وزراء وكتاب. وكان من وزرائه، أبو مروان عبد الملك بن شهيد، ومحمد بن جَهور، وعيسى بن فُطيس، وأبو عبد الله بن عياش، وأحمد بن محمد ابن حدير، ومحمد بن حفص بن جابر، وأحمد بن سعيد بن حزم والد الفيلسوف الشهير، وكان من أقدر وزراء المنصور وآثرهم لديه، وكان المنصور قد استوزره قبل سائر أصحابه في سنة 381 هـ، وبلغ من ثقته به أن كان يستخلفه على المملكة في أوقات معينة، ويعهد إليه بخاتمه؛ والظاهر أنه لما بلغ ذروة النفوذ والسلطان، شمخ بأنفه، وبدرت منه بوادر الدالة والاعتداد، فتغير عليه المنصور، وأقصاه عن خدمة الوزارة، وبعثه إلى كورة الغرب لينظر في شئونها، ثم عاد بعد قليل فأعاده إلى حسن رأيه، ورده إلى منصبه في الوزارة، وكان ابن حزم من أكابر أهل العلم والبلاغة (2). وكان من كتاب المنصور عيسى بن سعيد القطاع، وهو من أقدم كتابه، وكان من أنصاره ومعاونيه منذ أيام الحكم، فبلغ في ظله وتحت كنفه أرفع مكانة، وكان فوق ذلك من أخصائه ورفاقه في مجالس أنسه ترتفع بينهما الكلفة؛ وكان منهم، أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني، وخلف ابن حسين بن حيان والد المؤرخ، وغيرهم. وكانت هذه الصفوة من الوزراء والكتاب، الذين ينتمي معظمهم إلى أسر عريقة تعاقب أبناؤها في الوزارة، مثل آل شُهيد، وآل عبدَة، وآل جَهور، وآل فُطيس، وآل حُدير وغيرهم،

(1) أعمال الأعلام ص 89.

(2)

كتاب " إعتاب الكتاب " لابن الأبار - مخطوط الإسكوريال - لوحة 53 و54.

ص: 574

ممن حملوا عمد الدولة الأموية، وعملوا على توطيد دعائمها، تعمل مع المنصور على تسيير دفة الحكم بمقدرة فائقة. وكان من هؤلاء الوزراء من يتصل بالمنصور برباط المودة الشخصية الوثيقة، ويشاطره شغفه بالشعر والأدب، ويغشى مجالس أنسه وشرابه، مثل عبد الملك بن شهيد، وأبى عبد الله بن عياش، وعيسى ابن سعيد. هذا وكان ممن اشترك مع المنصور في الحجابة في بداية عهده، بعد المصحفي، جعفر بن علي بن حمدون الأندلسي، والقائد غالب بن عبد الرحمن، الذي جمع بين القيادة والحجابة حيناً، وقد رأينا كيف لقي كل منهما مصرعه بعد ذلك على النحو الذي تقدم ذكره (1).

* * *

ولم يحل انشغال المنصور طوال عهده بالغزو المستمر، عن القيام بأعمال الإنشاء العظيمة. فقد أنشأ مدينة الزاهرة، وقصورها المنيفة، وحدائقها الغناء، واتخذها كما تقدم مركزاً للإدارة والحكم. ثم ابتنى إلى جانبها منية جميلة ذات قصر وحدائق رائعة، يرتادها للاستجمام والتنزه، وسماها "بالعامرية". وقد كان جمال هاتين الضاحيتين العامريتين، مستقى للأوصاف الشعرية والنثرية الرائعة.

ومما قيل في العامرية أبيات لعمرو بن أبي الحباب أنشدها، وقد دخل يوماً على المنصور بقصر المنية، والروض قد تفتحت أزهاره:

لا يوم كاليوم من أيامك الأول

بالعامرية ذات الماء والظلل

هواؤها في جميع الدهر معتدل

طيباً وإن حل فصل غير معتدل

ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها

بالسعد ألا تحل الشمس بالحمل

كأنما غرست في ساعة وبدا السـ

ـوسان من حينه فيها على عجل (2)

وكان من أعظم وأجل أعمال المنصور زيادة المسجد الجامع. وكانت قرطبة قد اتسعت رقعتها اتساعاً عظيماً منذ أيام الناصر، واضطرد هذا الاتساع في أيام المنصور حتى بلغت مبلغاً عظيماً، وبلغت أرباض المدينة أعني أحياؤها يومئذ

(1) راجع في ذكر وزراء المنصور: البيان المغرب ج 2 عى 286 و287 و290 و299، وأعمال الأعلام ص 70 و75 و80، ونفح الطيب ج 1 ص 274، والذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول ص 17 و56.

(2)

راجع بعض هذه القصائد والأوصاف في البيان المغرب ج 2 ص 296 و297، ونفح الطيب ج 1 ص 272 و273.

ص: 575

إحدى وعشرين ربضاً " كل ربض فيها يعد أكبر مدينة من مدائن الأندلس ".

وقد ذكر ابن الخطيب لنا أسماءها ومواقعها تفصيلا، وبلغ خندقها المحيط بها ما عدا ناحية النهر سبعة وأربعين ألف وخمسمائة ذراع أي ستة عشر ميلا (1)، وزاد سكانها في نفس الوقت زيادة كبيرة، ولاسيما منذ مقدم طوائف البربر الكثيرة عليها، في بداية عهد المنصور، وضاقت رحبات المسجد الجامع برواده، ولاسيما في أيام الجمع. فرأى المنصور أن يقيم للجامع من ناحيته الشرقية جناحاً جديداً، لأن ناحيته الغربية كانت متصلة بالقصور الملكية. وشرع في إنشاء هذا الجناح في سنة 387 هـ (997 م)، فأقيم بحذاء الجامع من شماله إلى جنوبه، على رقعة شاسعة تكاد تعدل مساحته الأصلية، وروعيت في إنشائه البساطة والمتانة قبل الزخرفة، كما روعي التماثل والمطابقة للصرح القديم؛ ونزعت من أجل ذلك ملكية عدد كبير من الأماكن والدور، حرص المنصور على أن ينصف أصحابها فيما يستحقونه من ثمن أو معاوضة. وتضاعف حجم المسجد الجامع بهذه الزيادة، وأضحى يحتل رقعة عظيمة شاسعة تبلغ في الطول مائة وثمانين متراً، وفي العرض مائة وخمسة وثلاثين متراً. وكان يشتغل فيه عدد كبير من الأسرى النصارى، الذين أخذوا في مختلف المعارك. وكان المنصور يشترك بنفسه أحياناً في أعمال البناء. وبلغ عدد سواريه ما بين كبيرة وصغيرة، ألف وأربعمائة وسبعة عشرة، وبلغت ثرياته ما بين صغيرة وكبيرة مائتان وثمانون، وبلغ عدد المكلفين بالخدمة به في عهد المنصور، ما بين أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وغيرهم مائة وخمسون شخصاً، وكان الجامع وما حوله يعتبر وحده ربضاً مستقلا يتولاه عريفه وحراسه على حدة (2). ومازال جناح المنصور بمسجد قرطبة الجامع حتى اليوم، قائماً بسائر رحابه وعقوده وسواريه، وذلك بالرغم من تحويل عقوده الجانبية إلى كنائس وهياكل، ويعرفه الأثريون " بمسجد المنصور "(3).

وجدد المنصور قنطرة قرطبة القائمة على نهر الوادي الكبير، وراء المسجد

(1) أعمال الأعلام ص 103.

(2)

أعمال الأعلام ص 103.

(3)

راجع في زيادة المنصور للمسجد الجامع، البيان المغرب ج 2 ص 306 - 308، ونفح الطيب ج 1 ص 257. وراجع كتابي " الآثار الأندلسية الباقية " حيث يوصف جامع قرطبة بحالته الحاضرة تفصيلا الطبعة الثانية (ص 20 - 31).

ص: 576

الجامع، وكانت في الأصل قنطرة رومانية، فجددها السمح بن مالك أمير الأندلس ثم جاء المنصور فجددها، وأعاد بناءها، وذلك في سنة 378 هـ (988 م)، وتم بناؤها في سنة ونصف، وبلغت النفقة عليها مائة وأربعين ألف دينار، وعظم بها نفع القرطبيين.

وابتنى المنصور كذلك قنطرة إستجة على نهر شنيل، فرع الوادي الكبير، واقتضى إنشاؤها كثيراً من الجهد والنفقة، ولكنها حققت تسهيلات عظيمة، في مواصلات قرطبة بالقواعد والولايات الغربية والجنوبية (1).

* * *

وكان المنصور، على الرغم من صرامته، وما لجأ إليه لتوطيد حكمه من الوسائل المثيرة، يتسم بصفات عديدة مؤثرة؛ فقد كان جواداً وافر الجود والبذل، يغدق صلاته على من يستحقها من العاملين معه والمتصلين به، وعلى الفقراء وذوي الحاجات، وله في ذلك حكايات كثيرة.

وكان يفاخر بنشأته المتواضعة، ويقلل من شأن نفسه. وذكر المؤرخ ابن حيان في كتابه في " أخبار الدولة العامرية " عن والده خلف بن حيان كاتب المنصور، أن المنصور لامه ذات يوم لأمر من الأمور، فبدا عليه الفزع، فأشفق عليه المنصور وهدأ من روعه، ثم خلا به بعد أيام وقال له: " رأيت من ذعرك ما استنكرت، ومن وثق بالله برىء من الحول، والقوة لله، وإنما أنا آلة من آلاته أسطو بقدرته، وأعمل عن إذنه، ولا أملك لنفسي إلا ما أملك،

فطمئن جأشك، فإنما أنا ابن امرأة من تميم طالما تقوت بثمن غزلها، أغدو به إلى السوق، وأنا أفرح الناس بمكانه، ثم جاء من أمر الله ما تراه، ومن أنا عند الله لولا عطفي على المستضعف المظلوم، وسيري لجهاد الطاغية " (2).

وكان ورعاً، شديد الإيمان واليقين، يخشى ربه، ويزدجر إذا ذكر الله وعقابه. وكانت هذه أعجب الخلال في رجل كالمنصور، لم يعف عن سفك الدماء في سبيل تحقيق أطماعه. ولكنها حقيقة تنوه بها الرواية الإسلامية وتؤكدها، ومن دلائلها أن المنصور، كان يحمل معه في سائر غزواته وأسفاره مصحفاً

(1) البيان المغرب ج 2 ص 309، ونفح الطيب ج 1 ص 191، وأعمال الأعلام ص 76

(2)

إعتاب الكتاب لابن الأبار - مخطوط الإسكوريال - لوحة 56.

ص: 577

خطه بيده، يقرأ فيه ويتبرك به في كل مناسبة (1).

وكذلك تنوه الرواية بعدالة المنصور، وصرامته في إحقاق الحق، والانتصاف لذوي المظالم. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب عدة أمثلة رفعت فيها الظلامات إلى المنصور ضد بعض أكابر خدمه وحاشيته، ممن كانوا يظنون أن مراكزهم تحميهم من إجراء العدالة، فأمر المنصور بالانتصاف منهم لذوي الظلامات. وكان يقترن بهذه الصفة، خلة محمودة أخرى، هي تذرعه بالحلم والصبر، وضبط النفس في أموركثيرة، وذلك بالرغم مما كان عليه من الهيبة والرهبة والسلطان (2)، ولكن الرواية تنعي على المنصور خلة سيئة، هي شغفه بمعاقرة الخمر، وقد لازمته هذه الرذيلة طوال حياته، ولم يقلع عنها إلا قبل وفاته بعامين. ويصف لنا ابن الخطيب كيف كان المنصور يصل في العمل يومه بليله، وهو عاكف على الشراب، في تلك الفقرة البليغة:" وكانت الجزالة والرجولة ثوبه الذي لم يخلعه، إلى أن وصل إلى ربه، والحزم والحذر شعاره الذي لم يفارقه طول حياته، والنصب والسهر شأنه في يومه وليله، لا يفضل لذة على تدبيره، وحلاوة نهيه وأمره، فينفذ الأمور، والكأس تدور، والجبال للطرب تمور "(3).

* * *

بقيت من خلال المنصور ناحية ربما كانت ألمع خلاله جميعاً، وتلك هي الناحية العلمية.

نشأ المنصور حسبما رأينا في بيت علم وأدب، ودرس وفقاً لتقاليد أسرته دراسة حسنة، وبرع في الشريعة والأدب، وكان حرياً به أن يتبوأ مكانه بين علماء عصره، لولا أن شاءت الأقدار أن تدفع به إلى معترك السياسة والسلطان.

على أن المنصور لبث بالرغم من مشاغل هذا المعترك السياسي الخضم، يحتفظ طول حياته بشغفه بالعلم والأدب، ويوثق صلاته بالعلماء والأدباء والشعراء ويؤثرهم بحبه وعطفه، ويجمعهم حوله في أوقات فراغه وسويعات لهوه وأنسه، ويساجلهم البحث والمناظرة، ويطارحهم قرض الشعر، ذلك لأن المنصور كان شاعراً أيضاً، وله نظم حسن سوف نورد شيئاً منه.

(1) البيان المغرب ج 2 ص 309 و310، وابن خلدون ج 4 ص 147.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 310 - 312، والحلة السيراء ص 151.

(3)

البيان المغرب ج 2 ص 310، وأعمال الأعلام ص 75.

ص: 578

وكان من أخص جلسائه الأدباء، الكاتب البغدادي، أبو العلا صاعد ابن الحسن. وكان قد وفد من المشرق على الأندلس سنة 380 هـ، والمنصور في أوج سلطانه، فأراد المنصور أن يجعل منه قريناً لأبى علي القالي، الوافد من قبل على الناصر والحكم، فقربه وأذن له أن يجلس بجامع مدينة الزاهرة، يملي كتابه المسمى " بالفصوص " على أدباء قرطبة، وهو كتاب في الآداب والأخبار والأشعار، ولكن أدباء قرطبة أنكروا ما ورد فيه، وكذبوه في كثير مما يلقيه، وفضحوا كثيراً من سرقاته الأدبية والشعرية (1). ومع ذلك فقد كان صاعد أديباً بارعاً، خفيف الروح، متوقد الذهن، حاضر البديهة، وكان يأتي بكثير من غريب الشعر بداهة، فأعجب به المنصور، وأولاه رعايته، وألحقه بديوان الندماء، وأجرى عليه راتباً حسناً؛ وكان بهذا الديوان بعض أدباء العصر مثل زيادة الله بن مضر الطبني، وابن العريف، وابن التياني، وغيرهم. وغدا صاعد شاعر المنصور ينظم له المدائح والطرف، ويصطحبه المنصور في نزهاته برياض الزاهرة، وينظمه في مجالس أدبه وأنسه. وقد أورد لنا ابن بسام وصفاً مسهباً لهذه المجالس الأدبية، التي يجتمع فيها المنصور بخلانه وندمائه ومنهم صاعد، وأورد لنا كثيراً مما قيل فيها من النظم. وقد كان بعض الفتيان الصقالبة من بطانة المنصور، يأخذ بقسط حسن من الشعر والأدب، ويغشى مجالس المنصورالأدبية ويشترك في المطارحات الشعرية، وكان من أشهرهم الفتى فاتن، وكان من أبرع العارفين منهم باللغة والأدب. وقد كان للفتيان الصقالبة في الواقع تراث من الشعر والأدب، واشتهروا بذلك أيام المنصور خاصة، وأصدر أحدهم في ذلك كتاباً سماه " الإستظهار والمغالبة على من أنكر فضل الصقالبة "، ضمنه كثيراً من أشعارهم ونوادر أخبارهم (2).

ولبث صاعد على مكانته حتى وفاة المنصور، ومن بعده حتى نهاية الدولة العامرية، ثم أفل نجمه بعد ذلك، وساءت أحواله عند ظهور الفتنة، فغادر الأندلس متخفياً في سنة 403 هـ، وجاز البحر إلى صقلية، واتصل بأميرها فأولاه رعايته، وحسنت حاله، وكانت وفاته بها في سنة 410 هـ.

(1) الصلة لابن بشكوال (طبعة القاهرة) رقم 40.

(2)

راجع الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 7 - 22، والمعجب ص 16 و17.

ص: 579

وكان للمنصور، فضلا عن مجالس الأدب والأنس العابرة، مجلس أسبوعي يعقده للبحث والمناظرة، ويشهده كثير من العلماء والأدباء (1). وكان في غزواته يستصحب بعض العلماء والأدباء من أصدقائه، إذ كان شغف البحث والمناظرة، يلازمه دائماً حتى في ميدان الحرب؛ وإلى جانب هذا الشغف الشخصي بالحياة العقلية، كان المنصور مولعاً بالعمل على نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب، فأنشأ كثيراً من دور العلم بقرطبة، وبالغ في الإنفاق عليها، وكان يزور المدارس والمساجد، ويجالس الطلاب أحياناً، ويمنح المكافآت النفيسة لمن يستحقها.

وإلى جانب هذا الشغف بالآداب والعلوم ونشر الحياة العقلية، كان المنصور يشغف أيضاً بجمع الكتب، وكان أكابر المؤلفين يهدون إليه كتبهم، على نحو ما كان متبعاً أيام الحكم، ومن ذلك أن صاعداً البغدادي أهدى إليه كتاب " الفصوص " المتقدم ذكره، فأثابه عنه بخمسمائة دينار (2).

وكان المنصور يمقت الفلسفة وما إليها، ويرى أنها مخالفة للدين، ويكره التنجيم والمنجمين، وقد أمر بأن يستخرج من المكتبة الأموية العظيمة (مكتبة الحكم المستنصر) سائر كتب الفلاسفة والدهريين، وأن تحرق بمحضر من كبار العلماء، وفي مقدمتهم أبو العباس بن ذكوان، وأبو بكر الزبيدي، والأصيلي وغيرهم، وكان ذلك بلا ريب عملا غير موفق، وكان خسارة علمية فادحة.

وينعى المستشرق سيمونيت على المنصور هذا التصرف، فيقول:" إنه إذا كان الحكم الثاني قد استطاع لنزعته العلمية والأدبية أن يحمي الفلاسفة، فقد جاء المنصور من بعده فقام بحرق كتب الفلسفة التي كانت بمكتبة الحكم، وذلك لكي يرضى الفقهاء والدهماء "(3). واشتد المنصور أيضاً في مطاردة المنجمين، وبلغه أن أحدهم وهو محمد بن أبي جمعة، يهجس في تنبؤاته بانقراض دولته، فأمر بقطع لسانه وقتله، فخرست ألسن المنجمين جميعاً (4).

(1) راجع جذوة المقتبس للحميدي ص 73، والمعجب ص 20.

(2)

الصلة لابن بشكوال رقم 40.

(3)

Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. 351

(4)

البيان المغرب ج 3 ص 315، وأعمال الأعلام ص 77.

ص: 580

وللمنصور شعر جيد، نظمه في مختلف مناسبات حياته، ومن ذلك قوله في الفخر:

رميت بنفسي هول كل عظيمة

وخاطرت والحر الكريم يخاطر

وما صاحبي إلا جنان مشيع

وأسمر خطى وأبيض باتر

وإني لزجاء الجيوش إلى الوغى

أسود تلاقيها أسود خوادر

فسدت بنفسي أهل كل سيادة

وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر

وما شدت بنياناً ولكن زيادة

على ما بنى عبد المليك وعامر

رفعنا العوالي بالعوالي مثلها

وأورثناها في القديم معافر

وقوله يتهدد الفاطميين بمصر، ويمني نفسه بفتح مصر والشأم:

منع العين أن تذوق المناما

حبا أن ترى الصفاء والمقاما

لي ديون بالشرق عند أناس

قد أخلوا بالمشعرين الحراما

إن قضوها نالوا الأماني وإلا

جعلوا دونها رقاباً وهاما

عن قريب ترى خيول هشام

يبلغ النيل خطوها والشاما

وأما عن نثر المنصور، فقد رأينا أن نورد نموذجاً له، وصيته لولده عبد الملك حينما حضرته الوفاة، وقد نقلها إلينا ابن حيان عن أبيه خلف بن حسين، وهذا نصها:

" يا بني: لست تجد أنصح لك، ولا أشفق عليك مني، فلا تعديَّن وصيتي، فقد جردت لك رأيي ورويتي، على حين اجتماع من ذهنى، فاجعلها مثالا بين عينيك. وقد وطأت لك مهاد الدولة، وعدلت لك طبقات أوليائها، وغايرت لك بين دخل المملكة وخرجها، واستكثرت لك من أطعمتها وعددها، وخلفت لك جباية تزيد على ما ينوبك لجيشك ونفقتك، فلا تطلق يدك في الإنفاق، ولا تقيض لظلمة العمال، فيختل أمرك سريعاً، فكل سرف راجع إلى اختلال لا محالة، فاقصد في أمرك جهدك، واستثبت فيما يرفع أهل السعاية إليك، والرعية قد استقصيت لك تقويمها، وأعظم مناها أن تأمن البادرة، وتسكن إلى لين الجنبة. وصاحب القصر قد علمت مذهبه، وأنه لا يأتيك من قبله شىء تكرهه، والآفة ممن يتولاه ويلتمس الوثوب باسمه، فلا تنم عن هذه الطائفة جملة، ولا ترفع عنها سوء ظن وتهمة، وعاجل بها من خفته على أقل بادرة، مع

ص: 581

قيامك بأسباب صاحب القصر على أتم وجه. فليس لك ولا لأصحابك شىء يقيكم الحنث في يمين البيعة، إلا ما تقيمه لوليها من هذه النفقة، فأما الانفراد بالتدبير دونه، مع ما بلوته من جهله وعجزه عنه، فإني أرجو أني وإياك منه في سعة ما تمسكنا بالكتاب والسنة. والمال المخزون عند والدتك، هو ذخيرة مملكتك وعدة لحاجة تنزل بك، فأقمه مقام الجارحة من جوارحك التي لا تبذلها إلا عند الشدة، تخاف منها على سائر جسدك. ومادة الخراج غير منقطعة عنك بالحالة المعتدلة. وأخوك عبد الرحمن قد صيرت إليه في حياتي ما رجوت أني قد خرجت له فيه عن حقه من ميراثي، وأخرجته عن ولاية الثغر، لئلا يجد العدو مساغاً بينكما في خلاف وصيتي، فيسرع ذلك في نقض أمري، وتجلب الفاقرة علي دولتي. وقد كفيتك الحيرة فيه، فأكفه الحيف منك عليه، وكذلك سائر أهلك فيما صنعت فيهم، بحسب مما قدرت به خلاصي من مال الله الذي في يدي.

وخلافتك بعدي أجدى عليهم مما صرفته، فلا تضيع أمر جميعهم، والحظهم بعيني فإنك أبوهم بعدي. فإن انقادت لك الأمور بالحضرة فهذا وجه العمل، وسبيل السيرة، وإن اعتاصت عليك، فلا تلقين بيدك إلقاء الأمة، ولا تبطر بك وأصحابك السلامة، فتنسوا ما لكم في نفوس بني أمية وشيعتهم بقرطبة. فإن قاومت من توثب عليك منهم، فلا تذهل عن الحزم فيهم، وإن خفت الضعف فانتبذ بخاصتك وغلمانك، إلى بعض الأطراف التي حصنتها لك، واختبر غدك إن أنكرت يومك. وإياك أن تضع يدك في يد مرواني ما طاوعتك بنانك، فإني أعرف ذنبي إليهم ".

وهذه وصيته لغلمانه نقلها إلينا أيضاً ابن حيان عن أبيه:

" تنبهوا لأمركم واحفظوا نعمة الله عليكم، في طاعة عبد الملك أخيكم ومولاكم ولا تغرنكم بوارق بني أمية ومواعيد من يطلب منهم شتاتكم، وقدروا ما في قلوبهم وقلوب شيعتهم بقرطبة من الحقد عليكم، فليس يرأسكم بعدي أشفق عليكم من ولدي. وملاك أمركم أن تنسوا الأحقاد، وأن تكون جماعتكم كرجل واحد، فإنه لا يفل فيكم "(1).

(1) نقل إلينا ابن بسام (عن ابن حيان) هذين النصين في الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 56 - 58. ونقلهما ابن الخطيب أيضاً في أعمال الأعلام ص 81 و82.

ص: 582

وفي وصية المنصور لولده وغلمانه، يرتسم برنامج سياسته كلها، وتبدو يالأخص نواحي توجسه وتخوفه، فهو لم يكن يأمن جانب بني أمية قط، وقد لبث يتوقع الشر منهم حتى وفاته. ثم توفي وهو يتوقع الشر منهم لبنيه ودولته. وقد كان المنصور في ذلك صائب التقدير، بعيد النظر.

* * *

هذا وأما علائق المنصور الدبلوماسية فإنه لم يتح له عقد الكثير منها، ولم تفد إليه سفارات من ملوك النصارى على نحو ما حدث أيام الناصر والحكم المستنصر. ذلك لأن عهد المنصور كان كله عهد حروب مستمرة، بين الأندلس وبين اسبانيا النصرانية، ولم يقع بين الفريقين تهادن أو سلم طويل الأمد.

وكل ما نستطيع أن نسجله من ذلك حادثان متشابهان، أولهما قدوم برمودو الثاني ملك ليون إلى قرطبة في سنة 985 م، مستجيراً بالمنصور ليعاونه على مقاومة الأشراف الخارجين عليه وتوطيد عرشه. وقد أجابه المنصور إلى طلبه وبادر بمعونته. ومما هو جدير بالذكر أن برمودو قدم ابنته تريسا Teresa، بعد ذلك إلى المنصور عروساً له، فقبلها المنصور وتزوجها أو اتخذها سرية له (1).

والثاني، وهو من أشهر الحوادث الشائقة التي وقعت أيام المنصور، هو مقدم سانشو غرسية ملك نافار على المنصور، معتذراً إليه، لائذاً بعفوه ومهادنته، والوجه الشائق في ذلك هو أن سانشو غرسية هذا كان صهراً للمنصور، وكان تقرباً من المنصور، واكتساباً لمودته قد قدم ابنته عروساً إليه (981 م) فتزوجها المنصور، واعتنقت الإسلام، وسميت باسم "عبدة"، وكانت من أحظى نسائه لديه، ورزق منها بولده عبد الرحمن الذي سمي أيضاً " شنجول " أو " سانشول " أى شانجُه (سانشو) الصغير نسبة لجده ملك نافار. ثم ساءت العلائق بين المنصور وصهره، وتابع المنصور غزو نافار مرة بعد مرة، حتى اضطر سانشو إلى طلب الصلح، وسار إلى قرطبة مستصرخاً المنصور ولائذاً بعفوه. ووصل سانشو إلى قرطبة في الثالث من رجب سنة 382 هـ (4 سبتمبر سنة 992 م) فسر المنصور بمقدمه سروراً عظيماً، وبعث القواد والكبراء وطوائف الجند في موكب فخم، وعلى رأسهم ولده عبد الرحمن وهو طفل في مهده، لاستقباله ومرافقته

(1) R. M. Pidal: La Espana del Cid (Madrid 1947) p. 71.

ص: 583

إلى قصر الزاهرة، فلما وقعت عين سانشو على حفيده، ترجل وقبل يده ورجله، ثم رافق الركب إلى الزاهرة، وقد اصطفت الجند على طول الطريق في صفوف كثيفة زاهية كاملة السلاح والعدة، واصطف الوصفاء والصقالبة من باب القصر إلى الداخل صفين. وسار سانشو، وقد بهره كل ما رأى، حتى وصل إلى مجلس المنصور في عصر ذلك اليوم، وقد جلس المنصور في هيئة فخمة، ومن حوله الوزراء وأعاظم رجال الدولة؛ فلما أبصره سانشو هوى إلى الأرض فقبلها مرات متوالية، ثم قبل يدى المنصور ورجليه، فأمره بالجلوس على كرسي مذهب خصص له، ثم انصرف الناس واختلى الملك النصراني بالمنصور، وأفضى كل إلى صاحبه بما أراد، ثم خرج سانشو وفي أثره الخلع السلطانية، وما انفض المجلس إلا عند دخول الليل.

وكان مقدم سانشو غرسية إلى قرطبة، واستقباله بها، من أيام الأندلس المشهودة، وقد أعاد بروعته وما اقترن به من مغزى عميق بظفر الإسلام على أعدائه، ذكرى أيام الناصر في وفود الملوك النصارى عليه، ملتمسين منه الصلح والمودة (1).

* * *

وقد أجمعت الرواية الإسلامية، الأندلسية والمشرقية، على الإشادة بخلال المنصور وباهر صفاته. وهي جميعاً سواء أوجزت القول أو أفاضت، تنم عن عميق التقدير والإعجاب، ثم هي مع ذلك لم تغفل التنويه بالجوانب القاتمة في تلك العبقرية الفذة، على أنها على العموم أكثر ميلا إلى إبراز محاسن المنصور ومواهبه، والإشادة بما أسبغته على الأمة الأندلسية من ضروب العظمة والبهاء.

قال ابن الأثير يصف المنصور: " وكان شجاعاً، قوى النفس، حسن

التدبير، وكان عالماً محباً للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء

ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة " (2). وقال ابن خلدون " وكان

ذا عقل ورأي وشجاعة، وبصر بالحروب، ودين متين " (3). ويصفه الفتح

ابن خاقان في " المطمح " في تلك العبارات الشعرية: " وكان أمضاهم (يعني من

(1) أورد لنا ابن الخطيب في " أعمال الأعلام " وصفاً شائقاً لهذا الحادث. ص 66 و73 و74.

(2)

ابن الأثير ج 9 ص 61.

(3)

ابن خلدون ج 4 ص 147.

ص: 584

تقدمه) وأذكاهم جناناً، وأتمهم جلالا، وأعظمهم استقلالا. قام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة. وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك، وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كل فريق. وملك الأندلس بضعاً وعشرين حجة، لم تدحض لسعادتها حجة، ولم تزخر لمكروه بها لجة، وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أشد سهام " (1).

ويجمل ابن حيان حياة المنصور في تلك الفقرة: " وامتثل رسم المتغلبين على سلطان ولد العباس بالمشرق من أمراء الديلم في عصره. فنال بغيته، وتهنأ معيشته، وأورثه عقبه بعده، عن غير اقتدار عليه، بجند خاص، ولا صيال بعشيرة، ولا مكابرة بمال وعدة، بل رمى الدولة من كنانها، وعدا عليها بأعضادها، وانتضلها بمشاقصها، وأنفق على ضبطها أموالها وعددها، حتى حولها إليه وسبكها في قالبه، وسلخ رجالها برجاله، وعفى رسومها بما أوضح من رسومه "(2).

هذا، وقد أشاد ابن الخطيب بخلال المنصور في مواطن وفقرات عديدة نقتطف منها ما يلي:

قال مشيراً إلى ولاية هشام: " فاستقر الأمر لهشام، يكنفه الحاجب المنصور أسعد أهل الأندلس مولداً، وأشهرهم بأساً ونداً، وأبعدهم في حسن الذكر مداً، الحازم العازم، العظيم السياسة، الشديد الصلابة، القوي المنة، الثبت الموقف، معود الإقبال، ومبلغ الآمال، الذي صحبته ألطاف الله الخفية في الأزمات، واضطرد له النصر العزيز في نحو سبع وخمسن من الغزوات، ولم تفارقه السعادة حالتي المحيا والممات ".

وقال: " فقد أجمع الشيخة أنه نهض بجد لا كفاء له، وأصحب سعداً لا نحس يخالطه، وأعطى إقبالا لا إدبار معه، قد وثق بذلك فلم يلتفت إلى غيره

"

" وكان مهيباً وقوراً، فإذا خلا كان أحسن الناس مجلساً، وأبرهم بمن يحضر منادماً ومؤانساً، وكان شديد القلق من التبسط عليه، والدالة، والامتنان،

(1) نقله البيان المغرب ج 2 ص 292، والمقري في نفح الطيب ج 1 ص 189.

(2)

نقله صاحب الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 43.

ص: 585

لا يغفرها زلة، ولا يحلم عنها جريرة، ولم يكن يسامح في نقصان الهيبة، وحفظ الطاعة أحداً، من ولد ولا ذي خاصة، دعاه ذلك إلى قتل ولده عبد الله صبراً بالسيف بما هو معروف ".

" وكانت الجزالة والرجولة، ثوبه الذي لم يخلعه، إلى أن وصل إلى ربه، والحزم والحذر شعاره، الذي لم يفارقه طول حياته، والنصب والسهر شأنه في يومه وليله، لا يفضل لذة على لذة تدبيره، وحلاوة نهيه وأمره "(1).

ولم يكن النقد الغربي أقل تقديراً لعظمة المنصور، وقد أشاد بعبقريته ومواهبه كثير من المؤرخين والنقدة الغربيين، وهذه نماذج من أقوالهم:

قال المؤرخ الإسباني اليسوعي ماسديه مشيراً إلى المنصور: " وكان سياسياً كبيراً، وقائداً عظيماً، فقد أخمد نار الثورات التي كانت تعصف بالمملكة، واكتسب حب الشعب بجميع طبقاته، وتفوق في شهرته وهيبته على أكبر القواد، بما اجتمع في أحكامه من الصرامة واللين والقصاص والعفو، وكان يهدم المدن التي تقاوم جيوشه ويبيدها، ولكنه لم يسمح قط لجنده بأن تسىء معاملة مدينة سلمت طوعاً "(2).

ويقول المؤرخ الإسباني المعاصر الأستاذ مننديث بيدال معلقاً على عصر المنصور: " عاش الإسلام في اسبانيا أروع أيامه وأسطعها، وانتهى نصارى الشمال إلى حالة دفاع كانت دائماً مقرونة بالمحن، ولاح كأنهم لم يعيشوا إلا لتأدية الجزية والسلاح والأسرى والمجد للخلافة الأموية "(3).

ويلاحظ الأستاذ بيدال في نفس الوقت أن عبقرية المنصورالعسكرية والسياسية كانت من عوامل القضاء على الروح القومية النصرانية المستعربة، وذلك لما أغدقه المنصور من عطفه ورعايته على كثير من النصارى والمستعربين (4).

ويختتم العلامة دوزي كلامه عن المنصور بالفقرة الآتية: " وعلى الجملة، فإذا وجب أن نستنكر الوسائل التي لجأ إليها المنصور في اغتصاب السلطة، فمن

(1) راجع أعمال الأعلام ص 58 و74 و75.

(2)

J.F. Masdeu: Historia Critica de Espana y de la Cultura Espanola.

(3)

R.M.Pidal: La Espana del Cid، p. 72.

(4)

R.M. Pidal: Origenes des Espanol، p. 423.

ص: 586

الواجب أيضاً أن نعترف بأنه استخدمها بطريقة شريفة. وما كنا لنسرف في لومه لو أن القدر خلقه على أريكة العرش، ولعله كان يعتبر عندئذ من أعظم الملوك الذين عرفهم التاريخ. ولكنه خلق في القرية، واضطر لتحقيق أطماعه، أن يشق لنفسه طريقاً تكتنفه آلاف الصعاب. ومن الأسف أنه من أجل تذليلها، قلما راعى شرعية الواسطة. لقد كان المنصور رجلا عظيماً من وجوه كثيرة، ولكن يستحيل علينا، متى رجعنا إلى مبادىء الأخلاق الخالدة أن نحبه، ومن الصعب أن نعجب به " (1).

(1) Dozy: Hist. Vol. II. p. 275.

ص: 587