الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
غاليس بين العرب والفرنج
(1)
مملكة الفرنج. نزوحهم من الشمال إلى فرنسا. كلوفيس أول ملوكهم. كلوتير الثاني. داجوبرت. نمو مملكة الفرنج. ضعف سلطان العرش. الزعماء المحليون. محافظ القصر. الأسرة الكارلية. نفوذها وتقدمها في الرياسة. المعارك الأهلية. قيام إمارة أكوتين. ببين دي هرشتال محافظ القصر. حفيده تودفالد يخلفه. ولده كارل مارتل ينتزع السلطة لنفسه. الدوق أودو أمير أكوتين. السمح يغزو إمارته. موقعة تولوشة ومقتل السمح. (2) انتخاب عبد الرحمن الغافقي للرياسة. إخماده للفتنة في الشمال. ولاية عنبسة بن سحيم الكلبي. رد الأندلس إلى حكومة إفريقية. سير عنبسة الى الشمال. غزوه لسبتمانيا. استيلاؤه على قرقشونة. غزوه لوادي الرون. تفاهم أودو مع المسلمين. أقوال ايزودور الباجي. كمين الفرنج لعنبسة ومقتله. تتابع الولاة على الأندلس. عزرة بن عبد الله الفهري. يحيى بن سلمة الكلبي. عثمان بن أبي نسعة الخثعمي. حذيفة بن الأحوص القيسي. الهيثم ابن عبيد الكلابي. اضطراب شئون الأندلس. غزو الفرنج لمواقع المسلمين. اجتماع فلول القوط في جليقيه. إصلاحات الهيثم. عبوره إلى سبتمانيا. غزوه لوادي الرون وبرجونية. ولاية محمد ابن عبد الله الأشجعي. ولاية عبد الرحمن الغافقي الثانية. مواهبه وخلاله. بوادر الثورة في الشمال. منوسة حاكم الولايات الشمالية. غموض شخصيته. أطماعه ومشاريعه. تفاهمه مع أودو دوق أكوتين وتحالفه معه. اقترانه بلامبيجيا ابنة الدوق. ارتياب عبد الرحمن في موقفه وتصرفاته. إرساله جيشا إلى الشمال. فرار منوسة ومقتله وأسر زوجه. مخاوف أودو. تأهب عبد الرحمن للغزوة الكبرى. سيره إلى الشمال. زحفه على مدينة آرل واستيلاؤه عليها. اختراقه لأكوتين. موقعة الدردون وهزيمة الفرنج. استيلاء عبد الرحمن على بوردو. سيره ثانية إلى وادي الرون. استيلاؤه على ليون وبيزانصون وصانص. زحفه غربا نحو اللوار. أقوال الفيلسوف جيبون.
- 1 -
يجدر بنا قبل أن نمضي في تتبع الغزوات الإسلامية لتلك الأنحاء، أن نقول كلمة عن مملكة الفرنج تمهيداً لما سيجىء من لقاء العرب والفرنج وتطور العلائق يينهما. كان الفرنج (أو الفرنك) شعبة من القبائل الجرمانية استقرت منذ أواخر القرن الخامس للميلاد، بين نهر الرَّين والبحر في إقليم فلاندر وما إليه (البلجيك الحديثة)، ثم على ضفاف الرين الوسطى والموزل. وفي نهاية القرن الخامس كان زعيم هذه القبائل أمير شجاع مقدام يدعى كلوفيس بدأ حكمه في مدينة "تورني".
وفي سنة 486 م غزا شمال فرنسا وانتزعه من يد الحاكم الروماني سباجريوس، وكان قد أقام به دولة مستقلة، ثم حارب قبائل " الألماني " القاطنة شرق نهر الرين، وافتتح أراضيها حتى بافاريا. وفي سنة 507 م حارب كلوفيس القوط، وكانوا قد استقروا كما قدمنا في القسم الجنوبي من فرنسا المسمى بغاليا (أو غاليس) وقتل ملكهم ألاريك، واستولى على الأراضي الواقعة ما بين اللوار والبرنيه، عدا ولاية سبتمانيا (لانجدوك) التي بقيت في يد القوط. واعتنق كلوفيس النصرانية وأذاعها بين قبائله الوثنية، وجعل باريس مقر ملكه الشاسع، وبذا قامت مملكة الفرنج القوية أصل فرنسا الحديثة. وتابع أبناء كلوفيس وخلفاؤه من بعده سياسة الفتح، وافتتحوا برجونية وأواسط ألمانيا وشمالي إيطاليا. ثم وقعت الحرب الأهلية حينا بين أمراء الفرنج الذين اقتسموا تراث كلوفيس، حتى جاء كلوتير الثاني سنة 613 م فبسط سلطانه على غاليس كلها (فرنسا)(1)، واستأنف الفتح لإخضاع باقي الإمارات الفرنجية الواقعة شرقي الرين. وسار ولده داجوبيرت في أثره، وجمع كلمة الفرنج تحت لواء واحد، وغلبت سلطة الفرنج على ألمانيا الغربية ثانية، وهذبت النصرانية التي جاهد في إذاعتها الفرنج بين هذه القبائل المتوحشة، كثيراً من خشونتها، وقضت على كثير من رسومها الوثنية.
ولكن داجوبيرت كان آخر ملك من الفرنج الميروفنجية - أسرة كلوفيس (2) - استطاع أن يقبض على زمام السلطة المركزية بيد قوية. ذلك أن نظام الإقطاع والعشائر، كان يسود هذه المملكة الشاسعة، وكانت جمهرة من الأمراء والدوقات والكونتات تتقاسم السلطة في مختلف الولايات والأنحاء، وكلما ضعف سلطان العرش اشتد نفوذ أولئك الزعماء المحليين.
وكان أولئك الزعماء قد استطاعوا خلال العصور المتعاقبة، أن يحدوا تباعا من سلطة العرش، وأن يحرزوا لأنفسهم كثيرا من الامتيازات والسلطات، فلما جاء كلوفيس استطاع بعزمه وصرامته، أن يقبض على السلطة المركزية بيد قوية، وأن يبسط على مملكة الفرنج كلها سلطانا مطلقا، واستطاع بعض خلفائه
(1) تطلق كلمة غاليس في الرواية الإسلامية على جنوب فرنسا، وهي تعريب حسن لكلمة Gaule أو Gaulia ( راجع ابن الأثير ج 4 ص 213). وتسمى فرنسا أيضا في الجغرافية العربية بالأرض الكبيرة.
(2)
The Merovingians، نسبة إلى مؤسس أسرتهم الملك مرفيج جد كلوفيس.
حتى داجوبيرت أن يبسطوا مثل هذا السلطان حيناً. ولكن خلفاء داجوبيرت كانوا رجالا ضعاف الخلال والعزائم، ينغمسون في نعماء الترف والملاذ، فضعف سلطان العرش، وانهارت السلطة المركزية القوية التي كان يقبض عليها، واسترد الأشراف والزعماء المحليون استقلالهم وامتيازاتهم. هذا إلى أن ما استطاع العرش أن يحتفظ به من السلطات، امتدت إليه سلطة جديدة في القصر ذاته، هي سلطة محافظ القصر. وكان هذا المنصب في المبدأ متواضعا، ليست له أية صفة سياسية أو إدارية، تقتصر مهامه على النظر في شئون القصر المنزلية، ولكنه غدا منذ أوائل القرن السابع، أعني منذ أخذت سلطة العرش في الضعف، منصبا هاماً، يتولاه رجال أقوياء يتطلعون إلى السلطان، وتؤازرهم عصبية الأسرة والثروة، وأصبح بمضي الزمن أهم مناصب الدولة السياسية والإدارية، يستأثر صاحبه بكل السلطات الحقيقية، وإليه منتهى الأمر في أخطر شئون الدولة، يباشرها باسم العرش ومن ورائه، ولا يباشر الملك إلى جانبه غير رسوم الملك الإسمية، ويلتف حوله الزعماء والأكابر، ويباشر في معظم الأحيان سلطة الملك الحقيقية، خصوصاً إذا كان الملك طفلا قاصراً، فهو عندئذ يغدو الملك الحقيقي باسم الوصي أوالنائب.
وكانت الأسرة الكارلية (1) القوية قد اختصت بهذا المنصب الخطير، منذ عهد الملك داجوبيرت، وأخذت تهدد بنفوذها وقوتها مصير الأسرة الميروفنجية الملكية. وكانت أقوى بطون الفرنج في أوستراسيا (مملكة الفرنج الغربية)، تملك ضياعاً شاسعة ما بين نهري الرَّين والموز وتتزعم جماعة النبلاء، وترعاها الكنيسة لنفوذها وسلطانها، ويمنح زعيمها محافظ القصر لقب " دوق الفرنج " تنويها برياسته وسلطانه، الذي أصبح فوق سلطان العرش. وكان انحلال الأسرة الميروفنجية وانهيار سلطانها على هذا النحو، سببا في تفرق كلمة الفرنج وانحلال الإمبراطورية الفرنجية الشاسعة، وتطلع الزعماء إلى الاستقلال والرياسة، أسوة بما انتهى إليه محافظ القصر؛ فاضطرمت الحرب الأهلية حيناً بين الفرنج في أوستراسيا والفرنج في نوستريا (الفرنج الشرقية)، وأسفر هذا الصراع عن استقلال ولاية أكوتين في غاليا الجنوبية، وكذا استقلال معظم الولايات الألمانية، برياسة طائفة من
(1) Carlovingians أو Carolingians، نسبة إلى أعظم ملوكها كارل الأكبر أو الإمبراطور شارلمان.
الأمراء الأقوياء. ثم آل منصب المحافظ في أواخر القرن السابع إلى أمير مقدام جرىء من الأسرة الكارلية، هو ببين دى هرشتال، فحارب الفرنج الخوارج في فريزيا وسكسونيا وبافاريا وأخضعهم، ولبث محافظا للقصر يحكم مملكة الفرنج في الشرق والغرب بقوة وعزم، مدى سبعة وعشرين عاماً، تم توفي سنة 715 م موصياً بمنصبه لحفيده الطفل تودفالد، ولد ابنه جريمولد الذي قتل قبل وفاته.
وكان لببين ولد آخر من زوجته " ألفايده " ابنه راتبود زعيم فريزيا الوثني، وهو كارل (أو شارل) مارتل، تركه أبوه فتى قوياً في نحو الثلاثين من عمره، وكان من الطبيعي أن يكون هو محافظ القصر بعد وفاة أخويه الكبيرين جريمولد ودروجو. ولكن ببين تأثر بتحريض زوجه الأولى " بلكترود " وأوصى بالمنصب لحفيده، فكان محافظ القصر طفلا هو تودفالد، يحكم مكان الملك الميروفنجي وهو طفل أيضاً، بواسطة بلكترود التي عينت وصية على حفيدها. وكان أول ما فعلت بلكترود أن قبضت على كارل مارتل، وزجته إلى السجن لتأمن شره ومنافسته. ولكن أشراف أوستريا ساءهم أن تتولى الحكم امرأة. فثاروا ونادوا بأحد زعمائهم " راجنفرد " محافظاً للقصر، ونشبت الحرب بين الفريقين، وهزم حزب بلكترود، فارتدت مع حفيدها إلى كلونية، وقبض راجنفرد على زمام الحكم. وفي تلك الأثناء فر كارل مارتل من سجنه، والتف حوله جماعة من أنصار أبيه، وحارب النوستريين، فاستغاث راجنفرد بالدوق أودو أمير أكوتين القوي، فلم يغنه ذلك شيئاً، وانتهي كارل بأن هزمه ومزق قواته، واضطره إلى التسليم والصلح. أما بلكترود فقد عقدت الصلح أيضاً، ونزلت عن كل حقوقها. وغدا كارل منذ سنة 720 م محافظاً للقصر لا ينازعه منازع، يحكم جميع الفرنج في أوستراسيا ونوستريا (1).
وهكذا كانت مملكة الفرنج حينما عبر المسلمون إلى غاليا أو غاليس (فرنسا) لثالث مرة بقيادة السمح بن مالك، وغزوا ولاية سبتمانيا القوطية، واستولوا على قواعدها، وزحفوا على مدينة تولوشة (تولوز) عاصمة أكوتين. وكان أودو
(1) راجع في تاريخ مملكة الفرنج ونشأتها وعصر الأسرتين الميروفنجية والكارلية:
Zeller: Histoire de l'Allemagne Ch. VII وكذلك Hodgkin: Charles the Great، ch. II & III
دوق أكوتين أحد أعضاء الأسرة الميروفنجية، أقوى أمراء الفرنج في غاليا وأشدهم بأساً. وكان أثناء الاضطراب الذي ساد مملكة الفرنج، قد استقل بأكوتين وبسط حكمه على جميع غاليس الجنوبية، من اللوار إلى البرنيه، والتف حوله القوط والبشكنس (النافاريون)، وأخذ يطمح إلى انتزاع ملك الفرنج أو ملك أسرته، ويعد العدة لقتال كارل مارتل المتغلب عليه. ولكنه اضطر أن يشتغل عن مشروعه برد خطر العرب الداهم.
استولى السّمح على سبتمانيا وأقام بها حكومة إسلامية، ووزع الأراضي بين العرب والسكان، وفرض الجزية على النصارى، وترك لهم حرية الاحتكام إلى شرائعهم، ثم زحف نحو الغرب ليغزو أكوتين كما قدمنا، فقاومه البشكنس والغسقونيون سكان هذه الأنحاء أشد مقاومة. ولكنه مزق جموعهم وقصد إلى تولوشة. وكان الدوق أودو قد جمع في تلك الأثناء جيشاً ضخماً وسار لرد العرب، وعلم السمح بذلك فارتد عن مهاجمة تولوشة ليلقى جيش الدوق رغم تفوقه على جيشه في العدد. والتقى الفريقان بظاهر تولوشة، ونشبت بينهما معركة هائلة سالت فيها الدماء غزيرة، وكثر القتل في الجيشين، وأبدى المسلمون رغم قلتهم شجاعة خارقة، وتراوح النصر حيناً بين الفريقين. ولكن السمح سقط قتيلا من فوق جواده، فاختل نظام الفرسان المسلمين، ووقع الإضطراب في الجيش كله، وارتد المسلمون إلى سبتمانيا بعد أن فقدوا زهرة جندهم، وسقط منهم عدة من الزعماء الأكابر، وذلك في التاسع من ذي الحجة سنة اثنتين ومائة (9 يونيه سنة 721 م)(1).
وعلى أثر مقتل السمح اختار الجيش أحد زعمائه، عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي للقيادة العامة، فارتد عبد الرحمن إلى الجنوب تواً، وأقرته " الجماعة " واليا للأندلس، حتى يأتي الحاكم الجديد. فلبث في منصبه فترة وجيزة، ولكنه استطاع خلالها أن يخمد بوادر الخروج التي ظهرت في الولايات الجبلية الشمالية،
(1) يضع كوندى وهو ينقل عن مصادر عربية اسبانية لم يبينها، تاريخ الموقعة في سنة 103 هـ Conde: ibid.I.p. 72)) ولكن المصادر العربية التي بين أيدينا تجمع كلها على أن الموقعة كانت سنة 102 هـ (نفح الطيب عن ابن بشكوال وابن حيان ج 2 ص 56، والبيان المغرب ج 2 ص 25، وابن خلدون ج 4 ص 118). ومعظم المصادر الفرنجية على أن الموقعة كانت سنة 721 م (102 هـ) متفقة بذلك مع الرواية الإسلامية. راجع Dom Vissette: ibid ; I.p. 781 & 784
وأن يستبقى الجزية على أربونة وغيرها من قواعد سبتمانيا. ولبث يخمد الفتن، ويصلح الأمور حتى قدم عنبسة بن سحيم الكلبي، الذي اختاره بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية، واليا للأندلس. وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز قد جعل الأندلس ولاية مستقلة كما قدمنا، تتبع الخلافة مباشرة. ولكن خلفه يزيد بن عبد الملك لم يقر هذا التعديل، فعادت الأندلس تابعة في إدارتها لإفريقية كما كانت.
وقدم عنبسة بن سحيم الكلبي إلى الأندلس في صفر سنة 103. وأنفق حيناً في تنظيم الإدارة، وضبط النواحي، وإصلاح الجيش، وإعداده لغزوات جديدة. وفي أواخر سنة 105 هـ (أوائل سنة 724 م) سار عنبسة في الجيش إلى الشمال غازياً، وعبر جبال البرنيه (1) مرة أخرى، وغزا سبتمانيا التي فقد المسلمون كثيرا من معاقلها، منذ هزيمة تولوشة، واستولى على قرقشونة ونيمة وما بينهما من القواعد، وارتد القوط عن محالفة الفرنج إلى محالفته. وتابع زحفه شمالا في وادي الرون ونفذ إلى برجونية حتى مدينة أوتون فغزاها وخربها (أغسطس سنة 725 م)، ثم غزا مدينة صانص. وخشى أودوق أكوتين أن يهاجمه المسلمون مرة أخرى، فسعى إلى مفاوضتهم ومهادنتهم. وبسط المسلمون سلطانهم قويا في شرق جنوبي فرنسا. وفي ذلك يقول إيزيدور الباجي:" كان نجاح عنبسة راجعاً إلى الجرأة والبراعة، أكثر منه إلى القوة والكثرة. وكان لينه ورفقه وحسن معاملته للسكان، عاملا في تقوية سلطان الإسلام في جنوبي فرنسا ". ولكن قضى نكد الطالع أن ينكب المسلمون مرة أخرى. فإن عنبسة حين عوده إلى الجنوب، داهمته قبل أن يجتمع إليه جميع جيشه، جموع كبيرة من الفرنج، فأصيب أثناء الموقعة التي نشبت بجراح بالغة توفي على أثرها، وذلك في شعبان سنة 107 هـ (ديسمبر سنة 725) فارتد الجيش إلى الداخل، وعاد الاضطراب إلى الجزيرة مرة أخرى.
(1) يحسن بنا أن نشير هنا إلى أن بعض الكتاب والباحثين يسمون جبال البرنيه خطأً بجبال " البرانس " ذلك لأن جبال البرنيه تسمى في الجغرافية العربية حسبما قدمنا بجبال البرت أو البرتات. أما جبال " البرانس " فهي سلسلة أخرى من الجبال الإسبانية، تقع شرقي ماردة، وجنوبي طليطلة، وهي التي تعرف في الجغرافية الحديثة بجبال المعدن Sierra de Almaden، لوقوعها على مقربة من مدينة " المعدن ". وسيمت في الجغرافية العربية " بالبرانس " نسبة لقبيلة البرانس البربرية، التي كان منزلها في الأندلس على مقربة من هذه الجبال (راجع البيان المغرب ج 2 ص 143 و163 حيث يشير إلى الحملات التي جردت لمقاتلة الثوار في منطقة جبال البرانس).
وتوالى على الأندلس مدى الأعوام الخمسة التي تلت وفاة عنبسة، ستة ولاة أولهم عزرة بن عبد الله الفهري (1)، الذي تولى قيادة الجيش عقب وفاة عنبسة، فلبث في منصبه شهرين فقط. ثم يحيى بن سلمة الكلبي، ولاه بشر بن صفوان عامل إفريقية، فقدم الأندلس في شوال سنة 107، وامتد حكمه عامين ونصف لم تقع فيهما حوادث أو غزوات تذكر. ثم توفي بشر بن صفوان، وخلفه في ولاية إفريقية عبيدة بن عبد الرحمن السلمي، فولى على الأندلس عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، فقدمها في شعبان سنة 110، ولبث في منصبه ستة أشهر فقط ثم عزل، وخلفه حذيفة بن الأحوص القيسي فلم تطل ولايته سوى أشهر أيضا، فخلفه الهيثم ابن عبيد الكلابي أو الكناني، ولاه أيضا عبيدة السلمي عامل إفريقية، فقدم الأندلس في المحرم سنة 111 هـ. وكان تتابع الولاة على هذا النحو سببا في تفاقم الخلل والاضطراب في شئون الجزيرة، وتفاقم الخلاف بين الزعماء والقبائل. وكان تخلف المسلمين عن الغزو من جهة أخرى مشجعا للفرنج على مهاجمة القواعد الشمالية، مشجعة للخوارج من القوط والبشكنس على تنظيم قواتهم. وكان أخطر أولئك الخوارج شراذم القوط التي لجأت كما أسلفنا إلى قاصية جليقية، واجتمعت هناك حول زعيم يدعى بلايو أو بلاي، ولم يعن الولاة بتتبعها والقضاء عليها، إما احتقاراً لشأنها أو لوعورة الجبال التي امتنعت بها، ففي أثناء اضطراب الشئون وانشغال الولاة، كانت هذه الشراذم تنمو وتشتد داخل هضابها النائية، وكانت هي نواة هذه المملكة النصرانية القوية التي نشأت سراعاً، واشتد ساعدها، حتى غدت قبل قرن تنافس الإسلام وتنازعه سيادة اسبانيا.
فلما ولى الهيثم حاول أن يقمع الفوضى، وأن يرد النظام. وكان الهيثم حازما قوى العزم، ولكن صارماً شديد الوطأة، فطارد الشغب والفوضى بشدة، واضطهد معظم الزعماء والمخالفين له في الرأي، وبالأخص اليمنية، وتتبع كثيرين منهم بالسجن والمطاردة، وقاد حملة ضد " منوسة " وهو حسبما نوضح بعد زعيم بربري غامض الشخصية، كان حاكماً لمنطقة الأسترياس وظهرت منه أعراض التمرد، ولكنه لم يوفق إلى القضاء عليه. ثم سار في الجيش إلى الشمال ليقمع
(1) يرى بعض المؤرخين أن عزرة لم يكن من ولاة الأندلس، أو أن ولايته كانت غير رسمية (المقري عن ابن بشكوال ج 2 ص 57؛ والبيان المغرب ج 2 ص 26).
أعراض الثورة التي بدأت في الولايات الجبلية، وليستأنف الغزو؛ فعبر البرنيه، واخترق سبتمانيا إلى وادي الرون وغزا ليون (لوذون) وماسون (1) وشالون الواقعة على نهر الساؤون، واستولى على أوتون وبون، وعاث في أراضي برجونية الجنوبية. ولكن هذا الفتح الكبير لم يكن ثابت الأثر، فقد أدى اختلاف القبائل وتمرد البربر إلى تفكك الجيش الفاتح، وإلى تخلف المدن المفتوحة عن قبضة الفاتحين. فعاد الهيثم إلى الجنوب، ولم يلبث أن توفي بعد أن حكم الأندلس مدى عامين، فاختارت " الجماعة " مكانه محمد بن عبد الله الأشجعي حتى يعين الوالي الجديد (2)، فلبث في منصبه شهرين، حتى عين عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا للأندلس، عينه عبيدة بن عبد الرحمن السلمي والي إفريقية بمصادقة الخليفة هشام بن عبد الملك في صفر سنة 113هـ (إبريل سنة 731)(3) فكانت ولايته الثانية. وكانت ولايته الأولى سنة 103هـ على أثر كل مقتل السمح كما قدمنا. وكان عبد الرحمن جندياً عظيماً ظهرت مواهبه الحربية في غزوات غاليا، وحاكماً قديراً بارعاً في شئون الحكم والإدارة، ومصلحاً كبيراً يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعاً. وتجمع الرواية الإسلامية على تقديره والتنويه برفيع خلاله، والإشادة بعدله وحلمه وتقواه (4). فرحبت الأندلس قاطبة بتعيينه
(1) لعل ماسون هي التي يسميها ابن عذارى منوسه (راجع البيان المغرب ج 2 ص 27).
(2)
يقدم كوندي رواية أخرى عن مصير الهيثم، فيقول إن أمر عسفه وجوره نمى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، فانتدب محمد بن عبد الله الأشجعي للتحقيق معه. فلما تحقق صحة التهم المنسوبة إليه عزله وسجنه وصادر أمواله، وأطلق الذين اعتقلهم ظلما. ويقول كوندي أيضا إن الأشجعي هو الذي اختار عبد الرحمن الغافقي لولاية الأندلس، لما تحقق من شجاعته وحزمه بتفويض لديه من الخليفة Condeibid.V.I.p. 81 ويأخذ دوزي بهذه الرواية (( Hist.V.I.p. 137. وكوندي يستقي روايته من بعض المصادر العربية الإسبانية، ولكنه لا يعين هذه المصادر. على أن المصادر العربية التي أمامنا تجمع على أن ولاية الهيثم اختتمت بوفاته، وأن الأشجعي خلفه باختيار الجماعة (البيان المغرب ج 2 ص 27، ونفح الطيب ج 2 ص 58 عن ابن بشكوال، وابن خلدون ج 4 ص 119).
(3)
تختلف الرواية الاسلامية في تارخ ولاية عبد الرحمن، فيقول الضبي إن تعيينه كان في ْحدود سنة 110هـ (بغية الملتمس رقم 1021)، وكذا ابن بشكوال (نفح الطيب ج 2 ص 56). ويقول ابن عذارى إنه كان في صفر سنة 112 (ج 2 ص 28)، وابن حيان إنه كان في صفر سنة 113 (نفح ج 2 ص 56). وهي أرجح رواية فيما نعتقد وبها أخذنا لاتفاقها مع سير تواريخ الولاة المتقدمين.
(4)
راجع ابن عبد الحكم ص 216، 217 وبغية الملتمس رقم 1021، والحميدي في جذوة المقتبس ص 6 و255.
وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وجمعت هيبته كلمة القبائل، فتراضت مضر وحمير، وعاد الوئام نوعاً في الإدارة والجيش، واستقبلت الأندلس عهداً جديدا.
وبدأ عبد الرحمن ولايته بزيارة الأقاليم المختلفة فنظم شئونها، وعهد بإدارتها إلى ذوي الكفاية والعدل، وقمع الفتن والمظالم ما استطاع، ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم المغصوبة، وعدل نظام الضرائب وفرضها على الجميع بالعدل والمساواة، وقضى صدر ولايته في إصلاح الإدارة، ومعالجة ما سرى إليها في عهد أسلافه من عوامل الاضطراب والخلل. وعني بإصلاح الجيش وتنظيمه عناية خاصة، فحشد الصفوف من مختلف الولايات، وأنشأ فرقاً قوية مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة من الضباط العرب، وحصن القواعد والثغور الشمالية، وتأهب لإخماد كل نزعة إلى الخروج والثورة (1).
وكانت الثورة في الوقع توشك أن تنقض في الشمال، وبطلها في تلك المرة زعيم مسلم هو حاكم الولايات الشمالية. فمن هو ذلك الزعيم الثائر؟ إن الرواية الإسلامية تلتزم الصمت إزاء شخصية هذا الزعيم، وإزاء الحوادث التي اقترنت باسمه. وكل ما هنالك أن صاحب البيان المغرب يقول لنا في حديثه عن ولاية الهيثم بن عبيد الكناني " وهو الذي غزا أرض منوسة "(2). ثم يردد المقري هذه العبارة في قوله مشيراً أيضا إلى الهيثم " وغزا أرض منوسة فافتتحها "(3). ويبدو لأول وهله من استقراء هاتين الإشارتين القصيرتين، أن " منوسة " تنصرف فيما يرجح إلى المكان، ومنوسة قد تكون مدينة " ماسون " وهي التي غزاها الهيثم ضمن، غزواته في أرض فرنسا. ولكن معظم الروايات النصرانية والفرنجية المعاصرة، تحدثنا في نفس الوقت عن شخصية زعيم مسلم يدعى Munuza " منوزا " أو Munez " مونز "، وهو كما يبدو مطابق لاسم " منوسة "، تسرد لنا سلسلة من الحوادث الهامة التي اقترنت باسمه. وفي موطن واحد فقط تقول الرواية النصرانية إن منوسة كان زعيماً نصرانياً من زعماء منطقة الأسترياس، وأنه كان حاكماً لمدينة خيخون (4). ولنسلم نحن بهذه المطابقة بين الإسمين،
(1) Conde ; ibid V.I.p. 82 & 83
(2)
البيان المغرب ج 2 ص 27
(3)
نفح الطيب ج 1 ص 109.
(4)
Cronica General ; Vol.I.p.319 & V.II.p.324.
فتقول إن منوسة، كان وفقا لأقوال هذه الروايات النصرانية والفرنجية، زعيما مسلما يحكم بعض ولايات البرنيه الغربية وسبتمانيا فيما وراء البرنيه باسم حكومة الأندلس، وذلك حوالي سنة 725 إلى سنة 730 م (1). وكان الدوق أودو أمير أكوتين منذ اجتاح المسلمون أراضيه، ورأى خطر الفتح الإسلامي يهدد ملكه يسعى إلى مهادنة المسلمين والتقرب من حكومة الأندلس، ويحاول في نفس الوقت أن يجمع الحلفاء من حوله لمقاومتها إذا اقتضى الأمر. فلما تولى منوسة حكم الولايات الشمالية. وهي تجاور أكوتين من الشرق والجنوب، سعى الدوق إلى التفاهم معه. وكان منوسه كما تصفه الرواية النصرانية المعاصرة، زعيما قوي المراس، كثير الأطماع، نافذ الهيبة في هاتيك الوهاد، ولم يكن على اتفاق مع حكومة الأندلس. ذلك أنه كان من أقطاب البربر الذين عبروا الأندلس مع طارق بن زياد (2)؛ وقد سبق أن شرحنا عوامل الخلاف بين العرب والبربر، وكيف حقد البربر على العرب لاستئثارهم بمغانم الفتح والرياسة. وعلى ضوء هذه التفاصيل، نعود فنتساءل من يكون " منوسة "؟ هل يكون هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي الذي ولى إمارة الأندلس قبل ذلك بثلاثة أعوام حسبما قدمنا، ولم يطل أمد ولايته سوى أشهر قلائل؟ وهل يكون اسم " منوسة " Munuza تحريفاً نصرانياً للقب " نسعة " العربي؟ إذا صح أن منوسة كان زعيما بربريا كما تصفه الروايات النصرانية المعاصرة، وهي وحدها مصدر التعريف عنه، فيكون من المشكوك فيه إذن أن يكون منوسة، هو عثمان ابن أبي نسعة الخثعمي والى الأندلس (3). ذلك أن عثمان بن أبي نسعة كان زعيما
(1) ويقول ألتاميرا إن " منوسه " Munuza هو الحاكم البربري الذي تركه موسى ابن نصير في خيخون في منطقة الأسترياس وكان حاكما لمدينة أوفيدو، وأنه أي منوسة قد اضطر عقب فشله في القضاء على بلايو الزعيم القوطي، وهزيمته في موقعة كوفادونجا أن يخلي منطقة الأسترياس. راجع: Altamira: ibid، T.I.p. 221-223
(2)
هذه هي رواية إيزيدور الباجي وقد نقلتها بعض الروايات النصرانية المتأخرة؛ راجع Dom Vissette: ibid، V.I.p. 794 & II. p.129 و Dozy: Histoire،V.I.p. 160 et nots
(3)
كنت من قبل أعتقد كبعض الباحثين أن " منوزا "(منوسة) هو تحريف لاسم ابن أبى نسعة؛ وأنهما اسمان لشخص واحد. وهذا ما يقوله في الواقع يوسف كوندي ( V.I.p. 80) . ولكني أصبحت بعد الذي قرأته من مختلف التفاصيل والتعليقات التي أوردتها الروايات النصرانية المعاصرة، وبعد مقارنتها بأقوال الرواية الإسلامية عن ابن أبي نسعة، أشك في صواب هذا الرأي. والمرجح كما يبدو من مختلف الشروح المتقدمة أن منوسة كان فعلا من زعماء البربر المتمردين على حكومة قرطبة.
عربيا ينتسب إلى خثعم إحدى البطون العربية العريقة (1)، ولم يفز بإمارة الأندلس في تلك الفترة سوى زعماء العرب، ولم تسند إلى أحد من البربر. هذا إلى أن الرواية الإسلامية تقدم إلينا عن مصير عثمان بن أبي نسعة رواية أخرى غير التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية عن مصير "منوسة"، فهي تقول لنا ان ابن أبي نسعة ولي الأندلس في شعبان سنة 110هـ (728 م) واستمرت ولايته خمسة شهور أو ستة ثم عزل، وانصرف إلى القيروان فمات بها (2). أما " منوسة " فقد مات محارباً، ومات قتيلا كما سنرى.
وعلى أي حال فقد تفاهم دوق أكوتين ومنوسة، وقوت المصاهرة بينهما أواصر الصداقة والتحالف. ذلك أنه كانت للدوق ابنة رانعة الحسن تدعى لامبجيا (أو منينا أو نوميرانا على قول بعض الروايات) فرآها منوسة أثناء بعض رحلاته في أكوتين أو أنه أسرها في بعض غاراته عليها. تقول الرواية:" وكانت لامبجيا أجمل امرأة في عصرها، كما كان منوسة أقبح رجل في عصره، وكانت نصرانية متعصبة، ولكن أطماع الوالد غلبت على كل شىء، فارتضى مصاهرة الزعيم المسلم ".
وكما يحيط الغموض بشخصية منوسة، فكذلك يحيط بشخصية لامبجيا وظروف زواجها من الزعيم المسلم، فتقول الرواية مثلا، إن منوسة بعد أن أسر لامبجيا، وشغف بها حبا وتزوج بها، حمل بتأثيرها ونفوذها على محالفة أبيها الدوق ومناوأة حكومة الأندلس، وتقول أيضا إن ابنة الدوق أكوتين التي تزوجها منوسة لم تكن لامبجيا التي اشتهرت بفائق حسنها، بل كانت أختها " منينا " التي كانت من قبل زوجة لفرويلا القوطي أمير أستورية، كما تورد لنا غير ذلك من الأنباء والتفاصيل التي يقع معظمها في حد الأساطير (3).
وهكذا اجتمعت عوامل الحب والسياسة لتوثيق عرى التحالف بين الزعيم المسلم وبين الدوق أودو. وكان أودو، فضلا عما يهدده من خطر الغزو الإسلامي، يخشى بأس خصمه القوي كارل مارتل زعيم الفرنج، وكذا كان كارل مارتل
(1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 139.
(2)
البيان المغرب ج 2 ص 28.
(3)
راجع خلاصة الروايات النصرانية والفرنجية في موسوعة Bayle V.IV. والتعليقات.
ينقم على أودو نفوذه واستقلاله بالجنوب، وقد غزا بالفعل أكوتين غير مرة وهزم أميرها. فكان أودو في الواقع بين نارين، يخشى الفرنج في الشمال، والعرب في الجنوب. وكانت جيوش كارل مارتل تهدده وتعيث في أرضه (سنة 731) في نفس الوقت الذي سعى فيه منوسة إلى محالفته، والاستعانة به على تنفيذ مشروعه في الخروج على حكومة الأندلس، والاستقلال بحكم الولايات الشمالية. وقد رأى منوسة اكتساباً للوقت وكتماناً لحقيقة مشروعه، أن يسبغ على محالفته مع الدوق صفة هدنة عقدت بينه وبين الفرنج، ولكن عبد الرحمن أمير الأندلس ارتاب في أمر الثائر ونياته، وأبى إقرار الهدنة التي عقدها. وعندئذ كشف منوسة القناع، وأعلن الثورة، فأرسل عبد الرحمن إلى الشمال حملة قوية بقيادة ابن زيان لتأديب الزعيم الثائر، والتحوط لسلامة الولايات الشمالية، فاستعصم منوسة بمواقعه الجبلية، وتحصن في عاصمة إقليمه " مدينة الباب "(1)، الواقعة على منحدر جبال البرنيه، وكان يظن أنه يستطيع أن يتحدى الجيش الإسلامي، وأن يعتصم بالصخر، كما اعتصم به الزعيم القوطي "بلاجيوس"(بلايو) ولكنه كان مخطئاً في تقديره، فقد نفذ ابن زيان بجيشه إلى مدينة الباب، وحاصر الثائر في عاصمته، ففر منها إلى شعب الجبال الداخلية، فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة، حتى أخذ وقتل مدافعاً عن نفسه، وتحطمت أطماعه ومشاريعه (113هـ - 731 م)(2)، وأسرت زوجه الحسناء لامبجيا، وأرسلت إلى بلاط دمشق، واستقبلها الخليفة (هشام بن عبد الملك) بحفاوة وإكرام، وزوجت هنالك من أمير مسلم لا تذكر لنا الرواية اسمه (3).
(1) واسمها بالقشتالية Ciudad de la Puerta، وقد كانت تقع على أحد ممرات البرنيه وتسمى أحيانا "بويكاردا ".
(2)
تمر الرواية الإسلامية على هذه الحوادث كلها بالصمت كما قدمنا، ولا تذكر لنا أي
تفصيل أو لمحة تلقي الضياء عل شخصية منوسة، ويوافق دوزي على أن منوسة Munuza هو اسم
للزعيم البربري المتقدم الذكر.
راجع: & Dozy: Histoire V.II.p.129 & note، وكذلك Lévy - Provençal: Hist.de l'Espagne Musulmane (1944) p.43 & note. .
(3)
Dom Vissette: ibid، I.p. 764. وتحيط الرواية سيرة لامبجيا وزوجها بكثير من القصص الخيالية الشائقة، التي اتخذت فيما بعد مستقى لخيال بعض الشعراء والكتاب. غير أن معظم هذه القصص لا يخرج عن حد الأساطير.
هذا، وهناك في شأن "منوسة" وزوجه رواية أخرى، أوردها الحبر ماريانا كبير مؤرخي إسبانيا، فقد ذكر أن منوسة كان زعيماً نصرانياً اختاره المسلمون لحكم المنطقة الواقعة غرب البرنيه، ولكنه كان صارماً يشتد في معاملة النصارى، وأنه كان للدون بلاجيوس زعيم جليقية القوطي أخت بارعة الحسن، شغف بها منوسة حباً، ولكن بلاجيوس لم يوافق على زواجها منه، فاحتال منوسة، وبعثه في مهمة إلى قرطبة، وأسر الأميرة أثناء غيبته وتزوج بها قصراً، فأسر بلاجيوس وأخته هذه الإهانة، ولبثا يرتقبان الفرص حتى استطاعت الأميرة فراراً من أسرها وسارت مع أخيها إلى جبال جليقية حيث اعتصم بلاجيوس مع أنصاره، وأعلن الخروج والثورة، فأخطر منوسة حكومة قرطبة، فأرسلت حملة لتأديب الثائر بقيادة " علقمة ". ولكن بلاجيوس استطاع مع أنصاره القلائل، أن يعتصم بشعب الجبال، فارتد المسلمون منهزمين، وقتل علقمة، وارتاع منوسة لفوز خصمه، وخشي انتقام مواطنيه، فحاول الفرار إلى الجنوب، ولكنه وقع في يد شرذمة من الفلاحين النصارى فقتلوه، ويضع ماريانا تاريخ هذه الحوادث في سنة 718 م (1).
ولكن رواية ماريانا هذه ظاهرة الضعف، أولا لأنه ليس بمعقول أن تعهد حكومة الأندلس المسلمة بحكم ولاية من ولاياتها إلى زعيم نصراني. وثانياً لأن هذه الرواية تخالف في مجموع تفاصيلها كل ما كتبته الروايات المعاصرة عن شخصية منوسة، وعن مصاهرته لأمير أكوتين. وثالثاً لأن تاريخ هذه الحوادث متأخر عن التاريخ الذي يعينه ماريانا بأكثر من عشرة أعوام.
ولما قتل منوسة، وانهارت مشاريعه، ورأى أودو ما حل بحليفه، واستشعر الخطر الداهم تأهب للدفاع عن مملكته، وبدأ الفرنج والقوط في الولايات الشمالية بالتحرك لمهاجمة المواقع الإسلامية. وكان عبد الرحمن يتوق إلى الانتقام لمقتل السمح وهزيمة المسلمين عند أسوار تولوشة، ويتخذ العدة منذ بدء ولايته لاجتياح مملكة الفرنج كلها. فلما رأى الخطر محدقاً بالولايات الشمالية، لم ير بدا من السير إلى الشمال، قبل أن يستكمل كل أهبته. على أنه استطاع أن يجمع أعظم جيش سيره
(1) Mariana في تاريخ اسبانيا العام - الترجمة الفرنسية ج 3 ص 5 وما بعدها.
المسلمون إلى غاليس (فرنسا) منذ الفتح. وفي أوائل سنة 732 م (أوائل سنة 114هـ) سار عبد الرحمن إلى الشمال مخترقا ولاية أراجون (الثغر الأعلى) ونافار (بلاد البشكس) وعبر البرنيه من طريق بنبلونة، ودخل فرنسا في ربيع سنة 732 م، وزحف تواً على مدينة آرل الواقعة على نهر الرون، لتخلفها عن أداء الجزية، واستولى عليها بعد معركة عنيفة، نشبت على ضفاف النهر بينه وبين قوات الدوق أودو. ثم زحف غربا وعبر نهر الجارون، وانقض المسلمون كالسيل على ولاية أكوتين (1)، يثخنون في مدنها وبسائطها، فحاول أودو أن يقف زحفهم، والتقى الفريقان على ضفاف نهر الدردون، فهزم الدوق هزيمة فادحة، ومزق جيشه شر ممزق. قال إيزيدور الباجي:" والله وحده يعلم كم قتل في تلك الموقعة من النصارى ". وطارد عبد الرحمن جيش الدوق حتى عاصمته بوردو (بردال). واستولى عليها بعد حصار قصير (2)، وفر الدوق في نفر من صحبه إلى الشمال، وسقطت أكوتين كلها في يد المسلمين. ثم ارتد عبد الرحمن نحو الرون كرة أخرى واخترق الجيش الإسلامي برجونية واستولى على ليون وبيزانصون (3)، ووصلت سرياته حتى صانص، التي تبعد عن باريس نحو مائة ميل فقط. وارتد عبد الرحمن بعد ذلك غربا إلي ضفاف اللوار ليتم فتح هذه المنطقة ثم يقصد إلى عاصمة الفرنج (4).
(1) كانت إمارة أكوتين في ذلك الحين تمتد بين نهر الرون شرقا وخليج غسقونية (بسكونية) غربا، وبين نهر اللوار شمالا ونهر الجارون جنوبا، وتشمل من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبيرجور وسانتونج وبواتو وفنده وجزءا من أنجو.
(2)
Dom Vissette: ibid، I.p. 795
(3)
وهى مسقط رأس الشاعر الفرنسي الأشهر فكتور هوجو.
(4)
يقدم المستشرق كاردون شرحا آخر لسير عبد الرحمن، فيقول إنه زحف أولا على آرل وحاصرها فبادر الكونت إلى إنجادها، فلقيه عبد الرحمن وهزمه وألجأه إلى الفرار، ثم عبر عبد الرحمن نهر الجارون واستولى على بوردو. وكان الكونت قد جمع جيشا جديدا وحاول رده فهزم مرة أخرى، ثم اخترق عبد الرحمن وبيرجور وسانتونج وبواتو وهو يثخن في تلك الأنحاء حتى انتهي إلى تور Cardonne: Hist.de l'Afrique et de l'Espagne - I - 129 ولكن عبد الرحمن اقتحم وادي الرون أيضا كما بينا، وقد شرحنا سيره طبقا لجميع الروايات مجتمعة، وطبقا للمواقع الجغرافية التي تتعلق بهذه الغزوة. وقد يكون أن عبد الرحمن لم يسر بنفسه شمالا نحو برجونية، ولكن الجيش الإسلامي اقتحم هذه الأنحاء بلا ريب.
وتم هذا السير، وافتتح نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب، في بضعة أشهر فقط. قال إدوارد جيبون:" وامتد خط الظفر مدى ألف ميل من صخرة طارق إلى ضفاف اللوار. وقد كان اقتحام مثل هذه المسافة يحمل العرب إلى حدود بولونيا وربى اسكتلندا. فليس الرَّين بأمنع من النيل أو الفرات، ولعل أسطولا عربيا كان يصل إلى مصب التيمز دون معركة بحرية، بل ربما كانت أحكام القرآن تدرس الآن في معاهد أكسفورد وربما كانت منابرها تؤيد لمحمد صدق الوحي والرسالة ". (1)
(1) Gibbon: ibid، Ch - LII