المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

‌الفصل الثاني

خلال الناصر ومآثره

عصر الناصر أعظم عصور الإسلام بالأندلس. منشآت الناصر. مشروع بناء الزهراء. البدء في إنشاءها. قصر الزهراء وفخامته وروعته. منشآت الزهراء الأخرى. بعض أوصاف وأرقام عن الزهراء. نهاية الزهراء كقاعدة ملوكية. تخريبها أيام الثورة. بعض ما قيل في رثائها. أطلال الزهراء واختفاؤها. جهود العلماء الإسبان للكشف عن مواقعها. وصف لما ظهر من آثارها ومعالمها. منشآت الناصر بالمسجد الجامع. تنظيم الناصر للجيش والأسطول. الأحوال المالية في عهد الناصر. غنى الدولة الأموية وبذخها. إنشاء دار السكة بقرطبة. قرطبة وعظمتها. اصطفاء الدولة الأموية للموالي والصقالبة. حرص الناصر على السلطان المطلق. الصقالبة ونفوذهم. أثر هذا الاصطفاء. قرطبة مركز الجاذبية الدبلوماسية. تقدم الصلات الدبلوماسية بين الإسلام والنصرانية. سفارة قيصر قسطنطينية إلى الناصر. حفل استقبال السفراء وروعته. هدايا قيصر إلى الناصر. خطاب القاضي منذر بن سعيد. سفارات ملوك النصرانية. سفارة إمبراطور ألمانيا. سفارة الناصر إلى الإمبراطور. موضوع المفاوضات بين العاهلين. رأي الناصر في نظام الحكم. سفارات نصرانية أخرى إلى الناصر. مرض الناصر ووفاته. خلاله وصفاته. حجابه ووزراؤه وقواده. الوزراء وأصحاب الخطط. تنويه الشعر بعظمة عصره. صفة الناصر. أبناؤه. إشادة النقد الحديث بمناقبه.

ننتقل الآن إلى ناحية أخرى من نواحي عصر الناصر.

كان عصر عبد الرحمن الناصر بالرغم مما شغله من فتن وحروب مستمرة، عصر عظمة ورخاء ومجد، بل كان في الواقع أعظم عصور الإسلام بالأندلس، ولاسيما من نواحيه المعنوية والحضارية. وإذا كانت الأندلس قد بلغت فيما بعد في عصر المنصور بن أبي عامر، ذروة تفوقها السياسي والحربي في شبه الجزيرة الإسبانية، فإن الدولة الأموية بالأندلس بلغت في عهد الناصر ذروة القوة والبهاء؛ وكان هذا العهد حد الفصل بين مراحل تقدمها وازدهارها، ومراحل انحلالها وسقوطها.

ولم تحل مهام الحرب والسياسة دون قيام الناصر بأعمال الإنشاء العظيمة، وكان في مقدمتها إنشاء مدينة الزهراء أعظم قواعد الأندلس الملوكية. وكانت قرطبة عاصمة الأندلس قد بلغت يومئذ أوج العظمة والازدهار، وأضحت تفوق بغداد منافستها في المشرق بهاء وفخامه. وكان الناصر قد ابتنى إلى جانب القصر الزاهر

ص: 435

وهو مقام الملك، قصراً جديداً سماه دار الروضة، جلب إليه الماء من فوق الجبل، واستدعى المهندسين والبنائين من كل فج، وأنشأ في ظاهر قرطبة متنزهات عظيمة ساق إليها الماء من أعلى الجبل فوق قناطر بديعة. ومع ذلك فقد كانت قرطبة بمعاهدها ودورها وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر، من استكمال الفخامة الملوكية، والقصور والميادين والرياض الشاسعة، بل كانت تضيق بهذه المرافق الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل، حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلا ومتنزها ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً سنة العروش القوية الممتازة. فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد من توطيد ملكه، وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار قرطبة ضاحية ملوكية عظيمة، فأنشأ مدينة الزهراء. ولإنشاء الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين، وأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية، ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية الملوكية هي جاريته وحظيته "الزهراء" وأنه ورث من إحدى جواريه مالا كثيراً، فأمر أن يخصص لافتداء الأسرى المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسرى من يفتدى، فأوحت إليه "الزهراء" بأن ينشئ بهذا المال، مدينة تسمى باسمها وتخصص لسكناها (1). بيد إنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك، والترفع بمظاهره وخصائصه، عن المظاهر العامة، لعاصمة مكتظة زاخرة.

والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء، كان يحفز الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت المنشآت والهياكل العظيمة على كر العصور مظهر الملك الباذخ، والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها في هذا المعنى:

همم الملوك إذا أرادوا ذكرها

من بعدهم فبألسن البنيان

أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم

مُلْك محاه حوادث الأزمان

إن البناء إذا تعاظم شأنه

أضحى يدل على عظيم الشان

(1) نفح الطيب ج 1 ص 245.

ص: 436

وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة، على قيد خمسة أميال أو ستة منها، في سفح جبل يسمى جبل العروس (1). وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس وعشرين وثلثمائة (نوفمبر سنة 936 م). وعهد الناصر إلى ولده وولي عهده الحكم، بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة (2)، وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء، ولا سيما من بغداد وقسطنطينية (3). وجلب إليها أصناف الرخام الأبيض والأخضر والوردي من ألمرية وريُّه، ومن قرطاجنة إفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية، وجلب إليها من سواري الرخام أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرين سارية (4). وكان يشتغل في بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ست آلاف صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر، أعني مدى خمسة وعشرين عاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في عهد ولده الحكم (5). وابتنى الناصر في حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه وزخرفته، حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به رياض وجنان ساحرة، وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلا سمي بقصر الخلافة، صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب، قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة، وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة (6). وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء، وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير المنقوش بالذهب، الذي أهدي إليه من قيصر

(1) مختصر نزهة المشتاق للادريسي (طبع رومة) ص 193؛ والمسالك والممالك لابن حوقل ص 78. ويسمى ابن حوقل هذا الجبل بجبل بطلش.

(2)

البيان المغرب ج 1 ص 247، ونفح الطيب ج 1 ص 266.

(3)

ابن خلدون ج 4 ص 144.

(4)

البيان المغرب ج 2 ص 246، ونفع الطيب ج 1 ص 246، وأعمال الأعلام ص 38

(5)

نفع الطيب ج 1 ص 265.

(6)

نفح الطيب ج 1 ص 246 و247.

ص: 437

قسطنطينية، والذي جلبه من هنالك إلى قرطبة، ربيع الأسقف. وجلب إليه الوزير أحمد بن حزم من الشام حوضاً ثانياً رائعاً، يقوم عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات وتقذف الماء من أفواهها إلى الحوض (1). وقد دون هذه الروايات والأوصاف العجيبة، التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة وليلة المسحورة، عن قصر الزهراء، أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد عيان، وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في الروعة والإناقة والبهاء (2).

وأنشأ الناصر في الزهراء أيضاً مسجداً عظيماً، تم بناؤه في ثمانية وأربعين يوماً.

وكان يعمل فيه كل يوم ألف من العمال والصناع والفنانين، وزوده بعمد وقباب فخمة، ومنبر رائع الصنع والزخرف، فجاء آية في الفخامة والجمال (3). وأنشئت بها مجالات فسيحة للوحوش متباعدة الساح، ومسارح للطير مظللة بالشباك، ودار عظيمة لصنع السلاح، وأخرى لصنع الزخارف والحلي (4). والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية حقة، تجمع بن فخامة الملك الباذخ، وصولة السلطان المؤثل، وعناصر الإدارة القوية المدنية والعسكرية.

واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر، أعني حتى وفاته في سنة خمسين وثلثمائة، واستمر معظم عهد ابنه الحكم المستنصر، واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين سنة (5)؛ ولكنها غدت منزل الملك والخلافة مذ تم بناء القصر والمسجد في سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وبذا كانت (إلى جانب قرطبة) أول منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس.

وقد انتهت إلينا عن هذه الضاحية الملوكية الشهيرة أوصاف وأرقام مدهشة، تنبىء عما كانت عليه من الضخامة. فقد ذكر ابن حيان مؤرخ الأندلس أن الزهراء كانت تشغل مسطحاً قدره تسعمائة وتسعون ألف ذراع، وأن مبانيها اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين صغيرة وكبيرة، منها ما جلب من مدينة

(1) نفح الطيب ج 1 ص 266؛ وأعمال الأعلام ص 38.

(2)

نفح الطيب ج 1 ص 264، 265.

(3)

نفح الطيب ج 1 ص 264.

(4)

ابن خلدون ج 4 ص 144.

(5)

نفح الطيب ج 1 ص 264.

ص: 438

رومة، ومنها ما أهداه قيصر قسطنطينية، وأن مصاريع أبوابها كانت تبلغ زهاء خمسة عشر ألفاً، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه. وذكر مؤرخ آخر أن عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء والحشم بالقصر ستة آلاف وثلثمائة، يصرف لهم في اليوم ثلاثة عشر ألف رطل من اللحم، سوى الدجاج والحجل وغيرها (1). قد لا نجد في المنشآت الملوكية الحديثة ما يذكرنا بهذه الأرقام المدهشة، سوى القصر البابوي أو قصر الفاتيكان الشهير برومة، وما انتهى إليه خلال العصور المتعاقبة من الضخامة والفخامة والجلال، فإن هذا المقام الكنسي الملوكي الفخم، يحتوي على أربعة آلاف غرفة، وعلى مئات الأبهاء والساحات والأروقة، ويضم عدة أجنحة ومجالس رائعة، أسبغ عليها أبدع ما عرف الفن الرفيع من آيات الزخرف والنقش والتصوير.

ويحدثنا الرحالة البغدادي ابن حوقل عن الزهراء - وقد زارها أيام الحكم ولد الناصر - فيصف موقعها، ويقول " إن العمارة اتصلت بينها وبين قرطبة، وإن لها مسجداً جامعاً دون جامع البلدة (قرطبة) في المحل والقدر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال وسعة تملك، وابتذال لجيد الثياب والكسى، وفراهة الكراع وكثرة التحلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع "(2).

ولكن الزهراء لم تعمر طويلا كقاعدة ملوكية، فقد لبثت قاعدة الملك والخلافة زهاء أربعين عاماً فقط، مذ نزل بها الناصر سنة 329 هـ حتى نهاية عهد ابنه الحكم المستنصر سنة 366 هـ، ولم يكن ذلك لأن الزهراء قد عفت كقاعدة ملوكية، ولكن لأن تحولا خطيراً قد وقع في سلطان بني أمية عقب وفاة الحكم، إذ استطاع الوزير محمد بن أبي عامر (الحاجب المنصور) أن يتغلب على الدولة وأن يحجر على الخليفة هشام المؤيد ولد الحكم حسبما نفصل بعد؛ ثم رأى أن ينقل قاعدة الحكم إلى ضاحية ملوكية جديدة أنشأها لنفسه بجوار قرطبة (سنة 368 هـ) على نهر الوادي الكبير وسماها الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودور الحكومة، واتخذ لنفسه سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور.

(1) نفح الطيب ج 1 ص 265.

(2)

المسالك والممالك ص 78.

ص: 439

وهكذا فقدت الزهراء صفتها كقاعدة رسمية، وشاءت الأقدار ألا تكون منزل الملك والخلافة إلا في عهد مؤسسها، وعهد خلفه الذي أكمل بناءها.

وكان قيام الحاجب المنصور في الواقع خاتمة لسلطان بني أمية، ولم يبق بعد ذلك من دولتهم سوى الإسم. وقد بقيت الزهراء حيناً مقاماً ملوكياً للخليفة المحجور عليه - هشام المؤيد - ولكنها فقدت من ذلك الحين أهميتها السياسية وهيبتها الملوكية.

ثم كانت المحنة الكبرى بانهيار هذا الصرح البديع الذي شاده بنو أمية بالأندلس، وانهيار الخلافة الأموية والدولة العامرية معاً، وسقوط الأندلس صرعى الحرب الأهلية. ففي ربيع الأول سنة 401 هـ (نوفمبر سنة 1010 م) زحفت قوات البربر ومعها سليمان المستعين زعيم الثورة الأموية على قرطبة لينتزعها من الخليفة هشام المؤيد، والفتى واضح الحاجب المتغلب عليه، واقتحموا في طريقهم مدينة الزهراء، وفتكوا بحاميتها وسكانها، وعاثوا في معاهدها ورياضها، وأحرقوا المسجد والقصر، ولبثوا فيها بضعة أشهر. والظاهر أن الضربة كانت قاضية فلم يبق من الضاحية الملوكية الباهرة بعد أن غادروها سوى أطلال دارسة. ولا يكاد اسم الزهراء، يذكر بعد ذلك في التاريخ الأندلسي، إلا كأثر عصفت به صروف الدهر، وقد كانت الزهراء أيام روعتها وازدهارها، وحي الشعر الرائع والخيال الرفيع، وقد أشاد بجمالها وفخامتها، جمهرة من أكابر شعراء الأندلس وأمراء البيان، ثم رثوها بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة. ومما قاله ابن زيدون وهو من أعظم شعراء عصر الطوائف، يشيد بالزهراء، ورائع ذكرياتها:

خليلي لا فطر يسرُّ ولا أضحى

فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى

لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل

أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا

معاهد لذات وأوطان صبوة

أجلت المعلى في الأماني بها قدحا

ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح

تقضت مبانيها مدامعه نزحا

مقاصير ملك أشرقت جنباتها

فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا

يمثل قرطيها لي الوهم جهرة

فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا

محل ارتياح يذكر الخلد طيبه

إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحا

ص: 440

هناك الحمام الزرق تندى خفافها

ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا

تعوضت من شدو القيان خلالها

صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا (1)

ونقل إلينا الشيخ محيى الدين بن عربي (2) أبياتاً، قال إنه قرأها على بعض جدران الزهراء بعد خرابها، رثاء في المدينة الشهيرة وهي:

ديار بأكناف الملاعب تلمع

وما إن بها من ساكن وهي بلقع

ينوح عليها الطير من كل جانب

فيصمت أحياناً وحيناً يرجع

فخاطبت منها طائراً متغرداً

له شجن في القلب وهو مروع

فقلت على ماذا تنوح وتشتكي

فقال على دهر مضى ليس يرجع

ويرثى الفتح بن خاقان معاهد الزهراء خلال رواية نقلها عن جولة لبعض الكبراء في تلك الأطلال: " وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالي ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها، والوهى بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت، أيام نزلوا خلالها، وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤى وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد

" (3).

وكانت أطلال الزهراء ما تزال قائمة حتى القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر). وقد ذكرها الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في منتصف القرن السادس الهجري (منتصف القرن الثاني عشر)، وذكر أن بينها وبين قرطبة خمسة أميال (4)؛ وذكرها أيضاً ياقوت الحموي في معجمه الجغرافي الذي

(1) راجع قصيدة ابن زيدون برمتها في ترجمته في " قلائد العقيان " للفتح بن خاقان ص 72.

(2)

هو من أكابر متصوفة الأندلس وعلمائها في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري، وقد نقل إلينا هذه الرواية والأبيات في كتابه الشهير " محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ".

(3)

راجع قلائد العقيان في ترجمة المعتمد بن عباد ص 10.

(4)

راجع نزهة المشتاق (المختصر) طبع رومة - ص 193.

ص: 441

وضعه في أوائل القرن السابع الهجري (1). وفي شوال سنة 633 هـ (1236 م) كانت نكبة الأندلس ونكبة الإسلام، بسقوط قرطبة في أيدي الإسبان؛ فطويت بذلك أسطع صحف الإسلام وصحف الخلافة في الأندلس. وكانت قرطبة قد فقدت أهميتها السياسية منذ الثورة وسقوط الدولة الأموية، ولكنها لبثت بعد ذلك عصراً تحتفظ بهيبتها الخلافية القديمة. ومن المرجح أن أطلال الزهراء بقيت بعد سقوط قرطبة في أيدي الإسبان عصراً يصعب تحديده، غير أن قرطبة فقدت في ظل سادتها الجدد صبغتها ومعالمها الإسلامية بسرعة، ولم يبق اليوم من آثارها وصروحها الإسلامية سوى مسجدها الجامع، الذي ما يزال بالرغم من تحويله إلى كنيسة جامعة، يحتفظ إلى اليوم بكثير من روعته الإسلامية السالفة.

* * *

هذا وما زالت سيرة مدينة الزهراء وذكريات فخامتها الذاهبة، تحتل المقام الأول في تاريخ إسبانيا المسلمة الأثري والفني. وقد اهتم العلماء الإسبان منذ نحو قرن بالكشف عن معالمها وأطلالها، لما يلقيه ذلك الكشف من أضواء هامة على أحوال الخلافة الأندلسية ونظمها الإدارية والاجتماعية، وعلى تطور الفن الأندلسي في أزهي عصوره. وعنيت الحكومة الإسبانية منذ بداية القرن الحالي، بإجراء الحفريات الأثرية للكشف عن صروح المدينة الخلافية. وبالرغم من أن جهود اللجان الأثرية المتعاقبة التي اضطلعت بهذا العمل، لم تكن متواصلة أو ذات نطاق واسع، فقد استطاع الأثريون الإسبان أن يكشفوا عن كثير من معالم الزهراء، ومواقع صروحها، وأبهائها الملوكية.

وقد أتيح لنا أن نزور معالم الزهراء وأطلالها غير مرة، خلال زياراتنا لعاصمة الخلافة القديمة (2). وتقع هذه الأطلال الضخمة غربي قرطبة على بعد نحو سبعة أميال منها، وشمالي نهر الوادي الكبير على قيد ميلين، وتحتل منحدراً صخرياً وعراً يقع أسفل الأكمة التي يحتلها دير سان خيرنمو San Jeronimo الشهير، الذي يقال إنه بني بأنقاض قصر الزهراء. وتسمى هذه المنطقة التي تحتلها أطلال الزهراء " قرطبة القديمة " Cordoba la vieja.

(1) راجع معجم البلدان تحت كلمة الزهراء (مصر) ج 4 ص 421.

(2)

قمنا بزيارة أطلال الزهراء لآخر مرة في مايو سنة 1963.

ص: 442

وتشمل الحفريات الأثرية التي يقوم بها العلماء الإسبان منذ سنة 1910 منطقة واسعة، تمتد 1518 متراً من الشرق إلى الغرب و745 متراً من الشمال إلى الجنوب. ومع أن هذه المنطقة لم تكشف كلها فإن ماكشف حتى الآن من الأطلال الضخمة، ومن نقوشها وزخارفها التي مازال بعضها قائماً في بعض الجدران، والتي تتمثل بالأخص في مئات القطع الرخامية الزخرفية التي وجدت، يكفي لتكوين فكرة عامة، عن هندسة المدينة الملوكية ومنعتها وفخامة صروحها الذاهبة.

وتنقسم أطلال الزهراء بصفة عامة إلى مجموعات ثلاث، مدرجة من أعلى إلى أسفل. وتشمل المجموعة الأولى مواقع القصر الخليفي والمقام الخاص. وتشمل الثانية فيما يبدو مساكن الحاشية والحرس. وتشمل المجموعة الثالثة، وهي الواقعة أسفل الربوة، في بسيط معتدل من الأرض، أربعة أفنية كبيرة عالية، هي التي يجرى اليوم ضمها وإعادة تشكيلها، فيما يظن أنه البهو العظيم الذي كان مخصصاً لاستقبال الملوك وأكابر السفراء.

وقد تم الكشف عن هذا البهو الذي يعتبر أعظم ما كشف حتى اليوم من آثار الزهراء في سنة 1944 م، ووجدت سائر حطامه وزخارفه مدفونة تحت الأنقاض.

ويعكف الأثريون الإسبان منذ أعوام على إقامة الصرح وتنسيقه، مما وجد من أنقاضه وأعمدته وزخارفه. وقد أقيم حتى اليوم في وسطه ما اصطلح على تسميته " بهو السفراء " أو باسمه التاريخي " المجلس المؤنس "، وهو عبارة عن أربعة أفنية متلاصقة تبلغ واجهتها نحو أربعين متراً، وقد قسمت من الداخل إلى ثلاث أروقة مستطيلة، يتوسطها رواق رابع ذو عقود من الجانبين. ويقوم كل فناء منها على خمسة عقود، وقد ركب على هذه العقود ما وجد بين الأطلال من رؤوس وقواعد رخامية مزخرفة، وفي وسط الرواق الثالث عقد جميل عال يفضي إلى بهو داخلي، زين جانباه بالزخارف الرخامية. ويبلغ طول كل رواق من الأروقة المذكورة نحو عشرين متراً، وعرضه نحو ثمانية أمتار. وقد صنعت العقود كلها على نمط واحد، وزينت من أعلاها بما أمكن جمعه من قطع الزخارف الرخامية التي وجدت. وقد شيدت هذه الأروقة على ارتفاع يبلغ نحو عشرة أمتار.

وقد كشفت الحفريات الأخيرة عن مجموعة جديدة من الأطلال تقع أعلى هذه الأبهاء من اليسار، وهي عبارة عن مجموعة من الغرف السكنية وبهو مستطيل.

ص: 443

وهي لا تفترق كثيراً عن غيرها من المجموعات الأخرى المماثلة من حيث التخطيط، ولكنها تكشف لنا عن حقائق معمارية وفنية هامة، فهي المجموعة الوحيدة التي وجد بها أثر الدهان واضحاً. وقد تبين أن لون الدهان الذي كان مستعملا في هذه المجموعات من المساكن (مساكن الحاشية) هو اللون الأحمر، يحف به على ارتفاع نحو متر ونصف خط أبيض، يعلوه خط أحمر، وتبين كذلك أن البلاط المستعمل في تغطية أرض الغرف هو أيضاً أحمر اللون، وهو قطع مربعة يبلغ ضلع الواحدة منها أربعن سنتمتراً. وتبين أخيراً أن الأحجار المستعملة في أسفل البناء، هي أحجار كبيرة بعضها يبلغ طوله نحو 80 سنتيمتراً وعرضه 40 سنتيمتراً.

وإلى جانب هذه المجموعات الجديدة من أطلال الزهراء، توجد المجموعات القديمة، وهي تشمل موقع القصر الخليفي والجدار الشمالي، والفناءين التوأمين المتصلين بالمنحدر، والفناء الصغير المتصل بقصر الخلفاء، ومجموعة من مساكن الحرس. وترجع منطقة الجدار الشمالي إلى عصر الناصر ذاته، وهي من منشآته في المرحلة الأولى من بناء الزهراء، وقد أصلحت على امتداد سبعين متراً. وهذا الجزء من الجدار أمتن وأحكم صنعاً، من قسمه الذي بني فيما بعد في عهد الحكم المستنصر.

أما عن الفناءين المتماثلين أو الفناءين التوأمين، فيقع أولهما على بعد ثمانية أمتار أسفل القصر الخليفي، ويشتمل كل منهما على بهو كامل، وهناك ما يدل على أن كلا منهما كان يحتوي على مجموعة من المساكن المتماثلة المخصصة لسكنى طائفة هامة من البطانة أو الجند. ويشغل الفناء الغربي رقعة ضخمة مربعة تقريباً تبلغ مساحتها نحو خمسمائة متر، وبه أيضاً بقايا أبنية سكنية. بيد أنه لم يكتشف في هذه المنطقة أبواب أو مداخل تكشف عن حقيقة نوع هذه الأبنية، والظاهر أن الفناء الشرقي كان موقع مسكن " للحريم "، أو بعبارة أخرى كان جناحاً للقصر الذي تسكنه النساء والأولاد حسبما تدل على ذلك آثار أبنيته ومرافقه.

وعثر المكتشفون إلى جانب هذه المجموعات الضخمة من أطلال المدينة الخليفية، بطائفة كبيرة من القطع الزخرفية والعقود والأعمدة والألواح والأحواض الرخامية، ومئات من القطع والأواني الزخرفية والبللورية، وقد جمعت كلها في متحف خاص أقيم عند مدخل " مدينة الزهراء "، وعرضت فيه بعض القطع

ص: 444

والأحواض الرخامية البديعة الزخرف والنقوش، وبعض الأواني الخزفية والبللورية المصححة، وهذا إلى ما يوجد من تحف الزهراء ونقوشها الزخرفية بمتحف قرطبة الأثري، وفي مقدمتها الوعل البرونزي الشهير الذي يعتبر من أروع القطع الفنية.

نقول، ولعل حفائر الزهراء المستقبلة تكشف لنا عن معالم كثيرة أخرى من ضروب الفخامة والجلال، التي كانت تتسم بها المدينة الخلافية، والتي تحدثنا عنها الروايات المعاصرة (1).

هذا ولم ينس الناصر أن يشمل المسجد الجامع بعنايته، أسوة بسائر أسلافه من بني أمية، فجدد واجهته، وزاد فيه زيادات كبيرة (346 هـ - 957 م).

وكان قبل ذلك قد هدم منارته القديمة، وأنشأ مكانها المنارة العظمى، وذلك في سنة 340 هـ (951 م). وكانت منارة الناصر تمتاز بفخامتها وارتفاعها الشاهق، وكانت مربعة الواجهات، ولها أربعة عشرة شباكاً ذات عقود، وتحتوي على سلمين أحدهما للصعود، والآخر للنزول، وقد ركب في قمتها ثلاث تفاحات كبيرة، إثنتان منها من الذهب، والثالثة من الفضة (2)، وكانت إذا أرسلت الشمس أشعتها عليها، تكاد تخطف الأبصار ببريقها. وقد أزال الإسبان فيما بعد، تلك المنارة العظيمة، تتمة لبرنامجهم في تشويه المسجد الجامع، وأقاموا مكانها برج الأجراس الحالي.

وما زالت اللوحة التي تنوه بما قام به الناصر من تجديد واجهة الجامع قائمة إلى اليوم، في مكانها في الجانب الأيمن من بابه الرئيسي المسمى "باب النخيل" (3) وقد كتب بها ما يأتي بخط كوفي جميل:

" بسم الله الرحمن الرحيم. أمر عبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أطال الله بقاءه، ببنيان هذا الوجه، وإحكام إتقانه، تعظيماً لشعائر الله،

(1) رجعنا في هذا الاستعراض لأطلال الزهراء إلى مشاهداتنا الخاصة. وكذلك إلى البحوث الأثرية الآتية:

Medina Azzahra y Alamiriya، por D.R.Velazquez Bosco (Madrid 1912)

Excavaciones del Plan nacional en Medina Azzahra (Cordoba) ، Campana

de 1943. por R. Castéjon y Martinez de Arizala (Madrid 1945)

Nuevas Excavaciones en Medinat Al - Zahra: El Salon de Abd Al - Rahman III

por R. Castéjon (Al - Andalus، Vol. X (1945) Fsc.I.

(2)

أعمال الأعلام ص 38.

(3)

وبالإسبانية Puerta de las Palmas

ص: 445

ومحافظة على حرمة بيوته، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولما دعاه على ذلك من تقبل عظيم الأجر، وجزيل الذخر، مع بقاء شرف الأثر، وحسن الذكر، فتم ذلك بعون الله، في شهر ذي الحجة سنة ست وأربعين وثلث مائة على يد مولاه ووزيره وصاحب مبانيه عبد الله بن بدر، عمل سعيد بن أيوب " (1).

- 2 -

تولى عبد الرحمن الناصر عرش مملكة تفاقمت من حولها الخطوب، واستنفدت مواردها الثورة، فتداركها بعزمه وقوة نفسه، واستطاع أن يسحق خصومها في الداخل والخارج، في سلسلة طاحنة من الحروب والغزوات المستمرة، وأن يوطد دعائمها وأن يخضع الجزيرة لصولتها، وأن يكفل لها الأمن والسكينة والرخاء.

ولم يفت الناصر منذ البداية أن الجيش عماد الدولة وسياج الملك، فعكف على إصلاح الجيش الذي أضناه الكفاح ضد الثورة، وحشد له الجند من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، واستكثر من الأسلحة والذخائر، وصقلت الحروب والغزوات المستمرة كفاية الجيش ودربته، وأمدته بطائفة من أمهر القادة وأشدهم بأساً، ورفعت القوة المعنوية بين الصفوف، وكان إقدام الأمير على تولي القيادة بنفسه مجدداً لعهد الحماسة الحربية والانتصارات الباهرة. وعنى عبد الرحمن في الوقت نفسه بأمر الأسطول وإصلاحه، فأنشأ له وحدات جديدة قوية. وكانت ألمرية عندئذ مركز الأسطول الأندلسي الرئيسي، وبها أكبر دار للصناعة.

وبلغ الأسطول في عهد الناصر زهاء مائتي سفينة مختلفة الأنواع والأحجام، وهذا عدا الأسطول المخصص لشئون المغرب البحرية، وقد كان يضم كذلك عدداً كبيراً من السفن. وهكذا كان أسطول الأندلس في ذلك العهد من أقوى الأساطيل يومئذ، وكان بضخامته وأهباته، يسيطر على مياه إسبانيا الجنوبية والشرقية، وينازع الفاطميين سيادة الشق الغربي من البحر المتوسط.

وكان عهد الناصر بالرغم من استمرار الحروب والغزوات، كما قدمنا عهد رخاء ويسر، توطدت فيه مالية الدولة وامتلأت خزائنها بالأموال الوفيرة، وزاد الخراج والدخل زيادة عظيمة باستتباب السكينة والأمن، وازدهار الزراعة والتجارة والصناعة، وكثرة الأخماس والغنائم. وإن فيما احتوته الزهراء من القصور

(1) راجع الآثار الأندلسية الباقية لمحمد عبد الله عنان (الطبعة الثانية) ص 20 و21 و30.

ص: 446

والمنشآت الباذخة، وما بذل لإقامتها من النفقات مدى أعوام طويلة، لما يستوقف النظر، ويحمل على تأمل ذلك المدى المدهش الذي بلغته الدولة الأموية بالأندلس في عهد الناصر من القوة والضخامة والغنى. وقد انتهت إلينا في ذلك أرقام مدهشة، منها أن جباية الأندلس بلغت في عهد الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، هذا عدا أخماس الغنائم التي لا تحصى. وقيل إن الناصر خلف عند وفاته في بيوت الأموال ما تبلغ قيمته خمسة آلاف ألف ألف (خمسة آلاف مليون) دينار. وكان يقسم الجباية من أجل النفقة إلى ثلاثة أثلاث: ثلث لنفقة الجيش، وثلث للبناء والمنشآت العامة، وثلث يدخر للطوارئ (1). ولم يتردد المؤرخ الحديث في قبول هذه الأرقام حتى أن العلامة دوزي ينقلها، ويقدر أن الناصر ترك عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب (2). ويقول لنا ابن حوقل الرحالة البغدادي الذي زار قرطبة في هذا العهد، إن الناصر كان أغنى ملوك عصره، وإنه وبني حمدان ملوك حلب والجزيرة أغنى ملوك العالم في ذلك العصر (3). وهذه أرقام وروايات تشهد بضخامة الدولة الأموية وغناها الطائل في عصر الناصر، وتفسر لنا كيف استطاع الناصر إلى جانب حروبه وغزواته، أن يضطلع بكثير من المنشآت العظيمة.

هذا، وقد كان مما عنى به الناصر تنظيم العملة، وتثبيتها، فأمر في سنة 316 هـ، باتخاذ دار السِّكة داخل مدينة قرطبة لضرب العين من الدنانير والدراهم، فاتخذت هناك على رسمه، وولى خطتها أحمد بن محمد بن حدير، وذلك في 17 من شهر رمضان من هذه السنة، فقام بالضرب فيها من هذا التاريخ، من خالص الذهب والفضة، وبذل جهده في الاحتراس من المدلسين، فأصبحت دنانيره ودراهمه عياراً محضاً. وقد كان ضرب النقد معطلا قبل الناصر، وكان لهذا الإجراء أثره في تثبيت العملة واستقرار التعامل (4).

(1) نفح الطيب ج 1 ص 177، والبيان المغرب ج 2 ص 247، وأعمال الأعلام ص 38.

(2)

Dozy: Hist.Vol.II.p. 178

(3)

ابن حوقل، المسالك والممالك ص 77.

(4)

ابن حيان - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية لوحة 99 ب.

ص: 447

وبلغت الأندلس في عهد الناصر ذروة الرخاء والنعماء والأمن والعزة، وازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة والعلوم والآداب والفنون، وشمل الأمن سائر أطراف المملكة، ورخصت كلفة العيش. ونمت قرطبة نمواً عظيماً حتى بلغ سكانها أكثر من خمسمائة ألف، وبلغت مساجدها ثلاثة آلاف، ومنازلها أكثر من مائة ألف، وحماماتها العامة ثلاثمائة، وبلغت أرباضها أو ضواحيها ثمانية وعشرين، هذا عدا المدينة الوسطى، وكان لقرطبة يومئذ سبعة أبواب: باب القنطرة، وباب اليهود، وباب عامر، وباب العطارين، وباب طليطلة، وباب عبد الجبار، وباب الجوند. وكان للقصر الأموي ستة أبواب: باب السُّدة، وباب الجنان، وباب العدل، وباب الصناعة، وباب الملك، وباب الساباط، وهو في المسجد الجامع. وازدانت قرطبة بعدد كبير من القصور والمتنزهات الفخمة، ودوت شهرتها في الآفاق، ووصلت إلى قاصية الشمال، حتى أن الراهبة السكسونية هروسوفيتا التي اشتهرت بنظمها في أواخر القرن العاشر، أشادت في قصائدها اللاتينية بمحاسن قرطبة ووصفتها بأنها " زينة الدنيا "(1).

- 3 -

كانت سياسة الدولة الأموية بالأندلس تقوم منذ البداية على اصطناع الموالي والصقالبة واتخاذهم أداة وبطانة، وكان مؤسسها عبد الرحمن الداخل قد عمد بتأثير الظروف العصيبة التي أحاطت بقيام ملكه، والخطوب والثورات الجمة التي أثارها خصومه ومنافسوه من زعماء القبائل العربية، إلى الاسترابة بالعرب، واصطناع البربر والموالي الذين آزروه وقت المحنة، ومكنوه من توطيد زعامته وإمارته.

وقد حافظ خلفاء الداخل على هذه السياسة في جوهرها. ومنذ عهد الحكم المنتصر (180 - 206 هـ) نرى نفوذ الموالي والصقالبة يشتد في البلاط وفي الدولة.

وكان الحكم يعشق مظاهر الفخامة والملك والبذخ، فغص البلاط الأموي في عهده بالخدم والحشم، من المماليك والصقالبة، بيد أن نفوذهم لبث مدى حين بعيداً عن شئون الدولة العليا، قاصراً على شئون القصر والخاص.

واقتفى عبد الرحمن الناصر سياسة جده الداخل، في الاسترابة بالقبائل

(1) البيان المغرب ج 2 ص 247. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 174

ص: 448

خريطة:

خطط قرطبة الإسلامية.

خريطة العلامة الأثري القرطبي رافائيل كستيخون.

ص: 449

العربية ذات البأس والعصبية، وفي إقصاء زعمائها عن مناصب النفوذ والثقة، واستأثر بكل سلطة حقيقية في الدولة، وجمع مقاليد الحكم كلها في يده، فلم يبق سلطة فعلية لحاجب أو وزير. وكان الناصر حريصاً على سلطانه المطلق، لايني عن سحق كل من حدثته نفسه بالوقوف في سبيله، ولو كان أقرب الناس إليه. ولما نمى إليه أن ولده عبد الله يأتمر به مع بعض فتيان القصر ورجال الدولة، لأنه آثر أخاه الحكم بولاية العهد وتصريف الشئون، وأن جماعة من أهل قرطبة بايعوه بالخلافة، لم يحجم عن أن يقضي بإعدامه، وإعدام جميع من اتجهت إليهم شبهة الاشتراك معه، وكان ذلك في سنة 338 هـ (949 م). وكان عبد الله من أفضل أبناء الناصر علماً وعقلا وبصراً بالأمور، وكذلك قضى الناصر بإعدام بعض أبناء عمومته وأخيه القاضي ابن محمد حين قامت الأدلة على ائتمارهم به (1).

وعهد الناصر بالمناصب الكبيرة إلى رجال وضيعي المنبت من الصقالبة والموالي المعتقين أو الأرقاء، وهم رجال لا إرادة لهم يوجههم كيفما شاء، وكان يثق بالصقالبة بنوع خاص، ويوليهم من السلطان والنفوذ ما لا يوليه سواهم (2).

وقد كانت كلمة " الصقالبة " تطلق في الأندلس على الأسرى والخصيان من الأجناس الصقلبية (السلافية) الحقيقية، ثم غدت تطلق بمضي الزمن على جميع الأجانب الذين يعملون في البطانة وفي القصر. وكان أولئك الصقالبة مزيجاً من الجليقيين (النصارى الإسبان) والألمان والفرنسيين واللونبارد والإيطاليين (3)، وكان معظمهم يؤتى بهم أطفالا بواسطة خوارج البحر (القراصنة) وتجار الرقيق، وكانوا يختارون من الجنسين، ويربون منذ الحداثة تربية عربية حسنة، ويلقنون مبادىء الإسلام، وقد نبغ بعضهم في النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد. ومنذ عهد الناصر يشتد نفوذ الصقالبة في شئون الإدارة والحكم، فضلا عن القصر والخاص، ويعهد إليهم بالمناصب الكبرى في القصر والإدارة والجيش. وما لبث أن سما شأنهم وتوطد سلطانهم، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة، وفاق عددهم في عهد الناصر أى عهد آخر، حتى قدر بعض المؤرخين عددهم

(1) ابن خلدون ج 4 ص 143، والبيان المغرب ج 2 ص 244، وأعمال الأعلام ص 39.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 138.

(3)

ابن حوقل في المسالك والممالك ص 75؛ وكذلك Dozy: Hist، Vol. II.p. 153

ص: 450

يومئذ في القصر والبطانة، بثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين، وبلغوا في رواية أخرى سبعة آلاف وثمانين ويقول لنا ابن الخطيب إن عدد الفتيان الصقالبة بمدينة الزهراء كان عند وفاة الناصر ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين، وعدد النساء بالقصر ستة آلاف وسبعمائة وخمسين، تجري عليهم جميعاً رواتب الطعام بسائر صنوفه (1). وعلى أي حال فقد كان من أولئك الصقالبة الحرس الخليفي، ورجال الخاص والحشم، وكان الناصر يمد لهم في السلطان والنفوذ، ويرغم أشراف العرب وزعماء القبائل على الخضوع لهم، ليذل بذلك أنوفهم ويسحق هيبتهم (2). بل كان منهم في عهد الناصر قائد الجيش الأعلى نجدة، ومعظم أكابر القادة والضباط، وكان منهم أفلح صاحب الخيل، ودرِّي صاحب الشرطة، ومنهم ياسر وتمام صاحبا النظر على الخاص (3). وكان لهذه السياسة غير بعيد، أسوأ الأثر في انحلال الجيش وفتور قواه المعنوية، لما جاشت به صدور الضباط والجند العرب، من الحفيظة والسخط على هذه السياسة المهينة، وكانت هزيمة الناصر في موقعة الخندق الشهيرة (ألانديجا)(327 هـ)، ترجع من وجوه كثيرة إلى هذا الانحلال المعنوي، الذي سرى إلى الجيش من جراء الأحقاد القومية والطائفية (4).

- 4 -

كانت الأندلس بما اجتمع لها في عهد الناصر من أسباب القوة والسلطان، قد تبوأت مركز الصدارة بين الدول الإسلامية، وكانت الدولة العباسية قد دخلت يومئذ في دور انحلالها، ولم تكن الدولة الفاطمية الفتية منافستها في المشرق، قد بلغت يومئذ ذروة قوتها ونفوذها، فكانت الأندلس تستأثر يومئذ بزعامة الإسلام. وكانت قرطبة مركز الجاذبية الدبلوماسية في العالم الإسلامي، تتجه إليها أبصار الدول النصرانية في طلب المودة، وعقد العلائق الدبلوماسية؛ وكانت قسطنطينية مركز هذه الجاذبية الدبلوماسية بين أمم النصرانية حتى القرن الثامن.

ثم نافستها في ذلك مملكة الفرنج القوية مدى حين، فلما اضمحل شأن المملكة

(1) أعمال الأعلام ص 40 و41.

(2)

Dozy: HistVol.II.p. 153. وراجع نفح الطيب ج 1 ص 265.

(3)

البيان المغرب ج 2 ص 123؛ ونفح الطيب ج 1 ص 171.

(4)

Dozy: Hist.V.II.p. 153.

ص: 451

الفرنجية، استردت قسطنطينية زعامتها الدبلوماسية في النصرانية. ولما قامت الإمبراطورية الجرمانية في القرن العاشر، استطاعت أن تبسط زعامتها السياسية على أواسط أوربا وغربيها، وهكذا كانت زعامة النصرانية تتردد في هذه الحقبة بين شرقي أوربا وغربيها. هذا بينما لبثت قرطبة تستأثر وحدها بزعامة الإسلام في الغرب حتى نهاية القرن العاشر.

وقد كان هذا العصر الذي اجتمعت فيه تلك الزعامات الدينية والسياسية القوية، أحفل العصور بصلات الإسلام والنصرانية. فكانت ثمة معاهدات وسفارات ومراسلات وعلائق دبلوماسية، بين قرطبة وبين معظم الأمم النصرانية، وقد بلغت هذه الصلات ذروتها في عصر الناصر لدين الله، وتوالت وفود الأمم النصرانية يومئذ على بلاط قرطبة، تنشد الحلف والصداقة والمهادنة، من زعيم الإسلام في الغرب.

وكان بلاط قسطنطينية بالرغم من نأيه عن مقر الخلافة الأندلسية، وعدم اتصاله بها، بأية حدود أو صلات جغرافية مشتركة، في مقدمة الساعين إلى توثيق الروابط الودية مع بلاط قرطبة. ففي سنة 336 هـ (948 م)(1)، وفدت على الناصر رسل قسطنطين السابع قيصر قسطنطينية المعروف " ببورفيروجنتوس "(2) ومعهم طائفة من الهدايا النفيسة. وتقدم إلينا الرواية الأندلسية عن هذه السفارة تفاصيل شائقة، تلقي ضوءاً على نظم الرسوم الدبلوماسية في هذا العصر، فتقول لنا إن الناصر بعث رسله للقاء السفراء البيزنطيين حين وصولهم إلى الشاطىء لإرشادهم وخدمتهم، ولما وصل الركب إلى مقربة من قرطبة، بعث بعض قواته للاحتفاء بهم، ثم بعث الفتيين ياسراً وتماماً فصحباهم إلى دار الضيافة، بقصر ولي العهد الحكم، في ربض قرطبة، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة، ورتب لخدمتهم طائفة من الموالي والحشم. وفي اليوم الحادي عشر من

(1) هذه هي رواية ابن خلدون (ج 4 ص 142). وفي رواية أخرى أنها وقعت سنة 338 هـ (نفح الطيب ج 1 ص 171). وذكر الطبيب الأندلسي ابن جلجل وقد عاش قريباً من عصر الناصر، أنها وقعت في سنة 337 هـ (راجع طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة - طبعة ميللر - ج 2 ص 447). وذكر صاحب البيان المغرب أنها وقعت في سنة 334 هـ (ج 2 ص 239).

ولم نعثر في تواريخ الدولة البيزنطية على تفاصيل هذه السفارة، ولكن الرواية الإسلامية واضحة جلية.

(2)

ومعناها الأرجواني.

ص: 452

ربيع الأول من السنة المذكورة، خرج الناصر من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لاستقبالهم، وجلس في بهو المجلس الزاهر، وكان يوماً مشهوداً من أيام الأندلس.

فركبت الجند بالسلاح في أكمل شكل، وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور، وحفل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة، وجلس عن يمين الخليفة ولده وولي عهده الحكم، وجلس باقى أولاده يميناً وشمالا، ورتب الوزراء في مراتبهم، وغص المجلس برجال الدولة والقادة والعظماء والزعماء من كل ضرب. ودخل سفراء ملك الروم، فبهرهم ما رأوا من روعة الملك وفخامة السلطان، وقدموا الهدايا التي يحملونها. وذكر لنا الطبيب الأندلسي أبو داود سليمان بن حسان المعروف " بابن جُلجل " الذي عاش في عصر هشام المؤيد حفيد الناصر، أنه كان في مقدمة هدايا أرمانيوس ملك الروم إلى الناصر سفران جليلان من كتب الأقدمين، أحدهما نسخة مصورة أبدع تصوير من كتاب ديسقوريدس (1) عن الحشائش، مكتوبة بلغة مؤلفها أي باليونانية؛ والثاني نسخة من تاريخ أورسيوس (هروسيس)(2) مكتوبة باللاتينية، وهو المتضمن لتاريخ العالم القديم، وأقاصيص الملوك السابقين (3). وقدم الرسل كتاب القيصر قسطنطنين السابع، وقد كتب في ورق ذى لون سماوي باللغة اليونانية، وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة ومكتوبة بنفس اللغة، فيها وصف لهدايا الإمبراطور، وعلى الكتاب طابع ذهبي، على إحدى وجهيه صورة للمسيح، وعلى الوجه الآخر صورة الإمبراطور قسطنطين، مصنوعة من الزجاج الملون البديع. وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه: " قسطنطين ورومانين

(1) ديسقوريدس Dioscorides طبيب وكيمائي يوناني. أصله من كليكية بآسيا الصغرى.

وقد عاش في القرن الأول للميلاد، واشتهر بكتابه عن مركبات الأدوية. وهو ما يزال يعتبر ذا قيمة علمية حتى عصرنا، وكان يعتبر حتى القرن السابع عشر أثمن مرشد لخواص الأعشاب الطبية.

(2)

باولوس أورسيوس Paulus Orosius حبر ومؤرخ إسباني (قوطي) عاش في القرن الخامس الميلادي ووضع باللاتينية تاريخاً للخليقة في عصره. وقد اشتهر تاريخه بالرغم من ركاكته وكثرة خرافاته، وانتفع به كثير من المؤرخين اللاحقين. وعرفه المؤرخون المسلمون ونقلوا عنه.

وأشار إليه ابن خلدون في مواضع عديدة من تاريخه، وتعرفه الرواية الإسلامية بهروسيس أو هرشيوش.

(3)

راجع رواية ابن جلجل مفصلة في كتاب طبقات الأطباء، في ترجمة ابن جلجل (ج 2 ص 447).

ص: 453

المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم " (1)، وفي سطر آخر صيغة التوجيه:

" العظيم الإستحقاق للفخر، الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة، الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه ". وذكر لنا ابن جُلجل أن ملك الروم كتب إلى الناصر في شأن كتاب ديسقوريدس أنه لا تجني فائدته إلا بواسطة شخص يجيد اليونانية، وأنه لم يكن في قرطبة يومئذ من يحسن هذه اللغة، وأن الناصر كتب في خطابه إلى " أرمانيوس " فيما بعد، أن يرسل إليه برجل يتكلم اليونانية واللاتينية، فبعث إليه براهب يدعى نيقولا، فحظى عند الناصر، وتوفر على تفسير كتاب ديسقوريدس وشرح محتوياته لأطباء قرطبة. وأما كتاب أورسيوس المكتوب باللاتينية فقد كان في بلاط قرطبة من يجيدها (2). وكان الناصر قد أمر أن يخطب الأعلام في ذلك الحفل، وأن يعظموا من شأن الإسلام والخلافة، وأن يشكروا نعمة الله على ظهور دينه، وإعزاز كلمته، وذلة أعدائه، واستعد بعض الخطباء لذلك، ولكن بهرهم هول المجلس فوجموا وأرتج عليهم القول، وكان منهم اللغوي الكبير أبو علي القالي وافد العراق وضيف الخليفة - وكان قد وفد على الأندلس في سنة 330 هـ، ندبه الناصر لذلك تكريماً له وتقديراً لبلاغته، ولكنه ما كاد يبدأ خطابه، حتى بهت وتلعثم ثم صمت؛ فعندئذ نهض الفقيه منذر بن سعيد البلوطي دون استعداد ولا سابق توقع، وارتجل خطاباً بليغاً ضافياً يشيد فيه بعهد الناصر ومآثره، ثم أعقبه بقصيدة في نفس المعنى (3)، فأثار بذلاقته وثبت

(1) رومانين هو رومانوس الثاني ابن قسطنطين السابع، وقد حكم بعد أبيه من سنة 959 إلى سنة 963 م. وتسميه الرواية الإسلامية " أرمانيوس ".

(2)

راجع رواية ابن جلجل المشار إليها في طبقات الأطباء ج 2 ص 447.

(3)

نقل المقري عن ابن حيان وغيره، نص الخطاب الذي ألقاه منذر بن سعيد في ذلك الحفل. وإنه ليصعب علينا متى تأملنا عباراته المنمقة، وسجعاته المرتبة، وما يتخلله من ضروب البيان والبديع، أن نصدق أنه خطاب مرتجل ألقي عفو الساعة. ولعله صورة منقحة منمقة للخطاب الأصلي. وقد رأينا أن ننقل فقرات من ذلك الخطاب تتناول عهد الناصر بشيء من الوصف والتحليل.

جاء في الخطاب بعد الديباجة ما يأتى:

" وإنب أذكركم بأيام الله عندكم، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين، التي لمت شعثكم، وأمنت صربكم ورفعت قوتكم، بعد أن كنتم قليلا فكثركم، ومستضعفين فنصركم، ولاه الله رعايتكم وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شعل النفاق، حتى صرتم، في مثل حديقة البعير من ضيق الحال، ونكد العيش والتقتير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء، وانتقلتم بين سياسته إلى تمهيد كنف العافية، بعد استيطان البلاء. أناشدكم الله معشر الملأ =

ص: 454

جنانه أيما إعجاب، وأكبر الناصر همته وعلمه، وكان هذا الخطاب المرتجل فاتحة مجده، فأغدق عليه الناصر عطفه، وولاه القضاء، وأصبح من رجال الدولة المشهورين.

ومن شعر منذر بن سعيد في وصف ذلك الحفل المشهود قوله:

مقالي كحد السيف وسط المحافل

فرقت به ما بين حق وباطل

بقلب ذكي ترتمي جمراته

كبارق رعد عند رعش الأنامل

فما دحضت رجلي ولا زل مقولي

ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل

وقد حدقت حولي عيون أخالها

كمثل سهام أثبتت في المقاتل

لخير إمام كان أو هو كائن

لمقتبل أو في العصور الأوائل

ترى الناس أفواجاً يؤمون بابه

وكلهم ما بين راج وآمل

وفود ملوك الروم وسط فنائه

مخافة بأس أو رجاء لنائل

فعش سالماً أقصى حياة مؤملا

فأنت رجاء الكل حاف وناعل

ستملكها ما بين شرق ومغرب

إلى درب قسطنطين أو أرض بابل (1)

= ألم تكن الدماء مسفكة فحقنها، والسبل مخوفة فأمنها، والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها، ألم تكن البلاد خراباً فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها ".

ثم قال: " فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعواناً، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخير والبركات، وصارت وفود الروم وافدة عليكم، وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم، يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق "

ثم قال: " فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم، والتزام الطاعة لخليفتكم، فإن من نزع يداً من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومرق من الدين، فقد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها، حفظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء، وأن بقوام الطاعة تقام الحدود وتوفى العهود

فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به، فإنه تبارك وتعالى يقول (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وقد علمتم ما أحاط بكم، في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصفوف الملحدين، الساعين في شق عصاكم، وتفريق ملأكم الآخذين في مخاذلة دينكم وتوهين دعوة نبيكم

الخ.

راجع خطاب ابن سعيد بأكمله في نفح الطيب ج 1 ص 172 - 173.

(1)

وقد نقل إلينا المقري عن المغرب لابن سعيد وغيره نبذة في ترجمة القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وفيها أنه ولد سنة 265 هـ، وبرع في علوم القرآن والسنة، وظهر بفصاحته وذلاقته وجزالة شعره، وكان الخطاب الذي ارتجله في مجلس الناصر لمناسبة استقباله لرسل ملك الروم بدأ ظهوره وشهرته، فولاه الناصر الصلاة والخطابة في مسجد الزهراء، ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة.

وتوفي سنة 355 هـ. (راجع نفح الطيب ج 1 ص 174 و175 وكذلك قضاة قرطبة للخشني ص 175 و176).

ص: 455

ولما انصرف رسل قسطنطين، بعث الناصر معهم سفيراً هو هشام بن هذيل بهدية حافلة، ليؤكد المودة ويوثق عرى التحالف بين قرطبة وقسطنطينية، فعاد بعد سنتين وقد أدى سفارته خير أداء، وعادت معه رسل قسطنطين (1).

وتفيض الرواية الإسلامية في تفاصيل هذه السفارة إفاضة واضحة، ولكنها لا تلقى كبير ضوء على موضوعها وغايتها الحقيقية، وأكبر الظن أنها لم تكن إلا تجديداً لعلائق الدولة البيزنطية مع دولة الإسلام بالأندلس، وتوطيداً للصداقة القديمة التي رأى بلاط قسطنطينية أن يعقدها مع بلاط قرطبة منذ عهد عبد الرحمن ابن الحكم (2) لتكون شبه تحالف ضد الدولة العباسية خصيمتهما المشتركة. وربما كانت ترى في الوقت نفسه إلى تنظيم الخطط المشتركة بين الدولتين، لمقاومة الدولة الفاطمية الفتية، التي بدأت تزعج البيزنطيين في أواسط البحر المتوسط، وتزعج حكومة قرطبة بتوغلها في المغرب الأقصى.

ثم توالت سفارات ملوك النصرانية بعدئذ على الناصر فوفدت عليه رسل ملك الصقالبة وهو يومئذ الملك بيتر أو بطرس (3)، فاحتفل بقدومهم كذلك وبعث معهم ربيعاً (ريفا) الأسقف سفيراً إلى ملكهم؛ ثم وفدت رسل ملك فرنسا وهو يومئذ لويس الرابع في طلب الصداقة والمودة، فأجابهم إلى ما طلبوا.

على أن أهم سفارة تلقاها الناصر يومئذ، هي سفارة أوتو الأكبر إمبراطور ألمانيا، وقد كان أوتو يومئذ زعيم النصرانية، كما كان عبد الرحمن الناصر زعيم الإسلام. وتشير الرواية الإسلامية إلى تلك السفارة في غموض وإيجاز، وتصف أوتو بملك الصقالبة أو ملك " اللمان " وتسميه " هوتوا " أو " هوتو "(4)، ولكنها تتفق مع الرواية الفرنجية في تاريخ هذه السفارة وهو سنة 344 هـ الموافقة سنة 956 م.

ففي ذلك العام وفد على قرطبة سفير، وهو حبر يدعى يوحنا الجورزيني نسبة إلى الدير الذي ينتمي إليه في جورزني على مقربة من متز، وكان يوحنا من أكابر

(1) راجع في أخبار هذه السفارة البيزنطية: ابن خلدون ج 4 ص 142 و143، ونفح الطيب ج 1 ص 170 - 174؛ والبيان المغرب ج 2 ص 239. وراجع Aschbach: ibid،B.I.p. 96-100

(2)

راجع " دولة الإسلام في الأندلس " القسم الأول ص 282 - 283.

(3)

هو بطرس بن سيمون الكبير ملك بلغاريا وقد كان يومئذ يعرف بملك الصقالبة.

(4)

راجع ابن خلدون ج 4 ص 143؛ والبيان المغرب ج 2 ص 234.

ص: 456

العلماء وأقطاب البحث والمناظرة. والظاهر أنه قد وقعت فعلا قبل ذلك مراسلات كلامية بين الناصر وأوتو عن الإسلام والنصرانية، وأن الناصر قد عرض في بعض رسائله بالنصرانية وتعاليمها، فألفى أوتو الفرصة سانحة لأن يدافع سفيره العلامة الذلق عن قضية النصرانية لدى خليفة قرطبة (1). بيد أنه يبدو من أقول الروايات الكنسية أن هذه المهمة الجدلية، لم تكن إلا مهمة ثانوية إلى جانب موضوع سفارته الأصلية، وأن مهمته الحقيقية كانت تتعلق بشأن توغل المستعمرات العربية المغامرة، في جنوبي فرنسا وفي ليجوريا وسويسرة، وعيثها في تلك الأنحاء، بصورة تبث الرعب والروع إلى كثير من المدن والجماعات النصرانية، والاستعانة بنفوذ خليفة الأندلس الذي تنتمي إليه هذه المستعمرات من الناحية الأدبية، لوقف عدوانها وتوغلها (2). وقدم يوحنا إلى قرطبة عن طريق الرون وقطلونية برفقة راهب آخر، ومعه طائفة نفيسة من الهدايا برسم الخليفة، فاستقبل بحفاوة، وأنزل في إحدى الدور الرسمية. ولكن الناصر لم يبادر باستقباله حين وقف على موضوع رسالته، ولم يقبل بالأخص أن تكون المسائل الدينية موضوع جدل بينهما. ولما ألح يوحنا في طلب المقابلة والمحادثة، أجاب الناصر بأنه سبق أن أرسل رسولا أسقفاً إلى أوتو فاعتقله مدى ثلاثة أعوام، وأنه سيعتقله أى يوحنا، أضعاف هذه المدة، لأنه أرفع مقاماً من ملك النصرانية. وأخيراً تقرر أن يرسل الناصر إلى ملك الألمان رسولا آخر يستوثق من عواطفه ونياته نحوه، وأن يبقي يوحنا معتقلا حتى يعود السفير.

واختير لهذه السفارة كالعادة قس من رعايا الخليفة هو ربيع أو ريفا الأسقف، وكان عالماً متمكناً يشغل في البلاط منصباً هاماً، ويحبوه الناصر بعطفه وتقديره، لعلمه وجليل خدماته (3)، فاخترق فرنسا إلى ألمانيا، ومثل لدى الإمبراطور أوتو في تورنجن، حيث كان ينفق معظم أوقاته. وكان أوتو يجوز يومئذ بعض المتاعب الداخلية من جراء ثورة ولده عليه، فأبدى تساهلا في قبول وجهات نظر الخليفة، وأكرم مثوى سفيره، وعاد ربيع الأسقف إلى قرطبة، بعد سنتين من سفره (347 هـ - 958 م). فارتاح الناصر لنتائج سفارته، وأذن برؤية يوحنا سفير

(1) Reinaud: Invasions des Sarrazins en France p. 187

(2)

تناولنا قصة هذه المستعمرات في الفصل التالي.

(3)

ابن خلدون ج 4 ص 143. وهو ربيع بن زيد عن زعماء النصارى المعاهدين، وكان يجيد العربية واللاتينية.

ص: 457

الإمبراطور، واستقبله بقصر قرطبة في احتفال فخم، ظهرت فيه روعة البلاط الأموي، وأفضى إلى الخليفة بموضوع سفارته. ولسنا نعرف ماذا كانت نتائج هذه السفارة، لأن الرواية العربية لا تحدثنا عن موضوعها، ولا تحدثنا الرواية الكنسية عن نتائجها. ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة لسفير الإمبراطور، فيما يتعلق بأمر المستعمرات العربية المغامرة، وغزواتها في غاليس وشمالي إيطاليا وسويسرة، أنها ليست لها علاقة بتلك المستعمرات، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل في شأنها، أو تبذل نصحها لأولئك المغامرين الخارجين عن طاعتها، وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة الأندلس، لم تكن ذات علائق رسمية بها، ولم تكن تعني بأمرها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها وتوغلها في الأراضي النصرانية، بعين العطف والرضى. ولكن لوتبراند وهو مؤرخ كنسي معاصر، يؤكد لنا أن الخليفة كان يحمي هذه المستعمرات، ويمدها بالتشجيع والعون (1).

بيد أن الرواية الكنسية تقدم إلينا بهذه المناسبة حديثاً طريفاً عن آراء الناصر في نظم الحكم، فقد وقف الناصر من مستشاريه أو من يوحنا نفسه على طرق نظام الحكم الإقطاعي السائد في ألمانيا، وما يتمتع به بعض الأمراء المحليين في ظل هذا النظام، من الاستقلال الداخلي، وأبدى ليوحنا اعتراضه على هذا النظام، قائلا إن ملككم أمير حكيم ماهر، ولكن في سياسته شيئاً لا أستسيغه، وهو أنه بدلا من أن يقبض بيديه على جميع السلطات، ينزل عن بعضها لأتباعه، ويترك لهم بعض ولاياته، معتقداً أنه يكسب بذلك، وهذا خطأ فادح، فإن مداراة العظماء لا يمكن إلا أن تزيد في كبريائهم، وتذكي رغبتهم في الثورة (2). وفي ذلك ما يوضح لنا فكرة الناصر في الحكم المطلق، وسياسته في سحق أولي الشأن والعصبية من زعماء القبائل العربية، واعتماده على بطانة ذليلة من الفتيان الصقالبة والمولدين.

تلك تفاصيل المراسلات والسفارة الشهيرة التي تبادلها أوتو الأكبر وعبد الرحمن الناصر، زعيما النصرانية والإسلام في عصرهما، بيد أنها لم تكن خاتمة الصلات

(1) Reinaud: ibid، p. 193

(2)

Dozy: Hist.V. II. p. 153

ص: 458

الدبلوماسية بين الناصر وملوك النصرانية. فقد تلقى الناصر كذلك في سنة 344 هـ (955 م) سفارة من أردونيو الرابع ملك ليون يرجو عقد السلام والمودة، فأجابه إلى طلبه؛ وأرسل في السنة التالية سفيره محمد بن الحسين إلى ليون، فعقد مع أردونيو معاهدة صادق عليها، ولكن حال دون تنفيذها منافسة سانشو لأخيه أردونيو. وفي سنة 347 هـ (958 م) وفدت طوطة ملكة نافار بنفسها إلى قرطبة، ومعها ولدها غرسية وسانشو أمير ليون، وطائفة من الأحبار والعظماء النصارى، فاستقبلهم الناصر في قصره بالزهراء استقبالا حافلا، وعقد السلم مع طوطة، وأقر ولدها ملكاً على نافار، ووعد سانشو بالعون على استرداد عرشه. ثم وفدت على الناصر رسل البابا يوحنا الثاني عشر في طلب السلم والمودة، بين الإسلام والنصرانية فأجابهم إلى ما طلبوا (1) ، وكانت سفارة ذات مغزى واضح في الاعتراف بزعامة الناصر للعالم الإسلامي. وفي أخبار هذه السفارات المتبادلة بين زعيم الإسلام وملوك النصرانية، وفي تفاصيلها الشائقة، ما يلقى كبير ضوء على طبيعة التقاليد والرسوم الدبلوماسية في العصور الوسطى.

- 5 -

وفي أوائل سنة 349 هـ مرض الناصر من برد شديد أصابه، واحتجب حيناً، وأكب الأطباء على معالجته حتى تحسنت حالته نوعاً، وعاد إلى الجلوس في القصر، ولكنه أصيب بنكسة، وعاد إلى احتجابه، ولبث أشهراً تشتد به العلة حيناً، وتخف حيناً، حتى وافاه القدر المحتوم، في الثاني من شهر رمضان سنة 350 هـ (15 أكتوبر سنة 961 م). وكانت وفاته بقصر الزهراء في الحادية والسبعين من عمره، واستطال حكمه زهاء خمسين عاماً، وهي أطول مدة حكمها خليفة من خلفاء الإسلام، إذا استثنينا عهد المستنصر بالله الفاطمي بمصر.

وكان عبد الرحمن الناصر أعظم أمراء الإسلام في عصره، بل ربما كان أعظم أمراء عصره قاطبة. ولم تصل الدولة الإسلامية في الغرب، إلى ما وصلت إليه في عصر الناصر، من القوة والسؤدد والهيبة والنفوذ. وكان يتمتع بخلال باهرة قلما تجتمع في شخصية واحدة، سياسية وعسكرية وإدارية. وكان يشبه في

(1) ابن خلدون ج 4 ص 143.

ص: 459

حزمه وصرامته وبعد نظره، بجده الأكبر عبد الرحمن الداخل (1). ويجمل ابن الأبار خواصه وخواص عصره في تلك العبارة:" وظهر لأول ولايته من يمن طائره، وسعادة جده، واتساع ملكه، وقوة سلطانه، وإقبال دولته، وخمود نار الفتنة على اضطرامها بكل جهة، وانقياد العصاة لطاعته، مما تعجز عن تصوره الأوهام "(2). وتولى حجابته لأول ولايته مولاه بدر بن أحمد، وما لبث أن اصطفاه وأولاه كل ثقته، وفوض إليه الأمر والنهي، وجعله على حد قول المؤرخ " شمساً لملكه وبدراً "(3). وولى أبناءه الثلاثة عبد الرحمن وعبد الله وإسماعيل مناصب في القصر والخاص. ولما توفي بدر بن أحمد في شهر رجب سنة 309 هـ، ولى الناصر مكانه في الحجابة موسى بن محمد بن حُدير. وتولى وزارته عدة من أنبه رجال العصر، منهم أحمد بن محمد بن حُدير، وجَهْور بن عبد الملك، وعبد الله بن محمد الزجّالي. وتولى إدارة الشئون المالية عبد الملك بن جهور، وأحمد بن عبد الملك بن شُهَيد (4). وأهدى ابن شهيد إلى الناصر هديته المشهورة، التي أفاض في وصفها مؤرخو الأندلس، وكان منها خمسمائة ألف مثقال من الذهب، ومائتا أوقية من المسك والعنبر، وثلاثون شقة من الحرير المرقوم بالذهب، ومائة فرس مسرجة، وعشرون بغلا عالية الركاب، وأربعون وصيفاً، وعشرون جارية بكسوتهن وزينتهن، وأصناف عديدة أخرى. قال ابن خلدون " وهي مما يدل على ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها ". ويجمع مؤرخو الأندلس على أنه لم تقدم هدية في قدرها ونفاستها إلى ملك من ملوك الأندلس.

قدمها ابن شهيد إلى الناصر في سنة 327 هـ، ومعها خطاب رقيق يشيد فيه بعظمة الناصر ومآثره، فوقعت لديه أحسن موقع، وزاده حظوة واختصاصاً، وأسمى منزلته على سائر الوزراء، وأسبغ عليه لقب ذي الوزارتين، فكان أول من حظى بهذا اللقب من وزراء الأندلس، وضاعف له رزق الوزارة، وجعله ثمانين ألف دينار في العام (5). وولي قيادة الجيش لأول عهد الناصر أحمد بن محمد

(1) البيان المغرب ج 2 ص 163.

(2)

الحلة السيراء (ليدن) ص 99 - 100.

(3)

البيان المغرب ج 2 ص 240.

(4)

البيان المغرب ج 2 ص 164

(5)

راجع ابن خلدون ج 4 ص 138؛ ونفح الطيب ج 1 ص 166 و167 و177 نقلا عن ابن حيان وابن الفرضي وغيرهما.

ص: 460

ابن أبي عبدة، سليل الأسرة الشهيرة، التي تولى زعماؤها قيادة الجيوش الأندلسية خلال الفتنة الكبرى. وكذلك وليها الحاجب بدر غير مرة، ووليها الفتيان الصقالبة مثل نجدة وميسور وغيرهما. وقد رأينا كيف انتهت سياسة عبد الرحمن في إيثار الصقالبة بالقيادة إلى كارثة الخندق. وممن ولى القضاء في عهد الناصر أحمد بن محمد بن زياد، وأسلم بن عبد العزيز بن هشام، ومنذر بن سعيد البلوطي (1).

وقد أورد لنا ابن حيان ثبتاً طويلا من الوزراء وأصحاب الخطط والموالي الذين تولوا المناصب الكبرى في عهد الناصر.

فمن الوزراء: محمد بن سليمان بن وانسوس. سعيد بن المنذر القرشي. عبد الحميد بن بسيل، خالد بن أمية بن شهيد. عيسى بن أحمد بن أبي عبدة. جهور بن عبد الملك البختي، أحمد بن محمد بن إلياس.

ومن أصحاب الخطط: محمد بن سعيد بن المنذر القايد. عيسى بن فطيس الكاتب. عبد الله بن بدر بن أحمد صاحب الشرطة. محمد بن قاسم بن طملس صاحب المظالم. محمد بن عبد الله بن موسى الخازن. إسماعيل بن بدر بن اسماعيل العارض.

ومن الموالي: جهور بن عبيد الله بن محمد بن أبي عبده. أحمد بن خالد ابن أمية بن عيسى بن شهيد. محمد بن جهور بن عبد الملك البختي. مروان بن جهور بن عبد الملك البختي، أحمد بن سهل بن محمد. عبد الله بن أحمد بن محمد ابن عيسى. محمد بن عباس بن محمد بن أبي عبدة. عبيد الله بن عباس بن أحمد ابن أبي عبده، عبد الله بن يحيى بن إدريس. عبد الوهاب بن محمد بن بسيل. محمد بن مروان بن عبد الله بن بسيل. عبد الرحمن بن أحمد بن زكريا بن عاصم. محمد بن أحمد بن قابوس. أحمد بن محمد بن عيسى. محمد بن عبد السلام بن كليب بن ثعلبة (2).

(1) البيان المغرب ج 2 ص 161.

(2)

نقلنا هذا الثبت عن ابن حيان أورده في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية الذي سبقت الإشارة إليه غير مرة. وأورد لنا ابن حيان أيضاً ثبتاً طويلا بأسماء عمال الكور في عهد الناصر استغرق صفحة كاملة (لوحة 153 أ). ولكنا لم نجد محلا لإيراده.

ص: 461

وذكر لنا ابن حيان، في حوادث سنة 324 هـ، أن الوزراء في هذه السنة كانوا عشرة، وهم: سعيد بن المنذر القرشي المرواني. أحمد بن محمد بن حدير. عبد الحميد بن بسيل. أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف. خالد بن أمية ابن شهيد. عيسى بن أحمد بن أبي عبدة. عبد الملك بن جهور. فطيس بن اصبغ بن فطيس. أحمد بن محمد بن إلياس. يحيى بن إسحق.

وذكر لنا في حوادث سنة 325 هـ، أنه قد عزل عن الوزارة يحيى بن إسحق، ووليها أحمد بن عبد الملك بن شهيد، وعبد الرحمن بن عبد الله الزجالي، وأن الوزراء بلغ عددهم في هذه السنة واحداً وعشرين وزيراً، منهم تسعة من العشرة الذين سبق ذكرهم عدا يحيى بن إسحق (1).

وكان عبد الرحمن الناصر عالماً أديباً، يهوى الشعر وينظمه، ويقرب الأدباء والشعراء؛ وكان في مقدمة دولته وأكثرهم حظوة لديه، الفقيه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وشاعر الدولة المروانية منذ محمد بن عبد الرحمن. ويفيض ابن عبد ربه في مناقب الناصر، ويستعرض غزواته منذ ولايته حتى سنة 322 هـ، في أرجوزة طويلة رتبت وفق السنين (2). ومن شعره في وصف عصر الناصر، واعتزاز الإسلام بدولته قوله:

قد أوضح الله للإسلام منهاجا

والناس قد دخلوا في الدين أفواجا

وقد تزينت الدنيا لساكنها

كأنها ألبست وشياً وديباجا

يا ابن الخلائف إن المزن لو علمت

نداك ما كان منها الماء ثجّاجا

والحرب لو علمت بأساً تصول به

ما هيجت من حمياك الذي اهتاجا

مات النفاق وأعطى الكفر رمته

وذلت الخيل إلجاماً وإسراجا

وأصبح النصر معقوداً بألوية

تطوي المراحل تهجيراً وإدلاجا

أدخلت في قبة الإسلام بارقة

أخرجتها من ديار الشرك إخراجا

بجحفل تشرق الأرض الفضاء به

كالبحر يقذف بالأمواج أمواجا

يقوده البدر يسري في كواكبه

عرمرماً كسواد الليل رجراجا

(1) وردت الفقرة الأولى في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 153 أ، ووردت الفقرة الثانية في لوحة 162 أ.

(2)

راجع هذه الأرجوزة في كتاب العقد الفريد (طبعة المطبعة الأزهرية) ج 3 ص 209 إلى 227.

ص: 462

إن الخلافة لن ترضى ولا رضيت

حتى عقدت لها في رأسك التاجا (1)

ومما ينسب إلى الناصر من النظم، قوله:

لا يضر الصغير حدثان سن

إنما الشأن في سعود الصغير

كم مقيم فازت يداه بغنم

لم تنله بالركض كف مغير (2)

وكان الناصر سمحاً وافر الجود. ويصفه ابن الأثير بأنه كان، أبيض، أشهل، حسن الوجه، عظيم الجسم، قصير الساقين (3) وترك الناصر من البنين أحد عشر ولداً منهم ولي عهده وخلفه الحكم المستنصر بالله.

وقال الوزير جعفر بن عثمان المُصْحفي في رثاء الناصر:

إلا إن أياماً هفت بإمامها

لجائرة مشتطة في احتكامها

فلم يؤلم الدنيا عظام خطوبها

وأحداثها إلا قلوب عظامها

تأمل فهل من طالع غير آفل

لهن وهل من قاعد لقيامها

وعاين فهل من عائش برضاعها

من الناس إلا ميت بفطامها

كأن نفوس الناس كانت بنفسه

فلما توارى أيقنت بحمامها

فطار بها يأس الأسى وتقاصرت

يد الصبر عن أعوالها واحتدامها

ويشيد النقد الحديث بمناقب عبد الرحمن الناصر وعصره أعظم إشادة. وربما كان أبلغ ما قيل في ذلك تلك العبارات القوية التي يختتم بها العلامة دوزي حديثه عن عصر عبد الرحمن الناصر: " لقد كانت هذه نتائج باهرة، ولكنا نجد إذا ما درسنا ذلك العصر الزاهر، أن الصانع يثير الإعجاب والدهشة، بأكثر مما يثيرهما المصنوع: تثيرهما تلك العبقرية الشاملة التي لم يفلت شىء منها، والتي كانت تدعو إلى الإعجاب في تصرفها نحو الصغائر، كما تدعو إليه في أسمى الأمور. إن ذلك الرجل الحكيم النابه، الذي استأثر بمقاليد الحكم، وأسس وحدة الأمة، ووحدة السلطة معاً، وشاد بواسطة معاهداته نوعاً من التوازن السياسي، والذي اتسع تسامحه الفياض لأن يدعو إلى نصحه رجالا من غير المسلمين، لأجدر بأن يعتبر قريناً لملوك العصر الحديث، لا خليفة من خلفاء العصور الوسطى "(4).

(1) وقيل إن هذه القصيدة وجهت إلى الناصر لمناسبة عوده ظافرأً من أول غزوة قام بها ضد الثوار في مستهل حكمه.

(2)

نفح الطيب ج 1 ص 166.

(3)

ابن الأثير ج 8 ص 177.

(4)

Dozy: Hist، V.II.p. 175

ص: 463