الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
المملكة الإسبانية النصرانية
خلال القرن التاسع الميلادي
ألفونسو الثاني ملك جليقية. النضال بين الأندلس وبين المملكة النصرانية. موقعة الصخرة. غزو ألفونسو للأراضي الإسلامية. غزو الحكم لجليقية. غزو المسلمين لألبة والقلاع. راميرو الأول. الحرب الأهلية في جليقية. غزو محمد بن عبد الرحمن لجليقية. وفاة راميرو وولاية ولده أردونيو. تحالف أردونيو مع الثوار المسلمين. غزو الأمير محمد لألبة والقلاع. التحالف بين موسى بن موسى وملك نافار. الحرب بين أردونيو وبني قسي. هزيمة موسى ومصرعه. تحالف لب بن موسى مع أردونيو. غزو أردونيو لأراضي المسلمين. غزوة المنذر بن محمد لنافار. غزوات أخرى لألبة والقلاع. وفاة أردونيو وولاية ولده ألفونسو الثالث. الحرب الأهلية في جليقية. اتساع المملكة النصرانية في عهد ألفونسو الثالث. توغله في أراضي المسلمين. عقد السلم بينه وبين محمد بن عبد الرحمن. أحوال المملكة النصرانية. نفوذ الكنيسة في توجيه العرش الإسباني. معارك بين المسلمين والنصارى. الثورة ضد ألفونسو. نزوله عن العرش. وفاته وخلاله. مملكة نافار. أصلها ونشأتها. مدافعة البشكنس عن استقلالهم. تحالف نافار مع بني قسي. المصاهرة بين الأسرتين. التنافر بين نافار وليون. سانشو ملك نافار. الحرب بين سانشو وبني قسي.
- 1 -
تحدثنا فيما تقدم عن نشأة المملكة الإسبانية النصرانية عقب افتتاح المسلمين لاسبانيا، كيف نمت هذه المملكة الوليدة المحتجبة فيما وراء الجبال الشمالية، بخطوات بطيئة ولكن ثابتة، وكيف شغل عنها ولاة الأندلس فلم ينهضوا لسحقها، انتقاصاً لشأنها وخطرها، حتى غدت في أواخر القرن الثامن عاملا يحسب حسابه، وبدأت حكومة قرطبة تنظر إلى هذه القوة الجديدة التي توالت غزواتها للأراضي ْالإسلامية بعين الاهتمام والتوجس، وتخصص لمقارعتها شطراً كبيراً من جهودها ومواردها.
وقد انتهينا في أخبار هذه الحقبة من تاريخ المملكة الإسبانية النصرانية، إلى عصر ألفونسو الثاني الملقب بالعفيف، الذي تولى الملك سنة 791 م (175 هـ).
وكان ألفونسو الثاني ملكاً حازماً مقداماً، فضبط المملكة ونهض بها نهضة شاملة، وحصن ثغورها وقواعدها، وعمل على تحسين شئونها الاجتماعية، وجعل عاصمتها مدينة "أوبييدو" Oviedo. وكانت مملكة جليقية أو مملكة أشتوريش (أستورياس) كما كانت تسمى يومئذ، تمتد من ولاية بسكونية شرقاً إلى المحيط غرباً، ومن خليج بسكونية شمالاً حتى نهر دويرة جنوباً، ولكنها لم تكن عندئذ كما كانت أيام ألفونسو الكاثوليكي تشمل ولاية نافار أو بلاد البشكنس، التي استطاعت أن تستقل بنفسها، وقامت بها غير بعيد مملكة نصرانية مستقلة أخرى.
واستطال حكم ألفونسو الثاني زهاء نصف قرن. عاصر فيه ثلاثة من أمراء الأندلس، هم هشام بن عبد الرحمن، وولده الحكم، وحفيده عبد الرحمن، وتوالت فيه مراحل النضال بين الأندلس والمملكة النصرانية، فنشبت الحرب بينهما مراراً عدة، وتبادلا الغزو كلٌّ لأراضي الآخر مراراً؛ وكانت أهم الأحداث البارزة في حلقات هذا النضال، هزيمة الجلالقة والبشكنس بقيادة ألفونسو الثاني على يد المسلمين في موقعة الصخرة في قاصية جليقية في سنة 795 م (179 هـ).
وفي سنة 810 م (193 هـ) في عهد الحكم بن هشام عبر ألفونسو الثاني بقواته نهر دويرة، وغزا الأراضي الإسلامية، وتوغل في سيره حتى قُلُمرية وأشبونة، وعاث في تلك الأنحاء أيما عيث، ورد الحكم على ذلك بنفسه في صيف العام التالي غازياً إلى جليقية، وتوغل في منطقة وادي الحجارة، وأثخن في تلك الأنحاء عقاباً للنصارى وزجراً لهم على عدوانهم.
وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم سارت الجيوش الأندلسية، بقيادة الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث في سنة 823 م (208 هـ)، غازية إلى ألبة والقلاع، على أثر غزو ألفونسو الثاني للثغر الأعلى، وإغارته على مدينة سالم، وهزم المسلمون النصارى في عدة مواقع، وعاثوا في أراضي جليقية، وخربوا مدينة ليون، وأملوا على النصارى صلحاً شديداً قاسياً (1).
ولما توفي ألفونسو الثاني في سنة 842 م، خلفه على العرش ولده راميرو الأول أو رذمير كما تسميه الرواية الإسلامية. على أنه لم يخلفه دون نضال. ذلك أن
(1) راجع في تفاصيل الحروب والغزوات المتقدمة " دولة الإسلام في الأندلس " الفصل السابع من القسم الأول من الكتاب الثاني ص 208 وما بعدها، وكذلك المراجع.
راميرو حينما توفي أبوه كان في ولاية بردوليا الشرقية، التي عرفت فيما بعد بقشتالة (كاستيليا) Castilla نظراً لكثرة قلاعها، يرقب حركات المسلمين. وكان عبد الرحمن بن الحكم يقوم عندئذ بغزوته الكبرى في الثغر الأعلى، ويثخن في بلاد البشكنس، وكان ألفونسو يخشى أن يتدفق هذا السيل المخرب إلى أحواز جليقية، ولكن عبد الرحمن ارتد إلى قرطبة بعد أن غزا بنبلونة، وخربها، وسحق البشكنس وحلفاءهم ثوار الثغر الأعلى. وتوفي ألفونسو بعد ذلك بقليل؛ فوثب في أوبييدو زعيم من الأشراف يدعى الكونت ريوتيانوس واستولى على العرش؛ وعلم راميرو بذلك وهو في بردوليا فهرع إلى جليقية، وجمع جيشاً في مدينة " لك " وسار الى أشتوريش ليقاتل المغتصب. ولقيه ريوتيانوس في قواته على ضفاف نهر نارسياس، وما كادت المعركة تضطرم بين الفريقين، حتى هجر ريوتيانوس معظم جنده، وهزم هزيمة شديدة، وقبض عليه، وسملت عيناه، واعتقل بقية حياته في أحد الأديار؛ واسترد راميرو عرشه، وأطاعته سائر جليقية وأشتوريش.
ولكن علاقة العرش بالأشراف لبثت على توترها، ولم تمض أعوام قلائل حتى دبر الأشراف ثورة جديدة ضد راميرو (845 م). ثم تلتها في سنة 848 م ثورة أخرى، واستطاع راميرو في كل مرة أن يخمد الثورة، وقبض على معظم الزعماء والخوارج وأعدم الكثير منهم.
ومما تجدر ملاحظته بهذه المناسبة أن حكومة قرطبة كانت في معاملتها للزعماء الخوارج عليها، تبدو أكثر اعتدالاً وتسامحاً. فقد كانت تعفو أحياناً عن الثوار، وكانت تؤثر اصطناع القادرين والأكفاء منهم، وكانت في عقابهم أقل قسوة ونكالاً. وقد يرجع ذلك إلى ظروف الأحوال في الأندلس، فقد كانت الثورات شعبية أو قبلية على الأغلب. أما في جليقية فكان زعماء الثورة من الأشراف والزعماء الإقطاعيين الأقوياء، وكان خطرهم على العرش أشد وأدعى إلى التوجس والحذر (1).
وشغلت المملكة النصرانية في بداية عهد راميرو، كما شغلت المملكة الإسلامية، برد خطر النورمانيين الذين فاجأوا الأندلس بغارتهم المخربة في سنة 842 م حسبما
(1) Aschbach: Geschichte der Omajaden In Spanien، B.I.s. 253.
أسلفنا. وشغلت حكومة قرطبة بالأخص حيناً بتحصين أطراف المملكة، وإصلاح ما تخرب من أعمالها. وما كاد أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم ينتهي من ذلك، حتى نشط إلى استئناف غزو المملكة النصرانية ورد غارات النصارى، فسير ولده محمداً في سنة 847 م إلى جليقية فاخترق بسائطها، وحاصر مدينة ليون، وعاث في تلك المنطقة. وتقول بعض الروايات النصرانية، إن المسلمين التقوا براميرو على مقربة من مدينة سالم، وهزموه هزيمة شديدة، واستولوا على عدد من الحصون، وعلى كثير من الغنائم والأسرى. وفي رواية أخرى أن راميرو التقى بالمسلمين على مقربة من كلافينجو بجوار قلهرّة، وأنه هزمهم بالرغم من قلة جنده، وتنسب هذا النصر إلى خرافة خلاصتها أن راميرو رأى القديس ياقب في نومه ليلة المعركة ووعده بالنصر (1). على أن الروايات الإسلامية لا تذكر شيئاً من هذه الموقعة وهذا النصر المزعوم.
وأنفق راميرو بقية عهده القصير في العمل على تنظيم شئون مملكته وتوطيد الأمن فيها، وأنشأ عدداً من الكنائس والأديار، ثم توفي في ديسمبر سنة 850 م بعد حكم دام نحو ثمانية أعوام، تاركاً عرش أشتوريش وبردوليا لولده أردونيو.
- 2 -
وتولى أردونيو عرش المملكة النصرانية عقب وفاة أبيه بقليل، وبدأ أعماله بتحصين المدن المتاخمة لحدود المسلمين، مثل تودة وليون وأسترقة، وأصلح باقي القلاع والحصون تأهباً للدفاع، وأخمد الثورة في ولاية بسكونية، وفرض عليها سلطانه. ولما ظهرت أعراض ثورة المولدين في الأندلس في بداية عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقامت طليطلة بثورتها على حكومة قرطبة، أرسل أردونيو مدداً إلى الثوار، ولكن جيش الأندلس هزم الثوار وحلفاءهم النصارى في موقعة وادي سليط شر هزيمة (854 م). وفي العام التالي غزا الأمير محمد ألبة والقلاع وعاث فيها، ولكن الأندلس شغلت بعد ذلك بظهور النورمانيين وغزوهم لثغور الأندلس وبسائطها القريبة، فوقف سير الصوائف إلى الشمال بضعة أعوام.
ولكن أردونيو كان يواجه عندئذ خطر قوة جديدة، أخذت تنمو وتشتد في الولايات الشمالية. ذلك أن موسى بن موسى بن قسيّ، استطاع أن يبسط سلطانه
(1) Aschbach: ibid ، B.I.s. 259.
على الثغر الأعلى؛ وأن ينشىء فيه إمارة مستقلة قوية، واقترن غرسية أمير نافار بابنة موسى وتحالف معه، ليستعين به على مقاومة المسلمين، ومقاومة جيرانه النصارى من الغرب. وفي أوائل عهد الأمير محمد، عبر موسى جبال البرنيه بقواته، وغزا جنوبي فرنسا، واضطر ملكها شارل الأصلع إلى مهادنته ومسالمته، وأغدق عليه الهدايا والتحف. ولما رأى أردونيو نهوض قوة موسى وخطرها عليه، اضطر أن يسعى إلى محالفته، ولكنه ما لبث أن تركه مغضباً إذ كان موسى يؤازر البشكنس الثائرين عليه بتحريض صهره أمير نافار، ولم ير أردونيو في النهاية بداً من مخاصمة موسى ومحاربته، وهاجم أردونيو بعض الحصون الغربية التابعة لموسى، فسار موسى لقتاله ومعه صهره غرسية ملك نافار في قواته، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة هزم فيها موسى وجرح وقتل صهره غرسية. ثم توفي موسى متأثراً بجراحه (862 م). وكانت ضربة شديدة أصابت سلطان بني قسيّ في الشمال.
ولما شعر لب بن موسى عقب وفاة أبيه بقوة المملكة النصرانية، وخطرها، على سلطان أسرته، سعى إلى مهادنة أردونيو ومحالفته على قتال المسلمين، وردهم عن الولايات الشمالية.
وانتهز أردونيو فرصة اشتغال حكومة قرطبة بأمر النواحي الثائرة، فعبر نهر دويرة بقواته، وغزا مدينة قورية وأسر واليها، ثم غزا شلمنقة، وهزم المسلمين، وعاث في تلك الأنحاء (1). فسير محمد جيشاً إلى الشمال بقيادة ولده المنذر، فاخترق ألبة والقلاع، وهزم النصارى في كل موطن، ووصل إلى بنبلونة، وعاث في نواحيها. وتوالت حملات الأندلس بعد ذلك على ألبة والقلاع، ونشبت بين المسلمين وأردونيو معارك متعاقبة، هزم فيها النصارى جميعاً حسبما فصلنا ذلك في موضعه (2). وأراد محمد أن يقضي نهائياً على مملكة جليقية فسير السفن إلى المياه الغربية لغزوها من البحر، ووصل الأسطول الأندلسي بالفعل إلى مصب نهر منهو، ولكن العواصف ثارت وحطمت السفن، وفشل المشروع في المهد (866 م).
ولزم أردونيو عقب هزائمه المتوالية السكينة بقية عهده، ثم توفي في شهر مايو
(1) Cronica General (Ed.Pidal) Vol.II.p. 366.
(2)
راجع تفاصيل هذه المعارك في أخبار أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن (ص 294 - 299 وص 311).
سنة 866 م، واختار قبيل وفاته ولده البكر ألفونسو لولاية عهده، فخلفه على العرش باسم ألفونسو الثالث ولما يبلغ الرابعة عشر من عمره.
- 3 -
وما كاد الملك الفتى يجلس على العرش، حتى ثار عليه الكونت فرويلا حاكم ولاية جليقية وولد الملك برمند، مطالباً بالعرش، وسار في قواته إلى أوبييدو، ففر ألفونسو إلى ولاية ألبة، واستولى فرويلا على القصر، وأعلن نفسه ملكاً.
ولكن الأشراف القوط الذين يرون في العرش رمزهم وملاذهم، لم يرقهم هذا الاغتصاب، فثاروا على فرويلا وقاتلوه حتى قتل، وعاد ألفونسو إلى أوبييدو ظافراً واسترد عرشه.
ولم يمض قليل على ذلك حتى دبر أخوة ألفونسو، وهم فرويلا ونونيو وبرمند وأدفاريوس مؤامرة لعزله وانتزاع العرش منه، ولكن المؤامرة افتضحت قبل نضجها، وقبض ألفونسو على أخوته وعاقبهم بسمل أعينهم واعتقالهم، ولم ينج من بطشه سوى برمند إذ فر إلى أسترقة واستولى عليها، واستطاع بمؤازرة المسلمين أن يستقل بحكمها بضعة أعوام (1).
وكان حكم ألفونسو الثالث الذي استطال أربعة وأربعين عاماً، فاتحة عهد جديد من القوة والنهوض بالنسبة للمملكة النصرانية، وكان ألفونسو أميراً وافر العزم والكفاية، فاستطاع خلال حكمه الطويل بالحروب والزواج أن يدفع حدود مملكته حتى جبال البرنيه شرقاً؛ وعبر نهر دويرة إلى أراضي المسلمين مراراً، ووصل في غزواته إلى ضفاف التاجُه، وغزا عدة من المدن الإسلامية المتاخمة مثل ماردة وقلمرية وبازو وقورية وشلمنقة؛ ومع أنه لم يستطع أن يضم هذا البسيط إلى مملكته، فانه استطاع أن يشدد الضغط على الأندلس من هذه الناحية، وأن يرد تيار الغزوات الإسلامية. وفي سنة 878 م حاول المسلمين غزو ليون وأسترقة، ْفبادر ألفونسو إلى لقائهم، وهزمهم في موقعتين على مقربة من سمورة، وأرغم أخاه برمند على الفرار من أسترقه، والالتجاء إلى المسلمين. وفي سنة 881 م غزا ألفونسو أراضي المسلمين وعبر دويرة والتاجه، ووصل في زحفه حتى أحواز ماردة ووادي أنة، وهو مدى لم يبلغه أحد من أسلافه. وتقول الرواية النصرانية
(1) Cronica General: ibid.Vol.II.p. 367- Aschbach: ibid.B.I.s. 301.
أنه التقى بالمسلمين عند سفح جبل أريفر من جبال سيرّا مورينا (جبل الشارّات) وهزمهم وقتل منهم عدة آلاف وهي موقعة لم تشر إليها الروايات الإسلامية (1).
وكانت ريح الثورة تهب يومئذ على معظم جنبات الأندلس، وتشغل حكومة قرطبة بمقارعة بني قسي في الثغر الأعلى. وتحالف محمد بن لب زعيم الأسرة الثائرة مع ألفونسو الثالث، ليستعين به على قتال المسلمين، ولكن المسلمين نجحوا في انتزاع سرقسطة معقل ابن لب، وزحفوا على ألبة لمقاتلة النصارى، وعندئذ آثر ألفونسو أن يعقد السلم مع المسلمين، وعقدت بالفعل بينه وبين الأمير محمد بن عبد الرحمن حسبما فصلنا من قبل، معاهدة صلح استمرت ردحاً طويلاً.
ذلك أن ملك النصارى رأى بالرغم مما كان يشغل حكومة قرطبة من ثورات متعاقبة، أن يقنع بتأمين حدوده وأراضيه من خطر الغزو الإسلامي، وأن يتفرغ لشئون مملكته الداخلية، وكانت هذه الشئون تستغرق جل اهتمامه، وكانت الأزمات والقلاقل السياسية والاجتماعية تتعاقب، لأسباب وبواعث تتعلق بنظم المجتمع النصراني وظروفه. وقد وقعت في عهد ألفونسو عدة ثورات محلية ترجع بالأخص إلى المبالغة في فرض الضرائب على الضياع، وثار أصحاب الضياع لهذا الجور غير مرة في أنحاء مختلفة، وطالبوا بالحد من تغريمهم على هذا النحو لصالح الكنيسة ورجال الدين، ولكن هذه الثورات الإقطاعية أخمدت تباعا، وصودرت معظم الضياع لصالح الكنيسة، واستمر العرش في الإغداق على الأديار ورجال الدين.
ومما تجدر ملاحظته أن الملوكية الإسبانية، كانت تدين منذ نشأتها بمنتهي الولاء والطاعة للكنيسة والكرسي الرسولي. وكانت البابوية تتمتع في توجيهها بأعظم نفوذ. وكان العرش الإسباني يشعر دائماً بأنه يستمد سلطانه من الكنيسة، ويرجع إلى البابوية في كل أمر يمس شئون السلطة الروحية. ومن ذلك أن ألفونسو الثالث كتب إلى البابا يوحنا الثامن يستأذنه في عقد المؤتمر الكهنوتي وتعيين الأساقفة، فأذن له، وطلب إليه أن يبعث بفرقة من الفرسان للمعاونة في محاربة المسلمين في صقلية وجنوب إيطاليا. وعقد المؤتمر الكهنوتي بالفعل في أوبييدو سنة 871 م ونظمت فيه شئون الكنيسة الإسبانية. وكان ألفونسو الثالث ملكاً تقياً ورعاً، وكانت
(1) Aschbach: ibid ، B.I.s. 303.
الكنيسة ورجال الدين يحظون منه بأوفر قسط من الرعاية والإغداق، وكان هذا الجود المغرق يحمله على الإسراف في فرض الضرائب على الطوائف المدنية، وبذا يبث إليها بذور السخط والانتقاض (1).
وفي أواخر عهد ألفونسو نشبت الحرب بينه وبين بني قسي سادة الثغر الأعلى، وأغار زعيمهم محمد بن لب غير مرة على أراضي المملكة النصرانية ونافار.
وكذلك نشبت الحرب بين ألفونسو وبين ابن القط المعروف بالمهدي الذي تزعم البربر في منطقة سمورة حسبما فصلنا ذلك في موضعه. ولكن هذه المعارك التي وقعت يومئذ بين المسلمين والنصارى لم تتسم بالطابع الرسمي، وكان يضطلع بها الزعماء الخوارج على حكومة قرطبة، ومن ثم فقد استمر التهادن بين حكومة قرطبة وبين المملكة النصرانية طوال عهد الأمير محمد، فإبنه الأمير المنذر، ثم أخيه الأمير عبد الله. وبالرغم من أن ألفونسو لم يكن يترك فرصة لإذكاء الفتنة في المملكة الإسلامية وتعضيد الخوارج عليها، فإنه التزم عهده المعقود معها، ولم يقم بغزوات ذات شأن في الأراضي الخاضعة لها.
ودبرت عدة مؤامرات لخلع ألفونسو وانتزاع العرش منه. وكان المتآمرون من خاصة أسرته. وحاول المتآمرون لأول مرة تمكين أولاده وزوجه خمينا من الحكم، ولكن ألفونسو استطاع أن يقف على المؤامرة وأن يقضي عليها. وقبض على ولده غرسية واعتقله في قلعة أوبييدو. ولكن هذا الفشل لم يفت في عضد المتآمرين، فدبروا مؤامرة جديدة برياسة الملكة خمينا، وهي امرأة ذات أطماع تهيم بالسلطان، واشترك في تدبيرها الكونت نونيو صاحب برغش وأولاد الملك الثلاثة وهم: أردونيو وفرويلا وجند سالفوس، وانضم إليهم قسم من الجيش وفريق كبير من الشعب، وسيطروا على كثير من المعاقل. وخشى ألفونسو عاقبة الحرب الأهلية فقبل شروط الثوار، ونزل عن العرش لولده الأكبر غرسية، وعين أردونيو حاكماً لجليقية، وفرويلا حاكما لأشتوريش، ووقع ذلك في سنة 910 م، وبذا اختتم ألفونسو عهده الذي استطال أربعة وأربعين عاماً. ولم يمض قليل على ذلك حتى توفي في شهر اكتوبر من نفس العام وقد جاوز الثامنة والخمسين من عمره (2).
(1) Aschbach: ibid، B.I.s. 345 & 352
(2)
Cronica General: ibid، Vol. II. p. 382
وتشيد الرواية بخلال ألفونسو الثالث، وتصفه بالحزم والشجاعة، وتقول لنا إنه كان خصماً عنيداً للمسلمين شديد الوطأة في محاربتهم، ولكنه حينما عقد السلم مع حكومة قرطبة احترم عهده والتزم الوفاء به. وكان ألفونسو في الوقت نفسه نصيراً للآداب والعلوم يجزل صلاته لأهل العلم، وكان من سعة أفقه أن عهد بتربية ولده أردونيو إلى بعض العلماء المسلمين (1)، وكان حسبما أسلفنا تقياً ورعاً يخص الكنيسة بأوفر رعايته وعطائه، وقد أنشأ كثيراً من الكنائس والأديار، وابتنى كنيسة شنت ياقب الشهيرة. وقد رأينا كيف حمله إسرافه في الإغداق على الكنيسة ورجال الدين، على المبالغة في فرض الضرائب على الضياع، فكان ذلك من عوامل الإنتقاض والثورة على سياسته، وبذل ألفونسو جهوداً كبيرة في تحصين مدن الحدود، وفي مقدمتها برغش وسمورة وسيمانقة (شنت منكش)، وزودها بالسكان والجند، لكي تغدو سداً منيعاً ضد غزوات المسلمين.
ومنذ وفاة ألفونسو تسمى المملكة الإسبانية النصرانية مملكة ليون، بعد أن كانت تسمى مملكة أشتوريش وجلِّيقية؛ وقد نقل ابنه وخلفه غرسية قاعدة المملكة من أوبييدو إلى مدينة ليون لتوسط موقعها بين جلِّيقية وأشتوريش؛ وتسبغ الرواية النصرانية على ألفونسو الثالث لقب (ألفونسو الكبير) El magno، لما امتازت به المملكة النصرانية في عهده من القوة والنهوض والاتساع، وماتمتعت به خلال عهده الطويل من السلم والرخاء.
- 4 -
إلى جانب مملكة أشتوريش أو مملكة ليون الإسبانية الشمالية، كانت تقوم في غربي البرنيه في بلاد البشكنس الجبلية، إمارة أو مملكة نصرانية أخرى هي مملكة نافار (نبرّة). ويحيط الغموض بأصل هذه المملكة الصغيرة ونشأتها. وكل ما نعرفه من ذلك هو أن قبائل البشكنس، كانت حتى أواخر القرن الثامن الميلادي تخضع لبعض السادة الإقطاعيين التابعين لمملكة الفرنج، وربما حكمها دوقات كانتابريا أو أمراء أشتوريش. وكانت قاعدتهم مدينة بنبلونة الحصينة، التي حكمها المسلمون ردحاً من الزمن، ثم فقدوها في أواخر القرن الثامن أيام غزوات الفرنج لاسبانيا الشمالية. وكانت بلاد البشكنس أو نافار منذ الفتح ميداناً للغزوات
(1) Aschbach: ibid ، B.I.s. 352
الإسلامية والفرنجية. وقد حاول أمراء جليقية غزوها غير مرة، وضمها إلى المملكة النصرانية. ولكن قبائل البشكنس كانت تتفانى دائما في الذود عن استقلالها.
ولما شغلت المملكة النصرانية بمنازعاتها الداخلية، لبثت نافار مدى حين مقصد الصوائف الإسلامية، واجتاحها المسلمون مراراً.
وفي نهاية القرن الثامن الميلادي في نحو سنة 799 م، ظهر في نافار زعيم من السادة يدعى أزوار وجعل نفسه أميراً مستقلاً. ولما توفي سنة 836 م خلفه أخوه سانشو. ولكن أميراً آخر من الزعماء البشكنس هو غرسية إنيجيز بن إنيجو أريستا تغلب عليه وانتزع منه الإمارة. وتعرف الرواية الإسلامية إنيجو أريستا هذا وتسميه " ونقه بن شانجه ملك البشاكسة "(1). وهنا تبدو نافار لأول مرة في صورة المملكة المستقلة، ويبدأ ثبت ملوكها المتعاقبين. ومما يجدر ذكره أن مملكة نافار الناشئة، رأت أن ترتبط برباط التحالف والمصاهرة مع إمارة إسلامية مجاورة هي إمارة بني قسي سادة الثغر الأعلى، وهم حسبما قدمنا يرجعون إلى أصل نصراني أو قوطي. وقد تزوج إنيجو أريستا رأس الأسرة النافارية بأرملة موسى بن فرتون ابن قسي، وتزوج موسى بن موسى من إبنة غرسية إنيجيز، وتزوج غرسية وإخوته من بنات لب بن موسى بن فرتون، وتزوج بعض إخوة موسى وأبنائه من بنات أمراء نافار (2).
وهكذا كانت وشائج التحالف والمصاهرة تربط بين الأسرتين المسلمة والنصرانية، وتوثقت هذه الوشائج واستطالت دهراً. وكذلك رأى غرسية إنيجيز أن يتحالف مع عمر بن حفصون زعيم الفتنة في الأندلس. وكانت علائق نافار بجارتها المملكة النصرانية الكبيرة أو مملكة ليون يشوبها الكدر. ذلك أن مملكة نافار الصغيرة كانت دائماً تخشى مطامع ليون وغدرها، وقد حارب غرسية إنيجيز أردونيو ملك ليون، إلى جانب صهره موسى بن موسى، في موقعة البلدة وقتل سنة 862 م حسبما أسلفنا.
وخلف غرسية ولده فرتون الذي لبث أسيراً في قرطبة ردحاً طويلاً. ثم خلفه ولده سانشو غرسية. وفي رواية أن سانشو هذا لم يكن ولداً لفرتون أو لغرسية
(1) راجع جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 468.
(2)
جمهرة أنساب العرب ص 468.
ولم يكن من أمراء البيت المالك، ولكنه متغلب من نوع آخر انتزع الملك لنفسه.
وعلى أي حال فقد استقر سانشو غرسية ملكاً على نافار. وهو أول من تلقب من أمراء نافار بألقاب الملك، وبه تبدأ مملكة نافار الحقيقية. وقد حكم سانشو حتى سنة 926 م، وخاض مع المسلمين أيام الأمير عبد الله عدة حروب ووقائع، وشغل حيناً بقتال بني قسي الذين تصرمت علائقهم مع مملكة نافار، وهاجم لب ابن محمد بن لب زعيم بني قسي نافار غير مرة، ونشبت بينه وبين سانشو على مقربة من بنبلونة وقائع متوالية انتهت بهزيمة لب ومقتله في سنة 907 م، فخلفه أخوه عبد الله في رياسة تطيلة وما جاورها، واستمر في محاربة نافار وهزم سانشو في سنة 911 م، وتقول الرواية الإسلامية إن شانجه بن غرسية البشكنسي صاحب بنبلونه أعني سانشو غرسية، غزا مدينة تطيلة في سنة 303 هـ (914 م)، فقتل كثيراً من المسلمين، وأسر أميرها عبد الله بن محمد بن لب بن موسى القسوي. فدخلها أخوه مطرِّف بن محمد في اليوم التالي، وقام مكان أخيه.
وقد كان عبد الله وأخوه مطرف من أبطال الثغر الأعلى، وكانت لهما غزوات عديدة مظفرة في أراضي النصارى (1). وشغل سانشو أيضا بقتال الطويل وغيره من زعماء الثغر الأعلى حسبما فصلنا ذلك في موضعه. وسنعرض في فصل قادم إلى حروبه مع عبد الرحمن الناصر.
(1) المقتبس لابن حيان - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية بالرباط لوحة 61 أ، وهو الذي أشرنا في مقدمة الكتاب إلى اكتشافه بين محفوظات الخزانة الملكية.
دولة الإسلام في الأندلس
الخلافة الأمَوِيّة والدّوْلة العَامِريّة
تأليف
محمد عبد الله عنان
العصر الأوّل - القسم الثاني
الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الرابعة
1417 هـ - 1997 م
رقم الإيداع: 8988/ 90
الترقيم الدولى: 4 - 082 - 505 - 977
مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 4897851