المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

‌الفصل السادس

عبد الرحمن بن الحكم

ولاية عبد الرحمن بن الحكم. الثورة في تدمير. شغب أهل الذمة. غزو ألبة والقلاع. وفاة الحاجب عبد الكريم. نكبة جديدة للفرنج. حوادث الثغر الأعلى. ثورة البربر في ماردة. مغامرات محمود بن عبد الجبار وأخته جميلة العذراء. ثورة هاشم الضراب في طليطلة. مسير الجند إليها ومصرع الضراب. محاصرة طليطلة وثبات الثوار. تعاقب الحملات إليها. حصارها للمرة الثانية وخضوعها. الصوائف. غزو عبد الرحمن لنافار. خروج والي تطيلة وتحالفه مع النصارى. بني قسي وأصلهم. مسير عبد الرحمن إلى الشمال. زحفه على نافار واقتحامه لبنبلونة. هزيمة الثوار والنصارى. وفاة ألفونسو الثاني. النورمانيون أو المجوس. بدء ظهورهم في المياه الإسبانية. غزوهم لثغر أشبونة. إقتحامهم للنهر حتى إشبيلية. غزوهم لها وعيثهم فيها. الحرب بين المسلمين والغزاة. هزيمة النورمانيين وانسحابهم. اهتمام حكومة قرطبة بأمر الأسطول. غزو جليقية. حوادث الثغر الأعلى. غزو ميورقة. الحملات البحرية الأندلسية إلى شواطىء فرنسا وكورسيكا وسردانية. الحرب بين المسلمين والبشكنس. مجتمع النصارى في قرطبة. كيف يصفه المستشرق سيمونيت. حملته على الحكومة الإسلامية. الغلاة المتعصبون. بغضهم للمسلمين وتحاملهم على الإسلام. مجاهرتهم بسب النبي. عقاب المعتدين. دسائس الأحبار وتفاقم الفتنة. أقوال العلامة ألتاميرا. مجتمع الأساقفة وحزم الحكومة. قصة الفتاة فلورا. وفاة عبد الرحمن. صفاته وخلاله. روعة البلاط الأموي في عهده. ترتيب الوزارة. وزراؤه وكتابه وقضاته. اصطفاؤه للموالي والصقالبة. الفتى نصر. نفوذ الفتيان والجواري. منشآته. الأمن والرخاء في عهده. أدبه وشعره. حمايته للعلوم والآداب. استقدامه لزرياب نابغة الموسيقى. شغفه بجمع الكتب. سفارة قيصر قسطنطينية إليه. بواعث هذه السفارة. سفارة عبد الرحمن إلى القيصر وكتابه إليه. يحيى الغزال في بلاط بيزنطية. سفارته إلى ملك النورمانيين.

لما توفي الحكم، خلفه عبد الرحمن أكبر أولاده بعهد منه، وكان ينوب عنه في الحكم أثناء مرضه حسبما قدمنا، وبويع في اليوم التالي لوفاة أبيه، في السابع والعشرين من ذى الحجة سنة 206 (مايو 822 م)، وأخذ له البيعة بالقصر الحاجب عبد الكريم، وكان حينما ولي العرش في الحادية والثلاثين من عمره، إذ كان مولده بطليطلة في سنة 176هـ (792 م)، وأمه أم ولد تدعى " حلاوة "، وكان أحب أبناء الحكم إليه، وقد عني بتربيته وتثقيفه عناية خاصة. وشغف عبد الرحمن، منذ فتوته بالأدب والحكمة، ودرس الحديث والفقه، فكان ذهناً مستنيراً (1)، وكان فوق ذلك أميراً رفيع الخلال والكفاية، وافر الخبرة بشئون

(1) أخبار مجموعة ص 135.

ص: 254

الحرب والإدارة، يحسن اختيار الرجال للمناصب، فكان يحشد حوله خيرة رجال الدولة من الوزراء والقادة والولاة والقضاة (1).

وفي فاتحة ولايته، عاد عبد الله البلنسي، عم أبيه، إلى الثورة مرة أخرى، واحتل كورة تدمير مطالباً بإقطاعها (سنة 207هـ)، والتف حوله جمع كثير، وكان يزمع الزحف إلى قرطبة بالرغم من ضعفه وشيخوخته، ولكن المرض عاجله، وتوفي في العام التالي (سنة 208هـ)، فاحتل عبد الرحمن كورة تدمير، وتكفل بأهله وولده، وانتهت بذلك آخر مرحلة في فتنة طالما تكرر حدوثها منذ وفاة عبد الرحمن الداخل.

ولكن تدمير لبثت مع ذلك تضطرم بنار ثورة داخلية من نوع جديد. ذلك أن فتنة نشبت فيها بين المضرية واليمنية، من جراء موت مضري قتله يماني، واستفحل الشر بينهما، وقتل كثير من الفريقين، فبعث عبد الرحمن إليهم حملة بقيادة يحيى بن عبد الله، وعينه والياً على تدمير، ولكنه لم يفلح في إخضاع الولاية الثائرة. واستمرت الفتنة على أشدها، وغلب على تدمير أبو الشماخ زعيم اليمنية، ولبث بضعة أعوام يتحدى سلطة قرطبة، والبعوث تتردد إليه في كل عام، دون أن تنال منه منالا، ولم تهدأ الفتنة إلا في سنة 213 هـ، حيث خضع أبو الشماخ وغيره من الزعماء، وطلبوا الأمان، وعادوا إلى الطاعة.

وحدثت في قرطبة عقب جلوس عبد الرحمن بأيام قلائل، فتنة شعبية من نوع ما حدث أيام الربض. ذلك أن وفوداً من أهل الذمة وغيرهم قدمت من إلبيرة تطالب برفع المغارم التي فرضها عليهم ربيع الأسقف، وانضم إليهم كثير من أهل قرطبة النصارى، وساروا إلى القصر في ضجة كبيرة، فأرسل إليهم عبد الرحمن قوة من الفتيان لتهدئتهم فاعتدوا عليها، فبعث عندئذ الجند إليهم، ففتكوا بهم وقتل منهم خلق كثير، وفر الباقون في مختلف الأنحاء، وكان ذلك في المحرم سنة 207 هـ (2).

وبدأ عبد الرحمن برنامجه في الغزو والجهاد مبكراً، فبعث في صيف سنة 208هـ (823 م) حملة إلى ألبة والقلاع بقيادة عبد الكريم بن عبد الواحد ابن مغيث، وكان ألفونسو الثاني ملك جليقية (أو ليون) قد أغار على

(1) مخطوط ابن حيان ص 138.

(2)

مخطوط ابن حيان المشار إليه، وابن الأثير ج 6 ص 130.

ص: 255

مدينة سالم Medinaceli من أعمال الثغر الأعلى، وحذت حذوه بعض القبائل الجبلية من أهل بسكونية، فأغارت على أطراف الثغر وعاثت فيها، فاخترق الحاجب بسائط ألبة والقلاع، وهزم النصارى في عدة مواقع، وعاث في ألبة وخرب مدينة ليون وأحرق حصونها، واشترط على النصارى أن يدفعوا جزية كبيرة، وأن يطلقوا أسرى المسلمين، وأن يسلموا بعض زعمائهم كفالة بسكينتهم، وعاد الحاجب إلى قرطبة مثقلا بالغنائم والسبي. وكانت هذه آخر غزوة قام بها هذا الوزير النابه والقائد المظفر، الذي قاد معظم الغزوات الكبرى إلى أرض العدو، منذ عهد هشام بن عبد الرحمن، إذ توفي عقب عوده إلى قرطبة بقليل في المحرم سنة 209هـ (824 م)(1).

وفي هذا العام (824 م) أصيب الفرنج بهزيمة ساحقة في أحواز بنبلونة، في سفح جبال البرنيه، عند باب شزروا، حيث نكب جيش شارلمان من قبل، ويبدو من أقوال الرواية الفرنجية أن المسلمين كان لهم دور كبير في إيقاع هذه الهزيمة. ذلك أن لويس ملك الفرنج أرسل قواته بقيادة الكونتين أزنار وإبلو لمهاجمة البشكنس وإخضاعهم، فاستغاث البشكنس بجيرانهم المسلمين، والظاهر أن الذي لبى نداء البشكنس هم بنو موسى أو بنو قسيّ أصحاب تطيلة، وأن هذه المعاونة كانت بموافقة حكومة قرطبة. وعلى أي حال فقد أحرز المسلمون والبشكنس على الفرنج نصراً ساحقاً. وأسر القائدان أزنار وإبلو، ثم أطلق سراح الأول وأرسل الثاني إلى قرطبة حيث اعتقل بعض الوقت. وقد أثار هذا الحادث ذكريات موقعة باب شزروا الكبرى التي نكب فيها الفرنج أيام الأمير عبد الرحمن الداخل، قبل ذلك بستة وأربعين عاماً (2).

وتولى قيادة الصائفة بعد الحاجب عبد الكريم (3)، أمية بن معاوية بن هشام، ولكنه لم يسر إلى أرض العدو، بل سار إلى شنت برية، ثم إلى تدمير ليعمل على تهدئة الثورة. وكانت حوادث الشمال قد عادت تتطلب اهتمام قرطبة، وكان

(1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 161؛ والبيان المغرب ج 2 ص 84.

(2)

راجع: R.M.Pidal: ibid، Vol.I.p. 195 وكذلك كوندي: Conde: ibid;Vol.I.p. 264 & 265

(3)

كانت معظم الحملات والغزوات الإسلامية الكبرى، تنظم في الصيف باعتباره خير الفصول للقيام بمثل هذه الغزوات، ولهذا كانت تسمى بالصائفة والصوائف.

ص: 256

الفرنج في الثغر القوطي قد تحركوا، وأغاروا على أطراف الثغر الأعلى، بقيادة أميرهم برنهارت صاحب برشلونة، وهو ولد جيوم دوق تولوز، فسير عبد الرحمن إلى الشمال جيشاً كبيراً بقيادة عبيد الله بن عبد الله البلنسي، فاخترق الثغر الأعلى إلى أراضي الفرنج (212هـ - 827 م) واجتاح ولاية قطلونية، وهزم الفرنج في عدة مواقع، وسار حتى جرُندة (جيرونة)، ولكنه لم يحاول أن يحرز فتوحاً ثابتة، فارتد إلى الجنوب بَعد أن مزق شمل النصارى في تلك الأنحاء (1).

وشغلت عبد الرحمن في الأعوام التالية عدة ثورات محلية خطيرة، وكانت الفتنة تضطرم في نفس مواطنها، القديمة، في طليطلة، وماردة، حيث كانت عناصر الخروج والثورة تحتشد وتعمل بعيدة عن العاصمة، ممتنعة بالوهاد والوعر، قريبة من النصارى، تتلقى منهم الوحي والعون في أحيان كثيرة. ففي ماردة ثار البربر بقيادة زعيمين من زعمائهم هما محمود بن عبد الجبار بن راحلة، وهو من بني طريف من مصمودة، وسليمان بن مرتين، وانضم إليهم النصارى المعاهدون. وألفى لويس ملك الفرنج فرصة جديدة للدس والتحريض على حكومة قرطبة، فبعث إلى الثوار يشجعهم ويعدهم بالمدد والعون (2). وكان محمود زعيماً قوياً ومغامراً جريئاً، فوثب بعامل ماردة وقتله، وعاث في تلك الأنحاء قتلاً ونهباً وتخريباً، وتوالت إليه بعوث عبد الرحمن، فكان في كل مرة يعتصم بالمدينة، فإذا غادره الجند عاد إلى عيثه وسفكه. وفي سنة 218هـ (833 م) سار إليه عبد الرحمن بنفسه، فغادر ماردة في صحبه ومعه زميله سليمان، وخرجت مع محمود أخته جميلة العذراء، وهي فارسة بارعة الحسن، اشتهرت يومئذ في جميع أنحاء الأندلس برائع جمالها، كما اشتهرت بالشجاعة والنجدة والفروسية، ولقاء الفرسان ومبارزتهم (3)، ونزل الثوار بحصن فرنكش على ضفة نهر وادي يانة. ثم غادر سليمان زميله، واستقل محمود بالعمل، وزحف في جموعه على بطليوس، ثم على أكشونبة (4) ثم سار إلى باجة، فقاتَلَه أهلها، ولكنه تغلب عليهم بمعاونة أخته جميلة، وبسط محمود سلطانه على

(1) البيان المغرب ج 2 ص 85؛ ومخطوط ابن حيان ص 180.

(2)

Scott: ibid ، Vol.I.p. 482

(3)

جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 466.

(4)

بطليوس بالإسبانية Badajoz، وأكشونبة Ocsonoba

ص: 257

باجة، وهو يقاتل خصومه من حوله، وبعوث الأمير تتردد إليه، حتى لحقه الإعياء واليأس، ففر مع أخته وصحبه إلى جليقية، واستجار بملكها ألفونسو الثاني، فرحب به وأكرم وفادته، وأنزله بأطراف مملكته. وبعد حين رأى الثائر أن يعود إلى الطاعة فكاتب عبد الرحمن، ووقف ألفونسو على هذه المحاولة، فخشي إن أفلت الثائر منه أن ينقلب حرباً عليه، فسار إليه وأحاطت به الجند من كل ناحية، ودافع محمود عن نفسه دفاع الأبطال، ولكنه قتل أخيراً، وأسر أهله وصحبه، وكانت أخته الحسناء جميلة بين الأسرى (225 هـ - 840 م). ووقعت جميلة في نصيب كبير من كبراء النصارى، فحملها على اعتناق النصرانية وتزوج منها، وكان من ولدها فيما بعد أسقف شنت ياقب (1).

واضطرمت طليطلة بالثورة في نفس الوقت، ففي سنة 214هـ (829 م) ثار بها زعيم من العامة يدعى هاشم الضراب، وكان هاشم في طليطلة أيام واقعة الحفرة، تم أخذ بين الرهائن إلى قرطبة، فاشتغل بها حداداً مدى حين وعرف بالضراب، ثم غادرها إلى طليطلة، وهناك اجتمع إليه عدد كبير من الأوغاد والسفلة، فأخذ يغير بهم على الأنحاء المجاورة، حتى اشتد بأسه وطار صيته، وهرع إلى لوائه أهل الشر والبغي من كل صوب، وسار إلى البربر في شنت برية، فأغار عليهم وأوقع بهم، فبعث عبد الرحمن الجند لقتاله بقيادة محمد بن رستم، عامل الثغر الأدنى، فنشبت بينه وبين الثوار عدة وقائع غير حاسمة.

وفي العام التالي بعث عبد الرحمن إلى عامله بالمدد، فزحف على الثوار والتقى بهم على مقربة من حصن سمسطا بمجاورة رورية، ونشبت بين الفريقين موقعة عنيفة هزم فيها الثوار، وقتل هاشم الضراب وكثير من أصحابه، وذلك في سنة 216هـ (831 م).

ولكن طليطلة استمرت مع ذلك على اضطرامها، وكان على عبد الرحمن أن يخوض معارك أخرى لإخضاعها. ففي سنة 219هـ (834 م) أرسل إليها جيشاً بقيادة أخيه أمية بن الحكم، فحاصرها وانتسف ما حولها من الزروع، ولكن المدينة الثائرة لم تهن ولم تخضع، فرحل عنها، وأبقى بعض قواته بقيادة

(1) وردت هذه التفاصيل الشائقة في مخطوط ابن حيان (ص 182 و183 و184). وراجع ابن القوطية ص 67.

ص: 258

ميسرة الفتى في قلعة رباح (1) الواقعة في جنوبها استعداداً لمحاصرتها، فخرج عندئذ أهل طليطلة لقتال ميسرة، فظهر عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، فارتدوا إلى داخل المدينة، وعادوا إلى الاعتصام بأسوارها المنيعة. وفي العام التالي (سنة 220 هـ) سار إليهم عبد الرحمن بنفسه، فثبتت في وجهه المدينة الثائرة، فترك الجند في قلعة رباح، وسار إلى الغرب في أحواز ماردة، ليطارد سليمان بن مرتين زعيم البربر، وكان بعد أن تخلف عن زميله محمود بن عبد الجبار، يتزعم الثورة في تلك الأنحاء، فحاصره عبد الرحمن، وحدث أن قتل الثائر في سقطة مميتة عن جواده، فانفضت جموعه وخبت ثورته. وسير عبد الرحمن في العام التالي حملة أخرى إلى طليطلة بقيادة أخيه الوليد بن الحكم، فضرب حولها الحصار الصارم، واستمر على حصارها حتى جهد أهلها، وضاقوا بالحصار ذرعاً، ثم هاجمها بعد ذلك واقتحم أسوارها، وخضعت المدينة الثائرة، بعد أعوام عديدة من فتن وثورات مستمرة، كان يغذيها خلالها روح التمرد المتأصل في شعبها، ودسائس البربر والنصارى من أهلها، وتحريض الفرنج والجلالقة، وكان خضوعها في رجب سنة 222هـ (837 م)(2).

واستطاع عبد الرحمن بعد إخماد الثورة في مختلف النواحي، أن يستأنف أعمال الجهاد والغزو، فعكف في الأعوام التالية على تسيير الصوائف أو حملات الغزو الصيفية متعاقبة في كل عام إلى الشمال، تارة إلى أطراف الثغر الأعلى، حيث تشتبك مع الفرنج، وتثخن في أراضيهم، وتارة إلى ألبة والقلاع، حيث تغير على أراضي البشكنس، أو أطراف مملكة ليون (جليقية)، وتولى عبد الرحمن قيادة الصائفة بنفسه إلى جليقية في سنة 225هـ (840 م). وفي سنة 227هـ (842 م) سار عبد الرحمن إلى الشمال، وكان موسى بن موسى بن قسيّ والي تُطيلة (3) من أعمال الثغر الأعلى (أراجون)، قد خرج عن طاعته وتحالف مع غرسية (4) أمير نافار، وأوقع الإثنان بجند الأمير في الثغر، وعاثا في أنحائه.

(1) ومقابلها بالإسبانية Calatrava

(2)

راجع ابن الأثير ج 6 ص 141 و150 و153 و161، والبيان المغرب ج 2 ص 85 و86 و87.

(3)

وهي بالإسبانية Tudela

(4)

وهي بالإسبانية Garcia

ص: 259

وتقول الرواية في سبب نقض موسى الطاعة، أن عبد الرحمن كان قد ولى عبد الله بن كليب على سرقسطة، وعامر بن كليب على تُطيلة، فأغار عبد الله على أموال ينقة بن ونقة أخى موسى لأمه، واعتدى عامر بن كليب على أملاك موسى وخيله، وانتهب أمواله، وخرب حدائقه، فعندئذ أعلن الخروج والعصيان، وكان ذلك في سنة 226هـ (1). فسار عبد الرحمن إلى بلاد البشكنس (نافار)، وتوغل فيها حتى بنبلونة، وعاث فيها نسفاً وتخريباً، وسبى من أهلها جموعاً كثيرة.

ولا بد لنا هنا من التعريف بهذا الزعيم الثائر موسى بن موسى، إذ هو سوف يحتل منذ الآن فصاعداً، هو وأبناؤه، حيزاً كبيراً في تاريخ الثورة على حكومة قرطبة. فهو وفقاً لابن حيان، وابن حزم، موسى بن موسى بن فرتون ابن قسيّ (أو القسوي). وكان جده الأعلى، الكونت قسيّ Kasi من أشراف القوط، وكان وقت الفتح "قومس" Comes الثغر الأعلى، فلما غزا المسلمون أراضيه سار إلى الشام، واعتنق الإسلام على يدي الخليفة الوليد بن عبد الملك، وذلك لكي يحتفظ في ظل الغزاة الجدد، بأملاكه وسلطانه الإقطاعي، واعتبر بإسلامه على يدي الخليفة من مواليه، وانحاز بطريق هذا الولاء إلى جانب المضرية. وعدا أولاده وأحفاده من بعده زعماء المولدين في الثغر الأعلى. وكانوا من أنجاد الزعماء والفرسان، يمتازون بالجرأة والإقدام والشجاعة، ويعتزون دائماً بأصلهم القوطي النصراني، وكانت لهم دائماً علائق مصاهرة مع جيرانهم من الأمراء النصارى، من البشكنس وغيرهم، وكان إسلامهم في الواقع مظهراً سطحياً لاغتنام السلطان والنفوذ، وكانوا لا يشعرون بالولاء نحو حكومة قرطبة، يصانعونها متى وجبت المصانعة، احتفاظاً بمركزهم وسلطانهم في الثغر، ولكنهم لا يحجمون عن انتهاز أية فرصة للثورة عليها، ومحالفة أعدائها من النصارى. وسنرى فيما بعد أي دور خطير قامت به هذه الأسرة المتمردة الخطرة، في ثورة المولدين الكبرى على قرطبة (2).

(1) نصوص عن الأندلس للعذري في الأوراق المنثورة من كتاب " ترصيع الأخبار " ص 29.

(2)

راجع المقتبس لابن حيان، الجزء المطبوع بعناية المستشرق أنتونيا ص 16 و17.

وكذلك جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 467 و468، حيث يقدم لنا شجرة كاملة لنسبة بني قسي، منذ جدهم الأعلى حتى أواخر القرن الثالث الهجري.

ص: 260

وفي العام التالي سار عبد الرحمن إلى الشمال مرة أخرى، ومعه ولداه المطرِّف ومحمد، واستخلف ولده المنذر على قرطبة، وبدأ عبد الرحمن بمحاصرة تُطيلة حتى أخضعها، ثم زحف على بلاد البشكنس مرة أخرى، ولقيه غرسية وحليفه موسى بن موسى في جموع كبيرة، فهزم البشكنس وحلفاؤهم هزيمة شديدة، وقتل منهم عدد جم، وفر موسى وحليفه غرسيّة جريحين، وسار عبد الرحمن إلى بنبلونة فأثخن فيها وخربها، واضطر البشكنس إلى طلب الأمان والصلح، وعاد عبد الرحمن إلى قرطبة ظافراً بعد أن وطد هيبة الإسلام وحكومته في تلك الأنحاء (228 هـ - 842 م)(1). ولم يكن لهذه الغزوات في الواقع نتائج مستقرة، وكانت تقصد في الغالب إلى إيقاع الرعب في قلوب نصارى الشمال، وتخريب بلادهم، وإنهاك قواهم، حتى يلزموا السكينة، ويكفوا عن عدوانهم وعيثهم في أراضي المسلمين.

وفي نفس هذا العام الذي سحقت فيه نافار وخربت (842 م)، توفي ألفونسو الثاني الملقب بالعفيف بعد أن حكم مملكة ليون (جليقية) إحدى وخمسين عاما، إذ تولى الملك في سنة 791 م، أيام الأمير هشام بن عبد الرحمن، وخلفه ولده راميرو الأول، أو رذمير كما تسميه الرواية العربية. وقد اقتصرنا فيما تقدم على أن نسرد من أخباره وأخبار مملكته، ما له صلة بسير الحوادث في اسبانيا المسلمة، أما أخبار مملكة ليون الداخلية، فسنفصلها عند الكلام على تاريخ المملكة النصرانية الشمالية.

* * *

وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم، عرفت الأندلس لأول مرة خطراً جديداً لم يسبق لها أن عرفته أو توقعت حدوثه: ذلك هو خطر الغزوات النورمانية البحرية.

كانت سيادة البحار الشمالية منذ بداية العصور الوسطى في يد " الفيكنج " Vikings أو النورمانيين، وكان أولئك النورمانيون أمة بحرية عريقة، تمرست منذ غابر العصور في ركوب البحر ومقارعة أهواله، ووطنهم الأصلي هو اسكندناوة، وربما دانيماركه، وشواطىء ألمانيا الشمالية، ولذا عرفوا بالنورمانيين

(1) البيان المغرب ج 3 س 88 و89؛ وابن الأثير ج 6 ص 167 و172 و180، ومخطوط ابن حيان ص 185.

ص: 261

أى أهل الشمال (1). واشتهر النورمانيون بجرأتهم في جوب البحار الشمالية، وبراعتهم في مغالبة قسوة الجليد وأهوال اللجة والطبيعة، ولم يأت القرن الثامن الميلادي حتى كانت حملاتهم البحرية الناهبة، تثخن في شواطىء الجزر البريطانية.

وكان جدب الوطن، وشظف العيش، وروح المخاطرة، تدفع بهم دائماً إلى عرض البحار، وتجعلهم خطراً دائماً على الشواطىء والثغور المجاورة. وفي أوائل القرن التاسع وصلت حملاتهم الناهبة إلى شواطىء بلاد الفرنج (فرنسا)، ثم نفذت جموع منهم إلى شمال فرنسا. وغزوا مصب اللوار ومصب الجارون، وأنشأوا لهم عدة مراكز وقواعد في تلك الأنحاء.

وهنا بدأ تطلع النورمانيين إلى اسبانيا. والأندلس بنوع خاص. وكانت نعماء الأندلس، وما اشتهرت به من الخصب والغنى، تثير جشع أولئك الغزاة المغامرين، ولم تكن الأندلس تحسب حساباً لذلك الخطر الداهم المستتر معاً، لأنها لم تعرف النورمانيين من قبل، ولا تعرف لهم بقربها أرضاً أو مستقراً. وتطلق الرواية الإسلامية على أولئك الغزاة المجهولين إسم "المجوس"، بيد أنها تعرفهم أيضاً "بالأردمانيين" أى النورمانيين، وقد ترجع هذه التسمية إلى أن النورمانيين كانوا في العهد الذي عرفهم فيه عرب الأندلس لأول مرة " مجوساً " أى وثنيين لم يعتنقوا النصرانية بعد. وكان ظهور النورمانيين في المياه الإسبانية، لأوّل مرة في سنة 843 م. ففي تلك السنة خرج أسطول نورماني من نهر الجارون وعاث في شواطىء مملكة جليقية، فبعث ملكها راميرو (رذمير) إليهم جيشاً ردهم وأحرق كثيراً من سفنهم، فانقلب النورمانيون عندئذ إلى مياه إسبانيا الغربية والجنوبية، يجوبونها في طلب السبي والغنيمة، واقتحموا شواطىء المملكة الإسلامية (الأندلس) في غزوتهم الأولى.

وتضع الرواية الإسلامية هذه الغزوة في سنة 230 هـ، وتحدثنا عنها بإفاضة، فتقول لنا إن أسطولا مجوسياً (نورمانياً) قوامه زهاء ثمانين مركباً، رسا في مياه أشبونة (2) في أواخر سنة 229 هـ (يوليه أو أغسطس سنة 843 م)، فكتب عاملها وهب الله بن حزم إلى عبد الرحمن بن الحكم ينبئه بالخطر، فكتب عبد الرحمن

(1) وهي بالإفرنجية Norsmen أو Normanen

(2)

لشبونة Lisboa عاصمة البرتغال الحديثة.

ص: 262

إلى عمال الثغور بالتحوط والأهبة. ولبث النورمانيون في مياه أشبونة ثلاثة عشر يوماً التحموا خلالها مع المسلمين في عدة وقائع، ثم ساروا بأسطولهم جنوباً إلى قادس، ثم شذونة، ثم اخترقوا النهر الكبير (الوادي الكبير) حتى إشبيلية.

وكان ظهور هذه السفن الغازية، وأولئك الغزاة الشقر في قلب الأندلس، مفاجأة مروعة، ولم يكن للأندلس يومئذ أسطول قوي تدفع به شر الغزوات البحرية، ولم تتخذ في الثغور لردها أهبات خاصة. ونزل النورمانيون في ظاهر إشبيلية في أوائل المحرم سنة 230هـ (سبتمبر سنة 843 م)(1) وكانت يومئذ دون أسوار تحميها من العدوان المفاجىء، وكانت مفاجأة مروعة لأهلها، الذين لم يتخذوا أية أهبة خاصة للدفاع عن أنفسهم، وعبثاً حاول المسلمون رد الغزاة. واقتحم النورمانيون إشبيلية وأمعنوا في أهلها سفكاً ونهباً وسبياً، وعاثوا فيها مدى سبعة أيام أشنع عيث، تم غادروها وعسكروا في ظاهرها، في قرية طلياطة الواقعة غربي إشبيلية. وفي تلك الأثناء بعث الأمير عبد الرحمن قوات من الخيل على عجل لإنجاد إشبيلية بقيادة عبد الله بن كليب ومحمد بن رستم، وجعل على قوات قرطبة حاجبه عيسى بن شهيد، وهرع المسلمون من كل صوب للجهاد ورد الغزاة.

وقاد القوات المتحدة نصر الخصي، وتلقى النورمانيون المدد في سفن جديدة قدمت إليهم، ونشبت بين الفريقين في البداية بضع معارك محلية، تفوق فيها الغزاة. وفي الخامس والعشرين من صفر سنة 230هـ، نشبت بينهما معركة حاسمة تجاه قرية طلياطة، وكان على رأس قوات المسلمين محمد بن رستم، فهزم النورمانيون بعد قتال عنيف، وقتل منهم نحو ألف وأسر نيف وأربعمائة، وأحرق من سفنهم ثلاثون، وكان قائدهم بين القتلى، وارتد النورمانيون إلى سفنهم، وتحصنوا بها، وقتل المسلمون أسراهم أمام أعينهم، وصلبوا على جذوع النخل، ثم أقلعت سفن الغزاة مرتدة إلى الجنوب، والمسلمون من ورائهم يطاردونهم، ويفتدون أسرى المسلمين منهم بمختلف السلع، وانتقم النورمانيون لأنفسهم أثناء ارتدادهم بالإغارة على لبلة وباجة، ثم انتهوا ثانية إلى ثغر أشبونة حيث غادروا مياه الأندلس مع باقي سفنهم، بعد أن لبثوا بضعة أسابيع يبثون فيها الرعب والروع.

(1) يضع ماريانا غزوة النورمانيين الأولى لإشبيلية في سنة 847 م (راجع تاريخه العام - الترجمة الفرنسية - ج 2 ص 84).

ص: 263

واستطالت غزوة النورمانيين، منذ نزولهم بأرض إشبيلية، إلى أن تمت هزيمتهم وإقلاعهم، إثنين وأربعين يوماً، عانى فيها المسلمون محناً وشدائد كثيرة، ارتجت لها ربوع الأندلس كلها. فلما انقشعت الغمة، بادر الأمير عبد الرحمن فبعث بالكتب إلى سائر الآفاق معلنة هذا النصر على العدو المغير، وبعث بها بالأخص إلى أمراء العدوة، ومعها طائفة من رؤوس أكابر النورمانيين القتلى.

وأغدق الأمير ثناءه وصلاته على نصر الخصي فتاه الأثير لديه، وكان قائد قواته العام في تلك المعركة الكبرى (1).

وكان لهذه المفاجأة المروعة أثرها في حمل حكومة الأندلس على الاهتمام بأمر الأسطول والتحصينات البحرية، فابتنى عبد الرحمن حول إشبيلية سوراً ضخماً، وأنشأ بها داراً عظيمة للصناعة، واهتم بصنع السفن الحربية الكبيرة، وحشد لها المقاتلة من شواطىء الأندلس، فكانت نواة الأسطول الأندلسي الكبير الذي بلغ في عهد عبد الرحمن الناصر زهاء مائتي سفينة. وعلى أي حال فقد أدرك النورمانيون أن الأندلس لم تكن فريسة هينة. وتحدثنا الرواية الإسلامية بأنهم عقب هزيمتهم في هذه الغزوة الأولى سعوا إلى الصلح مع أمير الأندلس، وبعثوا رسلهم في طلب السلم والمهادنة، وأن الأمير الأندلسي عبد الرحمن بعث كاتبه يحيى الغزال إلى ملكهم ليرد السفارة، وهي رواية سنعود إلى تفصيلها (2).

ولم يمض قليل على رد الغزاة النورمانيين، حتى بادر عبد الرحمن إلى استئناف الغزو، فسير بالصائفة إلى الشمال جيشاً بقيادة ولده هشام. ومعه الوزير عيسى ابن شهيد، فاخترق قشتالة القديمة، وسار صوب نافار وغزا بنبلونة، ووافاه هناك موسى بن موسى والي تطيلة، فقدم طاعته، ومنح الأمان، وأقر على ولايته. وفي العام التالي سير عبد الرحمن بالصائفة قواته مرة أخرى إلى الشمال،

(1) راجع في تفاصيل هذه الغزوة، البيان المغرب ج 2 ص 89 و90، والعذري في الأوراق المنثورة من " ترصيع الأخبار " ص 98 - 100، وفي النويري: نهاية الأرب (القسم الخاص بتاريخ الأندلس) وقد نقل دوزي روايته؛ Recherches: II: p. 337-338 وكذلك في الملحق Appendice 37؛ وفي ابن القوطية (ص 63 - 67)؛ وابن الأثير ج 7 ص 7، وابن خلدون ج 4 ص 129. وفي مخطوط ابن حيان عنها تفاصيل كثيرة نقلت عن محمد بن أحمد الرازي وأخيه عيسى ومعاوية بن هشام الشبينسي.

(2)

راجع رواية النويري المشار إليها في دوزي: Recherches: App. 37

ص: 264

بقيادة ولده محمد، فاخترق بسائط جليقية، وحاصر عاصمتها ليون، ولجأ النصارى إلى الجبال، ثم ارتد عنها بعد أن عاث فيها قتلا وتخريباً (سنة 231هـ - 845 م). وعصف بالأندلس في العام التالي قحط شديد، وهلكت الزروع والماشية، وقاست البلاد من ويلاته مدى أشهر.

ْوفي سنة 233 هـ (847 م) ظهر بالثغر الفرنجي، في شمال شرقي إسبانيا، زعيم يدعى جيين دي تولوز، وهو فيما يرجح من تسميه الرواية العربية، غليالم بن برباط بن غليالم، وكان قد أعلن الخروج والثورة على ملك الفرنج شارل الأصلع، ووفد في العام السابق على بلاط قرطبة، يلتمس التأييد والعون، فاستقبله عبد الرحمن بترحاب، وأمده بعونه، فعاد إلى الثغر وعاث فيه بقواته، وحاصر برشلونة وخرب حصونها، وهاجم جرندة، وكتب عبد الرحمن إلى عامله على طرطوشة عبد الله بن يحيى، وعامله على سرقسطة عبد الله بن كليب، في إمداده وتأييده في ثورته ضد ملك الفرنج (1). بيد أنه يبدو من أقوال الرواية الفرنجية أنه وقعت على إثر ذلك مفاوضات بين عبد الرحمن وشارل الأصلع، انتهت بعقد الهدنة والسلم بينهما.

وفي نفس هذا العام نقض موسى بن موسى بن قسي (القسوي) العهد، وعاد

إلى الثورة، وعاث في أحواز تطيلة وطرسونة وبرجة من أعمال الثغر الأعلى،

وظاهره أخوه لأمه فرتون إنيجز (ابن ونقة) أمير بنبلونة، فبعث إليه عبد الرحمن جند الصائفة بقيادة عباس بن الوليد المعروف بالطبلي، فطاردته حتى أرهق وأعلن عوده إلى الطاعة، وقدم ولده إسماعيل رهينة كفالة بولائه، فقبل عبد الرحمن طاعته، وأقره على ولايته تطيلة، ودخل معه في هذا الصلح أخوه فرتون إنيجز (2).

وفي سنة 234 هـ (848 م) بعث عبد الرحمن قوة بحرية كبيرة إلى جزيرتي ميورقة ومنورقة وهما أكبر الجزائر الشرقية (جزائر البليار) لغزوهما، ومعاقبة

(1) وردت هذه الرواية في قطعة مخطوطة أخرى من تاريخ ابن حيان، عثرت بها في مكتبة القرويين بفاس، وحصلت منها على نسخة مصورة حسبما أشرت إلى ذلك من قبل. وهي التي تبدأ حوادثها منذ سنة 233هـ، وتنتهي بحوادث سنة 267هـ، وسوف نقتبس منها منذ الآن فصاعدا في مختلف المواطن التي نتناول حوادثها. (لوحة 189 ب من المخطوطة المذكورة).

(2)

لوحة 189 ب و190 أمن المخطوط المذكور، وهو يسمى هنا أمير بنبلونة بابن رنقة وهو تحريف، والصواب ابن ونقة Inequiz

ص: 265

أهلهما لتعرضهم لسفن المسلمين المجاهدين والإضرار بهم، فأخضعهما المسلمون وأثخنوا فيهما، وأصابوا كثيراً من السبي، وبعث أهلهما إلى الأمير يطلبون الأمان ودفع الجزية، ويتعهدون بالولاء والطاعة، فأجابهم إلى ما طلبوا. وكانت مياه اسبانيا الشرقية قد غدت منذ عهد هشام مركزاً للحملات البحرية المتجهة نحو الشمال والشرق، وكان قوام هذه الحملات في الغالب جماعات من البحارة والمجاهدين، الذين يجوبون هذه المياه طلباً للغنيمة والسبي، ويثخنون في الثغور والجزر النصرانية القريبة. ففي سنة 806 م (191 هـ) في عهد الحكم، غزت إحدى هذه الجماعات البحرية الأندلسية المغامرة جزيرة كورسيكا (قورسقة)، فبعث ببين ابن شارلمان ملك إيطاليا أسطولا لقتالهم، فهزموه واستولوا على كثير من الغنائم والسبي. ولم يمض عامان على ذلك، حتى عاد البحارة المسلمون إلى غزو شواطىء كورسيكا وسردانية، ثم توالت غزواتهم لها بعد ذلك. وفي سنة 836 م (221 هـ) خرج أسطول أندلسي من ثغر طرّكونة والجزائر الشرقية، وسار إلى مياه فرنسا الجنوبية، وهاجم المسلمون ثغر مرسيليا وما حوله من الأراضي وأثخنوا فيها. وكان على عرش فرنسا يومئذ لويس ابن شارلمان، وكان ملكاً ضعيفاً عاجزاً، فلما توفي سنة 840 م، اضطربت أحوال المملكة، وضعفت حماية الثغور، فانتهز البحارة المجاهدون هذه الفرصة، وغزوا ولاية بروفانس عند مصب نهر الرون، وهاجموا مدينة آرل وخربوها، ثم توالت غزواتهم في تلك المياه بعد ذلك، وكان من أثرها أن قامت مستعمرات عربية كثيرة في بروفانس وفي أنحاء أخرى في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا، وسوف نعود إلى حديث هذه المستعمرات العربية النائية في قلب أوربا.

وفي سنة 237 هـ (851 م)، اضطرمت الحرب في الشمال بين المسلمين والغسقونيين أو الجاشقيين كما تسميهم الرواية الإسلامية وهم فرع من البشكنس، وكان هؤلاء قد أغاروا على الأراضي الإسلامية المجاورة، في قاصية الثغر الأعلى، فتصدى لردهم موسى بن موسى والي تطيلة، وكان يومئذ على ولائه لحكومة قرطبة، ووقعت الحرب بين المسلمين والبشكنس، في جنوبي بنبلونة على مقربة من بقيرة، فهزم المسلمون أولا، وأثخن قائدهم موسى جراحاً، ولكنه أستأنف المعركة في اليوم التالي، وكر على العدو بشدة، فهزم البشكنس شر

ص: 266

هزيمة، وقتل منهم عدد جم، وتسمى هذه الموقعة في الرواية الإسلامية بموقعة البيضاء، وهي محلة صغيرة مجاورة لبقيرة (1).

* * *

وفي أواخر عهد عبد الرحمن، هبت على نصارى قرطبة ريح شديدة من التعصب، ولاحت في الأفق بوادر فتنة دينية واجتماعية خطيرة. ولم يك في نظم الحكم الإسلامي، ما يقصد إلى إيذاء النصارى المستظلين بلوائه، ولم تشذ حكومة قرطبة عن سياسة التسامح الإسلامي المأثور، ولم تحاول تدخلا في شئون النصارى الدينية أو تعرضاً لعقائدهم أو شعائرهم، بل كان النصارى في قرطبة وغيرها، أحراراً في عقائدهم وشعائرهم، والاحتكام إلى شرائعهم وقضاتهم، وكثيراً ما تبوأوا مناصب الثقة والمسئولية في الجيش وفي الإدارة، وكثيراً ما حاربوا مع إخوانهم المسلمين جنباً إلى جنب، وكانت أغلبية كثيرة منهم تشتغل بالتجارة في الثغور والمدن، ويشتغل عامتهم في ضياع المسلمين دون إكراه ولا عنت، وكانت منهم مجتمعات زاهرة رغدة في قرطبة وغيرها، بل كثيراً ما بهرتهم الفصاحة العربية فانطلقت بها ألسنتهم ووضعوا بها كتبهم، وكثيراً ما تخلقوا بأخلاق المسلمين وعاداتهم، ونهجوا نهجهم في الحياة الخاصة. بيد أنه كان ثمة فريق آخر من النصارى المتعصبين الذين يرون في سادتهم المسلمين أجانب غاصبين، معتدين على دينهم وأوطانهم، وكان أولئك الغلاة يبغضون إخوانهم من النصارى المعتدلين، ويرمونهم بالمروق والخيانة، وكان رجال الدين، وهم في الأصل مبعث التعصب ودعامته، يبذرون بذور الشقاق، ويضرمون نار الفتنة، ويوغرون قلوب الغلاة والمتطرفين، باسم الدين، وكانوا يبغضون المسلمين أشد البغض ويسخرون من دينهم ونبيهم، ويجاهرون بهذا التحامل والبغض للنبي العربي وتعاليمه، ويعتمدون في معرفتهم للإسلام ونبيه، على طائفة من الخرافات والأباطيل التي يتناقلها القسس في كل عصر ومكان. يقول دوزي:" ولم يك ثمة أيسر عليهم، وقد كانوا يعيشون بين المسلمين من الوقوف على الحقيقة، ولكنهم كانوا يرفضون أن يستقوا من المصادر التي كانت لديهم، وكان يسرهم أن يعتقدوا وأن يعيدوا كل الخرافات السخيفة التي أذيعت عن نبي مكة "(2).

(1) ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 193 أ. وبقيرة هي بالإسبانية Viguera.

(2)

Dozy: Hist، I.p. 317 et suiv. ويخصص دوزي لهذا البحث حيزاً كبيراً، وتحمله نزعة من التعصب في إيراد الوقائع ووصفها، وهو يعتمد هنا بالأخص على مصادر كنسية معاصرة.

ص: 267

ويقدم إلينا المستشرق سيمونيت، وهو عمدة العلماء الإسبان في الكتابة عن تاريخ (النصارى المعاهدين) Los Mozarabes التفاصيل الآتية، عما يصفه بأنه " البطولة التي تذرعت بها النصرانية في قرطبة في مقاومة فورات الإلحاد الإسلامي ".

ويرى سيمونيت أن قرطبة كانت من المعسكرات الرئيسية للحرب المدمرة التي شهرها الإسلام على النصرانية. وبالرغم عن أنه يعترف بأن الإسلام لبث مدى قرن يحتفظ بقدر من التسامح نحو المستعربين، وقت أن كان في حاجة إلى خدماتهم ومعاونتهم، فإنه يقول إن الإسلام لما شعر بقوته، لم يبد تسامحاً إزاء انتعاش الروح النصراني، الذي بدا يسيطر على فريق كبير من الشعب النصراني. ثم يتحدث سيمونيت بعد ذلك عن "المظالم وصنوف الاضطهاد التي كان النصارى يقاسونها، ليس فقط من عامة أهل قرطبة بل من حكومة قرطبة ذاتها ". ثم يقول: " وقد كانت هذه السياسة منافية للعهود والقوانين التي منحت للوطنيين (الإسبان) أيام الفتح. وقد كان الطغيان الإسلامي شديد الوطأة على ضمائر النصارى الوطنيين وأملاكهم وكرامتهم معاً ".

وينعى سيمونيت على أمراء قرطبة، أنهم احتفظوا بحقوق وامتيازات ضد النصارى لإخضاعهم، وأنهم كانوا مثل القوط يدعون لأنفسهم حق تعيين الأساقفة وعزلهم، وحق عقد المجالس الدينية التي يمثلهم فيها بعض المسلمين أو النصارى المرتدين، ويسندون وظائف الأساقفة في أحيان كثيرة إلى رجال من طراز منحط، يملقون الأمراء ويخدمونهم.

ولم يك استبداد الأمراء أقل وطأة على أملاك المستعربين وثرواتهم، إذ كانوا حرصاً على سلامتهم يؤدون للخزانة مزايا عظيمة، في شكل جزية وضرائب تنبو عن طاقتهم. وقد كان تسامح المسلمين لايغتنم في الظروف العادية إلا بالعرق والدم. ثم جاءت الأيام التي كان يقاسي فيها النصارى كل شىء، ليحتفظوا بحرية دينهم، وينتزع كل يوم منهم مغارم أكبر، هذا فضلا عن الضرائب العادية، وقد كانت فادحة في ذاتها تفرض عليهم بمختلف الحجج والأعذار.

وقد وصلت هذه المغارم إلى ذروتها في عصر عبد الرحمن الثاني الأمير الباذخ، ومحمد الأول الأمير القاسي، الذي حصل من نصارى قرطبة بواسطة الكونت سواندا على مبلغ مائة ألف " سويلدو ".

ص: 268

ويتحدث سيمونيت بعد ذلك عن تعصب المسلمين، ويقول إن تعصب العرب ضد الأجانب وامتهانهم لهم، وصل إلى الذروة في النصف الأول من القرن التاسع، وكذا وصل إلى الذروة تزمت البربر الوحشي، وتزمت الإسبان المسلمين (المولدين) الذين اتخذوا الارتداد عن دينهم سبيلا إلى بلوغ الرخاء، وكانوا لكي يمحوا ذكرى أصولهم المسيحية، أشد تعصباً ضد النصارى من المسلمين أنفسهم. كان هؤلاء وهؤلاء يمعنون في إهانة النصارى واضطهادهم بشتى المظاهر، ولاسيما رجال الدين والقساوسة، وكانت موجة هذا الاضطهاد تشتد كلما جاءت الأخبار بانتصار نصارى الشمال، أو قيام المولدين في طليطلة أو غيرها.

هكذا يتحدث سيمونيت عن "تعصب" المسلمين ضد رعاياهم وإخوانهم النصارى المعاهدين. ومع ذلك فإن سيمونيت يعترف بأن كثيراً من نصارى قرطبة، كانوا يخدمون في الجيش الإسلامي جنداً أو ضباطاً، وأن كثيراً منهم وصل إلى وظائف هامة في البلاط والقصر الملكي، وفي قصور أكابر المسلمين. ويصف سيمونيت تأثير المجتمع الإسلامي، وعظمته ولغته وتقاليده، في نفوس النصارى في قوله:

" هذا، وقد كان يأسر الشباب النصراني مظهر العظمة المادية والحضارية، التي تفوقت بها قرطبة المسلمة على قرطبة النصرانية، وما كانت تقترن به هذه العظمة من المظاهر الأدبية والفنية، التي بثها عبد الرحمن بحبه للشعر والفلسفة والموسيقى.

وكان من مظاهر تأثر الشباب النصراني أنهم كانوا يكتبون ويتكلمون العربية، محتقرين دراسة اللغة والآداب اللاتينية، وهو أمر كان شديد الخطر على وطنيتهم ودينهم.

وفي النصف الأول من القرن التاسع، لم تكن اللغة والآداب العربية فقط، بل وكذلك الأفكار والتقاليد الإسلامية، قد انتشرت بين المستعربين الإسبان. وهذا ما تشير إليه وثيقة هامة كتبها نصراني قرطبي معاصر هو ألبرو القرطبي Alvaro Cordubense في سنة 854 م عنوانها Indicalo Luminoso، وفيها يصف بقوة وبلاغة، الذعر الذي أصاب " الأشراف الكرماء البواسل الذين كانوا يحتفظون بالعاطفة المسيحية والوطنية الإسبانية "، وكيف أن شباناً من

ص: 269

النصارى يمتلئون حياة وقوة وفصاحة، يتقنون اللغة العربية، ويبحثون بشغف عن الكتب العربية ويدرسونها بعناية، ويمتدحونها بحماسة، هذا في حين أنهم يجهلون جمال الآداب الكنسية، ثم يبدي ألمه من أن النصارى يجهلون شريعتهم ولغتهم اللاتينية، وينسون لغتهم القومية (1).

وهذه التفاصيل التي يقدمها إلينا العلامة سيمونيت عن أحوال المجتمع النصراني في قرطبة، هي تفاصيل مفيدة قيمة، ولكنها تنم عن كثير من التحامل، وتصور وجهة نظر الكنيسة بأسلوب مغرق متزمت. وهي تغضي عن تلك الحقيقة الهامة، وهي أن النصارى المستعربين وهم من رعايا الحكومة الإسلامية، ويتمتعون تقريباً بكامل حقوق إخوانهم المسلمين، يدينون لهذه الحكومة بالطاعة، واحترام القانون والنظام. ولئن كانت ثمة بعض قيود لحقوقهم، فإن سن هذه القيود لا يرجع إلى عدم التسامح، ولكنه يرجع إلى روح العصر ذاته.

بيد أن العوامل الدينية لم تكن وحدها مبعث هذا التحامل، الذي يضطرم به نصارى قرطبة نحو الحكومة الإسلامية، بل كان للعوامل الاجتماعية أيضاً أثرها في إذكائه. ذلك أن القسس والمتعصبين كان يحفظهم ويثيرهم، ما يحيط بالحكم الإسلامي من مظاهر الإعزاز والسؤدد، وما تبديه الهيئة الحاكمة من مظاهر الأبهة والفخامة، وما ينعم به المجتمع الإسلامي، من حياة رغدة رفيعة. وكان يذكي هذا الحقد في نفوسهم ما يعانونه من خشونة عامة قرطبة وتعريضهم وتحاملهم. وهكذا بلغ تعصب النصارى أقصاه في عهد عبد الرحمن، وبدا منذراً بشر العواقب. وكان في وسع أولئك المتعصبين في المدن البعيدة عن قرطبة مثل طليطلة وغيرها، أن يرفعوا علم الثورة، وأن يقاتلوا حكامهم وجهاً لوجه، ولكن الثورة في قرطبة كانت أمراً عسيراً. فحاولوا عندئذ أن يبثوا بذور الفتنة الطائفية والفوضى الدينية والاجتماعية، وأن يحاولوا الاستشهاد بطريق الاشتباك والتحدي.

وعمد القسس والمتعصبون إلى تحقيق غايتهم بوسيلة بسيطة خطيرة معاً، وهي المجاهرة بسب النبي العربي ودينه، وهي جريمة شنعاء تعرض مرتكبيها لعقوبة الموت، وأخذ بعض الغلاة من القسس والمتعصبين الهائمين ينزلقون عامدين إلى

(1) راجع هذا الفصل في مؤلف سيمونيت الضخم: Historia de los Mozarabes de Espana.Vol.I.p. 258-272

ص: 270

هذا المنحدر الخطر، ويوجهون السب المثير إلى النبي العربي في الطرقات جهراً، فإذا أخذوا أمام القضاة كرروا سبابهم بمنتهى الإصرار والجرأة. وحاول القضاة في البداية استعمال الرفق واللين، وإقناع أولئك العابثين بالعدول عن أقوالهم، ولكنهم ألفوا أنفسهم أمام سلسلة مدبرة من الجرائم المماثلة، فلم يترددوا عندئذ في الحكم على القاذفين بالموت، وهكذا أزهق بتلك الطريقة عدة من القسس والمتعصبين في فترة وجيزة من صيف سنة 851 م (237هـ)، وكان الأحبار يكرمون رفات القتلى، ويسبغون عليهم صفة الشهداء، ويزيدون بذلك في اضطرام الفتنة. وكان في مقدمة المنظمين لهذه الحركة قس من قرطبة يدعى "أولوخيو"، كان يعمل على تحريض أولئك "الشهداء" المزعومين، ودفعهم إلى براثن الموت.

ويصف لنا العلامة المتزن ألتاميرا، تلك المؤامرة المنظمة فيما يأتي:" اتبع الأمراء المسلمون سياسة التسامح الديني منذ الفتح. وكان أشراف العرب يحترمون النصارى، ولكنهم لم يستطيعوا منع الدهماء في أوقات الحماسة المغرقة، من إهانة القسس حينما يسيرون في الشوارع فرادى أو في مواكبهم. وكانت هذه الحوادث وأمثالها تثير سخط النصارى، وأدى ذلك بمضي الزمن إلى حقد الورعين ولاسيما القساوسة. وحاول النصارى عن طريق آخر، أن يحدثوا فورات تحطم النير الإسلامي. فطلبوا الاستشهاد بالطعن في محمد أمام الناس والسلطات، وأعدموا لأن القانون يعاقب بالموت على ذلك. ولم يقتصر الاندفاع في ذلك الطريق على المدنيين، بل اندفع فيه كذلك قساوسة عقلاء مسالمون، وكان من هؤلاء أولوخيو وألبارو، ولم يجد هؤلاء طريقة أفضل للاحتجاج على الإسلام من الطعن فيه، وتقديم حياتهم قرباناً للدين الكاثوليكي "(1). وأدرك عبد الرحمن دقة الموقف وخطورته، ورأى أن يعالجه بالحزم والتفاهم معاً، فاستدعى مجلساً من الأساقفة، عقد في قرطبة برآسة ريكافرد مطران إشبيلية، ومثل الأمير فيه أحد كتابه النصارى، وهو جومث بن أنطونيان بن خوليان عامل أهل الذمة (2)، وشرح للأساقفة

(1) R.Altamira: Hist.de Espana ، Vol.I.p. 230

(2)

ويسميه ابن القوطية قومس بن انتنيان بن يليانة وقد اعتنق الإسلام فيما بعد (ص 83). وكذلك يذكره الخشني في كتاب قضاة قرطبة ويسميه أيضاً قومس بن انتنيان. راجع كتاب قضاة قرطبة (القاهرة) ص 111.

ص: 271

ما يمكن أن يترتب على أعمال المتطرفين وسبهم للنبي من العواقب الخطيرة بالنسبة للنصارى. ولم يعترض المجلس على مبدأ الاستشهاد في ذاته، ولكنه أصدر قراره باستهجان مسلك أولئك المتطرفين، وتحذير النصارى المخلصين من حذو مسلكهم، ووجوب اعتقال كل مخالف (1). ولكن قرار الأساقفة لم يكف لتسكين فورة التعصب المزبد، وتمادى المتطرفون أنصار أولوخيو في غيهم، وزج إلى السجن منهم كثيرون، ومنهم أولوخيو نفسه، وكان بين المعتقلين بضع فتيات مسلمات بمولدهن من آباء مسلمين وأمهات نصارى، ولكن أضلهن الأمهات والقسس، ودفعن إلى التنصر وسب النبي، وكان منهن فتاة رائعة الحسن تدعى فلورا، عرفها أولوخيو وهام بها حباً.

وقصة هذه الفتاة حسبما يرويها سيمونيت، توضح لنا طريقة التحدي والاستثارة التي اتبعها المتطرفون لإحداث الشغب. فقد كانت فلورا ابنة مسلم من زوجه النصرانية، وتوفي أبوها وهي ما تزال طفلة، فربتها أمها على مبادىء المسيحية.

وكانت بالرغم من جمالها تبدي تحفظاً ونسكاً، وتزور الكنائس خفية لخوفها من أخيها الأكبر، وهو مسلم شديد التعصب. ثم فرت من دار أهلها، وتتبعها أخوها في كل مكان، فعادت إلى منزلها، وأعلنت لأخيها تمسكها بدين النصرانية، ولم ينجع في ردها الضرب والوعيد. فأخذها أخوها إلى القاضي، وأبلغه بأن أخته القاصر قد ضلت واعتنقت الدين المسيحي، وأنها تسب النبي ودينه، واعترفت فلورا بأنها نصرانية منذ طفولتها، ومتمسكة بدينها. ومع أن هذا الاعتراف بالردة يستحق عقوبة الموت، فإن القاضي اكتفى بتقرير ضربها ضرباً مبرحاً، أملا في أن تعود إلى صوابها. فاحتملت الفتاة العقوبة بجلد، وحملت إلى دارها منهوكة القوى، وصبرت أياماً حتى برئت من مرضها، ثم فرت من الدار ذات ليلة، وسارت هائمة على وجهها، حتى لجأت إلى دار نصراني في بلدة " مرتش " القريبة، والظاهر أن القس أولوخيو رآها هنالك، وأعجب بجمالها وحشمتها وورعها، وشعر نحوها بحب سماوي عميق.

ثم عادت فلورا بعد حين إلى قرطبة مواجهة كل خطر، معتزمة الاستشهاد، ولجأت إلى كنيسة سان إثيسكولو، وكانت قد لجأت إليها أيضاً فتاة نصرانية

(1) Dozy: ibid ، Vol.I.p. 340

ص: 272

أخرى تدعى ماريا، وكانت إبنة رجل نصراني من لبلة، وأم مسلمة تنصرت.

وربيت ماريا في الدير تربية دينية خالصة، كما ربى أخوها الأكبر فيه. ولما توفي أخوها وجدت عليه وجداً شديداً، وسارت إلى قرطبة تبغى الاستشهاد، ولجأت إلى نفس الكنيسة التي لجأت إليها فلورا. واعتزمت الفتاتان أمرهما وذهبتا إلى دار القضاء، وقالت فلورا للقاضي إنها إبنة مسلم، ولكنها اعتنقت النصرانية وأخلصت لها، وأن المسيح هو الإله الحق، وأن النبي محمد، هو نبى زائف

الخ (1). وكذلك قالت ماريا إنها تؤكد من كل قلبها أن يسوع هو الرب الحقيقي، وأن الإسلام دين الشيطان. فأمر القاضي بإيداعهما السجن. وكان فيه بطريق الصدفة أولوخيو مقضياً بحبسه أيضاً، فعكف على وعظ الفتاتين، وحثهما على الاستشهاد في سبيل المسيح.

وحاول القاضي نصح الفتاتين، ولكنهما أصرتا على موقفهما وعلى مطاعنهما.

وأخيراً أصدر القاضي حكمه بإعدامهما، وذلك في 24 نوفمبر سنة 851، وأخذتا إلى ساحة الإعدام، وهنالك أبدت كلتاهما إشارة الصليب، ثم أعدمتا بقطع الرأس، وألقيت جثتاهما إلى النهر، واستطاع النصارى العثور على جثة ماريا وحدها، فأخذوها مع رأسي الفتاتين. ونظمت فلورا فيما بعد في سلك القديسين (2).

هكذا يروي سيمونيت قصة فلورا وزميلتها، ومهما كان في أسلوبه من رواء القصة المشجية، فإن في وقائعها ما يلقي ضوءاً على خيوط المؤامرة التي دبرها نصارى قرطبة، وفي مقدمتهم القسس، لإثارة الفتنة الطائفية والإخلال بالنظام والأمن، وهي محاولة لا يمكن لأية حكومة منظمة أن تغضي عنها.

واستمرت هذه الفتنة المضطرمة مدى حين، وتذرعت حكومة قرطبة في إخمادها بالحزم والشدة، وزهق من المتعصبين عدة أخر، ومن بينهم أولوخيو الذي نظمه النصارى فيما بعد في ثبت " القديسين ".

وهكذا شغل عبد الرحمن في أواخر عهده بتلك الفتنة الدينية الخطيرة، ولكن المتعصبين لم يحققوا منها ما أملوا، وكانت بالعكس مثار السخط والإنكار من جانب النصارى المعتدلين، الذين يقدرون تسامح الحكومة الإسلامية ورفقها ورعايتها.

* * *

(1) لم نر مجالا لإيراد بقية المطاعن التي أوردها سيمونيت على لسان فلورا وهي مطاعن مقذعة.

(2)

Simonet: Hist.de los Mozarabes، Vol.I.p. 413-422

ص: 273

وتوفي عبد الرحمن بن الحكم في الثالث من ربيع الثاني سنة 238هـ (23 سبتمبر 852 م) في الثانية والستين من عمره، بعد أن حكم إحدى وثلاثين عاماً وبضعة أشهر. وكان أسمر طويلا، وسيم المحيا، أشم، أقنى، أعين، أسود العينين، بهي الطلعة، بهيج الزي، كبير اللحية. نقش خاتمه:" عبد الرحمن بقضاء الله راض "(1)، ويكنى أبا المطرِّف، ويعرف بعبد الرحمن الأوسط أو الثاني، والأول هو جده عبد الرحمن الداخل، والثالث هو عبد الرحمن الناصر. وكان مثل أبيه الحكم، أميراً وافر البأس والعزم، رفيع الخلال، يسمو بمكانته ويحتجب عن العامة، ويعشق مظاهر البذخ والفخامة. وفي عهده وصل البلاط الأموي إلى درجة لم تسبق من البهاء والروعة، وبدت الأرستقراطية العربية في أبدع مظاهرها، وسطعت الفروسية الأندلسية، وتجلت خلالها الباهرة التي غدت فيما بعد مثلا يحتذى في مجتمعات العصور الوسطى، وعنها اقتبست فروسة النصرانية فيما تلا من العصور. ورتبت رسوم المملكة أبدع ترتيب، ورفع من شأن الوظائف العامة، وأحيطت بسياج من الهيبة والمسئولية، وجعل " أحكام السوق " منصباً مستقلا عن ولاية المدينة، واتبعت رسوم الخلفاء في الزينة والشكل وترتيب الخدمة (2)، ووضعت خطة الوزارة المنظمة.

وتنوه الرواية الإسلامية بمقدرة عبد الرحمن، وحسن اختياره لرجالات حكومته. فيقول لنا الرازي:" وانتقى الرجال للأعمال، واستوزر الأكفاء، من أهل الاكتفاء، وقدوة الأبطال ذوي الغناء، فظهر في أيامه جلة الوزراء وكبار الفقهاء ". وكان من وزرائه عدة من أعظم وألمع رجالات العصر، مثل الحاجب عبد الكريم، والقائد عيسى بن شُهيد، ويوسف بن بخت، وهاشم بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن رستم، وحسن بن عبد الغافر بن أبي عبده، ومحمد بن السليم، ومحمد بن عبد السلام بن بسيل، وعبد الواحد بن يزيد الإسكندرانى، وغيرهم. وكان الوزراء يختلفون إلى القصر بطريقة منظمة للبحث والمداولة وإبرام الشئون في جناح خاص، سمي " بيت الوزارء "، وانتهت

(1) ابن الأثير ج 7 ص 22؛ وابن حيان عن الرازي، المخطوطة الأولى ص 111؛ والثانية لوحة 194 ب.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 61؛ والبيان المغرب ج 2 ص93.

ص: 274

أرزاق الوزراء يومئذ إلى ثلاثمائة وخمسين ديناراً في الشهر (1).

وتفيض الرواية في مناقب هذه الجمهرة من الوزارء والقادة، الذين اجتمعوا في بلاط عبد الرحمن بن الحكم، وتصفهم بأنهم "عصابة من سراة الوزراء، أولى الحلوم والنهي، لم يجتمع مثلها عند أحد من الخلفاء قبلهم ولابعدهم ". ويتقدم هذا الثبت الحافل رجلان، كان لهما في تنظيم حكومة عبد الرحمن وسياسته أعظم الأثر، أولهما الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث حاجب أبيه الحكم من قبل، وهو الذي يصفه الرازي بأنه " أكمل من حمل هذا الاسم، وأجمعهم لكل جملة حسنة ".

وكان عبد الكريم، فضلا عن براعته الإدارية، مثل جده مغيث فاتح قرطبة، من أعظم قادة هذا العصر، وقد قاد حسبما تقدم في مواضعه، عدة من الحملات الغازية المظفرة. ولما توفي في سنة 209 هـ (824 م) خلفه في الحجابة سفيان بن عبد ربه وهو من البربر، ولم تكن له نباهة سابقة، ثم عيسى بن شُهيد، وهو ثانى الرجلان. وكان عيسى من أعيان موالي بني أمية، وكان أيضاً من وزراء الحكم، أوصى به ولده عبد الرحمن، فلما ولى الأمر قدمه على خاصته، ثم ولاه خطة الخيل، ثم خلع عليه رتبة الوزارة، وعهد إليه بالنظر في المظالم، وتنفيذ الأحكام على طبقات أهل المملكة. ثم ولاه الحجابة بعد سفيان. واشتهر عيسى بالحلم والوقار وحصافة الرأي، والمعرفة والجزالة، وقاد كثيراً من الصوائف المظفرة. بيد أنه استهدف لخصومة الفتى نصر الخصي المسيطر على شئون القصر، والأثير لدى الأمير بمظاهرته لحظيته طروب، فلبث يدس له ويعمل على إقصائه من الحجابة، حتى تم له ذلك، حينما مرض عبد الرحمن وطال احتجابه. وعين مكانه للحجابة عبد الرحمن بن رستم. فلما أبل الأمير من مرضه أنكر ما وقع، وأنحى باللائمة على نصر، وأعاد عيسى بن شهيد إلى الحجابة، فلم يزل على حجابته حتى توفي عبد الرحمن. قال ابن القوطية: " لم يختلف أحد من شيوخ الأندلس في أنه ما خدم ملوك بني أمية فيها أحد أكرم من عيسى بن شهيد غاية، ولا أكرم اصطناعاً، ولا أدعى لذمته. ولقد كان الحاجب قبله عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث بهذه الصفة، على زيادة خصاله وأدواته على عيسى،

(1) ابن القوطية ص 61، و62، وكذلك مخطوط ابن حيان ص 144. ومخطوط القرويين لوحة 196 أ.

ص: 275

إلا في باب كرم الصنيعة واستتمامها، فلم يك تفصله درجة " (1).

وتولى الكتابة للأمير عبد الرحمن عدة من الكتاب المبرزين، في مقدمتهم الحاجب عبد الكريم، وقد كان أيضاً كاتباً بليغاً وشاعراً جزلاً، وعبد الله بن محمد ابن أمية بن أبي حوثرة، ومحمد بن أبي سليمان الزجالي وهو من برابرة نفزة، وكان كاتباً بارعاً، واشتهر بقوته في الحفظ حتى أنه سمي " بالأصمعي "، واشتهر أبناؤه من بعده في ميدان الكتابة.

وكان ممن كتبوا للأمير عبد الرحمن أيضاً الأسقف جومث (قومس) بن أنطونيان عامل أهل الذمة، وكان أديباً بارعاً، وكاتباً مقتدراً، وكان عبد الرحمن يعهد إليه بالمهام الخطيرة، وخدم من بعده ولده الأمير محمد (2).

واجتمعت في عهد الأمير عبد الرحمن أيضا جمهرة من جلة الفقهاء والقضاة، رحل معظمهم إلى المشرق في طلب العلم وانتقاء الرواية، ومن هؤلاء محمد بن يوسف بن مطروح، ومحمد بن حارث، وعبد الأعلى بن وهب، وبقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح، ويحيى بن إبراهيم بن مدين، وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى. وقد اشتهر بعض هؤلاء من قبل في عهد أبيه الحكم. وكان يتقدم هذه الجمهرة من الفقهاء في المكانة والنفوذ، عبد الأعلى بن وهب، ويحيى ابن يحيى، وعبد الملك بن حبيب. وكان يحيى بن يحيى عميد الفقهاء وشيخ قرطبة الأول، وأصله من برابرة مصمودة، ودرس في المشرق على مالك، والليث بن سعد وابن وهب وغيرهم، وتولى الفتيا بعد عيسى بن دينار، ولبث حتى وفاته في سنة 234هـ يتبوأ أسمى مكانة. وكان ممن اهتموا بالتحريض على ثورة الربض وفر عقب إخماد الثورة إلى طليطلة، ثم استأمن الحكم فأمنه وعاد إلى قرطبة.

وخلفه في علمه ومكانته عبد الملك بن حبيب، وغدا أثير الأمير، لا يقدم عليه أحداً، ولا يعدل بمشورته أحد. وكان عبد الملك فوق براعته في الفقه والحديث، متقدماً في علوم اللغة، والعلوم القديمة، بارعاً في الأدب، وكتب كتباً في إعراب القرآن وشرح الحديث وفي الأنساب وغيرها (3).

(1) تاريخ ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 196 أوب و197 أو 198 أ.

(2)

راجع قضاة قرطبة للخشني ص 111.

(3)

تاريخ ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 201 ب و 202 أ.

ص: 276

ويخصص ابن حيان لذكر قضاة عبد الرحمن، وأخبارهم، ونوادرهم والتعريف بهم، نبذاً طويلة رأينا أن نكتفي بالإشارة إليها (1).

وحذا عبد الرحمن حذو أبيه أيضاً، في اصطفاء الموالي والصقالبة، وابتاع أنصبة أخوته من مماليك أبيه " العجم "، وكانوا خمسة آلاف مملوك، ثلاثة آلاف فارس يرابطون إزاء باب القصر، فوق الرصيف، وألفا رجل على أبواب القصر وكانوا يسمون " الخرص " لعجمتهم (2). وسما نفوذ الفتيان يومئذ في البلاط، وكان زعيمهم الفتى نصر المتصرف في شئون القصر الخاص، وكان يتمتع بأعظم نفوذ في القصر والدولة، بمؤازرة طروب جارية عبد الرحمن.

وكان نصر هذا ويكنى أبو الفتوح، من الفتيان المختارين الذين اشتهروا بالجمال والظرف، وأمر الحكم بخصيهم، وأصله من أبناء الأحرار الذين حشدوا للخدمة داخل القصر، وكان أبوه من أسالمة أهل الذمة (المولدين) من أهل قرمونة (3).

ولما ولي عبد الرحمن، قدمه على سائر خاصته، وغدا مدبر أمر داره، ومشاركاً لأكابر وزرائه في تصريف الشئون. وتضاعف نفوذه ومكانته بمحالفته لجارية عبد الرحمن الأثيرة طروب، صاحبة النفوذ القوي. وكان من أشهر أعمال نصر قيادته لجيوش الأندلس التي حشدت لمقاتلة النورمانيين في أراضي إشبيلية، وانتصاره عليهم. واستمر نجم نصر في صعود، ونفوذه في تمكن، حتى غدا أعظم رجال الدولة، وأمضاهم أمراً؛ وكان مرهوب الجانب، يخشاه الأكابر والخاصة.

توفي فجأة في أواخر سنة 233هـ (848 م)، " أرقى ما كان في غلوائه، وأطمع ما هو بالاحتواء على أمر سلطانه، أرهب ما كان الناس له، وأخوفهم لعدوانه، إذ نال من أثرة مولاه الأمير عبد الرحمن واصطفائه، فوق ما ناله خادم خاص، مع أمير رشيد ". فتنفس الناس الصعداء، وسروا لوفاته، والتخلص من طغيانه (4).

(1) مخطوط القرويين اللوحات 202 أحتى 211 أ.

(2)

مخطوط ابن حيان ص 145.

(3)

ابن حزم في رسالة نقط العروس ص 73. ويقول ابن حزم إن نصراً هذا هو الذي تنسب إليه " منية نصر " وهي ضاحية جميلة كانت تقع على النهر، على مسافة قصيرة من شرقي قرطبة.

(4)

تاريخ ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 191 ب.

ص: 277

واستكثر عبد الرحمن أيضاً من اقتناء الجواري الحسان، وكان كلفاً شديد الشغف بهن، وكان يعني باختيارهن من أطيب العناصر والأصول، واجتمعت لديه منهن نخبة بارعة في الحسن والخلال، مثل طروب أم ولده عبد الله، ومؤمرة أم ولده المنذر، وشفاء أم ولده المطرِّف، وفخر ومتعة وغيرهن، وأنجب عبد الرحمن من الولد عدداً ضخماً بلغ وفقاً لابن حزم مائة، خمسين من الذكور، ومثلهم من الإناث، وذكر الرازي أن عدد أولاده من الذكور أربعون، وسماهم واحداً واحداً، وأن عدد بناته ثلاثة وأربعون، ذكر أسماءهن جميعاً (1). وبلغ الجواري كالفتيان من النفوذ مبلغاً عظيماً. واشتهرت من بينهن طروب حظية عبد الرحمن الأثيرة لديه، وقد اشتد نفوذها في أواخر أيامه، وظاهرت نصراً الفتى، فكانت لهما الكلمة النافذة في معظم الشئون، وكان عبد الرحمن يشغف بها أعظم شغف، وهو القائل فيها:

إذا ما بدت لى شمس النها

ر طالعة ذكرتني طروبا

وعنى عبد الرحمن بالمنشآت العامة أعظم عناية، فزاد في مسجد قرطبة الجامع بهوين جديدين من جانب القبلة، وقام على عمارته الفتى نصر. وما زال هذا الجامع الشهير قائماً إلى اليوم بسائر عقوده الإسلامية، وأروقته ومحاريبه. ولكنه حول منذ القرن السادس عشر إلى كنيسة قرطبة العظمى (كتدرائية)، وبالرغم من أن الهياكل قد أقيمت في سائر عقوده الجانبية، وأقيم في وسطه مصلى عظيم على شكل صليب، فإنه ما زال يحمل بالإسبانية اسمه الإسلامي القديم " المسجد الجامع " Mezqnita Aljama La، وقد أزيلت قبابه ومعظم زخارفه الإسلامية، لتحل مكانها الزخارف النصرانية. ولكن محاريبه الفخمة، مازالت تحتفظ بنقوشها الإسلامية، وآياتها القرآنية.

ويقع جامع قرطبة في طرف المدينة الجنوبي وسط شبكة من الدروب الأندلسية القديمة، على مقربة من القنطرة الرومانية العربية القائمة على نهر الوادي الكبير.

ويبلغ طوله 185 متراً وعرضه 135 متراً. وله عدة أبواب كبيرة فخمة، مازالت تحتفظ بكثير من نقوشها الإسلامية. ويعرف بابه الرئيسي المقابل لصحنه

(1) راجع جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة)، ص 90، وابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 194 ب و195 أ.

ص: 278

" بباب النخيل " Puerta de las Palmas، ويقع صحنه في ناحيته الشمالية ويعرف بفناء النارنج Patio de los Naranjos، وهو صحن مستطيل شاسع يزدان بعدد من أشجار البرتقال (أو النارنج)، وهو الآن صحن الكنيسة. وقد هدمت منارة الجامع، وهي التي أقامها عبد الرحمن الناصر بجوار الصحن، وأقيم مكانها برج الأجراس الحالي (1).

وأنشأ عبد الرحمن أيضاً مسجد إشبيلية الجامع، كما ابتنى سورها الكبير عقب غزو النورمانيين لها، ووضع نظاماً جديداً للسِّكة وجعلها أندلسية مستقلة، بقيم وأوزان جديدة. وكان أهل الأندلس يتعاملون من قبل بما يحمل إليهم من نقد المشرق، أو بنقود تسك على نظامه، في دار السكة التي أنشأها عبد الرحمن الداخل. وأنشأ أجنحة ومشارف عديدة للقصر، وجلب إليه الماء العذب من قنن الجبال، وأنشأ على النهر الأعظم مما يلي سور القصر والمدينة رصيفاً عظيماً (2). كما أنشأ بقرطبة عدة من الحدائق الغناء. وحذت جواريه حذوه، فأنشأن في قرطبة

عدة مساجد سميت بأسمائهن.

ويشير سيمونيت إلى عظمة قرطبة في عصر عبد الرحمن ويقول " إن عبد الرحمن كان يعشق البذخ الطائل، وفي عهده حفلت قرطبة بطائفة من المساجد والقصور والقناطر والمنشآت المختلفة. وقد وصف قرطبة وعظمتها في عهده نصراني معاصر شهير وهو سان أولوخيو، إذ يقول إن عبد الرحمن أسبغ على عاصمة مملكته لوناً خارقاً من العظمة، ورفع من ذكرها، وأفاض عليها حلل المجد، وأغدق عليها الثروات، وملأها بجميع مظاهر المتعة الدنيوية إلى حدود لا تصدق "(3).

وكانت أيام عبد الرحمن أيام سكينة وأمن ورخاء، وفيها ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة، وورد على الأندلس كثير من الأمتعة والسلع الفاخرة، وزخرت الأسواق بالبضائع. وزاد الدخل زيادة عظيمة، وبلغت الجباية وحدها

(1) راجع وصفاً مسهباً لجامع قرطبة وتاريخه وخواصه الأثرية في كتابي: " الآثار الأندلسية الباقية في اسبانيا والبرتغال "(الطبعة الثانية) ص 20 - 34.

(2)

كان القصر الأموي القديم يقع على ضفة النهر على مقربة من الجامع، ويحتل موقعه اليوم القصر الأسقفي والسجن المحلي، والحدائق المجاورة التي ما زالت إلى اليوم، تسمى حدائق القصر Huertas del Alcazar، والمرجح أنها تقوم مكان حدائق القصر القديمة.

(3)

Simonet: ibid ، Vol.I.p. 366

ص: 279

زهاء ألف ألف دينار في السنة، واستطاع الأمير أن ينفق بسخاء على تسيير الحملات الغازية، وإقامة المنشآت المختلفة (1).

وكان عبد الرحمن بن الحكم أديباً حسن التثقيف، وكاتباً بليغاً مشرق البيان،

عالما بالشريعة والحكمة (الفلسفة)، مجيداً للنظم، نصيراً للعلوم والآداب، يحتشد

حوله جمهرة من أكابر العلماء والأدباء والشعراء، مثل العلامة الرياضي والفلكي

عباس بن فرناس، ويحيى الغزال، وشاعره الخاص عبد الله بن الشمر بن نمير،

وكان صديقه مذ كان ولياً للعهد، وكان بارعاً في الأدب والشعر والمنطق والتنجيم،

وكان يكشف لعبد الرحمن نجمه وطالعه (2)، وعباس بن ناصح الجزيري شاعر

أبيه الحكم، وعبيد الله بن قرلمان بن بدر مولى الداخل، وكان من جلسائه

وخاصته وكان أديباً بارعاً، وشاعراً مجيداً. وغيرهم. ومن نظمه قوله:

ولقد تعارض أوجه لأوامر

فيقودها التوفيق نحو صوابها

والشيخ أن يحو النهي بتجارب

فشباب رأي القوم عند شبابها

وقوله وقد خرج غازياً إلى جلّيقية:

فكم قد تخطيت من سبسب

ولاقيت بعد دروب دروبا

ألاقي بوجهي سموم الهجـ

ـير إذ كاد منه الحصى أن يذوبا

تدارك بي الله دين الهدى

فأحييته وأمتُّ الصليبا

وسرت إلى الشرك في جحفل

ملأت الحزون بها والسهوبا

ومن قوله في الغزل:

قتلتني بهواكا

وما أحب سواكا

من لي بسحر جفون

تديره عيناكا

وحمرة في بياض

تكسي به وجنتاكا

أعطف علي قليلا

واحيني برضاكا

فقد قنعت وحسبي

أن أرى من رآكا

(1) راجع ابن القوطية ص 67، وابن الأبار ص 61، والبيان المغرب ج 2 ص 93 و94، وأخبار مجموعة ص 136، ونفح الطيب ج 1 ص 162 و163؛ وابن الأثير ج 7 ص 22؛ وفي مخطوط ابن حيان عما تقدم نبذ وتفاصيل حسنة (ص 138 و142 و144).

(2)

مخطوط ابن حيان ص 156 و157.

ص: 280

واشتهر عبد الرحمن بحنوه الجم على قرابته وذوي رحمه بدرجة لم يجاره فيها أحد من أهل بيته، فكان يوليهم وافر عطفه، ويجري عليهم الصلات السخية. وفي أيامه وفد من المشرق على الأندلس عدد من قرابته المروانية (بنى أمية)، فاستقبلهم جميعا أجمل استقبال، وأنزلهم أكرم منزل، وأجرى عليهم الأرزاق والإقطاعات الواسعة.

وكان عبد الرحمن يعشق الفلك والتنجيم، ويشغف بدراسته، وكان العلامة الرياضي ابن فرناس، وعبيد الله بن الشمر، وعبد الواحد بن إسحاق الضبي من أساتذته في ذلك الفن، وكان يقربهم ويجري عليهم الأرزاق الواسعة، وله معهم قصص ونوادر كثيرة. وكان أيضا يعشق الغناء والموسيقى، ويجمع حوله عدداً من أكابر الفنانين يجري عليهم الأرزاق الواسعة. ووفد عليه من المشرق أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب نابغة الغناء والموسيقى، وكان زرياب من تلاميذ الفنان الشهير إسحاق الموصلي مغني الرشيد، فلما ظهر نبوغه وشعر أبو إسحاق بخطورة منافسته، تحيل في صرفه وإبعاده، فغادر بغداد إلى المغرب، وكتب إلى الحكم أمير الأندلس يستأذنه في الوفود عليه. فأذن له واستدعاه، ولكن زرياب ما كاد يصل إلى المغرب حتى علم بوفاة الحكم، وكاد ينثني عن عزمه في العبور إلى الأندلس، لولا أن جاءه كتاب عبد الرحمن بدعوته والترحيب به فسار إلى قرطبة واستقبله عبد الرحمن بمنتهى الإكرام والحفاوة، وأجرى عليه الأرزاق الواسعة، وجعله من خاصة بطانته. وبهر زرياب أهل الأندلس ببراعته في الغناء والموسيقى، وطار صيته في كل مكان، وأضحى قطب الفن الذي لا يجارى، وأخذ عنه أهل الأندلس فنونه وإبداعه، وتشبهوا به في مظاهر زيه وإناقته وطرائق معيشته. وتوفي في ربيع الأول سنة 238 هـ (أغسطس 852 م) قبيل وفاة عبد الرحمن بأسابيع قلائل. وكان لزرياب وفنه أعظم الأثر في تكوين الفن الأندلسي في ظل الدولة الأموية، ثم في ظل دول الطوائف (1).

وشغف عبد الرحمن أيضاً بجمع الكتب، وأوفد شاعره عباس بن ناصح إلى المشرق للبحث عن الكتب القيمة واستنساخها، فجمع له منها طائفة كبيرة،

(1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 109 وما بعدها، وابن خلدون في المقدمة ص 257.

ص: 281

وكان أول من عنى بجمعها من أمراء الأندلس، وكانت جهوده في هذا السبيل نواة لإنشاء مكتبة قرطبة العظيمة.

* * *

وفي عهد عبد الرحمن سما شأن حكومة قرطبة الإسلامية، وأخذت تتبوأ مكانتها من الهيبة والنفوذ، بين مختلف القصور والحكومات النصرانية، وتغدو مركز التوجيه للدبلوماسية الإسلامية في الغرب. والظاهر أن الدولة البيزنطية، خصيمة الدولة العباسية في المشرق، كانت تعتقد أنها تستطيع أن تصل بتفاهمها مع حكومة قرطبة الإسلامية، إلى بعض النتائج العملية في مقاومة خصيمتهما المشتركة. ففي سنة 840 م (225 هـ) وفد على قرطبة سفير من قبل قيصر قسطنطينية الإمبراطور تيوفيلوس (توفلس)، يدعى قرطيوس، ومعه كتاب وهدية فخمة، فاستقبله عبد الرحمن بحفاوة، وكان القيصر يتوجه في كتابه إلى أمير الأندلس، باسم الصداقة القديمة التي كانت قائمة بين الأوائل من خلفاء بني أمية وقياصرة بيزنطية، ويشكو مر الشكوى من فعال الخليفة المأمون وأخيه المعتصم وعيثهما في أراضيه، ويشير إليهما في كتابه بابن مراجل وابن ماردة (1) تحقيراً وازدراء، كما يشكو إليه من استيلاء أبى حفص البلوطي وعصبته الأندلسية على جزيرة إقريطش (كريت) وهي من أملاكه، ويطلب إليه عقد أواصر المودة والصداقة بينهما، ويرغبه في ملك أجداده بالمشرق، ويستنهض همته لاسترداده، ويتنبأ له بقرب انهيار الدولة العباسية، وزوال سلطانها، ويعده بنصرته في ذلك المشروع. وقد رد عبد الرحمن على سفارة تيوفيلوس بمثلها، وأوفد كاتبه وصديقه الشاعر يحيى الغزال إلى قسطنطينية ومعه يحيى بن حبيب المعروف بالمنيقلة بكتاب وهدية إلى الإمبراطور. وقد سبق أن أشرنا إلى الغزال وإلى شخصيته الممتازة وإلى بارع خلاله وظرفه، وكان الغزال قد جاوز الستين يومئذ ولكنه كان مايزال يحتفظ بكثير من إناقته وروائه. وسار الغزال وصاحبه يحيى ومعهما السفير البيزنطي إلى المشرق عن طريق تدمير (مرسية)، فوصلوا إلى قسطنطينية بعد رحلة بحرية شاقة، عاينوا فيها الأهوال من اضطراب البحر وروعة الموج. واستقبل الإمبراطور السفير الأندلسي بحفاوة، وقدم الغزال إليه كتاب

(1) مراجل هي أم المأمون، وماردة هي أم المعتصم، وكلتاهما جارية وأم ولد.

ص: 282

عبد الرحمن وهديته. ويرد عبد الرحمن في كتابه على ما جاء في كتاب الإمبراطور تفصيلا، ويشير مثله إلى المأمون والمعتصم بابن مراجل وابن ماردة، وإليك ما يرد به عبد الرحمن على ما يدعوه إليه الإمبراطور من وجوب العمل لاسترداد ملك أجداده بالمشرق، وهي أهم فقرات الخطاب:

" وأما ما ذكرت من أمر الخبيث ابن ماردة، وحضضت عليه من الخروج إلى ما قبله، وذكرته من تقارب انقطاع دولته ودولة أهله، وزوال سلطانهم، وما حضر من وقت رجوع دولتنا، وأزف من حين ارتجاع سلطاننا، فإننا نرجو في ذلك عادة الله عندنا، ونستنجز موعوده إيانا، ونمتري حسن بلائه لدينا، بما جمع لنا من طاعة من قبلنا، من أهل شامنا وأندلسنا وأجنادنا وكورنا وثغورنا، وما لم نزل نسمع ونعترف أن النقمة تنزل بهم، والدائرة تحل عليهم من أهل المغرب بنا وعلى أيدينا، فيقطع الله دابرهم، ويستأصل شأفتهم إن شاء الله تعالى "(1).

وأدى الغزال سفارته خير أداء، وعمل على إحكام الصلة والمودة بين الإمبراطور وبين مليكه، وسحر البلاط البيزنطي بكياسته وظرفه، وبديع صفاته، وقدمه الإمبراطور إلى زوجه الإمبراطورة تيودورا وإلى ولده الأمير ميخائيل الذي تولى العرش فيما بعد، وكان يومئذ فتى يافعاً، فأنست به الإمبراطورة وسحرته برائع جمالها، وسحره الأمير الفتى بظرفه وبارع خلاله.

وقال فيه قصيدته التي مطلعها:

وأغيد لين الأطراف رخص

كحيل الطرف ذو عنق طويل

ترى ماء الشباب بوجنتيه

يلوح كرونق السيف الصقيل

من أبناء الغطارف قيصري

العمومة حين ينسب والخؤول

وعاد الغزال إلى قرطبة بعد رحلة دامت عدة أشهر، وقد بهرته مظاهر الحضارة البيزنطية وروعة البلاط البيزنطي.

(1) ورد هذا الخطاب بنصه كاملا كما وردت تفاصيل هذه السفارة في مخطوط ابن حيان ص 161 و162 و163؛ ونشر الأستاذ ليفي بروفنسال قصة هذه السفارة بالفرنسية، ومعها نص الخطاب بالعربية في فصل خاص، في المجلد الثاني عشر من مجموعة Byzantion التي تصدر في بروكسل بعنوان: Echange d"Ambassades entre Cordoue et Byzance au IXe. Siècle كما نشرها أيضاً في رسالة خاصة. وراجع أيضاً نفح الطيب ج 1 ص 162، حيث يشير إلى هذه السفارة إشارة موجزة.

ص: 283

هذا وقد أوفد الغزال بعد ذلك بقليل في سفارة أخرى أغرب وأعجب، وذلك أنه على أثر غزو النورمانيين (المجوس) لولايات الأندلس الجنوبية الغربية واقتحامهم إشبيلية، وردهم عنها، ثم هزيمتهم ومطاردتهم، بعث ملكهم رسله إلى عبد الرحمن بن الحكم في طلب المهادنة والصلح، فأجابه عبد الرحمن إلى طلبه، وبعث الغزال مع الرسل إلى ملكهم ليرد السفارة، ويعلنه بقبول الصلح.

وتقدم إلينا الرواية الإسلامية عن هذه السفارة تفاصيل شائقة. وهي رواية أديب أندلسي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، هو أبو الخطاب عمر ابن الحسن بن دحية البلنسي، أوردها في كتابه "المطرب من أشعار أهل المغرب" في حديثه عن الغزال. وهو يذكر لنا أن عبد الرحمن أوفد مع الغزال، يحيى بن حبيب لمرافقته في تلك السفارة، وأنهما خرجا معاً إلى البحر المحيط عن طريق شلب (1) في مركب خاص أعد لهما، وسارت مع مركب الرسل النورمانيين. ويصف لنا ما لقيه السفيران المسلمان من أهوال البحر وروعته، وكيف أنهما جازا تلك الشدائد سالمين ووصلا إلى بلاد المجوس. ثم يصف لنا بلاد المجوس بأنها " جزيرة عظيمة في البحر المحيط "، وعلى مقربة منها " جزائر كثيرة منها صغار وكبار، أهلها كلهم من المجوس، وما يليهم من البر أيضا لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية ".

ويبدو من وصف طريق الرحلة، وأوصاف تلك الجزر، أن القطر الذي قصده الغزال ورفيقه، هو الدانماركة، ويؤيد ذلك أن الدانماركة كانت في ذلك الوقت مستقر ملك النورمان (المجوس)، وكان ملكهم عندئذ يشمل الدانماركة وما حولها من الجزائر، وقسماً من إسكندناوة وألمانيا الشمالية. وكان يجلس على عرش النورمان في ذلك الوقت (نحو سنة 844 أو 845 م) ملك يسمى " هوريك ".

وكان النورمان يومئذ أحداثاً في النصرانية، حسبما تقول الرواية الإسلامية. ولقي السفير المسلم من ملك النورمان كل ترحاب وعطف، وأفرد لإقامته وزملائه منزلاً حسناً. وقدم إليه الغزال كتاب الأمير عبد الرحمن وهديته من الثياب والآنية، فوقعت لديه أحسن موقع. ولقي الغزال في البلاط النورماني كله، كثيراً من

(1) شلب Silves هي بلدة أندلسية قديمة تقع في جنوب غربي البرتغال على مقربة من المحيط الأطلنطي.

ص: 284

الإعجاب والعطف، واستقبلته " نود " ملكة النورمان، فراعه حسنها، وشملته بعطفها، ورآها بعد ذلك مراراً، ونظم في حسنها شعراً رقيقاً، يورده لنا ابن دحية، وفيه يخاطبها بقوله:

يا نود يا رود الشباب التي

تُطلع من أزرارها الكوكبا

وعاد الغزال إلى الأندلس بعد رحلة دامت عشرين شهراً، وكان عوده عن طريق شنت ياقب. ويقول لنا ابن دحية إنه كان يحمل من ملك النورمان كتاباً إلى صاحبها، وهو ملك جليقية وليون. والظاهر أنه كان كتاب توصية وجواز، لكي يستطيع السفير المسلم وزملاؤه اختراق المملكة النصرانية الشمالية، في طريقهم إلى الأندلس. وقد اخترق الغزال بالفعل مملكة ليون، وسار إلى طليطلة، ومنها إلى قرطبة. والمرجح أن وصوله إلى قرطبة، كان سنة 232هـ (أواخر سنة 846 م).

وعاش الغزال بعد ذلك زهاء عشرين عاماً أخرى، وتوفي في سنة 250هـ.

وقد بلغ الرابعة والتسعين من عمره، إذ كان مولده في سنة 156 هـ (1)، وأدرك خمسة من أمراء بني أمية بالأندلس أولهم عبد الرحمن الداخل، وآخرهم محمد ابن عبد الرحمن. وكان مدى نصف قرن يتبوأ الزعامة في الشعر والأدب والحكمة، ويتبوأ في بلاط قرطبة أسمى مقام من النفوذ والثقة والتقدير (2).

(1) راجع جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 887.

(2)

راجع رواية ابن دحية كاملة في كتابه " المطرب من أشعار أهل المغرب " المنشور بعناية وزارة المعارف سنة 1954 (ص 138 - 149). ونقلها دوزي في كتابه: Recherches، Vol.I.App، XXXIV، وأشار إليها المقري في الفصل الذي أورده عن الغزال وأخباره (نفح الطيب ج 1 ص 441 وما بعدها). وقد كان البحث يتجه من قبل إلى أن رواية ابن دحية عن هذه السفارة قد تكون تكراراً أو تحريفاً للرواية الخاصة بسفارة الغزال إلى قسطنطينية، ولكن يتضح من مراجعة رواية ابن دحية كاملة في كتابه المنشور، ودراسة المعالم الجغرافية التي أوردها عن طريق سفر الغزال وطريق عودته عن طريق شنت ياقب ومملكة جليقية - وعن موقع مملكة النورمان، يتضح من ذلك كله أنه لا توجد الآن ذرة من الريب في صحة القول بأن السفارة كانت فعلا إلى " بلاد المجوس " أو النورمان، أو بعبارة أخرى إلى الدانماركة.

ص: 285