الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع
عبد الملك المظفر بالله
عبد الملك بن المنصور يتولى الحجابة وتدبير المملكة. إشادة الرواية الإسلامية بعهده وبخلاله. يحذو حذو أبيه في سياسته نحو المغرب. يتابع سنته في الغزو. خروجه إلى الغزو ومسيره إلى الثغر الأعلى. عيثه في أراضي برشلونة. عوده إلى قرطبة واستقبال هشام له. جلوسه في الزاهرة. سفارة أمير برشلونة. إحتكام أميرى قشتالة وجليقية إليه. غضب سانشو غرسية وعدوانه. مسير عبد الملك لغزو قشتالة. غزوه لمملكة ليون. غزوة بنبلونة. استقباله لسفير القيصر في مدينة سالم. غزوة قلونية أو غزاة النصر. إتخاذ عبد الملك لقب المظفر بالله. قصة هذا اللقب ومرسومه. استئنافه للغزو واختراقه لقشتالة. الغزوة السابعة أو غزاة العلة. مرضه وتفرق جيشه. وفاته. ما قيل عن اغتياله بالسم. موقفه من الخليفة هشام. إنهماكه في الشراب واعتماده على الغلمان والوزراء. الوزير عيسى ابن القطاع. المنافسة بينه وبين الفتيان. تغلب الفتى طرفة واستئثاره بالسلطة. تغير عبد الملك عليه. القبض عليه وإعدامه. ابن القطاع يسترد نفوذه وسلطانه. كبرياؤه وتعسفه. الوقيعة في حقه. استظهار عبد الملك بالصقالبة والبربر. سخط الأسر العربية لذلك. تآمر ابن القطاع على إزالة بني عامر. وقوف عبد الملك على المؤامرة. بطشه بالوزير وأصحابه. استرداده لسائر السلطات. صفات عبد الملك وخلاله.
لما توفي المنصور بن أبي عامر بمدينة سالم، في السابع والعشرين من رمضان سنة 392 هـ، بعد أن ألقى إلى ولده عبد الملك، وصيته ونصائحه الأخيرة، بادر عبد الملك بالعودة إلى قرطبة، تاركاً لأخيه الأصغر عبد الرحمن، أمر العناية بمواراة أبيه، والعودة بالجيش. وما كاد يصل إلى العاصمة، حتى بادر برؤية الخليفة هشام المؤيد، واستصدر منه المرسوم بتوليته الحجابة، وجلس في الحكم مكان أبيه بالزاهرة. وتلى نص المرسوم بالمسجد الجامع، وأنفذت الكتب إلى الجهات، وإلى عدوة المغرب، معرفة بوفاة المنصور وتولية ابنه عبد الملك تدبير المملكة مكانه. وكان لوفاة المنصور وقع عظيم بقرطبة، فحزن الناس لفقده أيما حزن، وأدرك العقلاء أن رزءاً فادحاً نزل بالإسلام والأندلس.
واعتقد فريق من الفتيان المروانيين بالقصر، وبعض الناقمين من العناصر الأخرى، أن الفرصة قد سنحت، للتحرر من نير الحكم القائم، والعود إلى النظام الخلافي، ولكن السلطات العامرية كانت ساهرة. فقبضت في الحال على عدد من المحرضين،
وأبعدوا إلى العدوة، واستتب الأمر لعبد الملك، دونما جهد أو اضطراب، واستقبل الناس حكمه بالاستبشار والرضى.
وكان عبد الملك، حينما خلف أباه المنصور في الحكم، في الثامنة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بقرطبة في سنة 364 هـ، ويكنى أبا مروان ويلقب بسيف الدولة وبالمظفر بالله، وأمه حرة تدعى الذلفاء؛ وقد رأينا كيف تمرس عبد الملك في شئون الحكم أيام أبيه، وكيف تولى القيادة، واشترك معه في كثير من غزواته، ومن ثم فقد قبض عبد الملك على زمام الأمور بحزم وكفاية، واعتزم أن يسير على خطى أبيه، سواء في تدبير الشئون الداخلية، أو الاستمرار في غزو الممالك النصرانية.
وتشيد الرواية الإسلامية بعهد عبد الملك على قصره، وما بلغته الأندلس فيه من الرخاء والنعماء، وتقدمه إلينا في صور طيبة لامعة. فيقول لنا ابن حيان في قوة وحماسة: " انصب منه الإقبال والتأييد على دولته انصباباً، ما عهد مثله في دولة. وسكن الناس منه إلى عفاف، ونزاهة، ونقي سريرة، ووثوق في بعد همته، اطمأنوا بها إلى جنبه، في السرِّ والعلانية، فباحوا بالنعم، واستثاروا الكنوز، وتناهوا في الأحوال، وتناغوا في المكاسب، وتحاسدوا في اقتناء الأصول، وابتناء القصور، وغالوا في الفرش والأمتعة، واستفرهوا المراكب والغلمان، وغالوا في الجواري والقيان، فسمت أثمان ذلك في تلك المدة، وبلغت الأندلس فيها الحد الذي فاق الكمال؛ فمهد تلك الدولة في احتشاد النعم عندها، وارتفاع حوادث الغير عنها
…
في كنف ملك مقتبل السعد، ميمون الطائر، غافل عن الأيام، مسرور بما تتنافس فيه رعيته من زخرف دنياها. فاجتمع الناس على حبه. ولم يدهنوا في طاعته، ورضى بالعافية منهم، وآتوه إياها فصفى عيشه، وانشرح قلبه، وخلصه الله من الفتنة ".
ويشيد ابن حيان بعد ذلك، بعفة عبد الملك، وورعه وتواضعه وشجاعته وحيائه، وتورعه عما يشين الملك من المجون والاستهتار، وبره بوالديه، وثباته على عهد أبيه. كل ذلك في عبارات تنم عن عميق تأثره وإعجابه (1).
بيد أن هذه الصور المشرقة التي تقدم إلينا عن خلال عبد الملك، تغشاها
(1) نقله أعمال الأعلام ص 84 و85، والبيان المغرب ج 3 ص 3.
من الناحية الأخرى خلة قاتمة، هي شغفه بمعاقرة الشراب وانهماكه في لذاته (1).
افتتح عبد الملك المنصور عهده، بإجراء كان له في نفوس الناس أطيب وقع؛ وذلك أنه أسقط سدس الجباية عن سائر الناس، في سائر بلاد الأندلس. فكان لذلك أثره في التخفيف عن الناس، والرفق بهم، وبث شعور الرضى والاستبشار بالعهد الجديد.
وحذا عبد الملك حذو أبيه المنصور نحو المغرب، في تأييد زناتة ومغراوة، والإبقاء على ولائهم. وكان المنصور حينما توفي زيري بن عطية زعيم مغراوة، في سنة 391 هـ، قد أقر ولده المعز حاكماً على المغرب حسبما قدمنا. فلما تولى عبد الملك الحجابة، أعلن المعز طاعته له، ودعى له على منابر المغرب، فكتب إليه عبد الملك بعهده، على سائر ما يملكه من أقطار المغرب (سنة 393 هـ) على أن يؤدي إلى حكومة قرطبة، مقادير معينة من المال والخيل والدرق. واستمر المعز على الوفاء بعهوده، أيام عبد الملك وأخيه عبد الرحمن من بعده (2).
واعتزم عبد الملك أن يسير على سنن أبيه في متابعة غزو الممالك النصرانية، وألا يترك لها فرصة لتذوق السلم والدعة. وكان الملوك النصارى قد تنفسوا الصعداء عند وفاة المنصور، واعتقدوا أن الظروف قد تتغير، وأن أخطار الغزوات الإسلامية قد تخبو، ولكن سرعان ما تبدد هذا الأمل. ذلك أنه لم تمض أشهر قلائل على تولية عبد الملك، حتى اتخذ الأهبة لغزوته الأولى، واستعد لها استعداداً خاصاً، ووفدت على قرطبة طوائف كبيرة، من الزعماء والمتطوعة من العدوة، للاشتراك فيها، وأجزل لهم عبد الملك الصلات والأرزاق، ووزع فيهم ما كان مخزوناً من السلاح.
وخرج عبد الملك بالجيش من مدينة الزاهرة، في شعبان سنة 393 هـ (يونيه 1003 م). وتصف لنا الرواية مشهد خروجه فتقول لنا إنه " خرج على الناس شاكي السلاح، في درع جديد سابغة، وعلى رأسه بيضة جديدة مثمنة الشكل مذهبة، شديدة الشعاع، وقد اصطفت القواد والموالي والغلمان الخاصة، في أحسن تعبئة، فساروا أمامه، وقد تكنفه الوزراء الغازون معه "(3). وسار عبد الملك
(1) الببان المغرب ج 3 ص 3.
(2)
نفح الطيب ج 2 ص 198، والاستقصاء ج 1 ص 95.
(3)
البيان المغرب ج 3 ص 5.
أولا إلى مدينة طليطلة، ثم ارتد منها إلى مدينة سالم، وهنالك انضم إليه الفتى واضح في قواته، ووفد عليه في نفس الوقت قوة من النصارى، أرسلها الكونت سانشو غرسية أمير قشتالة، وفقاً لمعاهدته مع المنصور.
وتابع الحاجب عبد الملك سيره بعد ذلك في نحو الثغر الأعلى، واستراح أياماً في سرقسطة، ثم غادرها قاصداً إلى الثغر الإسباني أو بعبارة أخرى إلى إمارة برشلونة التي بدت من أمرائها منذ أيام المنصور نزعة إلى العدوان؛ وأشرف على سلسلة من الحصون القوية الواقعة جنوبي جبال مونسيش، واستولت قوات الفتى واضح على حصن مدنيش (1)، وحاصر الحاجب بقواته حصن ممقصر أو ممقصره (2)، واستولى عليه بعد قتال عنيف، وأباد حاميته، وعاث المسلمون بعد ذلك في بسائط برشلونة، وخربوا كثيراً من حصون العدو، واستولوا على كثير من الغنائم والسبي.
وقضى الحاجب وجيشه عيد الفطر في بسائط برشلونة، واحتفل بالعيد احتفالا فخماً، واستقبل طبقات الأجناد مهنئين ومسلمين. وبعث من معسكره رسالتين إلى قرطبة من إنشاء كاتبه أحمد بن برد يصف فيهما الفتح، إحداهما برسم الخليفة هشام المؤيد، والثانية لتقرأ على الكافة في جامع قرطبة.
ثم قفل عبد الملك بجيشه عن طريق مدينة لاردة. واخترق الثغر الأعلى جنوباً إلى قرطبة، فدخلها في الخامس من ذي القعدة. وهنالك تلقاه الأكابر والعلماء مهنئين مستبشرين؛ وقصد الحاجب من فوره إلى الخليفة هشام، فاستقبله أحسن استقبال، وأكرم منزله، وخلع عليه من ثيابه وسلاحه، فشكره الحاجب وقبل يده. وفي اليوم التالي جلس بقصر الزاهرة، واستقبل مختلف الوفود، وكان يوماً مشهوداً (3).
وقد نظم ابن دراج القسطلي في التهنئة بهذه الغزوة قصيدة هذا مطلعها:
بدا ريح السعد واستقبل النجح
…
فبالله فاستفتح فقد جاءك الفتح
(1) هو باسمه الإسباني Meya.
(2)
هو باسمه الإسباني حصن Monmagastre؛ ويسميه ابن الخطيب حصن منغص (أعمال الأعلام ص 87).
(3)
راجع في أخبار هذه الغزوة: البيان المغرب، ج 3 ص 5 - 9، وأعمال الأعلام ص 87.
وقد قدّم النصر العزيز لواءه
…
وقبل طلوع الشمس ينبلج الصبح
فقد في سبيل الله جيشاً كأنه
…
من الليل قطع طبق الأرض أو جنح
كتائب في أقدامها النجح والهدى
…
وألوية في عقدها اليمن والنجح (1)
ولم يمض قليل على ذلك، حتى أرسل أمير برشلونة الكونت رامون بوريل الثالث، سفارة إلى قرطبة يطلب عقد الصلح والمهادنة، فاستقبل السفراء الفرنج استقبالا حافلا، على نمط أسلافهم من السفراء النصارى. وكانت هذه آخر فرصة من نوعها أبديت فيها أبهة الخلافة وفخامتها (2).
وكان من أثر هيبة عبد الملك في نفوس الملوك النصارى، أن احتكم إليه أمير قشتالة الكونت سانشو غرسية، ومننديث كونثالث زعيم جليقية، والوصي على ملك ليون الطفل. وكان ملك ليون وهو ألفونسو الخامس، يومئذ ما يزال حدثاً في العاشرة من عمره، وكانت أمه إلبيرة أختاً لسانشو غرسية، وكان سانشو يرى بذلك أنه أحق بالوصاية على ابن أخته الملك الطفل، من مننديث كونثالث. فلما احتكم الطرفان إلى عبد الملك، ندب قاضي النصارى أصبغ بن سلمة، لبحث النزاع والفصل فيه، فقضى لمننديث كونثالث بأحقيته للوصاية، واستمر بالفعل وصياً على ملك ليون حتى قتل غيلة في سنة 398 هـ (1008م)(3).
والظاهر أن سانشو غرسية لم يرضه هذا الحكم، فبدت منه أعراض العدوان على أرض المسلمين، أو هو قد اعتدى عليها بالفعل. ومن ثم فإنا نجد عبد الملك يخرج بقواته في صيف سنة 394 هـ (1004 م) ويقصد إلى أراضي قشتالة ويعيث فيها، ولم يبد سانشو أية مقاومة، فقفل عبد الملك إلى قرطبة، واضطر سانشو إلى طلب الصلح، وقصد بنفسه إلى قرطبة، فاستقبله عبد الملك أحسن استقبال، وأعيد عقد الصلح والتهادن بين الفريقين، وتعهد سانشو أن يعاون عبد الملك في غزواته ضد مملكة ليون، وضد خصومه من بني قومس وغيرهم.
وفي العام التالي (395 هـ - 1005 م) خرج عبد الملك في قواته وسار
(1) تراجع هذه القصيدة بأكملها في ديوان ابن دراج القسطلي الذي سبقت الإشارة إليه ص 466 و467.
(2)
الذخيرة. القسم الرابع، المجلد الأول، ص 64.
(3)
ابن خلدون ج 4 ص 181، البيان المغرب ج 3 ص 10.
صوب طليطلة؛ وهنالك لحق به الفتى واضح وسانشو غرسية في بعض قواته، ثم سار شمالا نحو أراضي ليون، وبعث واضحاً في قواته إلى مدينة سمورة، وكانت قد خربت منذ أيام المنصور، وليس فيها سوى قليل من النصارى يقيمون في بعض أبراجها، فقتل الرجال، وسبى النساء. وعاث عبد الملك بعد ذلك في أراضي ليون، وإلى جانبه سانشو غرسية، واقتحم أملاك بني غومس، ووصل في زحفه في جلِّيقية، إلى بلدة لونة الحصينة، واستولى في هذه الغزوات على كثير من الغنائم والسبي. ولكنه لم يحقق خلالها نتائج حربية ذات شأن (1).
وفي أواخر سنة 396 هـ (صيف سنة 1006 م) خرج عبد الملك إلى غزوته الرابعة. وتصف الرواية الإسلامية هذه الغزوة بأنها غزوة " بنبلونة "، وبعبارة أخرى " بنبلونة " عاصمة نافار. وتقول لنا إن عبد الملك سار بجيشه إلى سرقسطة ثم إلى وشقة، ثم إلى بربشتر، ومنها نفذ إلى أرض العدو. ولكن هذا الإتجاه الذي اتخذه الجيش الإسلامي، لا يحمل على الاعتقاد بأنه كان يقصد إلى نافار أو بلاد البشكنس، وإنما يبدو بالعكس أنه اتجه شمالا إلى أراضي ولاية " ريباجرسا " الصغيرة الواقعة شمال شرقي بربشتر، وهي إحدى ولايات البرنيه الفرنجية.
وتقول الرواية الإسلامية إن المسلمين اقتحموا في هذه الغزوة بسيط أبنيونش وشنت يوانش، (سان خوان) وعاثوا في أرض العدو قتلا وسبياً وحرقاً، ثم تقول لنا إن الجيش الإسلامي قد انقضت عليه يومئذ عاصفة مروعة من رعد وبرق ومطر غزير. تخللها قصف مفزع وبرد قارس، وخشى أن تكون سبباً في نكبته. ولكن تداركه لطف الله. وقفل عبد الملك راجعاً بجيشه إلى قرطبة. ولكن الشعب لم يبد في استقباله شيئاً من الحماسة، لضآلة النتائج التي ترتبت على هذه الغزوة، ولكونها لم تسفر عن شيء من الغنائم والسبي، التي كانت تملأ أسواق قرطبة أيام أبيه المنصور (2).
ومما يتصل بأخبار هذه الغزوة، أن عبد الملك عرج في طريق العودة على مدينة سالم، وقضى بها عيد الأضحى، وهنالك وافاه سفير من قبل قيصر
(1) راجع أخبار هذه الغزوة في الذخيرة. القسم الرابع، المجلد الأول ص 65؛ والبيان المغرب ج 3 ص 11 و12.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 12 و13؛ وأعمال الأعلام ص 87.
قسطنطينية، الإمبراطور بسيل الثاني، ومعه كتاب مكتوب بالذهب يطلب فيه قيصر استئناف المودة والصداقة، التي كانت قائمة بين ملوك بني أمية، وبين القياصرة، ومعه كذلك هدية وعدد من الأسرى المسلمين الذين أسروا في أطراف الجزائر التابعة لقيصر، فسر عبد الملك لذلك، وصرف السفير أجمل صرف (1).
ونمى إلى عبد الملك في تلك الأثناء، ما كان يجيش به أمير قشتالة سانشو غرسية من قصد إلى العدوان، فرأى أن يعاجله بالغزو. فخرج من قرطبة في صيف سنة 397 هـ (1007 م) في غزوته الخامسة، وهي المعروفة بغزوة قلونية، أو غزوة النصر، وسار مخترقاً أراضي قشتالة. ويبدو من أقوال الرواية الإسلامية أن عبد الملك لم يواجه يومئذ أمير قشتالة فحسب، ولكنه كان يواجه جبهة متحالفة من الملوك النصارى، يشترك فيها سانشو غرسية، وألفونسو الخامس ملك ليون، وسانشو الثالث ملك نافار، وعدد من الزعماء النصارى في مقدمتهم بنو غومس (2). ويشير صاحب البيان المغرب إلى هذه الغزوة بقوله " غزاة النصر التي لقى فيها (أي عبد الملك) شانجه بجميع النصرانية على اختلافها "(3). ولا تقدم إلينا الرواية الإسلامية بعد ذلك شيئاً من التفاصيل، سوى قولها إن الحاجب عبد الملك، قد هزم النصارى في تلك الموقعة هزيمة عظيمة في ظاهر مدينة قلونية (كلونية)، الواقعة شمال نهر دويرة على مقربة من شنت إشتيبن، وأحرز عليهم نصراً مبيناً، وافتتح الحصن صلحاً. ووصل كتاب الفتح إلى قرطبة، وقرىء على الكافة كالعادة، فكان له وقع عظيم، وكان أهل قرطبة يخشون سوء العاقبة من اجتماع الجيوش النصرانية لقتال المسلمين. وقفل عبد الملك بالجيش إلى قرطبة، فوصل إليها في أواخر ذي الحجة من تلك السنة، واتخذ على أثر ذلك لقبه " المظفر بالله " تنويهاً بما أحرزه من النصر العظيم (4).
وقد ساق لنا المؤرخ الفقيه أبو المطرف ابن عون الله، وهو من معاصري هذه الحوادث، قصة هذا اللقب، فذكر أن عبد الملك كان مثل أبيه يسمو إلى
(1) الذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول، ص 65 و66.
(2)
راجع ابن خلدون ج 4 ص 182.
(3)
البيان المغرب ج 3 ص 14.
(4)
ابن خلدون ج 4 ص 182؛ والبيان المغرب ج 3 ص 14؛ والذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول ص 66.
الألقاب السلطانية، فتقدم إلى الخليفة هشام، على أثر عوده من غزوة قلونية، والتمس إليه إخراج الأمر له، بأن يتسمى " بالمظفر " وهو اللقب الذي اختاره وآثره، وأن يكنى في سائر ما يذكر عنه " بأبى مراون "، وأن ينعم على ابنه الغلام محمد، الذي منح لقب الوزارة، بلقب " ذي الوزارتين "، ويعلي بذلك مرتبته على سائر الوزراء، وأن يكنى بأبى عامر، كنية جده، وكان الخليفة يقيم يومئذ عند الحاجب بقصر الزاهرة، في الجناح الفخم الذي أنشىء وقتها، ففي منتصف المحرم سنة 398 هـ، تحرك الخليفة خفية إلى قصر ناصح من قصور الزاهرة، واستدعى حاجبه، وفاوضه فيما أراد. ولما انصرف من لدنه، اتبعه في الحال بمرسوم التكريم الذي التمسه، فأذاع عبد الملك نص المرسوم، وبعث بالكتب للعمل به، وإليك نص هذا المرسوم، وقد زعم البعض أنه كان بخط الخليفة هشام نفسه:
" بسم الله الرحمن الرحيم. من الخليفة هشام بن الحكم المؤيد بالله، أتم الله عليك نعمه، وألبسك عفوه وعافيته، إنا أريناك
…
من صنع الله الجسيم، وفضله العظيم، لنا عليك ما شفى الصدور، وأقر العيون، فاستخرنا الله سبحانه في أن سميناك المظفر؛ فنسأل الله تعالى سؤال إلحاف وضراعة وابتهال، أن يعرفنا وإياك بركة هذا الاسم، ويحليك معناه، ويعطينا وإياك وكافة المسلمين، فضل ما حملت منه، وأن يخير لنا ولهم في جميع أقضيته، ويقرنه بيمنه وسعادته، بمنه وخفي لطفه، وكذلك أبحنا التكني في مجالسنا ومحافلنا، وفي الكتب الجارية منك وإليك، في أعمال سلطاننا، وسائر ما يجري فيه اسمك معنا ودوننا، إنافة بمحلك لدينا، ودلالة على مكانك منا، وكذلك ما شرفنا به فتاك أبا عامر، محمد ابن المظفر تلادنا، أسعده الله، بالإنهاض إلى خطة الوزارتين، وجمعناه بها في التكني على المشيخة والترتيب، وآثرك في الدولة، وأنت الحقيق منا بذلك كله، وبجميل المزيد عليه، لأنك تربيتنا، وسيف دولتنا، وولي دعوتنا، ونشىء نعمتنا، وخريج أدبنا، فأظهر ما حددناه لك في الموالي، وأهل الخدمة، واكتب بها إلى أقطار المملكة، وتصدقه بشكر النعمة، أحسن الله توفيقك، وأمتعنا طويلا بمعافاتك، وآنسنا ملياً بدوام سلامتك، إنه ولي قادر عزيز قاهر ".
وكانت الكتب تخرج من قبل عبد الملك على النحو الآتي: " من الحاجب
المظفر سيف الدولة أبى مروان عبد الملك بن المنصور ". فكان بذلك أول من اجتمع له لقبان ملوكيان من حكام الأندلس (1). وكان صدور هذا المرسوم حادثاً مشهوداً، أطلق عبد الملك على أثره الصلات والكسى، وكثرت تهاني الشعراء ومدائحهم.
والظاهر أن عبد الملك لم يجن من هذا النصر ما كان يؤمل من إرغام أمير قشتالة على التزام السلم والهدوء، وأن سانشو غرسية بالعكس استمر في عدوانه.
ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، حتى تأهب عبد الملك لاستئناف الغزو، فخرج من قرطبة في أوائل شهر صفر سنة 398 هـ (أكتوبر 1007 م) واخترق قشتالة الوسطى، حتى ضفاف نهر دويرة، وقصد إلى حصن شنت مرتين المنيع، الواقع على مقربة من غربي قلونية على الضفة اليمنى من النهر، فحاول النصارى في البداية أن يردوا المسلمين في ظاهر الحصن، ولكن المسلمين صدوهم بعنف، فالتجأوا إلى الحصن، وحاولوا الدفاع من وراء الأسوار، فهاجم المسلمون الحصن بشدة وثلموا أسواره بالمجانيق والنار، واضطر النصارى إلى التسليم، فأمر عبد الملك بقتل الجند وسبي النساء والذرية، وإصلاح ما تهدم من الحصن، وقفل راجعاً إلى قرطبة فوصلها في أوائل شهر ربيع الآخر.
وفي شوال من نفس العام (صيف 1008 م)، خرج عبد الملك بالجيش، وكانت غزوته السابعة والأخيرة، وتعرف "بغزاة العلة". ذلك أنه ما كاد يصل إلى مدينة سالم حتى اشتد به المرض، فاستقر بها حيناً يرقب البرء. وفي أثناء ذلك دب الخلل إلى الجيش، وتفرق عنه أكثر المتطوعة، وأخفق مشروع الغزو، واضطر عبد الملك أن يعود أدراجه إلى قرطبة، عليلا ضعيفاً، وذلك في منتصف المحرم سنة 399 هـ. ومع ذلك فما كاد عبد الملك يشعر بقليل من التحسن، حتى عقد العزم على التأهب لاستئناف الغزو، وخرج بالفعل من قرطبة في منتصف شهر صفر، ولكن أصابته عندئذ نكسة شديدة، صحبتها نوبة سعال عنيف، فحمل إلى قصر الزاهرة في محفة، ومن حوله خاصة غلمانه، وتوفي على الأثر، وكان أخوه عبد الرحمن حاضراً مع أكابر رجال الدولة، وقيل إنه توفي مسموماً من شربة دست له بتحريض أخيه عبد الرحمن. وكانت وفاته في 16 صفر سنة 399 هـ
(1) البيان المغرب ج 3 ص 15 - 17؛ وأعمال الأعلام ص 88 و89.
(21 أكتوبر سنة 1008 م)(1)، ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره.
* * *
حكم عبد الملك المظفر ستة أعوام وبضعة أشهر، قضى معظمها في متابعة الغزو، ولم يكن لديه سعة من الوقت ليتناول تدبير الأمور بنفسه. وكانت الدولة قد توطدت منذ أيام أبيه المنصور، ولم يقع تبدل في طرق الحكم، فكان الخليفة هشام، كعهده أيام المنصور محجوباً في قصره، وكان عبد الملك يحرص على حجبه وإخفائه بين صفوف الجند، كلما سنحت فرصة خروجه في موكبه، بيد أنه يبدو أن عبد الملك كان أكثر تودداً للخليفة، ورفقاً به من أبيه، فقد كان يدعوه إلى قصوره بالزاهرة للتريض والاستجمام، وكان هشام ينفق أوقاتاً في ضيافته (2).
وكان عبد الملك لانهماكه في الشراب واللهو، قد اعتمد في تدبير شئون الدولة، على خاصته من أكابر الفتيان العامريين أمثال طرفة، وواضح، وزهير، وخيران، ومجاهد، وعلب عيسى بن سعيد اليحصبي المعروف بابن القطاع، وزيره ووزير أبيه من قبل. وكان عبد الملك لأول ولايته، قد فوض أمره إليه ومنحه سائر السلطات العليا، ثقة منه بإخلاصه، واعتماداً على كفايته. ووطد حسن ظنه فيه، ما أبداه عيسى من البراعة والحزم في تدبيير الأمور، وتوطيد النظام والأمن. وكان الفتيان الصقالبة، ولاسيما زعيمهم طرفة، خادم عبد الملك الأكبر، ينقمون على عيسى، حظوته واستئثاره بالسلطة، ويعملون ما وسعوا للنيل من مكانته. واضطرمت المنافسة بالأخص بينه وبين طُرفة، وبذل طرفة جهوداً عنيفة لإفساد الجو بينه وبين الحاجب، واستطاع مع استمرار الوقيعة والدس أن يزعزع ثقة عبد الملك فيه، وأن يصرفه عن الاعتماد عليه، وانتهى الأمر بأن تغلب طرفة على الوزير، وحل محله في تدبير الأمور، واجتمعت السلطة في يده شيئاً فشيئاً، حتى غدا كل شىء في القصر وفي الدولة، وسما شأن الفتيان
(1) البيان المغرب ج 3 ص 37، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 66، وأعمال الأعلام ص 89. وذكر المقري أن وفاة عبد الملك كانت في المحرم سنة 399 (ج 1 ص 198). ويؤيد ابن الأثير رواية وفاة عبد الملك بالسم ويقول لنا إن أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها فتناول أخاه مما يلى الجانب المسموم، وأخذ مما يلى الجانب الصحيح فأكله بحضرته، فاطمأن المظفر وأكل ما بيده منها فمات (ج 8 ص 225).
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 16.
الصقالبة، وغلبوا على من عداهم من الكبراء وأصحاب المناصب. ومرض الحاجب في أوائل سنة 396 هـ، واستبد طرفة بالأمر، وأمضى كثيراً من الأمور دون علم الحاجب أو موافقته، وأبدى كثيراً من الاستهتار والتبذل والطيش، فلما أبل الحاجب من مرضه، كانت نفسه قد تغيرت على طرفة، ولما خرج إلى الغزو في شهر رمضان من هذا العام، خرج معه الوزير عيسى، واستطاع خلال الطريق أن يقنع عبد الملك بسوء مسلك طرفة وخطر مشاريعه، وكان من المقرر أن يلتقي طرفة بسيده في سرقسطة، فقدم إليها في بعض القوات في نفس اليوم الذي وصل فيه الحاجب مع جيشه؛ وما كاد يدخل إلى عبد الملك في قصره، حتى قُبض عليه، وصُفد بالأغلال، وحمل إلى إحدى جزر الشاطىء، واعتقل حتى انتهى عبد الملك من غزوته، فأمر بقتله، وهو في طريق العودة، وأمر الحاجب في نفس الوقت بقتل عبد الملك بن إدريس الجزيري الكاتب البليغ أمين البلاط، وكان من خاصة طرفة، وكان الوزير عيسى قد حذر عبد الملك من ممالأته لطرفة ومعاونته على إفساد أمور الدولة (1).
وأضحى عيسى بن سعيد، بعد قتل طرفة، رجل الدولة الأول، واسترد كامل حظوته وسلطانه، على أنه لم ينعم طويلا بظفره. وكان هذا الوزير قد تقلب في مناصب الدولة منذ أيام المنصور، وحظى لديه، وسما شأنه، حسبما رأينا، ثم تضاعف شأنه، واستأثر بتدبير الأمور منذ بداية عهد عبد الملك، وجمع الأموال الطائلة، وزاد في توطد سلطانه ونفوذه مصاهرته للحاجب، حيث تزوج ابنه عبد الملك المكنى أبا عامر، أخت عبد الملك الصغرى، إحدى بنات المنصور، وهكذا بلغ الوزير أقصى مراتب النفوذ والثقة، وكثر بذلك حساده والوشاة في حقه. وكان عيسى يذكي من حوله عواطف الخصومة والنقمة. بما كان يجنح إليه من الصلف والخشونة والكبرياء، والنكول عن قضاء حاجات الناس، والنظر في مظالمهم، والتعالي عليهم، وكان حجابه وعماله، على شاكلته من الغلظة والتعسف في معاملة الناس. فكان ذلك كله سبباً في تسمم الجو حول الوزير، وحول تصرفاته. أضف إلى ذلك أن الوزير، لم يكن يشارك الحاجب في مجالس شرابه وأنسه إلا في القليل النادر، لأنه كان مقلا للشراب، فكان تخلفه يمهد
(1) البيان المغرب ج 3 ص 24 - 26.
لخصومه المقربين من الحاجب، سبل الدس والوقيعة في حقه. وقد كانت الذلفاء والدة الحاجب في الوقت نفسه تبغض الوزير، لأنه أيد ولدها عبد الملك في الزواج من قينة حسناء من جواريه هام بها، وكانت تعارضه في ذلك. والخلاصة أن عبد الملك أخذ يفقد ثقته في وزيره بسرعة، وقد كان فيما يبدو كثير التأثر بالوشاية، سريع التقلب والغدر، وأخذ الوزير من جانبه يشعر بهذا النقص في حظوته ويتوجس من عواقبه.
والظاهر أن عيسى بن سعيد، كانت تحدوه في نفس الوقت أطماع ومشاريع أخرى. فقد كان يشعر أنه غدا باجتماع سائر السلطات في يده، ومشايعة رؤساء الجند له، أقوى رجل في الدولة، وأنه يستطيع أن يقف في وجه بني عامر، وأن يغدو بطل المناهضة لحكمهم. والواقع أن حكم العامريين كانت تشتد وطأته على الناس يوماً بعد يوم. وكان عبد الملك جرياً على سنة أبيه المنصور، قد مضى في الاستظهار بالفتيان الصقالبة والبربر، وبلغ الفتيان في عهده نحو ألفي غلام، ووفد عليه كثير من البربر؛ وكان أهم من وفد إليه من زعمائهم زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي، عم أبي المعز بن باديس صاحب إفريقية، وزعيم الفرقة الخارجة عليه، وفد عليه مع إخوته، فاستقبلهم عبد الملك، وغمرهم بصلاته، واستمروا بقرطبة حتى وقعت الفتنة، وكان لهم في حوادثها شأن يذكر (1). وفي رواية أخرى أن وفود زاوي وقومه على الأندلس، كان في أواخر أيام المنصور، وأنه هو الذي أذن لهم في الجواز (2). وكانت الأرستقراطية العربية تمقت هذا الإيثار للصقالبة والبربر، والاستظهار بهم، وترى فيه افتئاتاً على حقوقها ومكانتها، وكان كثير من الأسر العربية الكبيرة مثل آل حدير، وآل فطيس، وآل شهيد، وغيرهم، يتوقون إلى انتهاء حكم العامريين، ورد الأمر إلى بني أمية، وكان عيسى بن سعيد، وهو أيضاً من البطون العربية، يعتنق فكرتهم، ويعتقد أنه يستطيع أن يعمل على تحقيقها.
واعتزم عيسى بالفعل أن يعمل في هذا السبيل، واتجه ببصره إلى سليل من
(1) الذخيرة عن ابن حيان القسم الرابع المجلد الأول ص 61.
(2)
كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله بن بلقين (القاهرة 1955) ص 17، وابن خلدون ج 6 ص 157 و158.
المروانية هو هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وكان بينهما مودة وصداقة. وكاشف عيسى هشاماً بمشروعه، في إزالة بني عامر، وإزالة الخليفة هشام المؤيد. لعجزه وعقمه، وإقامته مكانه في الخلافة، ورد الأمر بذلك إلى بنى أمية. فاستجاب هشام إلى دعوته، وجرت بينهما المفاوضة بمنتهى التكتم والحذر. وكانت خطة عيسى، تتلخص في أن يدعو عبد الملك وأخاه عبد الرحمن وصحبه، إلى حفل عظيم يقيمه بالمنية التي وهبه عبد الملك إياها بقرب قصر الزاهرة، وذلك تيمناً بمولود رزق به ولده عبد الملك بن عيسى، وأن يحيط المنية بطوائف من رجاله المسلحين، فإذا حضر عبد الملك وأخوه وصحبه، انقض عليهم أولئك الرجال وقضوا عليهم جميعاً، وعندئذ يسير عيسى بصاحبه هشام إلى قصر الزاهرة فيجلسه فيه، ويأخذ له البيعة بالخلافة، وقد تقدم عيسى بالفعل بدعوته إلى عبد الملك فقبل الدعوة، وحدد بالفعل يوم الحفل.
ولكن سرعان ما اتصل خبر المؤامرة بعبد الملك، نقله رجل من ثقات عيسى إلى نظيف الفتى الصقلبي، فأبلغه فوراً إلى سيده. وفي رواية أن عبد الملك بادر في الحال فقتل عيسى. ولكن الرواية الراجحة هي أن عبد الملك وأخاه عبد الرحمن اتفقا على تدبير قتله، في مجلس شراب ينظم لهذا الغرض، ونظم المجلس بالفعل في بهو القصر الكبير المشرف على النهر، وذلك في 20 ربيع الأول سنة 397 هـ.
واستدعى الحاجب وزيره عيسى إليه؛ ومن غرائب القدر أن كان الوزير أيضاً يجلس مع بعض خاصته على الشراب، ومنهم الكاتب أبو حفص ابن برد، فبادر عيسى بالركوب إلى عبد الملك، ومعه بعض خاصته، فاستقبله عبد الملك بظاهر من الحفاوة. ثم أخذ بعد قليل في عتابه ومحاسبته على ما عزى إليه، ثم أغلظ له القول، وعيسى يعتذر ويحتج ببطلان ما نسب إليه، ويشدد القسم على ذلك، ويناشد حقن دمه. وفجأة جذب عبد الملك سيفه من جانب الفراش وشهره على عيسى، وطعنه في وجهه، فسقط على الأرض، فانهال عليه الجماعة طعناً بسيوفهم، ثم احتز رأسه ووضع جانباً؛ وقتل الجماعة أيضاً صاحبيه خلف ابن خليفة، وحسن بن فتح، وألقيت جثث الثلاثة في النهر، بعد أن وضعت في زنابيل مثقلة بالحجارة، وأمر عبد الملك بأن ينصب رأس عيسى على باب مدينة الزاهرة، عبرة للناس. وتركت معلقة في مكانها حتى انقضت الدولة العامرية،
ونفذ الجند في الحال إلى منازل عيسى وأصحابه، وصودر ما فيها، وقبض على أبناء عيسى وزجوا إلى السجن، وأرغم ولده عبد الملك على طلاق زوجته أخت الحاجب؛ وجدت الشرطة في أثر هشام بن عبد الجبار، حتى قبض عليه، ثم حمل إلى الزاهرة فأمر الحاجب باعتقاله في سجن أعد له، وهناك قتل خفية، ولم يسمع له خبر بعد ذلك قط.
وكان لمقتل الوزير عيسى بن سعيد أعمق وقع في قرطبة، لما كان له من رفيع المنزلة والسلطان، ولبثت الوفود أياماً تحضر إلى الزاهرة لمشاهدة رأسه (1).
وثاب المظفر بعد مقتل وزيره إلى نفسه، وعمل على جمع السلطة في يده، والحد من سلطة الوزراء والكتاب، ومراقبتهم ومحاسبتهم، وواظب على الجلوس بنفسه، وهجر اللهو والراحة؛ وكانت الأحوال المالية قد ساءت، مما أسرف فيه من النفقة والصلات، وبما أسقطه للناس من سدس الجباية، فاقتصد في النفقة، واجتهد في توفير المال، وتنمية الموارد، فنجحت المحاولة، وتحسنت الأحوال المالية في أواخر عهده (2).
وقد أشرنا من قبل إلى طرف من أخلاق عبد الملك، وما جمعت من الصفات المشرقة والقاتمة معاً. ونزيد هنا ما رواه صاحب الذخيرة عن ابن حيان، من أن عبد الملك كان عرياً عن العلم والمعرفة والأدب، ولم يكن يجتمع في مجالسه سوى الأعاجم من الجلالقة والبربر ومن إليهم، ولم يكن يؤمها أحد من أهل المعرفة، من الأدباء والعلماء. بيد أنه مع ذلك لبث يسبغ رعايته على من كان يتصل منهم بأبيه من العلماء والأدباء والندماء وغيرهم، وأبقى لهم أرزاقهم ورواتبهم كما كانت ْأيام أبيه (3). وكان يستمع إلى الشعر، ويصل الشعراء، وقد أبقى بالأخص على شاعر أبيه صاعد البغدادي، وجعله شاعراً ونديماً له. وكان من خواص شعرائه أيضاً أبو عمر بن دراج القسطلي، والكاتب الشاعر أبو حفص ابن برد. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب نبذاً من الشعر، نظمها صاعد وابن دراج تحقيقاً لرغبة
(1) راجع تفاصيل هذه المؤامرة وذيولها في الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 103 - 107، والبيان المغرب ج 1 ص 27 - 35.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 36، وأعمال الأعلام ص 89.
(3)
الذخيرة - القسم الأول المجلد الأول ص 60.
المظفر، في وصف مختلف صنوف الزهر، من الآس، والنرجس، والبنفسج، والورد والسوسن. ومما جاء في قصيدة ابن دراج في وصف السوسن ومديح الحاجب عبد الملك تلك الأبيات (1):
إن كان وجه الربيع مبتسما
…
فالسوسن المجتلى ثناياه
يا حسنه بين ضاحك عبق
…
يطيب ريح الحبيب ريّاه
يا حاجباً مذ يراه خالقه
…
توّجه بالعلى وحلاه
إذا رآه الزمان مبتهجاً
…
فقد رأى كل ما تمناه
وإن رآه الهلال مطلعاً
…
يقول ربي وربك الله
ونظم بعضهم في وصف عهد عبد الملك الأبيات الآتية:
زمان جديد وصنع جديد
…
ودنيا تروق ونعمى تزيد
وغيث يصوب وعيش يطيب
…
وعز يدوم وعيد يعود
ودهر ينير بعبد المليك
…
كشمس الضحى ساعدتها السعود
(1) البيان المغرب ج 3 ص 18 - 21. وكذلك الروض المعطار ص 160.
الفصْل الخامِسُ عبد الرحمن بن المنصور وسقوط الدولة العامرية
نظام الطغيان العامري. كيف كانت تلطفه عبقرية المنصور. ظهور مثالبه في عهد عبد الملك. عبد الرحمن المنصور يخلف أخاه. يتقلد الحجابة. تلقيبه بشنجول أو شانجه الصغير. إنحرافه وسوء خلاله. تودده للخليفة هشام. تلقبه بالمأمون وناصر الدولة. شروعه في اغتصاب ولاية العهد. ضغطه على هشام لتحقيق ذلك. مرسوم ولاية العهد ونصه. جلوس عبد الرحمن في الزاهرة. عكوفه على الشراب واللهو. إرغامه الكبراء على لبس العمامة. خروجه إلى الغزو. يخترق أراضي ليون. إعتصام النصارى بالجبال. ارتداد عبد الرحمن. أنباء الإنقلاب في قرطبة. الاضطراب في الجيش. سيره إلى قلعة رباح. سخط أهل قرطبة على بني عامر. المؤامرة وعناصرها. الذلفاء والدة عبد الملك ودورها. ترشيح محمد بن هشام للخلافة. نضج المؤامرة وتهيؤ الظروف لتنفيذها. مهاجمة المتآمرين للقصر. مصرع عبد الله بن أبي عامر. موقف الخليفة هشام وتصرفه. إقتحام العامة للقصر. الزاهرة وتسليمها. إقتحام الجموع لها ونهبها. إستيلاء المهدي على أموالها ونفائسها ثم تدميرها. نبوءة المنصور بخراب الزاهرة. وقوف شنجول على خبر الانقلاب وحيرته. يناشد أهل الثغر تأييد هشام. تخلي زعماء الجند عن نصرته. شنجول وصديقه ابن غومس. مسيره صوب قرطبة. فرار البربر تحت جنح الظلام. مسيره إلى أرملاط. التجاؤه وابن غومس إلى الدير. وقوعهما في يد فرسان المهدي. القبض على حشم شنجول ونسائه. مقتل شنجول وابن غومس. ما يقوله شاهد عيان عن هذه الحوادث. تأملات عن انهيار الدولة العامرية.
كانت وفاة عبد الملك المظفر، فاتحة لفترة من أعجب فترات التاريخ الأندلسي وأشدها غموضاً واضطراباً، وكانت نذيراً بانقلاب من أعنف ما عرفت الأندلس وأشدها تقويضاً لبنائها وسلامها ورخائها.
مضت خمسة وثلاثون عاماً على حكم الطغيان المطبق، الذي فرضه المنصور ابن أبي عامر على الشعب الأندلسي، وقضى في ظله على سلطان الخليفة الشرعي، ومحيت رسوم الخلافة، وسحقت العصبية العربية، وطوقت أعناق الشعب بأغلال خانقة. وبالرغم مما نعمت به الأندلس أيام المنصور من الاستقرار والعزة والرخاء، فإن الشعب لم يكن يرى في المنصور، سوى مغتصب للسلطة الشرعية، وكان يتوق إلى التحرر من هذا الطغيان الذريع، والتخلص من وطأة الصقالبة والبربر، والعود
إلى الأوضاع الطبيعية المألوفة. وكانت شخصية المنصور العظيمة، وعزمه الصارم،
وهمته البعيدة، وخلاله الرفيعة، وتفانيه في الجهاد، والعمل على إعزاز الأندلس
وإسعادها: كانت تفرض نفسها على الناس، وتخفف نوعاً من وطاة النظام وحدته،
وتبث في نفوس الشعب نوعاً من الإعجاب المقرون بالإغضاء والتسامح. فلما
توفي المنصور، ونهض ولده عبد الملك بأعباء الحكم، بدأ ينقشع هذا الشعور
الملطف، وبدت مثالب الحكم المطلق على أشدها، وزاد إحساس الشعب بما يعانيه
من ضروب الإرهاق والضغط، وظهرت شخصية عبد الملك ضئيلة باهتة بالنسبة
لشخصية أبيه العظيم، وبدت بالرغم مما اضطلع به من الغزوات، وما تمتعت به
البلاد في ظله من السلام والرخاء، لا تحمل سوى الأوزار الظاهرة، من عكوف
على الشراب، وانهماك في الملاذ، والمضي في اغتصاب السلطة الشرعية، وتمكين لنير الصقالبة والبربر، والتطلع إلى ألقاب الملك، بصورة تكشف عما وراءها من الأطماع الخطرة.
وجاء عبد الرحمن ابن المنصور إثر أخيه عبد الملك، وقد كان أضعف منه شخصية، وأسوأ خلالا، ليتابع حكم الإرهاب والطغيان، وجلس غداة وفاة أخيه بقصر الزاهرة، كما يجلس خليفة العرش مكان سلفه، في السابع عشر من صفر سنة 399 هـ (22 أكتوبر سنة 1008 م). ومثل في نفس اليوم لدى الخليفة هشام، فخلع عليه الخلع السلطانية، وقلده الحجابة، ثم أقبل إليه الأكابر والأعيان بقصر الزاهرة، مهنئين مبايعين.
وكان عبد الرحمن وكنيته أبو المطرِّف، حينما تولى الحكم، فتى في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يلقب منذ حداثته " بشنجول "(سانشول) أو شانجُه الصغير، وذلك لأنه حسبما تقدم كان حفيداً لسانشو غرسية ملك نافار، وكانت أمه الأميرة النافارية، حينما تزوجت المنصور، قد اعتنقت الإسلام، وتسمت باسم "عبدة"، وكان ولدها عبد الرحمن " أشبه الناس بجده ". وكان لهذه الأرومة الفرنجية الواضحة، أثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، إنحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجراً كثير الإستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو " يخرج من منية إلى منية، ومن متنزه إلى متنزه، مع الخياليين والمغنين
والمضحكين، مجاهراً بالفتك، وشرب الخمر " (1).
وجرى عبد الرحمن على سنة أبيه وأخيه، في الحجر على الخليفة هشام وحجبه، وفي الاستبداد بالرأي والحكم (2)، ولكنه نهج في معاملة الخليفة نهجاً جديداً، فأكثر من الإتصال به، والتقرب إليه، وبالغ في إرضائه وإرضاء حاشيته، وتحقيق رغباتهم؛ هذا في حين أن المنصور كان يقتصر في الاتصال بالخليفة على المواقف الضرورية، ويقتصد في رؤيته، ويؤثر التظاهر بتوقيره مع البعد عنه، ويحرص على عدم تدليله، وكبح جماح حاشيته؛ وجرى ولده المظفر على هذه السياسة. ولكن عبد الرحمن بالغ في التودد لهشام ومخالطته؛ ومن ذلك أنه استأذنه في أن يقوم بالتنزه مع أهله في قصور الملك بقرطبة، ويكون الخليفة هنالك مع خاصته وجواريه. فأذن هشام بذلك، وخرج مع الحاجب في موكبه مستخفياً، وقد ارتدى برنساً كالذي ترتديه الجواري، حتى لا يعرفه أحد، واخترق الموكب شوارع قرطبة المقفرة ومن حوله الجند، ونزل بقصر ناصح. وهنالك عرض عليه الحاجب شئون المملكة، والتمس إليه أن يأذن له في التلقب بالمأمون، وأن يضاف إلى اسمه ناصر الدولة، فخرجت رقعة الخليفة بذلك إلى الوزير الكاتب جَهْور بن محمد، وتسمية عنوانها " الحاجب المأمون ناصر الدولة أبو المطرِّف حفظه الله " وأبلغت بعد ذلك إلى الجهات والكافة. وكان ذلك لعشرة أيام فقط من ولاية عبد الرحمن. فعجب الناس لهذه الجرأة، وأنكر الناس على الحاجب هذا التسمي بألقاب الملك والخلافة، واعتبروها افتئاتاً وغروراً، ممن لا تؤهله خلاله لمثل هذا التكريم. ولكن سوف نرى أنها لم تكن سوى مقدمة لما هو أخطر وأبعد أثراً (3).
ذلك أنه لم تمض على هذا الإجراء فترة يسيرة، حتى غادر الخليفة هشام قصر ناصح بقرطبة، إلى القصر الخليفي بمدينة الزهراء مستخفياً كعادته، يتقدم موكبه الحاجب عبد الرحمن، ونزل عبد الرحمن بمدينة الزاهرة. وأقام الخليفة بالزهراء يومين. وفي اليوم الثالث الموافق 14 ربيع الأول سنة 399 هـ، غادر القصر الخليفي في أهله، إلى منية جعفر المجاورة، ومعه الحاجب. وكان عبد الرحمن
(1) البيان المغرب ج 3 ص 39.
(2)
ابن خلدون ج 6 ص 148.
(3)
البيان المغرب ج 3 ص 40 - 42؛ وأعمال الأعلام ص 90.
بعد أن حصل على ألقاب الملك، يجيش بمشروع ضخم، هو أن ينتزع ولاية العهد من الخليفة الضعيف الساذج، وأن يقضي بذلك نهائياً على تراث بني أمية، وينقل رسوم الخلافة جملة إلى أسرة بني عامر، فتخلف أسرة بني أمية في ملك الأندلس. وقد رأينا فيما تقدم كيف أن أباه المنصور، بالرغم من قوة نفسه، وعريض سلطانه، كان ينأى عن المغامرة بمثل هذه المشاريع الدقيقة، لأنه كان يدرك بذكائه، وبعد نظره، أنها تنطوي على أخطر العواقب، وأنه لم يقدم على اتخاذ ألقاب الملك إلا بعد طول روية وأناة، وأنه كان أبداً حريصاً على ْالإبقاء على رسوم الخلافة وأوضاعها. وقد حذا ولده عبد الملك المظفر حذوه في حرصه وتعقله. ولكن عبد الرحمن لم يكن إلا فتى طائشاً، متعجلا، كثير الغرور، قصير النظر. وقد وصف لنا ابن حيان موقفه من المشروع في تلك العبارات القوية:" وقد تقدم القول في سبب تعلق هذا الجاهل بدعوى الخلافة، عجرفية من غير تأويل ولا عقيدة، وكيف استهواه كيد الشيطان، وغرته قوة السلطان إلى أن ركبها عمياء مظلمة، لم يشاور فيها نصيحاً، ولا فكر في عاقبة، بل جبرها بالعجلة "(1).
وخلا عبد الرحمن بالخليفة، وأطال التقرب منه، وعرض عليه مشروعه، ويقال إنه أقنعه بأنهما على صلة رحم من ناحية الخؤولة، إذ ولد كلاهما من أم بشكنسية (نافارية)(2). ويقال من جهة أخرى، إن عبد الرحمن دس إلى الخليفة من هدده بالويل، وأنذره بأن عبد الرحمن قد اعتزم الفتك به، إذا لم يمنحه ولاية عهده (3). ويقال أيضاً إن هشاماً استفتى في ذلك فقهاء قرطبة وعلماءها، فأقروه على ما طلب. وكان أشد الساعين لتأييد عبد الرحمن، قاضي الجماعة أبو العباس ابن ذكوان، وكاتب الإنشاء أبو حفص بن برد (4). وعلى أي حال فقد استجاب هشام المؤيد إلى طلب عبد الرحمن. وخرج أصحابه عشية ذلك اليوم، يذيعون الخبر على الملأ، ويقولون إن الخليفة قد اختاره ولياً لعهده، إذ ليس له ولد يؤمل خلافته، وكثر الإرجاف لذلك.
(1) أعمال الأعلام ص 91؛ والبيان المغرب ج 3 ص 43.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 42.
(3)
البيان المغرب ج 3 ص 39.
(4)
ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150.
وفي صباح اليوم التالي، وهو اليوم الخامس عشر من ربيع الأول سنة 399 هـ (نوفمبر 1008 م)، أحيط قصر الخليفة بصفوف كثيفة من الجند، وأخرج عبد الرحمن هشاماً، وأجلسه في الساحة الكبرى، وجلس من حوله الوزراء والقضاة والقادة وأكابر رجال الدولة، فكان يوماً مشهوداً، وصدر مرسوم ولاية العهد وهو من إنشاء كاتب الرسائل أبى حفص أحمد بن برد، وذيل بشهادة قاضي الجماعة أحمد بن عبد الله بن ذكوان، وشهادة الوزراء وهم تسعة وعشرون وزيراً، ويليهم شهادة مائة وثمانين رجلا، من أكابر أهل الدولة والحكام، والفقهاء، وغيرهم. وإليك نص هذا المرسوم الشهير:
" هذا ما عهد به أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله - أطال الله بقاءه - إلى الناس عامة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصة، وأعطى عليه صفقة يمينه ببيعة تامة، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمه ما جعله الله إليه من إمامة المسلمين، وخصه به من إمرة المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء، بما لا يصرف، وخشى أن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدور ذلك به، ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوى إليه، ولم يوردها ملجأ تنعطف عليه، أن يكون يلقى الله مفرطاً فيها، ساهياً عن أداء الحق إليها. ونفض عند ذلك طبقات الرجال من أحياء قريش وغيرهم، ممن يستحق أن يسند الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه، ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وورعه، يعد اطراح الهوادة، والتبرىء من الهوى، والتحري للحق، والزلفى إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب، عالماً بأن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح، وموقناً أن لا وسيلة إليه أرضى من الدين الخالص، فلم يجد أحداً أجدر أن يوليه عهده، ويفوض إليه النظر في أمر الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خيمه، وشرف همته، وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه ومعرفته وحزمه، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، النازح عن كل عيب، ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر وفقه الله، إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعاً في الخيرات، مستولياً على الغايات، جامعاً للمأثرات، وارثاً للمكرمات، يجذب بضبيعة إلى أرفع منازل الطاعة، وينمو بعينيه إلى أعلا درج النصيحة،
أب منقطع القرين، وصنو معدوم الغريم، ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه، فلا غرو أن يبلغ في سبيل الخير مداه، ويحوي من حلل المجد ما حواه، مع أن أمير المؤمنين أكرمه الله بما طالعه من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، أمل أن يكون ولي عهده القحطاني، الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو ابن العاص، وأن يتحقق به ما أسنده أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ألا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه. فلما استوى له الاختبار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهباً، ولا إلى غيره معدلا، خرج إليه من تدبير الأمر في حياته، وفوض إليه النظر في الخلافة بعد مماته، طائعاً راضياً، ومجتهداً متخيراً، غير محاب له، ولا مائل له بهواه، ولا مترك نصح الإسلام وأهله فيه. وجعل إليه الاختيار لهذه الأمة بولاية عهده فيها، وأمضى أمير المؤمنين أعزه الله، عهده هذا، وأنفذه، وأجازه، وبتله، لم يشترط فيه مثنوية ولا خياراً، وأعطى على الوفاء بذلك في سره وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم وذمة الخلفاء الراشدين من آله وآبائه، وذمة نفسه، بأن لا يبدل ولا يغير، ولا يحول ولا يتأول.
وأشهد على ذلك الله وملائكته، وكفي بالله شهيداً. وأشهد عليه من أوقع اسمه في هذا الكتاب. وهو - أعزه الله - جائز الأمر، ماضي القول والفعل، بمحضر من ولي عهده المأمون ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور - وفقه الله - وقبوله لما قلده، والتزامه ما ألزمه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 399 " (1).
* * *
وعلى أثر صدور هذا المرسوم الفذ في تاريخ الخلافة الإسلامية، خرج عبد الرحمن في موكب عظيم من الوزراء والقادة وأكابر أهل الدولة، إلى قصر الزاهرة وهو " يختال في ثوب الخلافة، يحسب أنها له نحلة، وأنه مستحق لها، وخليق بها "(2). وأقبل عليه المهنئون من الوزراء ورجال الدولة، يتكلفون البشر، والدعاء له بما أكرمه الله به، وقلوبهم تفيض إنكاراً وسخطاً، وأنفذت
(1) ورد نص هذا المرسوم في أعمال الأعلام ص 91 - 93؛ ونفح الطيب ج 1 ص 198 و199؛ وابن خلدون ج 4 ص 149؛ والبيان المغرب ج 3 ص 44 - 46؛ وقد اتبعنا نحن بالأخص النص الوارد في أعمال الأعلام لأنه أوفاها وأصحها.
(2)
البيان المغرب عن ابن عون الله ج 3 ص 46.
الكتب في الحال إلى سائر نواحي الأندلس والعدوة، بوجوب إذاعة المرسوم، والدعاء لولى العهد على المنابر بعد الخليفة.
وفي اليوم التالي جلس عبد الرحمن بقصر الزاهرة في هيئة الملك، واصطف من حوله رجال الدولة وفق مراتبهم، وأقبل وجوه قرطبة لتهنئته، وفي مقدمتهم طائفة من المروانية المبعدين عن الخلافة، وغيرهم من بطون قريش. يقول المؤرخ:" وخرجوا من عنده، وقلوبهم ذؤوبة عليه، موقدة ببغضه ". وبادر الشعراء وفي مقدمتهم أبو العلاء صاعد البغدادي، برفع قصائد التهاني. وقد أورد لنا ابن حيان طرفاً مما قاله الشعراء في ذلك (1).
بيد أن شاعراً آخر، هو ابن أبي يزيد المصري، نظم في ذم ابن ذكوان وابن برد وهما المسؤولان عن تحرير مرسوم البيعة هذين البيتين:
إن ابن ذكوان وابن برد
…
قد ناقضا الدين عين عهد
وعاندا الحق إذ أقاما
…
حفيد شنجُه ولي عهد (2)
وذهب عبد الرحمن في غروره واختياله إلى أبعد مدى، فعين ابنه الطفل عبد العزيز في خطة الحجابة، وأسبغ عليه لقب سيف الدولة، وهو لقب عمه المظفر. واعتقد عبد الرحمن أنه حقق بذلك مشروعه العظيم، في تخليد ملك الدولة العامرية، وأن الأمور قد دانت كلها له، فأطلق العنان لأهوائه، وانكب على لهوه وشرابه، يحيط به نفر من البطانة السيئة، والندماء الأسافل، يصورون له الأحوال في أبدع الصور وأحبها إلى نفسه.
وكان من الحوادث البارزة في تلك الآونة، حادث ظاهر البساطة في ذاته، ولكنه أذكى موجة جديدة من السخط. وذلك أن عبد الرحمن أصدر أمره إلى رجال الدولة وأكابر أهل الخدمة، بأن يتركوا قلانسهم الطويلة، المبرقشة الملونة، التي كانوا يضعونها على رؤوسهم، ويمتازون بها على باقي الطوائف، وأن يستبدلوها فوراً بالعمائم. وقد كانت العمائم هي غطاء الرأس عند البربر. فأنف الكبراء لذلك، ولكنهم رضخوا للأمر كارهين، وحضروا إلى قصر الزاهرة بالعمائم لأول مرة في يوم 14 جمادى الأولى، وعلق جمهور الشعب على ذلك بمختلف الأقوال والتأويلات.
(1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 46 و47؛ وأعمال الأعلام ص 94 - 96.
(2)
ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150.
وكان عبد الرحمن أثناء ذلك قد فكر في أن يشغل الناس بحديث الغزو أسوة بأبيه وأخيه، وكان سانشو غرسية أمير قشتالة من جهة أخرى قد أبدى أنه لا يزمع احترام السلم المعقود، وأخذ بالفعل يغير على الحدود الإسلامية. ولم تكن أخبار قرطبة، وما يسودها من اضطراب الأحوال، خافية على الملوك النصارى.
واعتزم عبد الرحمن أن يسير إلى الغزو، وأن يقصد إلى جلِّيقية، فاعترضه كبير الفتيان الصقالبة، وحذره من مغادرة قرطبة في هذا الوقت، وأوضح له أن المروانية (بني أمية) يأتمرون به، ويدبرون انقلاباً ينتزعون به الحكم، وأن كثيراً من الجند يميلون إليهم، فلم يصغ إلى قوله، وأمر بالخروج إلى الغزو (1)، وعهد بإدارة الحكومة في غيبته إلى ابن عم أبيه عبد الله بن أبي عامر المعروف بعسكلاجة.
وكان خروجه من قرطبة في 16 جمادى الأولى سنة 399 هـ (يناير سنة 1009 م) أعني في أعماق الشتاء، وسار بالجيش صوب طليطلة في طريقه إلى جليقية والأمطار تنهمر والبرد يهرأ الأجسام، وهو على سجيته من اللهو والشراب. ثم اخترق حدود مملكة ليون، ودخل جليقية. ولكن ملك ليون ألفونسو الخامس تحصن بقواته في رؤوس الجبال، ولم يتقدم لقتال المسلمين، ولم يجد عبد الرحمن سبيلا لقتاله لفيضان الأنهار وكثرة الثلوج، فقرر العودة بجيشه، فارتد راجعاً أدراجه. وبالرغم من أنه لم يحقق في غزوته هذه أية نتائج ذات شأن، فقد نظم ابن دراج القسطلي، على سجيته، في تلك الغزوة قصيدة طويلة، يشيد فيها بعبد الرحمن، وهذا مطلعها:
هو البدر في فلك المجد دارا
…
فما غسق الخطب إلا أنارا
تجلى لنا فأرتنا السعود
…
غيوب المنى في سناه جهارا
وأوفى فكادت صوادي القلوب
…
تفوت العيون إليه بدارا
وحل فحلت جسام الفتو
…
ح تبأى اختيالا وتزهى افتخارا (2)
وما كاد عبد الرحمن يصل إلى طليطلة، حتى وافته الأنباء بأن انقلاباً حدث في قرطبة، وأن الثوار قد استولوا على مدينة الزاهرة، ونهبوا ذخائرها، وأضرموا النار في صروحها. وتسربت الأنباء إلى الجند، فوقع الاضطراب في الجيش،
(1) أعمال الأعلام ص 96.
(2)
وردت هذه القصيدة كاملة في ديوان ابن دراج (ص 459 - 463).
واضطر عبد الرحمن أن يسير لفوره بالجيش إلى قلعة رباح، في طريقه إلى قرطبة.
- 2 -
لم يكن ذلك الهدوء الظاهر، الذي ساد قرطبة خلال هذه الأشهر القلائل التي اضطلع فيها عبد الرحمن بالأمر، سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة. وكان حكم الطغيان الذي فرضه بنو عامر على الأندلس قد أخذ منذ أيام عبد الملك، يحدث آثاره المادية والأدبية، في نفوس الشعب، ويبدو لهم بغيضاً مرهقاً. ولم يكن يستر هذه الآثار سوى سياج خفيف من الحذر والترقب. ذلك أن سلطان بني عامر كان يستند دائماً إلى قوة عسكرية يخشى بأسها، قوامها البربر والصقالبة؛ فلما جاء عبد الرحمن، وكشف عن نيته في الاستئثار برسوم الملك، واغتصاب ولاية العهد، ألفت العناصر الناقمة، وفي مقدمتها بنو أمية أصحاب الولاية الشرعية، في ذلك مادة جديدة، للتنديد بحكم بني عامر وطغيانهم واجترائهم، وفي تلمس الوسائل الكفيلة بسحق دولتهم؛ وكانت شخصية عبد الرحمن الهزيلة، وأرومته الأجنبية، وما أبداه من ضروب الاستهتار والمجون، تذكي عاطفة السخط عليه، سواء بين الخاصة أو الكافة، وتمهد السبيل إلى الانقلاب المنشود.
وكانت خيوط المؤامرة التي اجتمعت حولها العناصر الناقمة، تتوثق شيئاً فشيئاً، وكان أهم مدبريها شخصيتين، الأولى الذلفاء والدة عبد الملك المصور، وقد كانت تعتقد اعتقاداً جازماً بأن ولدها قد توفي غيلة بالسم، وأن قاتله هو أخوه عبد الرحمن، وكانت لذلك تتوق إلى الانتقام، والثانية هي شخصية فتى من بني أمية هو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وكان عبد الملك قد أمر بإعدام أبيه هشام بتهمة التآمر مع الوزير عيسى بن سعيد كما تقدم.
وكانت الذلفاء امرأة ذكية قوية العزم، كثيرة المال والوجاهة، وكانت بالرغم مما أصبغه عبد الرحمن عليها وعلى أسرة ولدها وأخيه عبد الملك، من ضروب الرعاية والإكرام، تسعى دائبة للإيقاع به. فلما شعرت بأن الجو قد تهيأ للسعي، بما ثار حول تصرفات عبد الرحمن من ضروب الإنكار والسخط، اتصلت بوجوه بني أمية، وأخذت تحثهم على التحرك والقيام لاسترجاع دولتهم، والانتقام من بني عامر، وكان صلة الوصل بينها وبينهم فتى من صقالبة العامريين يدعى بشرى
وكان من قبل من فتيان المراونية، ثم انتقل إلى العامربين فيمن انتقل من فتيان القصر، ولكنه بقي على ولائه لسادته الأقدمين. وتعهدت الذلفاء بأن تعاون المتآمرين بالمال والتدبير؛ وسرعان ما استجاب بنو أمية للدعوة واختاروا من بينهم زعيماً هو محمد بن هشام بن عبد الجبار. وكان فتى جريئاً مغامراً في الثالثة والثلاثين من عمره إذ كان مولده في سنة 366 هـ، وأمه أم ولد تدعى مزنة (1)، وكان مذ قتل أبوه هشام، يتحرز على نفسه، ويختفي في أحواز قرطبة وكهوفها، ويجتمع حوله الصحب من المغامرين. فلما أجمع بنو أمية أمرهم على اختياره، بايعوه سراً بالولاية والخلافة، وكان له ولأبيه من قبل دعاة من أهل قرطبة من المروانية وغيرهم، يدعون له؛ واشتدت هذه الدعاية مذ أجمع المتآمرون رأيهم على اختياره. وكان خروج عبد الرحمن المنصور أو شنجول إلى الغزو فرصة سانحة للعمل، فأخذ محمد بن هشام يحشد أنصاره، ويجتمع بهم سراً في كهوف جبل قرطبة. وكثر إرجاف دعاته في المدينة أن دولة بني عامر قد قضي عليها، وأن الأمر سيعود إلى المروانية، وكثر تشهيرهم بعبد الرحمن وقبيح تصرفاته. وكانت هذه الدعاية تجد لدى جمهور الكافة أذناً صاغية، لما وقر في نفوسهم من بغض عبد الرحمن وازدرائه. وإليك كيف يصف لنا ابن الخطيب موقف الشعب القرطبي، وحالته النفسية إزاء العامريين، وإزاء عبد الرحمن:
" وقد جبل الله أهل قرطبة على ملل ملوكها، والقلق بذوي أمرها، والإرجاف بما يتوقع لها. وكان سفهاؤهم بالأسواق والمجامع غير المحتشمة، تؤثر عنهم في العامريين نوادر حارة، واستراحات عنهم؛ كان المنصور وولده المظفر يستحضر لذلك مشيختهم، ويأمرهم بإنهاء وعيده، ويشافههم بإنكاره، ولا يزال حكامه يبلغون في تغيير ذلك وإنكاره أقصى المبالغ ضرباً للظهور، وقطعاً للألسنة. فلما ذهب عبد الرحمن هذا المذهب، وأطاع هذا الخرق، كثر الحمل وشهرت البغضة "(2).
ولم يكن المروانية، وحدهم في هذا التدبير الذي قصد به إلى سحق نير العامريين ودولتهم، فقد كان إلى جانبهم سائر العناصر الناقمة من قريش، ومن المضرية
(1) جذوة المقتبس ص 19.
(2)
أعمال الأعلام ص 90.
واليمنية، أو بعبارة أخرى من البيوت العربية، التي عمل المنصور وآله على سحق رياستها ومكانتها الاجتماعية، وإخضاعها لنفوذ البربر والصقالبة. وقد رأينا فيما تقدم أن هذه لم تكن أول مؤامرة أو محاولة من نوعها لتحطيم نير بني عامر، وأن المنصور وولده عبد الملك، استطاعا أن يقضيا على بعض المؤامرات الخطيرة، التي دبرت لتحقيق هذه الغاية.
كانت الظروف قد تهيأت. إذاً أمام المتآمرين للعمل. فقد خرجت معظم وحدات الجيش مع عبد الرحمن إلى الغزو، ولم يبق منه سوى فرق قليلة ترابط في قرطبة والزاهرة، وجمهور الشعب متأهب بعواطفه ونفسيته الضجرة المتذمرة لتأييد أي انقلاب.
ولما نضجت المؤامرة، واتسع نطاق الدعوة لمحمد بن هشام، وكثر الإرجاف بالانقلاب المنشود، شعر الوزراء العامريون بالخطر، وضاعفوا الأهبة والحرس حول قصور الزاهرة. وكان محمد بن هشام وأعوانه خلال ذلك يجتمعون سراً وينظمون خطتهم الأخيرة. وكان محمد هذا الذي اختاره بنو أمية زعيماً لهم، قد فطر منذ نشأته على الشر والمغامرة، لا يخالط سوى الزعانف والأشرار. وقد وصفه ابن الخطيب في قوله:" جرار جسور، ثائر مخاطر، خليع، مداخل للصقورة والفتاك، لايدري في أي واد يهلك "(1).
وفي يوم 16 جمادى الأولى سنة 399 هـ (15 فبراير 1009 م) جاءت الأنباء إلى قصر الزاهرة بأن عبد الرحمن قد عبر بجيشه إلى أرض النصارى، فأدرك المتآمرون في الحال أن الفرصة قد سنحت للعمل، واعتزم محمد بن هشام لفوره أن ينزل الضربة المنشودة. وكان قد بث نفراً من رجاله حول قصر قرطبة، وقد تسلحوا تحت ثيابهم خفية. ففي عصر هذا اليوم، كان محمد يكمن في الضفة الأخرى من النهر (نهر الوادي الكبير) قبالة القصر. وكانت خطة المتآمرين أن يسددوا الضربة الأولى لقصر قرطبة، وهو يومئذ المقام الشتوي للخليفة هشام المؤيد، وحوله قلة من الحرس، ولأن ظروف العمل في قرطبة، كانت أدعى إلى النجاح نظراً لعطف الكافة والدهماء وتأييدهم. وفي الوقت المحدد عبر محمد النهر، والتف حوله من أصحابه اثنا عشر فتى، منهم طرسوس المجوسي، وهو أشدهم
(1) أعمال الأعلام ص 109؛ وراجع البيان المغرب ج 3 ص 52.
جرأة وفتكاً؛ فساروا حذرين حتى باب القصر، ثم شهر طرسوس سيفه، وهجم في الحال على صاحب المدينة عبد الله بن أبي عامر (عسكلاجة) وانتزعه من مجلسه، وكان يحتسي الخمر مع قينتين من جواريه، وجىء به مخموراً إلى محمد بن هشام، فأمر بضرب عنقه، ورفع رأسه على رمح، فلما أبصرت العامة رأسه مرفوعاً، هرعت إلى محمد بن هشام، والتف حوله منهم جمهرة كبيرة من السفلة والغوغاء، فقويت بذلك عصبته، ثم بادرت باقتحام سجن العامرية، وأفرج عمن فيه من القتلة واللصوص، وتلاحق عليه أقاربه المروانية من كل صوب، واستنهضوا الناس لنصرته، حتى اجتمع حوله منهم طوائف غفيرة.
ونمي الخبر إلى الخليفة هشام المؤيد، فأمر بإغلاق أبواب القصر، وصعد إلى السطح، ومن حوله خادمان يحمل كل منهما مصحفاً، وحاول مخاطبة العامة، فأسكتوه وأغلظوا له القول، فانصرف عنهم إلى داخل القصر، وأمر الخدم بالكف عن كل مقاومة حتى يقضي الله أمره. فأمر محمد بن هشام العامة بنقب أسوار القصر، واقتحام أبوابه، وبذل العامة في ذلك جهوداً فادحة، وأتوا بالسلالم، وصعدوا إلى أعلا الأسوار، وسيطروا على عدة نواح من سطح القصر، وارتد الخدم أمامهم، ووصلوا إلى خزائن السلاح فنهبوها واشتد ساعدهم. ولما سمع الخليفة بذلك، خشي البادرة على نفسه وأهله، فبعث إلى محمد بن هشام يعرض عليه أن يقصي بني عامر من الحكم، وأن يشركه في أمره، فرفض محمد ذلك، وطلب إلى فاتن محافظ القصر أن يفتح الأبواب، فأذعن ودخل محمد القصر، واحتل مجلسه، ومن حوله خاصة أصحابه، واعتزم أن يقضي ليله بين الشموع المضيئة. ثم قام بطرد العامة من القصر وأجلاهم عن سطحه، وكفهم عن انتهاك حرمه، وعين ابن عمه محمداً بن المغيرة في كرسي الشرطة، وابن عمه الآخر عبد الجبار بن المغيرة في خطة الحجابة، ودعا سليمان بن هشام من قرابته فسماه ولي عهده، وبعث إلى الخليفة هشام يعاتبه على إيثار بني عامر، ويدعوه إلى خلع ْنفسه، منذراً مهدداً، فارتاع هشام وبادر بالقبول، واستدعى محمد في الحال بني عمومته، وأكابر بيته، ونفراً من الأعيان والوزراء والقضاة في جوف الليل، وأعلن هشام خلع نفسه بمحضر من بعضهم، وقدم إلى محمد بعض حلله الخلافية الفاخرة، فتم الخلع، وذلك بعد أن مكث هشام في الخلافة ثلاثة وثلاثين عاماً
وبضعة أشهر، وآلت الخلافة في تلك الليلة إلى محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن عبد الرحمن الناصر، وتلقب بالمهدي. وكان ذلك صبيحة يوم الأربعاء 17 جمادى الآخرة سنة 399 هـ (16 فبراير سنة 1009 م).
وهرعت الجموع من سائر أنحاء قرطبة إلى محمد بن هشام، ملتفة حوله، مؤيدة لبيعته، واعتبروه بطلا منقذاً، إذ كان أول من استطاع أن يثور في وجه بني عامر، وأن يعمل لإزالة ملكهم، وشعروا أن كابوس الإرهاب العامري قد تقلص، وأن عهداً جديداً سوف يبدأ، ولم يخطر ببالهم قط، أن هذا التحول كان نذير المحنة الغامرة، التي سوف تطيح بكل ما نعموا به في ظل الدولة العامرية من السكينة والأمن والرخاء.
وفي الوقت نفسه كانت مدينة الزاهرة، معقل بني عامر، عرضة لهجوم مماثل. وكان القائمون على أمرها قد نمى إليهم ما وقع بقرطبة، وبادر محافظ الزاهرة عبد الله بن مسلمة إلى ضبط أسوارها وأبوابها، وحشد ما لديه من الجند، فبلغوا سبعمائة، وتأهب للدفاع وبعث محمد بن هشام إلى الزاهرة جمهوراً غفيراً من العامة مع طائفة من أصحابه. فأحاطوا بها وحاولوا اقتحامها، ولكن نظيفاً الخادم، ونصراً المظفري، وهما من الفتيان العامريين، استطاعوا في قوة من الغلمان إجلاء العامة عن الأسوار، ثم دخل الليل فحال بين الفريقين.
وفي صباح اليوم التالي، 18 جمادى الأولى، ندب محمد بن هشام أو الخليفة المهدي، ابن عمه عبد الجبار بن المغيرة لمهاجمة الزاهرة، فسار إليها على رأس قوة كبيرة من العامة، الذين أقبلوا على التطوع فرساناً ومشاة، ووزعت عليهم الأسلحة، وأمامهم رأس عبد الله بن أبي عامر مرفوعاً فوق رمح، وهاجموا قصر عبد الملك المظفر، وكان خارج الأسوار، وكان فيه أهله وأمه الذلفاء، فنهبوه وتخاطفوا متاعه وذخائره، وذلك بالرغم من أن الذلفاء هي التي أمدت محمداً بن هشام بعونها ومالها. فلما شعر أهل الزاهرة، بأنه من العبث مقاومة هذه الجموع الهائلة، عرضوا التسليم على أن يصدر لهم المهدي الأمان، فبعث إليهم المهدي الأمان المنشود مكتوباً بخطه، وكان ذلك وقت الظهر، ففتحوا أبواب المدينة وسلموها، ودخل عبد الجبار لفوره قصر الزاهرة، واقتحمته الجموع، ونهبت منه من المتاع والنفائس ما لا يقدر ولا يوصف، واستأثر عبد الجبار
وصحبه المقربين من ذلك بأعظم نصيب، واستولت العامة على خزائن الكسوة والمتاع والسلاح والحلي، ولم يكف النهب إلا في مساء اليوم التالي. وحرص عبد الجبار على أن يحيط بقواته، بيوت الحُرم والمال وخاص المتاع والجوهر، وأن يبعد العامة عنها، وقد استولى المهدي على جميع محتوياتها ونقلها إلى قصر الخلافة بقرطبة. ويقال إنه حصل من أموال الزاهرة المنهوبة خمسة آلاف وخمسمائة ألف دينار من النقود، ومن الذهب ما قيمته ألف ألف وخمسمائة ألف. وأطلق المهدي الحرائر من بني عامر، واصطفى الجوارى لنفسه، ووهب منهن لوزرائه وأصحابه، وأذن للذلفاء أن تنتقل وأسرة ولدها عبد الملك وولده الصغير محمد، مطلقة السراح إلى دورها بالمدينة، وكانت لحرصها قد نقلت إليها معظم خزائن المال والمتاع.
ولم يكتف المهدي بذلك كله، بل عمد بعد أن استصفى سائر ما في الزاهرة من الخزائن والأموال الطائلة، إلى هدم صروحها وأسوارها، واستطالت الأيدي إلى كل نفيس من مرمر قصورها وطرائفها وأنقاضها وأبوابها، فلم تمض أيام قلائل على ذلك السيل المدمر، حتى اختفت صروح الزاهرة ومعالمها الضاحكة، وغدت أطلالا دارسة، وخرائب موحشة. وكان المهدي يتعجل إزالة رسوم بني عامر بكل ما وسع، خشية أن يعود عبد الرحمن المنصور، قبل أن يتم إحكام ضربته وتوطيد مركزه.
وقد ذكرت لنا الرواية أن المنصور بن أبي عامر، كان يتوقع ذهاب دولته وخراب الزاهرة، وكان هذا الخاطر ينتابه من آن لآخر، ويفضي به إلى خاصته، وقد نقل إلينا الوزير أحمد بن حزم، والد الفيلسوف الشهير، أن المنصور كان يقول:" ويحاً لك يا زاهرة الحسن، لقد حسن مرآك، وعبق ثراك، وراق منظرك، وفاق مخبرك، وطاب تربك، وعذب شربك، فياليت شعري من الذي يهدمك، ويوهن جسمك ويعدمك "، وأنه كان يؤكد لأصحابه صحة هذه النبوءة في مناسبات كثيرة (1).
- 3 -
لما وصلت أنباء هذا الإنقلاب الخطير الذي وقع في قرطبة، إلى عبد الرحمن
(1) البيان المغرب ج 3 ص 65.
المنصور أو شنجول، وهو في طليطلة، بادر بالسير في قواته إلى قلعة رباح، والحيرة تغلب عليه، والاضطراب يسود صفوف الجنود، وهنالك تمهل قليلا، وأعلن في الحال أنه ينزل عن ولاية العهد، ويقتصر على الحجابة، وبعث كتبه بذلك إلى طليطلة وأعمالها، وفيها يناشد الناس أن يهرعوا إلى نصرة الخليفة المظلوم هشام، وإلى التمسك بطاعته، ويصف لهم ما ارتكبه محمد المهدي ودهماء قرطبة من العيث والسفك. فلم يعبأ أحد بدعوته، وكان أول الخارجين عليه الفتى واضح مولى أبيه، وهو يومئذ والي طليطلة. وحاول شنجول في الوقت نفسه، أن يأخذ العهد على زعماء الجند بنصرته والقتال معه، ولا سيما زعماء البربر الذين يؤلفون سواد الجيش، فتظاهروا بموافقته، ولكنهم تعاهدوا فيما بينهم، وعلى رأسهم كبيرهم محمد بن يعلى الزناتي زعيم زناتة، أن يتخلوا عن شنجول وألا يغامروا بمحاربة أهل قرطبة، وفيها أسرهم وأموالهم، وخصوصاً بعد الذي ترامى إليهم عن التفاف الناس حول محمد بن هشام، وتفانيهم في نصرته؛ وقوى هذا العزم لديهم ما أفضى إليهم القاضي أبو العباس بن ذكوان - وكان قد صحب شنجول في غزاته - من أنه يتبرأ من شنجول ويقضي بفسقه، وينكر عليه ما يدعو إليه من قتال المسلمين بقرطبة، وفيهم العلماء والصالحون، والنسوة والأطفال. ومما تجدر ملاحظته أن القاضي ابن ذكوان هذا، كان من قبل من أخص رجال الدولة العامرية، وكان من أشد المعاونين لعبد الرحمن المنصور على انتزاع ولاية العهد من هشام.
وكان إلى جانب شنجول في معسكره، زعيم من زعماء بني غومس سادة مقاطعة كريون في جلِّيقية، وكان قد صحبه يرجو عونه على بعض خصومه من الزعماء المجاورين، فلما رأى اضطراب أحوال الجند، نصح شنجول بأن يعدل عن السير إلى قرطبة، وأن يعود في أصحابه إلى طليطلة فيتفق مع واضح، فأبى شنجول نصحه، وزعم أنه متى اقترب من قرطبة، سارع الناس إلى نصرته.
وقد بقي هذا الزعيم النصراني إلى جانب شنجول حتى النهاية (1).
وعلى أي حال فقد سار شنجول في قواته صوب قرطبة، حتى انتهى إلى " منزل هاني "، وهي أقرب محلاته إلى المدينة. وما كاد الليل يرخي سدوله،
(1) البيان المغرب ج 3 ص 70.
حتى غادر معظم الجند البربر أمكنتهم تحت جنح الظلام، وأسفر الصبح وهو صبح نهاية شهر جمادى الآخرة سنة 399 هـ (نهاية فبراير سنة 1009 م) فلم يبق إلى جانب عبد الرحمن سوى خاصته وحرمه وحشمه وجمع يسير من غلمانه، وابن غومس في نفر من أصحابه، وغادر المعسكر تباعاً زعماء البربر، والفتيان الصقالبة ووجوه الأندلسيين، وهنا نصحه ابن غومس مرة أخرى بأن ينجو بنفسه وصحبه، فأبى.
وسار شنجول في أهله حتى وصل إلى أرملاط من مشارف قرطبة، وقد تركه النفر القليل الذي بقي معه، فاستولى عليه اليأس، وأدخل حرمه قصر أرملاط، ثم خرج مودعاً والصراخ يتبعه، وسار ومعه ابن غومس، وقد عول على الفرار، فالتجأ ليلا إلى الدير القريب. وكان محمد بن هشام في تلك الأثناء يتتبع أخباره وحركاته، فلما نمى إليه أنه يزمع الفرار، بعث في الحال الحاجب ابن ذرى في طائفة من الفرسان، فسار مسرعاً إلى أرملاط ودهم الدير، وقبض على شنجول وابن غومس. وأخذ نساء شنجول من القصر، وهن سبعون جارية، فبعث بهن إلى قرطبة. ولما شعر شنجول بأنه هالك أعلن أمام معتقله أنه يعترف بطاعة المهدي، فاستاقه ابن ذرى هو وابن غومس، ثم أمر بتوثيق يديه بالرغم من احتجاجه، وفي خلال الطريق طلب شنجول أن يفك وثاق يديه قليلا ليستريح، فأجيب إلى طلبه، وعندئذ أخرج من خفه سكيناً بسرعة البرق، وحاول أن يغمده في صدره، فتداركه الجند، وأوثقوا يديه، وأمر الحاجب بقتله، فذبح في الحال، وفصل رأسه عن جسمه، وقتل ابن غومس، وحمل رأس شنجول إلى المهدي في نفس المساء، وحمل جسده معروضاً على بغل، وأمر المهدي فحنطت الجثة، وركب عليها الرأس، وألبست كسوتها، ونصبت على خشبة طويلة على باب السُّدة، ونصبت رأس ابن غومس على سارية إلى جانبها. وكان مقتل عبد الرحمن المنصور في اليوم الثالث من رجب سنة 399 هـ (3 مارس سنة 1009 م).
وقد انتهت إلينا من تعليقات المعاصرين على تلك الحوادث المتوالية المدهشة تعليق شاهد عيان يقول فيه:
" ومن أعجب ما رأيت من عبر الدنيا، أنه تم من نصف نهار يوم الثلاثاء
لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة المؤرخ إلى نصف نهار يوم الأربعاء تتمة الشهر، وفي مثل ساعته فتح مدينة قرطبة، وهدم مدينة الزاهرة، وخلع خليفة قديم الولاية وهو هشام بن الحكم، ونصب خليفة جديد لم يتقدم له عهد، ولا وقع عليه اختيار، وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزوال دولة آل عامر، وكرور دولة بني أمية، وإقامة جنود من العامة المحشودة عورض بها أجناد السلطان أهل الدربة والتجربة، ونكوب وزراء جلة، ونصب ضدادهم، تقتحمهم العين هجنة وقماءة. وجرى هذا كله على يدي بضعة عشر رجلا من أراذل العامة، حجامين وخرازين، وكنافين، وزبالين، تجاسروا عليه، وقد تكفل المقدور بوقوعه، فتم منه ما لم يكن في حسبان مخلوق تمامه" (1).
* * *
وهكذا انهارت الدولة العامرية بسرعة مدهشة لم يكن يتوقعها أحد؛ فقد تولى عبد الرحمن المنصور الحكم عقب وفاة أخيه عبد الملك في 17 صفر سنة 399 هـ والدولة محكمة النظام موطدة الدعائم، والجيش على ولائه للدولة العامرية، فلم تمض سوى ثلاثة أشهر حتى انهار ذلك الصرح الشامخ، الذي شاده المنصور ابن أبي عامر، والذي لبث خمسة وثلاثين عاماً معقد النظام والسلامة والأمن والرخاء للأندلس، واستطاعت جموع يسيرة من الدهماء، أن تحقق بسرعة البرق ما لم يجرؤ على تصوره أو محاولته من قبل، أحد من أكابر خصوم الدولة العامرية والمتربصين بها. ومن الواضح أن الأسباب الجوهرية لمثل هذا الانقلاب الصاعق، ترجع قبل كل شىء إلى العوامل الأدبية والنفسية، فقد كان نظام الطغيان المطبق الذي فرضه المنصور على الأمة الأندلسية، بالرغم من كل ما حققه للأندلس من السؤدد والرخاء، يبدو كالكابوس المرهق، وكان الشعب يتوق إلى التخلص من هذا النير، الذي سلبه كل مظاهر الحرية. فلما تولى عبد الرحمن المنصور، كانت النفوس قد أشبعت ببغض هذا النظام والرغبة في زواله، وكان سلوك عبد الرحمن وتصرفاته ومجونه واستهتاره، عاملا جديداً في إذكاء هذا البغض وهذه الرغبة.
وكان لاجترائه على اغتصاب ولاية العهد، أسوأ وقع في نفوس قوم جبلوا على تقديس شعائر الخلافة وحقوقها الشرعية. فلما خرج عبد الرحمن إلى الغزو، كان
(1) البيان المغرب ج 3 ص 74.
الشعب يضطرم سخطاً وبغضاً وازدراء، وكان يرقب أول بادرة للانفجار. فلما وقعت هذه البادرة بوثوب محمد بن هشام؛ لبى الشعب لفوره دعوة الخروج والثورة، ولم يفكر في شىء من العواقب، ولم يفكر إلا في تحطيم هذا النير البغيض - نير بني عامر - بأية وسيلة. وكان له ما أراد، وقد حقق رغبته بأيسر أمر.
على أن الأمة الأندلسية لم تجن خيراً من هذا الانقلاب، الذي حققه الشعب القرطبي دون تدبر ودون تحوط. ذلك لأنه لم يقف عند القضاء على دولة بني عامر، بل بالعكس كان نذيراً بانهيار دعائم النظام والأمن، اللذين تمتعت بهما الأندلس في ظل الدولة المنقضية، ودفع الأمة الأندلسية إلى معترك مروع من الفتن المضطرمة، والفوضى الشاملة، التي انتهت بانهيار حكومتها المركزية، وتمزيق وحدتها، ومواجهتها لأخطر مصير عرفته منذ قيامها في شبه الجزيرة.