المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

‌الفصل الأول

ولاية عبد الرحمن الناصر

وقيام الخلافة الأندلسية

ولاية عبد الرحمن حفيد الأمير عبد الله. نشأته وحداثته. أخذ البيعة له. حزمه في معالجة الثورة. غزو قلعة رباح وإخضاعها. خروج عبد الرحمن لغزو الثوار. غزوة المنتلون. غزوه لمعاقل ابن حفصون في ريه وإلبيرة. سحق الثورة في إشبيلية. عوده لغزو كورة ريه. محاصرته لقرمونة وإخضاعها. مولد ولي العهد الحكم. القحط بالأندلس. أقوال ابن حيان. إخضاع أوريولة ولبلة. ابن حفصون يطلب الصلح ويجاب إليه. عهد الناصر له. وفاة عمر بن حفصون. مبالغة النقد الغربي في تصوير شخصيته. أبناؤه يخلفونه في معاقله. مطاردتهم وإخضاع ببشتر آخر معاقلهم. استخراج جثة الثائر وصلبها. إعدام ابنته أرخنتا. كتاب الناصر عن فتح ببشتر. محاصرة طليطلة وإخضاعها. إخضاع بطليوس ونهاية بني الجليقي. إخضاع بني ذى النون. تمزيق الثوار في شرقي الأندلس. إسبانيا النصرانية وتربصها بالأندلس. عيث النصارى في أراضي المسلمين. غزو أردونيو ليابرة وماردة وبطليوس. غزو المسلمين لأراضي ليون. موقعة شنت إشتيبن وهزيمة المسلمين. عود المسلمين إلى غزو ليون. موقعة مطرانية وهزيمة النصارى. مسير عبد الرحمن إلى ليون. استيلاؤه على أوسمة وشنت إشتيبن. توغله في أراضي نافار. موقعة جونكيرا وهزيمة النصارى. إستيلاء النصارى على بقيرة وفتكهم بالمسلمين. مسير عبد الرحمن إلى الثغر الأعلى. غزوه لنافار واستيلاؤه على بنبلونة. هزيمة النصارى. وفاة أردونيو وولاية ولده راميرو. راميرو يشجع ثوار طليطلة. محاصرة الناصر لطليطلة. محاولة راميرو إنجادها. سقوطها في يد الناصر. غزو الناصر لقشتالة. مسيره إلى أوسمة. التماس طوطة للصلح. غزو ألبة والقلاع. غزوة بحرية إسلامية للثغر الفرنجي. الصلح بين الناصر وراميرو. تحالف بني هاشم أصحاب الثغر الأعلى مع النصارى. مسير عبد الرحمن إلى مقاتلة الثوار. محاصرته لسرقسطة. خروج أمية بن إسحاق والتجاؤه للنصارى. سقوط سرقسطة وخضوع محمد بن هاشم. عهد الناصر له بالأمان. غزو عبد الرحمن لنافار وخضوع ملكتها طوطه. تأهب عبد الرحمن لمحاربة راميرو. نفوذ الصقالبة في القصر والجيش. مسير عبد الرحمن إلى ليون. تحالف ليون ونافار. زحف عبد الرحمن على سمورة. موقعة الخندق وهزيمة المسلمين. أقوال الروايات العربية. رواية المسعودي. رواية ابن حيان. كتاب الناصر عن الغزوة. رواية ابن الخطيب. الروايات النصرانية. رواية ألفونسو الحكيم. الروايات الأخرى. آثار الموقعة. عود المسلمين لغزو ليون. وفاة راميرو وجلوس أردونيو. الصلح بين الأندلس وليون. بعض الحوادث الداخلية. حريق قرطبة. المحل والقحط. الدعوة الفاطمية واجتياحها للمغرب. جزع حكومة قرطبة. استيلاء عبد الرحمن على سبتة. خضوع المغرب الأقصى لعبد الرحمن. خطر الفاطميين على الأندلس. السفن الفاطمية تغزو ألمرية. غزوات عبد الرحمن لشواطىء المغرب. أثر الدعوة الفاطمية في بعث فكرة الخلافة الأندلسية. عبد الرحمن يتخذ سمة الخلافة. الوثيقة الخاصة بذلك. ابن مسرة. حركته وحقيقة أمرها. أقوال ابن حيان عنها. مطاردة منتحليها. كتاب الناصر في شأنها.

ص: 372

- 1 -

مضي زهاء قرن منذ استقر ملك بني أمية بالأندلس، وتوطدت أسس الدولة الجديدة، وأخذت تزهو وتزدهر في عهد عبد الرحمن بن الحكم. ولكن عوامل الإنتقاض والتفكك، سرت فجأة إلى هذا الصرح القوي، ولبثت الأندلس مدى النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (أواخر القرن التاسع الميلادي) تضطرم بسلسلة لا نهاية لها من الثورات والفتن، حتى لاح مدى لحظة أن ملك بني أمية أضحى على وشك الانهيار.

توفي الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أمير الأندلس في مستهل ربيع الأول سنة 300 هـ (15 أكتوبر سنة 912 م) بعد حكم طويل عاصف، مزقت فيه أوصال المملكة ونضبت مواردها، فخلفه في نفس اليوم على العرش حفيده عبد الرحمن ابن ابنه محمد، غير متجاوز الثالثة والعشرين من عمره، وذلك بالرغم من وجود أعمامه وأعمام أبيه. وكان الأمير عبد الله قد اختار محمداً أكبر أولاده لولاية عهده، فوجد عليه أخوه المطرِّف وقتله حسبما تقدم. وولد عبد الرحمن قبيل مقتل أبيه بأسابيع قلائل في 22 رمضان سنة 277 هـ (ديسمبر سنة 890 م) وأمه جارية إسبانية نصرانية تدعى ماريا أو مزنة حسبما تسميها الرواية العربية، فنشأ الطفل اليتيم في كفالة جده مرموقاً بعين العطف والرعاية، وأسكنه جده معه بالقصر دون ولده. وما كاد يبلغ أشده حتى ظهرت نجابته، وأبدى بالرغم من حداثته تفوقاً في العلوم والمعارف إلى درجة تسمو على سنه، ودرس القرآن والسنة وهو طفل لم يجاوز العاشرة، وبرع في النحو والشعر والتاريخ، ومهر بالأخص في فنون الحرب والفروسية، وأقبل عليه جده الأمير يخصه بحبه وثقته، ويرشحه لمختلف المهام، ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام والأعياد لتسليم الجند عليه؛ وهكذا تعلقت آمال أهل الدولة بهذا الفتى النابه، وأضحى ترشيحه لولاية العهد أمراً واضحاً مقضياً، بل يقال إن جده قد رشحه بالفعل لولاية عهده وذلك بأن برىء بخاتمه إليه، حينما اشتد عليه المرض إشارة منه باستخلافه (1)

(1) وردت هذه التفاصيل الأخيرة في أوراق مخطوطة عن بداية عهد الناصر، نشرت بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال بعنوان: Una Cronica Anonima de Abd Al - Rahman III، Al - Nasir (Madrid 1950) p. 29-30

ص: 373

وما كاد الأمير عبد الله يسلم أنفاسه الأخيرة حتى بويع حفيده عبد الرحمن بالملك.

وجلس عبد الرحمن للبيعة، يوم الخميس غرة شهر ربيع الأول في قاعة " المجلس الكامل " بقصر قرطبة، فكان أول من بايعه أعمامه، وأعمام أبيه، وتلاهم أخوة جده، وقد مثلوا أمامه وعليهم الأردية والظهائر البيض عنوان الحزن على الأمير الراحل، وتكلم بلسانهم عمه أحمد بن عبد الله فقال:" والله لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنت أنتظر هذا من نعمة الله علينا، فأسأل الله إيزاع الشكر، وتمام النعمة، وإلهام الحمد ". وتتابع للبيعة بعد ذلك وجوه الدولة والموالي، ثم أهل قرطبة من الفقهاء والأعيان، ورؤساء البيوتات، واستمرت بيعة الخاصة على هذا النحو حتى الظهر؛ وعندئذ نهض الأمير الجديد فصلى على جثمان جده، ثم واراه في مدفنه بالروضة، ومعه الوزراء ورجال الدولة. وجلس لتلقي البيعة في المسجد الجامع صاحب المدينة الوزير موسى بن محمد بن حُدير، والقاضي أحمد بن زياد اللخمي، وصاحب الشرطة العليا ابن وليد الكلبي، وصاحب الشرطة الصغرى، أحمد بن محمد بن حدير، وصاحب أحكام السوق محمد بن محمد بن أبي زيد، فاستمرت بضعة أيام. وكذلك أنفذت الكتب بأخذ البيعة إلى العمال في سائر الكور، وأخرج الأمناء إلى البلاد لأخذها، وتتابعت الردود بإنجازها من جميع النواحي (1). وساد البشر يوم البيعة في القصر والمدينة، وتوسم الجميع في الأمير الفتى آيات العظمة واليمن، وعلقوا على ولايته أكبر الآمال. وفي ذلك يقول معلمه شاعر العصر ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، يوم أن تولى عبد الرحمن الملك في مستهل ربيع الأول سنة 300 هـ:

بدا الهلال جديداً

والملك غض جديد

يا نعمة الله زيدي

ما كان فيك مزيد

إن كان للصوم فطر

فأنت للدهر عيد

إمام عدل عليه

تاجان: بأس وجود

يوم الخميس تبدى

لنا الهلال السعيد

فكل يوم خميس

يكون للناس عيد

وكانت الأندلس عندئذ أشد ما تكون حاجة إلى السكينة بعد أن هزتها الثورة

(1) الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 31.

ص: 374

إلى الأعماق، وتجاذبتها الأعاصير من كل صوب، وكان الأمير الفتى يرى أن خطة التردد والرفق التي اتبعها أجداده نحو الزعماء الخوارج كانت سياسة خطرة، ولم تكن ناجعة، وأنه لابد لاستتباب الأمن واستقرار السكينة، من سحق الثورة وزعمائها بأى الوسائل. ومن ثم فإنه لم تمض على جلوسه أسابيع قلائل حتى بعث حملته الأولى إلى المناطق الثائرة بقيادة الوزير عباس بن عبد العزيز القرشي، فقصدت إلى منطقة قلعة رباح وكان قد ثار بها الفتح بن موسى بن ذى النون من زعماء البربر، ومعه حليفه الرياحي المعروف بأرذبلش، فوقعت بين جند الأمير وبين العصاة معارك شديدة، هزم فيها الفتح بن موسى، وارتد مغلولا إلى معاقله، وقتل أرذبلش، وبعثت رأسه إلى قرطبة، فرفعت فوق باب السدة، وطهرت قلعة رباح وأحوازها من الثورة، وذلك في شهر ربيع الآخر (1). وسارت حملة أخرى نحو الغرب، واستردت مدينة إستجة من أيدي العصاة أتباع ابن حفصون (جمادى الأولى)، وهدمت أسوارها وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل، حتى تعزل وتغدو بذلك عاجزة عن التمرد والخروج.

وفي شعبان سنة 300 هـ (مارس سنة 913 م) خرج عبد الرحمن للغزو وتولى القيادة بنفسه، فأثار ظهور الأمير الفتى في الصفوف حماسة الجند وأكبروا شجاعته وإقدامه. وسار عبد الرحمن أولا إلى الجنوب الشرقي، ومعه جند كورة إلبيرة وزعماؤها، وكان ابن حفصون قد نزعهم حصونهم ومعاقلهم، فالتجأوا إلى الأمير، وألقوا بطاعتهم إليه، واتجه صوب كورة جيان في وسط الأندلس، حيث كانت الثورة على أشدها، وحيث كان ابن حفصون أخطر الزعماء الخوارج يبسط سلطانه على طائفة من الحصون القوية؛ فاستولى على حصن مَرتُش الواقع في طريق جيان، وسير في نفس الوقت بعض قواته إلى مالقة لإنجادها، وكان يهددها الزعيم الثائر، فاحتلتها وأمنها. وقصد عبد الرحمن بعد استيلائه على مرتش، إلى حصن مونت ليون (حصن المنتلون) القريب منها، وكان يمتنع به زعيم من المولدين هو سعيد بن هذيل، فضربه بشدة، وهاجمه حتى اقتحمه، وأذعن الزعيم الثائر إلى التسليم والطاعة ومنح الأمان (رمضان سنة 300 هـ).

وتعتبر هذه الغزوة أول غزوات عبد الرحمن، وتسمى عادة بغزوة المنتلون.

(1) الأورق المخطوطة السالفة الذكر ص 33.

ص: 375

واتجه عبد الرحمن بعد ذلك إلى حصن شمنتان، الواقع على مقربة من بياسة، وبه عبد الله بن الشالية، فاستسلم الثائر دون مقاومة، وطلب الأمان، ونزل عن جميع حصونه ومعاقله. واستولى عبد الرحمن بعد ذلك على حصن منتيشة من يد صاحبه ابن عطاف. وافتتح سائر الحصون التي كانت بيد ابن حفصون من كورة جيان، وطهرها من آثار الخروج والعصيان. وقدم إليه سائر الزعماء الخوارج طاعتهم، فتقبلها وعفا عنهم.

وسار عبد الرحمن بعد ذلك جنوبا إلى كورة ريُّه، فاحتل منها سائر الحصون التي تدين بالطاعة لابن حفصون، واقتحم أمنع هذه الحصون، وهو حصن شبليس بعد قتال عنيف، وقتل من كان به من أصحاب الثائر، وفر أمامه جعفر ابن حفصون ليلا ولحق بأبيه، ثم استولى عبد الرحمن على حصن إشتيبن على مقربة من إلبيرة. واتجه بعد ذلك إلى وادي آش فاحتل حصونها، ثم توغل في شعب جبل الثلج (سيرَّا نفادا) وافتتح ما هنالك من المعاقل والحصون. وحاول ابن حفصون أن يزحف على غرناطة، فخرج إليه أهل إلبيرة ومعهم مدد من جيش عبد الرحمن فردوه على عقبه. وما زال عبد الرحمن يجول في تلك الأنحاء يخضع حصونها وينتسف أراضيها، حتى قضى على كل عناصر الثورة والخروج فيها، وبلغ ما استولى عليه في تلك الغزوة من الحصون زهاء سبعين حصناً من أمهات المعاقل الثائرة، ثم ارتد عائداً إلى قرطبة فوصلها في يوم عيد الأضحى بعد أن قضى في غزوته زهاء ثلاثة أشهر (1).

على أن هذه الجولة الأولى لم تكن إلا بداية الصراع المرير، الذي كان على عبد الرحمن أن يضطلع به. ذلك أنه لم تمض بضعة أشهر أخرى حتى عادت عناصر الثورة تجتمع، وتتحفز، وعاد ابن حفصون ينظم خططه وقواته. وكانت إشبيلية في مقدمة القواعد التي رفعت لواء الثورة، وقام بها منذ أيام الأمير عبد الله، بنو حجاج حسبما تقدم، وأنشأوا بها إمارة مستقلة. وقد كانوا بالرغم من انحدارهم من أصل عربي ينتمون إلى المولدين من ناحية الأم، ويشاطرونهم شعور الحفيظة ضد حكومة قرطبة. وكان عبد الرحمن يتوق إلى تحطيم سلطان أولئك المولدين ومن يمالئهم، وقد أبدوا دائماً أنهم لا يدينون بالولاء للحكومة الإسلامية التي

(1) وردت تفاصيل هذه الغزوة في الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 35 - 38.

ص: 376

لم تدخر وسعاً في الرفق بهم ومعاملتهم دون تمييز أو إجحاف أو تحامل. وكان زعيم إشبيلية إبراهيم بن حجاج قد توفي، وخلفه في حكمها ولده عبد الرحمن، وخلفه في حكم قرمونة ولده محمد. ولما توفي عبد الرحمن في المحرم سنة 301 هـ، تطلع أخوه محمد إلى أن يحكم إشبيلية من بعده، ولكن أهل إشبيلية اجتمعوا حول زعيم قوى آخر هو أحمد بن مسلمة وهو أيضاً من بني حجاج وقدموه لحكمها، وسبق محمداً إلى الاستيلاء عليها. فسار محمد إلى قرطبة، وقدم طاعته إلى عبد الرحمن، فتقلبها وأوفد معه الجند بقيادة الحاجب بدر، فحاصر إشبيلية ثم استولى عليها في جمادى الأولى سنة 301 هـ وهدم أسوارها، وندب لها عبد الرحمن والياً من قبله، وانتهت بذلك ثورة العرب والمولدين في إشبيلية.

وفي شوال سنة 301 هـ (مايو سنة 914 م) خرج عبد الرحمن في غزوته الثانية، وقصد إلى كورة ريه والجزيرة. وكان ابن حفصون زعيم ثورة المولدين قد عاد فبسط حكمه على تلك الأنحاء، وعادت الثورة تضطرم فيها. وبدأ عبد الرحمن بحصار قلعة " طرُّش " في شرقي مالقة، ثم سار إلى حصون ريه ومعاقلها يفتتحها تباعاً؛ وهنا قدم ابن حفصون على رأس قواته والتقى بعبد الرحمن أمام قلعة طرُّش، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة قتل فيها كثير من جند ابن حفصون وحلفائه النصارى، وارتد الثائر بفلوله صوب الغرب، واستطاع أسطول عبد الرحمن أن يضبط عدة سفن محملة بالمؤن كانت قادمة من عدوة المغرب لإمداد ابن حفصون وأن يحرقها. وزحف عبد الرحمن على منطقة الجزيرة الخضراء، واقتحم حصن لورة الواقع بجوار الجزيرة، ثم دخل الجزيرة الخضراء في أوائل شهر ذي القعدة سنة 301 (يونيه 914 م). وسار عبد الرحمن بعد ذلك إلى شذونة ثم إلى قرمونة، وكان حاكمها حبيب بن سوادة قد ثار بها، فحاصرها حتى سلم الثائر واستأمن، فمنح الأمان، وانتقل بأهله إلى قرطبة. بيد أنه نكث بعهده فيما بعد. ودخلت في طاعته سائر المعاقل والحصون التي مر بها؛ ثم عاد إلى قرطبة في شهر ذي الحجة بعد أن أصاب جبهة الثورة في تلك المرة بضربة شديدة وإن لم تكن قاضية. ومع أن عبد الرحمن كان يتوق إلى سحق الثورة بكل الوسائل، فإنه لم يلجأ إلى قسوة لا مبرر لها، بل آثر منذ البداية أن يتبع سياسة الرفق والتسامح نحو الزعماء والثوار الذين قدموا خضوعهم

ص: 377

وطاعتهم، فسمح للكثير منهم بالانتقال إلى قرطبة مع الأهل والولد، وأجرى عليهم الأرزاق والأعطية، وأبدى بالأخص نحو النصارى الذين أذعنوا إلى الطاعة منتهي الكرم والتسامح (1).

وفي سنة 302 هـ (915 م)، وقع حادث سعيد في البلاط القرطبي، هو مولد ولي العهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر. وقد اختلف في تاريخ مولده، فيقول الرازي إنه وقع يوم الجمعة غرة رجب من هذه السنة. ويقول محمد ابن مسعود إنه وقع في يوم الجمعة 24 من جمادى الأولى، وأمه مرجان الرومية، أم الولد الأثيرة، وقد سر عبد الرحمن بولادته أيما سرور، ونوه بها، وأوسع الإنعام، وتقدمت طبقات الناس إليه بالتهنئة. وأنشد الشعراء تهانيهم، فمن ذلك قول الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه:

هلال نماه البدر واختاره الفجر

تلقت به شمس وأنجمه زهر

على وجهه سيما المكارم والعلى

فضاءت به الآمال وابتهج الشعر

سلالة أفراس وبيت خلايف

أكفهم بحر ونايلهم غمر

بدا لصلاة الظهر نجم مكارم

تحف به العليا ويكنفه الفخر

ثماه إلى العليا خير خليفة

تتيه به الدنيا ويزهى به العصر (2)

وفي أواخر سنة 302 هـ (915 م) حل بالأندلس قحط شديد، فعزت الأقوات وارتفعت الأسعار، وأمر عبد الرحمن وزيره أحمد بن محمد بن زياد بالبروز بالناس للاستسقاء، فبرز بهم يوم الإثنين 13 شوال (أول مايو) فنزل فيه رذاذ مملح وندى مبلل لم يكن له كبير أثر (3)، وعمت المحنة سائر القواعد والثغور، واستمرت خلال العام التالي (سنة 303 هـ)، وبلغت الشدة بالناس مبلغاً عظيماً، وانتشر الوباء مع القحط، وكثر الموت، وهلك كثير من الرؤساء والوجهاء، وكانت محنة قاسية شديدة الوطأة. ولم يدخر عبد الرحمن خلال تلك الآونة العصيبة، وسعاً في بذل المعونة والغوث لشعبه بتوزيع المؤن والصدقات الوفيرة. وحذا حذوه كثير من الكبراء وأهل الدولة، فكان

(1) ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية بالرباط) لوحة 32 أ، و Dozy: Hist.; Vol.II.p. 103

(2)

ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 53.

(3)

ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 53.

ص: 378

لمجهودهم أثر كبير في التلطيف من آثار المحنة. وكان لهذا الظرف أثره في تهدئة الثورة، وألفت في عضد الثوار، ولكن عبد الرحمن لبث مع ذلك متيقظاً يرقب حركاتهم بحذر وأهبة.

ويحدثنا ابن حيان عن هذه المحنة في حوادث سنة 303 هـ، ويقدم إلينا عنها الصورة التالية:

" فيها كانت المجاعة بالأندلس التي شبهت بمجاعة سنة ستين، فاشتد الغلاء، وبلغت الحاجة والفاقة بالناس مبلغاً لم يكن لهم عهد بمثلها، وبلغ قفيز القمح بكل سوق قرطبة ثلاثة دنانير، ووقع الوباء في الناس، فكثر الموتان في أهل الفاقة والحاجة، حتى عجز عن دفنهم، وكثرت صدقات الناصر لدين الله في هذه الأزمة على المساكين وأهل الفاقة، وعلى المتعففين عن المسئلة، وصدقات أهل الحسبة من رجاله الموتسين فيه، فنفع الله بهم كثيراً من خلقه. وكان حاجبه بدر بن أحمد، مدبر دولته، أفشاهم صدقة، وأعظمهم مواساة، فنعش الله به أمة. وعدا أصر هذه المجاعة وضيق الأحوال، السلطان عن تجريد صايفة وإعداد جيش، لما بالناس من الجهد. فأخذ الناصر لدين الله في شأنه بالوثيقة، وعول على ضبط أطراف وتحصين بيضته، والإرصاد لأهل الخلاف والخلعان خلال معاقلهم، ومجال مساربهم، إذ كانوا مع استيلاء المجاعة عليهم، لا يفترون عن العدوان، على من مر بهم من رفاق المسلمين، وطالبي المعيشة، وجالبي الميرة، فلم يجدوا منفذاً إلى ما طمعوا فيه من إشاعة، ونفع الله بذلك. وعاث الموتان في هذه الأزمة، فأودى بخلق من وجوه أهل قرطبة وعلمايهم وخيارهم "(1).

وما كادت تنقشع هذه الغمة حتى عاد عبد الرحمن إلى استئناف الغزو، فسير قائده أحمد بن محمد بن أبي عبدة غازياً إلى أرض النصارى. وسوف نتتبع غزوات عبد الرحمن لاسبانيا النصرانية مجتمعة فيما بعد. وسير وزيره إسحق بن محمد القرشي إلى كورتي تدمير وبلنسبة، فطارد فيهما أهل الخلاف، وافتتح حصن أوريولة المنيع، قاعدة تدمير التالد من يد الثوار، ثم أخضع الثوار في مدينة الحامة.

وغزا الحاجب بدر مدينة لبلة، وكان صاحبها الثائر عثمان بن نصر ممتنعاً بها.

(1) السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 55 أ.

ص: 379

فبعث إليه الحاجب يلاطفه ويبذل الأمان له ولأصحابه، ويعده بكل ما يحب، ولكن الثائر رفض كل عرض، وأصر على العصيان، فطوق بدر المدينة، وبرز له كثير من أهل الطاعة فأمنهم، وأبقاهم لديه، وجد في مهاجمة عثمان وأصحابه إلى أن اقتحم عليه المدينة يوم 20 رمضان سنة 303 هـ (فبراير 916 م)، وقبض على عثمان وصحبه وأرسلهم في الأصفاد إلى قرطبة، وأمن أهل المدينة، ونظر في مصالحهم. وقد نظم ابن عبد ربه في فتح مدينة لبلة وفي مديح الناصر والحاجب بدر قصيدة يقول فيها:

خليفة الله وابن عم رسـ

ـول الله والمصطفي على رسله

منتك نعمى نمت سوابغها

كما استتم الهلال في كمله

وجه ربيع أتاك باكره

يرفل في حليه وفي حلله

وأقبل العيد لاهياً جذلا

يختال في لهوه وفي جذله

نصر من الله تضمنه ينهـ

ـض في ريثه وفي عجله

يجري بشأو الأمام منصلتا

يسبق حضر الجياد في مهله

قد وقف النكث والخلاف بها

وقوف صب يبكي على طله (1)

وفي هذا العام، سنة 303 هـ، وقع حادث داخلي هام، هو جنوح عمر بن حفصون، أكبر ثوار الأندلس إلى الصلح والطاعة، فبعث إلى الناصر يخطب وده، ويلتمس الصلح، مستشفعاً بما كان منه في إيواء الأمير محمد والد عبد الرحمن وحمايته، حينما فر من أبيه الأمير عبد الله. وقام بالوساطة في ذلك يحيى بن إسحق طبيب عبد الرحمن، وكان صديقاً لعمر بن حفصون، فبذل في سبيل ذلك جهده، وعاونه الحاجب بدر لدى الناصر، فاستجاب الناصر لعقد الصلح مع عمر، مع الحذر من غدره ومكره، واتصل يحيى في ذلك مع جعفر بن مقسم أسقف ببشتر، وعبد الله بن أصبغ بن نبيل، وودنا ابن عطاف، وهم أكابر رجال ابن حفصون وخاصته، وكانوا يميلون إلى عقد الصلح والدخول في كنف الطاعة. وسار يحيى نفسه لمقابلة ابن حفصون، ووضع معه شروط الصلح، وعاد إلى قرطبة، وأقر الناصر تلك الشروط،

(1) ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 61 ب و62 أ.

ص: 380

وعقد لابن حفصون على ذلك كتابه المشهور، الذي خط في أسفله بيده الأسطر الآتية:

" يا لله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب، وجميع إيمان البيعة لازمتي من العهود المشددة، والأيمان المؤكدة، والمواثيق المغلظة، لا نقضت شيئاً مما جمعه هذا الكتاب تبديله، ولا نقصان شيىء منه، ولارضيت ذلك في سر ولا جهر، وأن كل ما فيه من الشروط والعهود والمواثيق لازمتي، والله شهيد علينا، وخططنا هذه الأحرف بيدنا، وأشهدنا الله عز وجل على أنفسنا، وكفانا بالله شهيداً، ما وفى عمر بن حفصون بما نص في هذا العهد وصحح فيه إن شاء الله، والله المستعان ".

ويقول لنا الرازي الذي يورد لنا نص هذه الوثيقة، إن الحصون التي دخلت في أمان عمر بن حفصون بمقتضى هذا الصلح، وسميت في كتاب العهد، مائة واثنين وستين حصناً. واغتبط عمر بن حفصون بعقد هذا العهد مع الناصر أيما غبطة، وبذل جهده في المحافظة على شروطه وأوضاعه، وسر الناصر من جانبه بما أبداه ابن حفصون في ذلك من دقة وإخلاص وقدم ابن حفصون بهذه المناسبة إلى الناصر هدية فخمة، فتقبلها الناصر، وحسن موقعها لديه، وكافأ ابن حفصون عنها بأضعافها؛ وعظم سرور ابن حفصون بها، واستحكمت طاعته طول حياته. وكان هذا من أعظم العوامل في تهدئة اضطرام الثورة، وجنوحها إلى التبدد وإلانهيار (1).

وكان حبيب بن سوادة الثائر بقرمونة قد نكث بعهده، وعاد إلى قرمونة، وأظهر الامتناع بها، فسير إليه عبد الرحمن الحاجب بدراً في حملة قوية، فحاصر بدر قرمونة وضربها بالمجانيق بشدة، ثم دخلها عنوة، وقبض على حبيب وولده وأرسلهما في الأصفاد إلى قرطبة (ربيع الأول 305 هـ)(2).

وفي شهر ربيع الأول من العام التالي، في سنة 306 هـ (سبتمبر 918 م)(3)

(1) ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 56 ب و57 أوب.

(2)

الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 55 و56.

(3)

وفي رواية الرازي التي نقلها إلينا ابن حيان، أن وفاة ابن حفصون كانت في شهر شعبان سنة 305 هـ - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 65 أ.

ص: 381

وقع حادث كان له أكبر الأثر في تفكك عرى الثورة وانحلالها. ذلك هو وفاة عمر بن حفصون زعيم الثورة الكبرى، ومثير ضرامها في غربي الأندلس، توفي بعد مرض طويل، في الثانية والسبعين من عمره. وكان ابن حفصون في الواقع أخطر ثائر عرفته الأندلس منذ الفتح، وكانت ثورته تمثل أخطر العناصر التي لا تدين بالولاء لحكومة قرطبة، وفي مقدمتها طائفة المولدين الذين ينتمي إليهم، وهم سلالة القوط والنصارى الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح، وغدوا جزءاً من الأمة الأندلسية. وكان أولئك المولدون بالرغم مما تسبغه عليهم حكومة قرطبة الإسلامية من ضروب الرعاية والتسامح، يضمرون لها الخصومة والكيد، وينتهزون كل فرصة للخروج عليها. وكانوا يلقون العون دائما من زملائهم النصارى المعاهدين رعايا الحكومة الاسلامية. وقد رأينا كيف دبر ابن حفصون حركته ونظم ثورته في المناطق الجنوبية الغربية، فيما بين رندة ومالقة، وقد كانت فضلا عن وعورتها ومناعتها الطبيعية، تضم كثرة من المولدين والنصارى، وكان من هؤلاء معظم أنصاره وجنده. ولم ير ابن حفصون نفسه وهو يرجع إلى أصل نصراني، بأساً من أن ينبذ الإسلام ويرتد إلى النصرانية لكي يذكي حماسة أنصاره. وهكذا كانت وفاة هذا الثائر الخطر ضربة شديدة للثورة، وتنفست حكومة قرطبة لوفاته الصعداء، بعد أن شغلها زهاء ثلاثين عاماً.

قال الرازي: " وكان أول قيامه بالفتنة، وصدعه عصى الجماعة، وامتناعه بقلعة ببشتر منبر المعصية، من ثلاثين سنة، ركب فيها من العيث في الخلق، والفساد في الأرض بغير الحق، ما لم يركبه مارق بالأندلس، منذ دانت للمسلمين، فعد مهلكه فاتحة الإقبال، وطالعة السعد، واجتثاث الفتنة "(1).

وقد بالغت التواريخ النصرانية في تصوير ثورة عمر بن حفصون الطويلة المدى، واعتبارها ثورة قومية تهدف إلى غاية وطنية سامية، وهي تحرير وطنه - إسبانيا - من نير المتغلبين عليه، وأنه كان في مناوأته لحكومة قرطبة الإسلامية يجيش بهذه النزعة، ويهدف إلى هذه الغاية. وعمل النقد الحديث على إبراز هذه الصورة، وعلى اعتبار ابن حفصون بطلاً قومياً، جديرًا بالتقدير والاحترام.

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 65 ب.

ص: 382

وهذا ما نقرأه في تعليقات بعض أكابر النقدة المحدثين أمثال دوزي وسيمونيت، وذلك بالرغم من كونهم لم ينسوا أن يذكروا في نفس الوقت أن ابن حفصون قد نشأ سفاحاً وقاطعاً للطرق، لا تحدوه أية نزعة وطنية أو غاية مثلى. بيد أن سيمونيت، وهو مؤرخ النصارى المستعربين، يحاول أن يبرر حسن تقديره وتصويره لحركة ابن حفصون، بأن قيامه اتخذ فيما بعد " شكلا أكثر نبلا، وتحوله من زعيم عصابة إلى زعيم حزب وأمة "(1). ويصفه دوزي بأنه " البطل الإسباني الذي لبث أكثر من ثلاثين عاماً يتحدى المتغلبين على وطنه، والذي استطاع مراراً أن يجعل الأمويين يرتجفون فوق عرشهم " وأنه " كان بطلا خارقاً لم تنجب إسبانيا مثله منذ أيام الرومان "(2). أما نحن فنرى في مثل هذه الآراء مبالغة وإغراقاً، وأنها ليست إلا ثمرة نزعة من التعصب الديني والجنسى، الذي يطبع النقد الغربي، في كثير من المواطن، وأن ابن حفصون بالرغم من صلابته وقوة عزمه، وبراعة خططه، لم يكن سوى قاطع طريق، وثائر من طراز قوي عنيف. أجل إن ابن حفصون، كان يدعو منذ اشتد ساعده، إلى ما يسميه قضية الاستقلال والحرية، وتحرير مواطنيه من نير المسلمين، بيد أنه لم يكن في هذا الزعم سوى مخادع سياسي، يسعى إلى كسب الصحب والأنصار لتقوية مركزه، ودعم سلطانه، ولم يكن يصدر في مغامراته وحروبه أو في أعماله خلال ثورته الطويلة، عن أية نزعة نبيلة، أو تصرف تطبعه الشهامة، والعزة القومية، بل كانت أعماله وتصرفاته كلها، بغى صراح، وإجرام في إجرام.، وامتهان لكل المبادئ الأخلاقية، وكل مقتضيات الشرف والمروءة والشهامة. ومن كان هذا شأنه، فإنه من التعسف أن تُسبغ عليه صفات البطولة، وثوب التحرير والوطنية.

وترك ابن حفصون أربعة بنين، هم سليمان وعبد الرحمن وجعفر وحفص، وإبنة هي "أرخنتا"؛ وكان له ولد آخر هو أيوب اتهمه أبوه عندما اعتل ذات مرة، بمحاولة الفتك به وقتله (3). فقام سليمان في أبَده، وقام جعفر مكان أبيه في ببشتر بعهد منه، وكان أبوه قد قلده عهده في حياته، وأخذ له البيعة في

(1) راجع: J.Simonet: Histoira de los Mozarabes de Espana (Madrid 1897) p. 516

(2)

Dozy: Histoire ; V.II.p. 106

(3)

أعمال الأعلام لابن الخطيب ص 32؛ ونقط العروس لابن حزم ص 79.

ص: 383

أواخر أيامه، فأظهر جعفر يوم موت أبيه لجميع نصارى ببشتر أنه يعتقد دينهم، ويدين بالنصرانية معهم، وزعم أن أباه كان يعتقد ذلك ولا يظهره، وجمع إلى نفسه ثقاته منهم، مع القسيسين والرهبان دون سائر الناس، فتولوا تجهيز والده معه، ودفنه على سنة النصارى، بعد أن أمر بسد باب القصبة، وحجاب باقي الناس من نصارى وغيرهم، ولاطف جعفر إخوته، ووعدهم بالجميل حتى سلموا له، قال الرازي:" وكان جعفر في ذاته متهوراً سخيفاً، جباناً ضعيف السيما، ذميماً، جسوراً حقوداً، منافساً لمن يعمل عنده، كنوداً لمن استرسل إليه، موالفاً للسفال، مستصحباً للأرذال، لم تسم همته إلى مروءة، ولا انطوت نيته على جميل، ولا عرف قدر ما مهده له والده مع السلطان من فراش الصلح، وبسط من ظلال الأمن، بالتسجيل له على أعماله، وإمضاء ذلك بعده لعقبه، بل غمط النعمة عليه، ورفض الساعين فيه لأبيه، وعقد شهادات جماعة من السفلة والطغام، على ابن مقسم الأسقف وابن نبيل وابن عطاف حاجبيه، فإنهم سعوا في الغدر بوالده عند السلطان، وأرادوا إراحة سلطانه عن ولده بعده "(1).

بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى سير عبد الرحمن قواته إلى أبدة فاقتحمتها وأسر سليمان، وأخذ إلى قرطبة حيث عفا عنه عبد الرحمن وضمه إلى جيشه؛ وكذا استسلم عبد الرحمن بن حفصون، وكان ممتنعاً بحصن طُرُّش، وكان أخوه جعفر صاحب ببشتر، قد ضايقه، وحاول أن ينتزع منه طرش، فالتجأ عندئذ إلى الأمير، وأذعن للطاعة، على أن يسلم حصنه ويمنح الأمان لنفسه وأهله، فأجابه الأمير إلى ما طلب، وتسلم منه الحصن، واستقدمه إلى قرطبة وأجرى عليه الصلات، وكان أديباً شاعراً. واستبد جعفر بحكم ببشتر وما حولها، وآثر عبد الرحمن أن يهادنه مدى حين، وأن يقره على أعماله. وفي سنة 308 هـ (920 م) قتل جعفر في ببشتر ضحية مؤامرة قيل إنها من تدبير أخيه سليمان، وقيل من جهة أخرى إنه رأى أن يعود إلى الإسلام اكتساباً لمودة السكان والجند المسلمين، فاغتاله نفر من جنده النصارى (2). فقام أخوه سليمان مكانه في ببشتر، وأقره عبد الرحمن

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 65 ب.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 135، والبيان المغرب ج 2 ص 189، وراجع: Dozy: Hist.،Vol.II.p. 108

ص: 384

على ولايته، ولكنه نكث عهد الطاعة، فسار عبد الرحمن لقتاله وحاصره مدى حين، وكان أصحاب سليمان بحصن طُرُّش، قد نبذوا الطاعة مثله، فسار عبد الرحمن إلى طرش، ونازلهم، ثم ترك قوة استمرت في حصارهم، حتى أذعنوا إلى الطاعة، وسلموا الحصن بالأمان، وأمر عبد الرحمن بتخريبه وتسويته بالأرض. ثم سار عبد الرحمن لحصار سليمان مرة أخرى في سنة 311 هـ (923 م)، وخرب سائر المناطق التي يسيطر عليها الثائر، وأخضع معظم حصونها، واعتصم سليمان بجبل بُبَشتر، فنازله عبد الرحمن، واشتد في محاصرته، حتى ضاق الثائر وصحبه بالحصار ذرعاً، وخرج عليه معظم أنصاره، ونكل بالكثير منهم. ونازل عبد الرحمن بالأخص حصن الشط، وكان من أمنع الحصون الثائرة، حتى تغلب ْعليه وعلى ما حوله من الحصون. وأخيراً عرض عليه سليمان أن يعود إلى الطاعة، وأن يسلم بعض حصونه، فاستجاب عبد الرحمن إلى رغبته، وتسلم حصن الشط، وحصن منت ميور وغيرهما من الحصون كفالة بحسن الطاعة، وانصرف عائداً إلى قرطبة، وهو يتحين الفرصة الملائمة للقضاء على الثائر بصورة نهائية.

وفي سنة 313 هـ، صُلب على الرصيف بباب قرطبة، رجل من أصحاب ابن حفصون هو الرامي النصراني المعروف بأبى نصر، وكان من أحذق الرماة في عصره، وطار صيته أيام عمر بالحذق في الرماية وإصابة الأغراض البعيدة، قلما تخطئ رميته، وقد أودى بحياة كثير من المسلمين من الجند وغيرهم، وساد الذعر منه، وانتهى الأمر بأسره، وإحضاره إلى الحضرة، فجىء به إلى باب السُّدَّة وأمر عبد الرحمن بصلبه وشكه بالسهام، فرفع فوق جذع في مشهد حافل من الناس، وتعاورته الرماة بالسهام حتى مزق بدنه، وترك داميا فوق جذعه؛ ثم أخذت جثته بعد أيام وأحرقت (1).

وفي أواخر سنة 314 هـ، سير عبد الرحمن وزيره عبد الحميد بن بسيل إلى ببشتر، وخرج سليمان في قواته إلى لقائه فهزم وقتل، واحتز رأسه وقطعت أشلاؤه، وأرسلت إلى قرطبة فرفعت على باب السدة (يونيه سنة 927 م).

وقام أخوه حفص مكانه في ببشتر، واستمر على المقاومة حيناً. وفي ربيع الأول سنة 315 هـ، سار عبد الرحمن بنفسه إلى ببشتر ومعه ولي عهده الحكم،

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحة 84 ب.

ص: 385

وكان يومئذ صبياً في الثانية عشرة من عمره، ونزل على مدينة ببشتر ذاتها، وبها حفص، وشدد عليها الحصار، وابتنى إزاءها حصناً للتضييق عليها، وفرق قواته لمنازلة بقية الحصون الثائرة، ثم ترك قوة لمتابعة الحصار. واستمر الحصار بضعة أشهر، حتى اضطر حفص أن يذعن أخيراً إلى التسليم؛ فسلم المدينة بالأمان إلى القائد سعيد بن المنذر، وذلك في أواخر شهر ذي القعدة سنة 315 هـ (يناير سنة 928 م) وأخذ حفص بن عمر وأهله وأصحابه، أسرى إلى قرطبة، فعفا عبد الرحمن عنهم، وأحسن مثواهم، وضم حفصاً إلى جيشه.

وفي العام التالي سنة 316 هـ، سار عبد الرحمن إلى ببشتر لتنظيم شئونها، فخرج من قرطبة في منتصف شهر المحرم منها (مارس سنة 928 م) ورافقه ولده الحكم، ووزيره أحمد بن محمد بن حُدير، واستخلف على المدينة أحمد ابن عيسى بن أبي عبدة. وقصد إلى ببشتر بطريق أشونة، فوصلها في العشرين من المحرم، ودخلها وجال في أرجائها، وألفاها منقطعة النظير من حيث الحصانة والمنعة. فعين لها والياً من قبله، وعمد إلى تطهيرها من آثار ابن حفصون، فصلى في مسجدها الجامع، وأمر أن تقام به الصلاة. وكان ابن حفصون في أواخر أيامه، قد أثار حول موقفه من تذبذبه حول إظهار الإسلام، وجنوحه إلى النصرانية، ريباً حول حقيقة الدين الذي كان يعتنقه. فأمر الناصر بنبش قبره، وإخراج جثته وفحصها. فتبين من هيئتها، وكونه ملقى على الظهر، مشبوك الذراعين على الصدر، ومستقبلا المشرق، أنه دفن على دين النصرانية، وعاين ذلك الناس من العسكر وغيرهم، وشهد بذلك الفقهاء المرافقون، واتفق الجميع على أنه هلك على دين النصرانية. فأمر عبد الرحمن بحمل الجثة، إلى قرطبة، حيث علقت في أعلى الجذوع على باب السًّدة يكتنفها أشلاء ولديه المصلوبين قبله، وهما حكم وسليمان. واستمرت أشلاؤهم معلقة على جذوعها عبرة للناظرين حتى سنة 331 هـ، حيث حملها مد النهر الطامي في تلك السنة ولأحمد بن محمد الرازي في صلب أوصال ابن حفصون قصيدة يقول فيها:

تبدي لمرأي العين مجسماً

وقام من الأجداث خلقاً متمماً

فما كان إلا مثل من نام نومة

فأنبه عنها حين أغفي وهوّما

ص: 386

ثوى في الثرى حتى إذا صار رمة

أعيد إليه جسمه فتلأما

رقى فوق جذع بالهواء معلق

يحاول منه بالنجوم تحوُّما

تبارك من أبداه للخلق سامغاً

وبوّأ منه النفس قعر جهنما (1)

وأمر عبد الرحمن، فعمرت سائر مساجد ببشتر المهجورة، وهدمت سائر الكنائس والأديار، التي ابتناها الثائر في تلك المنطقة، واستولى عبد الرحمن على سائر معاقلها وحصونها، وطهرها من آثار الثورة الأخيرة (2). ثم أمر بعد ذلك بالقبض على " أرخنتا " ابنة عمر بن حفصون وإعدامها، لارتدادها عن الإسلام، وتمسكها باعتناق النصرانية، فأعدمت في سنة 931 م، أو في سنة 937 وفقاً لرواية أخرى، ونظمتها الروايات والأساطير النصرانية في سلك القديسين والشهداء (3).

هذا، وقد أصدر الناصر عقب فتح ببشتر واستئمان حفص، كتاباً طويلا ينوه فيه بهدى الإسلام وفضله، وما خصه الله به من خلافته وأمانة عباده، ويشير إلى خروج المارقين، وميل نفوسهم المريضة إلى الشرك، وكيف أنه أصدر أمانة لأهل ببشتر، ثم يقول في خطابه ما يأتى:

" وعهدنا إلى الوزير أحمد بن محمد حدير، بالتقدم إليهم لحضور خروجهم، ومباشرة نزولهم، وإكمال الأمان لهم، وقبض الأيدي عنهم، فنهض إلى ذلك وقصد له، فلما صار بمدينة طلجير، المبتناة على مدينة ببشتر، هبت بالطاغين عنها، فتساربوا خارجين، وتهافتوا ذاهبين، وتعرفوا الذي سبا إلى جوانب شتى، فقصد كل واحد إلى منزعه، وأم مكان طماعيته، ولحق بمداين الطاعة، فصاروا في غمار الرعية، وتمكث خلفهم عميدهم حفص بن عمر طاير الفواد،

(1) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 89 أوب و91 أ. هذا ولم نجد ذكراً لحكم من أبناء عمر بن حفصون إلا في هذه المناسبة، وفي رواية ابن حيان، وفي الأوراق المخطوطة (ص 77).

(2)

تراجع تفاصيل المعارك الأخيرة بين عبد الرحمن وأبناء ابن حفصون، وخاتمة هذه المعارك في الأوراق المخطوطة الخاصة بعصر الناصر ص 62 و65 و69 و73 و74 و75 و76 و77 و78. وكذلك في البيان المغرب ج 2 ص 191 و193 و194 و204 و208 و209. وابن خلدون ج 4 ص 135.

(3)

Dozy: Hist.، Vol.II.p.109. و R.M. Pidal: Origines del Espanol، p. 420

ص: 387

خافق القلب، لم تطب نفسه على الخروج خواراً، ولا سكن منه الأمان نفاراً، يخشى كل يد أن تضبط عليه، وكل شجرة أن تتعلق به، قد خامره من الرعب ما كاد أن يربى على العطب، فطمأن الوزير أحمد محمد بن حدير من جزعه، وسكن من جأشه، ووفاه من آمالنا المبسوطة ليناً وثق به واطمأن إليه، فخرج آخر الخارجين، ولحق بالآمنين، فأصبحت مدينته بقعة الضلالة، ومنبر الخلاف، ومعدن الغواية، بما أحاط بها من أسوارها وأبنيتها وقصابها، وبداخلها من جناتها ومصانعها، مغوية من قطينها، خاوية على عروشها، كأن لم يغن بها ساكن، ولا استوطنها قافل ".

ثم يقول إنه أمر بعد ذلك بتخريب ببشتر، وحط أسوارها، وإنزال جدرانها، وهدم كل قايم فيها من قصرها ودورها ومخازنها، وإعادتها جبلا أجرد، على ما كانت عليه لأول خلقها. " ثم استقدمنا حفصاً اللائذ بالتوبة إلى ما تفضلنا عليه من التأمين والتمكين، وعدنا عليه من العفو والتطمين، وأخذنا فيه بالفضل المبين، الذي جعلنا الله أهله، وغلب على مذهبنا إيثاره، وجمعنا له من ذلك ما اغتبط به، وسكن إليه، وقرر نفسه عليه، فاعلم ذلك، وقف عليه، واستشعر حمد الله، ومر بقراءة كتابنا هذا إليك على المسلمين قبلك في جامع موضعك، ليحمدوا الله عز وجهه، على عظيم ما اصطنعه إليهم، ووهبه لهم، وليحدثوا من شكره تعالى على ما درأ عنهم، والتقرب بنوافل الحمد إليه، ما يستدام له رضاه عز وجهه، ويستجلب به المزيد من نعمه، إن شاء الله وهو المستعان، وكتب يوم الخميس لخمس من ذي الحجة سنة خمس عشرة وثلث ماية ".

ويقول لنا الرازي، إن الناصر لما خرج إلى ببشتر، وأمر بهدمها، أمر بالإبقاء على القصور والقصاب، التي أبقاها لعماله وحشمه الذين ندبهم للقيام بها، فدكت أسوارها، وحطت أعلامها، وأنه أي الناصر أصدر كتاباً بحوادث ببشتر، والأمر بهدمها، وهدم مسجدها الذي أقامه ابن حفصون، لأنه كان ستاراً لفسقه المسلمين، والأمر بإحراق منبره " الذي دعى فيه للخنزير الضال، ومن خلفه من نسله الخبيث، وأعلن عليه بدعوة الشيعة "(1).

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية لوحات 94 95 و96.

ص: 388

ولم يغفل عبد الرحمن في الوقت الذي كانت فيه ثورة ابن حفصون وأبنائه في جنوب الأندلس، تشغل معظم عنايته، عن مطاردة الثورة في الأنحاء الأخرى.

وكانت طليطلة من أمنع معاقل الثورة، فسير عبد الرحمن جنده لحصارها، وفيها لُبّ بن الطربيشة وهو من زعماء المولدين، واستمر الحصار زهاء عامين حتى نضبت موارد المدينة، وخبت عزائم أهلها واضطرت في النهاية إلى التسليم والإذعان.

وسار لبّ مع الأمير بقواته إلى الغزو في أرض النصارى (سنة 308 هـ). وكانت بطليوس وأحوازها منذ أكثر من أربعين عاماً، معقلا من معاقل ثورة المولدين.

وكان بنو مروان الجليقي ما يزالون يسيطرون على تلك المنطقة، وكانوا من أخطر الخوارج وأشدهم مراساً، يمالئون الأمراء النصارى ويحالفونهم على حكومة قرطبة.

ففي سنة 311 هـ (923 م)، هلك عبد الله بن محمد بن مروان الجليقي صاحب بطليوس قتيلا بيد بعض المخالفين من أصحابه، فقام مكانه ولده عبد الرحمن، واستبد بمدينة بطليوس وما حولها، واستمر بضعة أعوام على خروجه وتحديه لحكومة قرطبة.

وفي ربيع الأول سنة 317 هـ (إبريل 929 م) خرج الناصر من قرطبة متجهاً نحو الغرب، ومعه ولداه الحكم والمنذر وعدة من الوزارء، واستخلف على القصر ولده عبد العزيز. وبعث الناصر ينذر المتخلفين عن الطاعة، بوجوب الدخول في طاعته، والتخلي عن العصيان، وفي مقدمتهم. صاحب بطليوس عبد الرحمن بن عبد الله الجليقي. ووصل الناصر بجيشه إلى بطليوس في أواخر ربيع الآخر من هذه السنة وحاصر بطليوس، وقاتل المتصدين للمقاومة حتى هزموا واقتحم أرباضهم، وأحرقت ديارهم، فامتنعوا داخل المدينة؛ فعهد الناصر بقتالهم إلى القائد أحمد بن إسحق القرشي في قوة كثيفة، فشدد في حصار المدينة، واقتحم ما حولها من الحصون، ثم ضربها بالمجانيق بشدة، وقطع عنها كل مورد، واشتد بأهلها الضيق، واضطر الجليقي إلى الإذعان وطلب الأمان، فأجابه الناصر إليه، وأسكنه هو وأهله وأكابر رجاله بحضرة قرطبة، وعين لبطليوس والياً جديداً هو عثمان بن عبد الله، وكان خضوع بطليوس في سنة 318 هـ (930 م).

ولما غادر الناصر بطليوس سار إلى مدينة باجة، أقصى قواعد الغرب،

ص: 389

وفيها الثائر عبد الرحمن بن سعيد بن مالك، فنزل عليها، وأنذر صاحبها بالدخول في الطاعة، فلم يقبل النصح، فطوقها وحاصرها بشدة، حتى أجهد أهلها الجوع والعطش، وتساقطوا من الإعياء، وعندئذ اضطر صاحبها إلى الإذعان، فمنحهم عبد الرحمن الأمان، وأمن صاحبها وآله، وخرجوا إليه تائبين مستسلمين، فبعثهم إلى قرطبة. وكان افتتاح باجة في منتصف جمادى الآخر سنة 317 هـ. ونظر الناصر في مصالح المدينة، ثم عين لها والياً من قبله، هو عبد الله بن عمرو ابن مسلمة، وزوده بحامية كافية.

وتحول عبد الرحمن بعد ذلك إلى مدينة أكشونبه على مقربة من ساحل المحيط الجنوبي، وبها الثائر خلف بن بكر، فبادر إلى الطاعة معتذراً، وأقره الناصر على ولايته، على أن يلتزم بأداء الجباية وبحسن السيرة.

وقضى الناصر في هذه الغزوة زهاء ثلاثة أشهر، طهر خلالها أنحاء ولاية الغرب من آثار الخروج والثورة، ثم قفل إلى قرطبة فوصل إلى القصر في منتصف رجب (1). وكان الناصر قد سار بنفسه إلى تدمير وبلنسية، وذلك في سنة 312 هـ (924 م) أثناء مسيره إلى غزوة بنبلونة الكبرى، حسبما نفصل بعد. فطارد الخوارج والعصاة في شرقي الأندلس، واستولى على معاقلهم ومزق شملهم. وفي سنة 314 هـ (926 م) سير الناصر وزيره القائد عبد الحميد ابن بسيل إلى الثغر الأعلى لمقاتلة بني ذى النون، وكانوا قد عادوا إلى الخلاف والعصيان، وأكثروا من الفساد والعدوان على من جاورهم من المسلمين وأهل الذمة، فقصد إلى معقلهم شنت بَرِيَّة واقتحمها، وقتل كبيرهم محمد بن محمد ابن ذى النون، وعدة أخر من رجالهم، وافتتح مدينة سُرية من مدنهم، وولى عليها عاملا للسلطان. وخضعت شنت برية وما والاها للطاعة، ودرت جبايتها من ذلك الحين (2). وفي سنة 317 هـ، افتتحت مدينة شاطبة، واستنزل عنها صاحبها عامر بن أبي جوشن الثائر بها، بعد أن ترددت الحملات عليه، مدى خمسة أعوام، وكان خضوعه على يد صاحب الشرطة العليا درِّى بن

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحات 100 و101 و109، والأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 81.

(2)

ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 85 أ.

ص: 390

عبد الرحمن، واشترط عامر عند استسلامه أن يمنح الإقامة مدة في حصن " شنت مريّة " من حصونه، حتى ينظم شئونه ويسير في أهله إلى قرطبة، فأجيب إلى طلبه (1). وهكذا أخمدت الثورة في سائر النواحي، بعد أن لبثت زهاء نصف قرن تستنفد قوى الأندلس ومواردها، وتفت في عضدها، وتقعدها عن الكفاح ضد عدوها الحقيقي المتربص بها، ونعني اسبانيا النصرانية.

- 2 -

كانت إسبانيا النصرانية في خلال تلك الفترة التي اضطرمت فيها الأندلس بالفتن، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورة في النواحي، تسير قدماً في سبيل القوة والتوطد، وتعمل جاهدة لانتهاز كل فرصة للكيد للأندلس، وممالأة ثوارها والعيث في أراضيها. وكانت تنقسم عندئذ إلى إمارتين أو مملكتين متحالفتين، هما مملكة ليون (أو مملكة جليقية)، ومملكة نافار (نبره أو بلاد البشكنس).

وكانت ليون وهي الواقعة في الشمال الغربي بين المحيط ونهر دويرة، أكبر المملكتين وأوفرهما قوة ومنعة، وكانت بذلك تتولى قيادة إسبانيا النصرانية، في ميدان الكفاح الخالد بينها وبين إسبانيا المسلمة. وكانت قواعد الأندلس الشمالية التي تتاخم مملكة ليون، مثل أسترقة وسمورة وشلمنقة وشقوبية وميراندة، قد خلت منذ أواخر القرن الثامن من معظم سكانها المسلمين، واستوحش العرب والبربر، لقلتهم في تلك الأنحاء، وكثر اعتداء النصارى عليهم، وتوالي القحط في تلك الربوع، فهاجروا إلى الجنوب، وجاء ملك ليون ألفونسو الثالث (أواخر القرن التاسع)، فعاث في تلك المنطقة، وفتك بمن فيها من المسلمين، ثم ارتد إلى جباله. ولبثت هذه المنطقة قفراً خالية تقريباً، يتبادلها المسلمون والنصارى من وقت إلى آخر، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورة فلم تستطع رد الاعتداء، وانتهز ألفونسو الثالث تلك الفرصة، فدفع حدود مملكته جنوباً حتى نهر دويرة.

واختط هنالك عدة قلاع منيعة، كان يتخذها النصارى قواعد للإغارة على الحدود الإسلامية، واجتياح المسلمين العزل بالنار والسيف، وقتل النساء والأطفال والشيوخ، ونهب الأموال والمتاع. وجرى ولده غرسية على هذه السياسة الدموية الغاشمة. وكانت إسبانيا النصرانية تنظر من خلال هضابها القفرة، ومواردها

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 101 ب.

ص: 391

الضئيلة، وفقرها المدقع، إلى وديان الأندلس النضرة، وإلى نعمائها الوافرة، وحضارتها الزاهرة، بعين المقت والحسد، وتعمل جاهدة لبث الدمار والويل إلى هاتيك الربوع السعيدة. وكان على حكومة قرطبة أن تعمل على حماية الأندلس وحماية تراثها وحضارتها، من هذا العدوان الخرب الذي أخذ يشتد يوماً عن يوم.

وكان عبد الرحمن حينما ولي الملك، يؤثر الإغضاء حيناً عن محاربة النصارى، لكي يكرس جهوده وقواه لقمع الثورة، وتطهير الأندلس من عناصر الفتنة، ولكن النصارى رأوا بالعكس أن يعملوا على انتهاز الفرصة، وإذكاء نار الفتنة والفوضى في الأندلس. فما كاد عبد الرحمن يلي الملك، حتى بادر أردونيو الثاني (أرذون) ملك ليون بالإغارة على الأراضي الإسلامية، واتجه أولا نحو منطقة الغرب لنأيها وضعف وسائل الدفاع عنها، وقصد إلى مدينة يابُرة، الواقعة غربي بطليوس. ويقول لنا الرازي إن أردونيو نزل على يابرة في يوم 13 من المحرم سنة 301 هـ (أغسطس 913 م) وأنه كان في جيش يقدر بثلاثين ألفاً من الخيل والرجل والرماة، وكان على يابرة يومئذ عاملها مروان بن عبد الملك، فبذل جهده لمدافعة الغزاة؛ وطوق أردونيو المدينة من سائر نواحيها، وهاجمتها قواته من كل صوب، ودافع المسلمون عن مدينتهم من فوق الأسوار، حتى أرغموا بفعل السهام على النزول عنها وتسلق النصارى الأسوار، ودخلوا المدينة، واضطرمت بينهم وبين المسلمين داخلها معارك شديدة، وفنى المسلمون شيئاً فشيئاً حتى قتلوا جميعاً، ولم تنج منهم سوى شرذمة قليلة، فرت تحت جنح الظلام إلى مدينة باجة. وسبى النصارى سائر النساء والذرية، وقتل مروان بن عبد الملك عامل المدينة مدافعاً عنها، وبلغ السبي أكثر من أربعة آلاف من النساء والولدان. وترك أردونيو المدينة خراباً يباباً، وعاد في قواته إلى جليقية.

وبث هذا الحادث الروع والفزع في سائر قواعد الغرب، فأخذ أهلها في إصلاح أسوارهم، وقام أهل بطليوس بالأخص في ذلك بمجهود ضخم، ودعموا أسوارهم، وزادوا في عرضها وارتفاعها، بقيادة عاملهم عبد الله بن محمد الجليقي (1). وفي سنة 303 هـ (915 م)، سار أردونيو في قواته مرة أخرى إلى منطقة الغرب، في جيش تقدره الرواية الإسلامية بستين ألفاً،

(1) ابن حيان عن الرازي - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 51 أوب.

ص: 392

فعبر نهر التاجُه، واشترك في إرشاده إثنان من الأدلاء المسلمين، من بربر مصمودة من البرانس، ولكنهما كانا يضمران عكس ما طلب إليهما؛ واتجه أردونيو جنوباً صوب حصن مدلين، وقاده الدليلان المسلمان من طريق صعبة وعرة، فلم يخرج منها إلا وقد نهك جيشه، فأمر بالدليلين فأعدما، وسار حتى وصل إلى الحصن، فاستولى عليه دون مقاومة وأصاب فيه بعض الغنائم، ثم سار إلى قلعة الحنش (ألانية)، الواقعة جنوبي ماردة، وكان يسكنها يومئذ برانس كتامة، وكانوا في عدد وافر وعلى أتم استعداد للمقاومة، وكان المقدم عليهم يسمى بابن راشد؛ فهاجم النصارى الحصن، ودافع المسلمون عن أنفسهم أشد دفاع، ولكنهم هزموا في النهاية وقتل معظمهم، وقتل ابن راشد فيمن قتل، ودخل النصارى الحصن فقتلوا كل من وجدوه، وسبوا النساء والذرية، وهدموا الحصن. ثم سار أردونيو في اليوم التالي إلى ماردة، ولكنه وقف أمامها ذاهلا من حصانتها، واعتزم الكف عن قتالها، وبعث إليه قائد المدينة محمد بن تاجيت رسولا يستلطفه، وأهدوا إليه فرساً رائعاً من عتاق الخيل بسرجه وعدته، فقبله وأعجب به، وتركهم ورحل عنهم.

ولكنه عاث حين قفوله في تلك المنطقة، وقتل وسبى كثيراً من سكانها، واستولى على بعض قلاعها؛ ثم قصد إلى مدينة بطليوس، فارتاع أهلها واسترضوه بالمال والحلي، وعبر النصارى نهر دويرة قافلين إلى ديارهم مثقلين بالغنائم والسبي دون أن يعترض سبيلهم معترض (1).

وبقيت يابرة خراباً نحو عام، حتى بعث عبد الله بن محمد الجليقي، صاحب بطليوس حليفه مسعود بن سعدون المعروف بالسرنباقي، ومن معه من قومه الشاردين عن الجماعة إلى مدينة يابرة، فنزلها مسعود بأهله وولده وصحبه ومن معهم، وكان منهم كثير ممن لجأ من قبل من أهل يابرة إلى باجة وأكشونبه؛ وابتنى لهم الجليقي أسوار المدينة، وأمدهم بالأطعمة والدواب والكسى؛ وعلى أثر ذلك قصد الناس إلى يابرة فاستوطنوها، وعمرت بسكانها مرة أخرى (2).

(1) ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحة 60 أوب وابن خلدون ج 4 ص 141.

(2)

المقتبس - السفر الخامس، لوحة 53 و54.

ص: 393

وكانت هذه المنطقة التي غزاها النصارى وهي منطقة ماردة، من المناطق الثائرة. ولكن عبد الرحمن كان أبعد نظراً من أن يغضى عن عدوان يقع في صميم الأراضي الإسلامية. هذا إلى أنه رأى أن يأسر قلوب الثوار، بإنجادهم والانتقام لهم، وأن يرد عدوان النصارى بمثله. ففي فاتحة سنة 304 هـ (916 م) سير عبد الرحمن وزيره وقائده أحمد بن محمد بن أبي عبدة في جيش قوي، غازياً إلى أراضي مملكة ليون، فالتقى بالنصارى وهزمهم في عدة وقائع محلية، وعاث في أراضيهم وسبى وغنم غنائم كثيرة (1). وفي العام التالي أراد أردونيو الثاني الانتقام لهزائمه، فعاث في منطقة طلبيرة (2)، وأحرق مدنها وانتسف ضياعها، فضج المسلمون لهذا البلاء، وتضرعوا إلى مليكهم أن ينقذهم من هذا العدوان الصارخ.

فسير عبد الرحمن قائده أحمد بن أبي عبدة ثانية إلى أرض النصارى في جيش ضخم من المدونين، والمتطوعة، وانضم إليه حين دخوله إلى الثغر (الحدود) خلق كثير، واخترق المسلمون أراضي قشتالة، وزحفوا إلى قلعة شنت إشتيبن الواقعة على نهر التاجُه، وكانت تسمى أيضاً قلعة قاشترو مورش (3)، وهي من أمنع قلاع النصارى على الحدود، وضربوا حولها الحصار الصارم، ثم نازلوها بشدة، وكادت تسقط في أيديهم، لولا أن هرع إلى إنجادها أردونيو في جموع ضخمة من النصارى؛ وكان الجيش الإسلامي بالرغم من تفوقه في الكثرة مختل النظام، مفكك العرى، يتألف سواده من البربر والمرتزقة الذين لا يعتمد على ولائهم وشجاعتهم، وكانوا يحرصون على غنائمهم أكثر من حرصهم على مقاتلة العدو، فلما انقض أردونيو بقواته على المسلمين، تسللت منهم وحدات كثيرة، وارتدت أمام المهاجمين، ودب الهرج إلى صفوف المسلمين. ولكن قائدهم الشجاع أحمد بن أبي عبدة فضل الموت على الارتداد، فصمد في مكانه في نفر من أشجع ضباطه وجنده، فقتلوا جميعاً، وهلك معهم عدة من أكابر الفقهاء والمجاهدين. وكانت هزيمة مروعة. وكان ذلك في الرابع عشر من ربيع الأول سنة 305 هـ (4 سبتمبر سنة 917 م). وتقول

(1) البيان المغرب ج 2 ص 176.

(2)

وهي بالإسبانية Talavera، وهي تقع على نهر التاجه غربي طليطلة.

(3)

San Esteban أو Castro Moros

ص: 394

الرواية الإسلامية إن فلول الجيش الإسلامي، استطاعت أن ترتد بعتادها ومتاعها سالمة إلى الأراضي الإسلامية (1). ولكن الرواية الإسبانية تقول بالعكس إن هزيمة المسلمين كانت ساحقة، وبلغ من روعتها أن غصت سائر التلال والسهول والغابات الممتدة جنوباً من دويرة إلى أنتيسة (2)، بقتلاهم وأشلائهم (3).

وكان لذلك الخطب وقع عميق في بلاط قرطبة. وكان عبد الرحمن يعتزم المبادرة إلى غزو ليون بنفسه، لولا أن شغلته عندئذ حوادث إفريقية، على أنه اضطر غير بعيد أن ينهض لرد اعتداء النصارى. ذلك أنه لم تمض بضعة أشهر حتى عاد أردونيو الثاني وحليفه سانشو (شانْجُه) ملك نافار، إلى غزو الأراضي الإسلامية في منطقة الثغر الأعلى، وذلك في ربيع سنة 918 م. وكانت موقعة شنت إشتيبن قد ضاعفت من جرأة النصارى واستهتارهم، فعاثوا في أحواز ناجرة وتطيلة.

واستولى سانشو على بلدة بلتيرة (4) وأحرق مسجدها الجامع ونكل بأهلها.

يقول ابن حيان: " وانقلب الكفرة لعنهم الله إلى بلادهم أعزة، فكان هذا مما أحفظ الناصر لدين الله وحرّكه لمجاهدة أعداء الله، ورغبه في الانتقام منهم بمن الله تعالى "(5). وكان عبد الرحمن في الواقع يتوق إلى الانتقام لهزيمته الفادحة في شنت اشتيبن ومقتل قائده الشهم، ولم ينس أن أردونيو سمر رأسه في جدران شنت إشتيبن، فحشد جيشاً ضخماً لمقاتلة النصارى بإمرة حاجبه بدر بن أحمد، وبعث الأوامر والكتب إلى أهل الثغور بالنهوض لتأييده، ومعاونته على معاقبة النصارى ورد عدوانهم والإيقاع بهم. وخرج بدر في جيشه الضخم من قرطبة في المحرم سنة 306 هـ (أوائل يوليه سنة 918 م)، وهرع إليه أهل الثغور (الأطراف) من كل ناحية، ظمئين إلى الجهاد والانتقام.

وكذلك احتشد النصارى من سائر الأنحاء لرد الغزاة. ونفذ المسلمون كالسيل

(1) هذا قول ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحة 64 أ، وكذلك البيان المغرب ج 2 ص 178.

(2)

هي بالإسبانية Atienza

(3)

Dozy: Hist ، Vol.II.p. 117

(4)

ناجرة هي بالإسبانية Najera، وبلتيرة هي Valterra، وكلتاهما تقع في أحواز تطيلة.

(5)

السفر الخامس من المقتبس - لوحة 66 ب.

ص: 395

إلى حدود ليون، فاعتصم النصارى بالجبال لما رأوا من كثرة العدو وأهبته، ولكن المسلمين هاجموهم في مواقعهم، ونشبت بين الفريقين موقعتين دمويتين على مقربة من مكان يسمى " مطونية ". فهزم النصارى هزيمة ساحقة، وأمعن المسلمين فيهم قتلا وأسراً، ولم تنج منهم سوى فلول يسيرة، وكان ذلك في الثالث والخامس من ربيع الأول سنة 306 هـ (13 و15 أغسطس سنة 918 م)(1).

على أن هذه الهزيمة الساحقة لم تفت في عضد النصارى، فلم يمض سوى قليل حتى عادوا إلى الاحتشاد والإغارة على الأراضي الإسلامية، واستمر القتال سجالا بين المسلمين والنصارى مدى أشهر، وكثر العيث والسبي في مناطق الحدود. فاعتزم عبد الرحمن أن يسير إلى مقاتلة النصارى بنفسه، فخرج من قرطبة في الثالث عشر من المحرم سنة 308 هـ (أوائل يونيه 920 م) في جيش ضخم، وانضم إليه أثناء سيره كثير من أهل الثغور. واخترق أراضي الثغر الأوسط من طليطلة شمالا، حتى مدينة الفرج أو وادي الحجارة ومدينة سالم، فوصل إليها في الرابع والعشرين من المحرم. وفي ذلك اليوم ولى خطة الوزارة لسعيد بن منذر القرشي، وعينه والياً لوادي الحجارة، واتجه إلى طريق ألبة والقلاع (قشتالة) ثم عبر نهر دويرة وزحف على مدينة أوسمة (وخشمة) وأحرقها، وفر منها النصارى ولاذوا بالجبال. ثم سار إلى قلعة شنت إشتيبن (قاشترو مورش)، وهي التي كانت مسرحاً لهزيمة المسلمين المروعة، ففرت حاميتها النصرانية، واستولى عليها وخربها، وغنم ما فيها. وخرب في تلك المنطقة كثيراً من المعاقل والأبراج والكنائس والديارات. ثم سار إلى مدينة قلونية وهي مدينة قديمة لم تبق منها اليوم سوى أطلال دارسة، وكان أهلها قد فروا إلى الجبال، فاجتاح تلك المنطقة كلها، وانتسف أراضيها وخرب قلاعها، وهدم قلونية وخرب دورها وكنائسها، ولم يعترض سبيله أحد من النصارى. وكان أردونيو ملك ليون وسانشو (شانجه) ملك نافار قد حشدا حشودهما، واجتمعت لهما قوات كثيرة. ولكنهما بقيا في الشمال انتظاراً لمقدم المسلمين، وعرج عبد الرحمن بعد ذلك على مدينة تطيلة إستجابة لصريخ أهلها، حيث أزعجها النصارى

(1) البيان المغرب ج 2 ص 179 و180.

ص: 396

باعتدائهم المتكرر، وبعث بعض قواته بقيادة محمد بن لب بن قسي صاحب تطيلة لاحتلال قلعة قلقرة (1) التي كان سانشو يتخذها قاعدة للإغارة عليها، فألفوها خالية، وزحف عبد الرحمن في الوقت نفسه على حصن قلهرّة وكان به سانشو في قواته، ففر عند اقترابه، واحتله المسلمون وغنموا كل ما فيه ثم دمروه، وانتسفوا الأراضي المحيطة به، ولجأ سانشو إلى حصن أرنيط (أورنيدو) الواقع جنوب غربي قلهرة. والظاهر أن النصارى اعتزموا ألا يعترضوا سبيل المسلمين في تلك المنطقة كلها، وفقاً لخطة وضعوها لاستدراج المسلمين. فلما عبر عبد الرحمن بقواته نهر إيبرو (إبرة) فاجأه سانشو في قواته، وهاجم مقدمة المسلمين، ولكن عبد الرحمن كان يقظاً متأهباً، فتعاون الفرسان والرماة المسلمون على النصارى، وأثخنوا فيهم، فارتدوا إلى شعب الجبال واعتصموا بها. ولجأ سانشو إلى حليفه أردونيو ملك ليون، وجمع الملكان قواتهما من سائر النواحي وتربصا للقاء المسلمين في مواقع منيعة، وعلم عبد الرحمن باجتماع القوات النصرانية على هذا النحو، فأمر بإحكام التعبئة، ومضاعفة الاستعداد، فلما نفذ الجيش الإسلامي إلى شعب الجبال، انحدر النصارى لمهاجمته واشتبكوا بمؤخرته وأحدثوا بها اضطراباً وخسائر، فشعر عبد الرحمن بخطر المأزق، وبادر بالخروج من الشعب الضيقة إلى السهل المنبسط. وهنالك عسكر بجيشه في مكان يسمى " خونكيرا " Junquera على مقربة من غربي بنبلونة، واستعد للقاء النصارى. وهنا طمع النصارى في محاربة المسلمين فانحدروا إلى السهل بعد أن كانوا في حمى الجبال، ولكنهم دفعوا ثمن جرأتهم هزيمة فادحة، وأمعن المسلمون فيهم قتلا وأسراً، ولم ينقذهم من الفناء الشامل سوى دخول الليل، وقتل وأسر كثير من أكابر فرسانهم وزعمائهم، ومن بينهم أسقفان هما دولثديو أسقف شلمنقة وأرمخيو أسقف توى، وقد كانا يحاربان كجنديين، ولجأ نحو ألف من النصارى، أو أزيد من خمسمائة على قول آخر، إلى قلعة مويش القريبة، فاقتحمها المسلمون، واستخرج النصارى الذين بها، ومنهم عدد من القوامس ووجوه الفرسان، فأمر عبد الرحمن بإعدامهم جميعاً، ومزق النصارى كل ممزق، وانهارت كل مقاومة،

(1) وهي بالإسبانية Carcar وهي تقع على مقربة من شمالي قلهرة.

ص: 397

وقضى عبد الرحمن أربعة أيام يجمع الأسلاب والنعم، ويهدم الديار ويقطع الأشجار، وأصاب المسلمون كثيراً من الأسلاب والغنائم. وحدثت هذه الوقيعة الساحقة على النصارى، في اليوم السادس من شهر ربيع الأول سنة 308 هـ (26 يوليه 920 م). وهدم عبد الرحمن حصون العدو، وأصلح حصون المسلمين، وفي مقدمتها حصن بقيرة Viguera المشرف على حدود نافار، وزودها بالعتاد والمؤن.

وفي اليوم السابع والعشرين من ربيع الأول، قفل عبد الرحمن عائداً إلى قرطبة، وتوقف في طريقه يوماً بمدينة أنتيسة على مقربة من مدينة سالم، وفرق الأموال والكسى في أهل الثغر، وأذن لهم بالعودة إلى ديارهم، ووصل إلى قصر قرطبة في يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر سنة 308 هـ (أواخر سبتمبر سنة 920 م) بعد أن قطع في غزوته هذه ثلاثة أشهر، وكانت غزوته الأولى في مقاتلة النصارى، وكان ممن شهدها معه سليمان بن عمر بن حفصون المستأمن إليه، فأبلى فيها بلاء حسناً، وبها ارتفع شأوه، وتوطدت سمعته (1).

وكان عبد الرحمن يرجو أن يكون هذا الدرس بعيد الأثر في ردع النصارى ووقف عدوانهم. ولكنه أخطأ الظن. ذلك أنه لم يمض سوى عامين حتى أغار أردونيو على ناجرة واستولى عليها، وسار حليفه سانشو إلى بقيرة، وكان يتولى الدفاع عنها عبد الله بن محمد بن لب، ومعه نفر من زعماء بني لب وبني ذى النون وغيرهم من الوجوه الأكابر، فحاصرها سانشو واستولى عليها، وأسر من فيها من الزعماء وحملهم إلى بنبلونه ثم قتلهم، ولم ينج منهم سوى مطرف بن موسى ابن ذى النون حيث استطاع الفرار من سجنه. فضجت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها لتلك الفعلة البشعة، ووجهت سهام اللوم إلى عبد الرحمن لقصوره أو تقصيره، في حماية الثغور وحماية الزعماء والقادة، ولم يك ثمة مناص من العمل على تهدئة الخواطر، والانتقام لذلك الاجتراء. وسير عبد الرحمن مولاه ووزيره

(1) ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 71 ب - 74 أوب، والأوراق المخطوطة الخاصة بعصر الناصر ص 63 و64، والبيان المغرب ج 2 ص 187 - 189، وكذلك Dozy: Hist.، V.II.p. 114 & 143، Cronica General ; ibid.Vol. II.p. 386.

ص: 398

عبد الحميد بن بسيل إلى الثغر الأعلى في جيش قوي، ريثما يتم هو أهبته (ربيع سنة 311 هـ - 923 م)، فقصد إلى تطيلة وجاز منها إلى أراضي نبرّة (نافار)، وعاث فيها، وقاتل سانشو وهزمه في عدة وقائع. ولم تمض بضعة أشهر أخرى، حتى أتم عبد الرحمن أهبته، ولم يصبر على انتظار الربيع وهو موعد الصوائف، بل غادر قرطبة في السادس عشر من المحرم سنة 312 هـ (17 إبريل سنة 924 م) في قوى جرارة، وهو يعتزم التنكيل بالنصارى، والانتقام الذريع لجناية بقيرة، وترك في القصر إبنه الأكبر وولى عهده الحكم، وهو صبى في نحو العاشرة من عمره، وإلى جانبه الوزير أحمد بن محمد بن حدير، وسلك الناصر إلى الثغر طريق المشرق، مخترقاً كورة تدمير، فكورة بلنسية، ونازل في طريقه مدينة لورَقة، وكان يمتنع بها زعيمها الثائر عبد الرحمن بن وضاح، فأخضعه بالأمان، وبعثه مع أهله إلى قرطبة. ثم تقدم منها إلى مدينة مرسية، فاستنزل بها يعقوب بن أبي خالد التوزري وزملاءه العصاة، وأخضع بعض حصون أخرى في قطاع بلنسية، ثم سار إلى طرطوشة ونظر في شئونها، وتقدم بعد ذلك صوب سرقسطة، وهنالك انضم إليه التجيبيون وحلفاؤهم.

ولما وصل إلى تطيلة هرع إليه زعماء الثغر بقواتهم، وهم في جموع وافرة وتعبية محكمة، ودخل أراضي نافار في أوائل ربيع الآخر (يوليه). فساد الذعر بين النصارى، وترك العدو معظم قلاعه وحصونه دون دفاع، وكان أول ما استولى عليه المسلمون حصن قلهرّة وكان سانشو قد أخلاه، فأمر عبد الرحمن بهدمه وإحراق ما فيه، ثم استولى عبد الرحمن على حصن قلقرة، ومحلة بيطرالته (بيرالتا)(1) الواقعة شمال شرقي قلهرة وما حولها من الحصون، وقتل وسبى كل من وجد بها من النصارى؛ ثم سار إلى حصن بالجش القريب منها وأحرقه، وخرب ما حوله من الضياع والزروع، واستولى بعد ذلك على حصن قرقشتال (كاركاستيلو) في وادي أراجون شرقي بيرالته، وشمال شرقي تطيلة، وهدم سائر القلاع في تلك المنطقة أو أحرقها. ثم نفذ عبد الرحمن إلى قلب نافار وزحف على عاصمتها بنبلونة، وحاول ملكها سانشو غير مرة أن يعترض طريقه في شعب الجبال، فكان يرد في كل مرة بخسارة فادحة. ودخل

(1) يبدو أن بيطرالته هو المكان الذي يسميه ابن حيان " قنطرة ألبة ".

ص: 399

عبد الرحمن بنبلونة، وقد فر سكانها رعباً، فدمرها وأحرق قصورها وكنائسها، وجد سانشو في جمع قواته ووافته الأمداد من قشتالة، وحاول لقاء المسلمين في مفاوز نافار الوعرة مرتين، الأولى على مقربة من شنت إشتيبن، والثانية على مقربة من قلهرّة، ولكن عبد الرحمن كان على حذر، وكان يعرف تلك المفاجآت الخطرة، فهزم النصارى في كلتا الموقعتين ومزقوا شر ممزق، وانهارت كل مقاومة، وبذلك تم إخضاع نافار وسحق قواتها (ربيع الثاني 312 هـ - أغسطس 924 م).

ثم سار عبد الرحمن جنوباً إلى حصن مسرة، وهو أول حصون المسلمين على حدود نبرّة، فعهد إلى من فيه بادخار الأطعمة، وفرق فيهم الأموال.

ورحل بعد ذلك إلى مدينة تطيلة، فوصلها في اليوم السابع والعشرين من ربيع الثاني، ثم قفل منها راجعاً إلى الحضرة، وتوقف خلال الطريق بمدينة شنت برية مقر بني ذى النون، وكان زعيمهم يحيى بن موسى بن ذى النون قد خلع الطاعة، والتزم العصيان مستقلا بسلطانه، فلما أشرف الناصر على معقله، خرج إليه نادماً مستغفراً منضوياً في ظل طاعته، فتقبل الناصر توبته، ودخل الناصر قصر قرطبة في يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 312 هـ، وقد أنفق في غزوته أربعة أشهر، وهي تعرف في الرواية الإسلامية " بغزوة بنبلونة "(1).

ولم يمض سوى قليل حتى توفي أردونيو الثاني ملك ليون (سنة 925 م)، فخلفه في الملك أخوه "فرويلا"، فلم يحكم سوى عام ثم توفي؛ فتنازع العرش سانشو وألفونسو ولدا أردونيو، وشغلت ليون بحرب أهلية استمرت بضعة أعوام، وانتهى طورها الأول بوفاة سانشو. ثم نشبت ثانية بين ألفونسو وأخيه راميرو، وانتهت بفوز راميرو، وجلوسه على عرش ليون باسم راميرو الثاني، وذلك سنة 932 م.

ولم يتدخل عبد الرحمن في تلك الحرب الأهلية، فترك النصارى يمزق. بعضهم بعضاً، وانتهز الفرصة ليتم سحق الثورة، وتوطيد السكينة داخل مملكته، حسبما

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 80 - 83 والبيان المغرب ج 2 ص 195 - 201؛ وكذلك Dozy: Hist، V.II.p. 144-145

ص: 400

فصلنا في موضعه، وليقضي على دعوة الفاطميين في المغرب الأقصى.

وكان راميرو الثاني أو رذمير كما تسميه الرواية الإسلامية، ملكاً مقداماً شديد البأس. فما كاد يلي العرش حتى نشط إلى استئناف الصراع القديم ضد المسلمين، وكان يرى أن العمل على إذكاء عوامل الفتنة في المملكة الإسلامية هو خير السبل إلى تبديد قوى المسلمين؛ وكانت مدينة طليطلة قد عادت تضطرم بعوامل الفتنة والثورة، وشجع راميرو بدسائسه ووعوده، زعماءها على التمادي في غيهم، فأرسل إليهم عبد الرحمن وفداً من العلماء يخطب ودهم ويحثهم على الخضوع والطاعة، فرفضوا نصحه بكبرياء وصلف، معتمدين على مؤازرة ملك ليون. فبادر الناصر (1) بالسير إلى طليطلة في قوات ضخمة، وذلك في ربيع الثاني سنة 318 هـ (مايو سنة 930 م) وضرب حولها الحصار وانتسف ما حولها من المروج، ثم غادرها بعد بضعة أسابيع، وترك لحصارها بعض قواته، ثم عاد فسار إليها بعد ذلك بعامين في صيف سنة 320 هـ (يونيه سنة 932 م) معتزماً في هذه المرة أن ينزل بها الضربة القاضية. وهنا حاول راميرو أن يسعى إلى إنقاذ المدينة المحصورة، استجابة لنداء أهلها، فسار لإنجادها في بعض قواته، واستولى في طريقه على حصن مجريط (2). ولكن القوات الإسلامية استطاعت أن ترده قبل أن يصل إلى طليطلة، فاضطر أن يترك المدينة الثائرة لمصيرها، وفقد الثوار بذلك كل أمل في المقاومة، وأضنتهم مصائب الحصار، فاضطروا في النهاية إلى الإذعان والتسليم، ودخل الناصر طليطلة ظافراً (رجب سنة 320 هـ)، وشهد مبلغ منعتها وكثافة أسوارها، وأمر بهدم حصونها، وفقدت الثورة في الأندلس بسقوط طليطلة أمنع معاقلها.

وفي العام التالي، سنة 321 هـ (933 م)، سار ملك ليون إلى مدينة أوسمة (وخشمة) التي كان يهددها المسلمون، فردهم عنها واحتلها، وكانت أوسمة، وهي تقع شرقي شنت إشتيبن على مقربة من دويرة، وعلى خط الحصون الفاصل بين الأراضي الإسلامية وقشتالة القديمة، من القواعد الدفاعية الهامة، ومن ثم فقد اعتزم الناصر أن يسير لاستردادها بنفسه، فخرج بالصائفة

(1) كان عبد الرحمن قد اتخذ سمة الخلافة وتلقب بالناصر لدين الله منذ سنة 317 هـ حسبما نبين بعد.

(2)

هو حصن ومحلة منيعة أنشأها الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة 246 هـ (860 م) على ضفة نهر منثنارس ضمن منطقة الحصون الدفاعية بين الأندلس ومملكة ليون. وقد استمرت تؤدي دورها الدفاعي حتى سقطت أخيراً في يد القشتاليين سنة 476 هـ (1083 م)، وعلى موقعها أقيمت مدينة مدريد الحديثة.

ص: 401

من قرطبة في منتصف جمادى الأولى سنة 322 هـ (مايو 934 م)، في جيش كثيف حسن الأهبة، وكانت قواته في هذه المرة ترفع أعلام العقاب المصورة، التي كان أول من استعملها، وكان معه ولده الأكبر وولي عهده الحكم، واستخلف في القصر ولده عبيد الله. وقصد الناصر إلى دار الحرب (أراضي النصارى) من طريق مدينة الفرج أو وادي الحجارة، وذلك لكي يضع حداً لما أبداه محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة، من أعراض الخلاف، والتوقف عن اللحاق به حسبما أوعز إليه، فتحول نحو أراضيه مما يلي غرب الثغر الأعلى، واحتل حصن ماومده من حصونه، بعد أن بادر أهله بالطاعة، ثم تقدم إلى حصن روطة اليهود على مقربة من سرقسطة، وكان به أخوه يحيى بن هاشم، وافتتحه قسراً. ثم سار إلى سرقسطة، وطوقها ببعض قواته، وبعث قوات أخرى إلى تطيلة وطرسونة. ولكنه رأى بعد ذلك أن يتحول بقواته إلى غزو أراضي النصارى، وكان أقربها إليه أراضي نبرّة (نافار). وهنا وفدت عليه رسل تيودا (طوطة) إبنة شنير ملكة نافار، التي قامت بالأمر بعد وفاة زوجها سانشو ملك نافار وصية على ولدها غرسية، ترجو عقد الصداقة، والسلم.

فرحب الناصر بطلبها، ووفدت عليه في وجوه مملكتها وقواميسها وأساقفتها، وهو بمحلة قلهرّة، فاستقبلها الناصر ومن حوله جيوشه الكثيفة، العظيمة الأهبة، وأكرم منزلتها، وتعهدت لديه بالطاعة، والابتعاد عن محالفة أى ملك أو أمير نصراني، وكف الأذى عن المسلمين، ومعاونة قواد الثغر الأعلى في محاربة كل من خرج على الطاعة، وأخيراً أن تخلي سبيل وجوه بني ذى النون الذين في اعتقالها. وسجل الناصر ذلك وأشهد عليه، وأقر الناصر من جانبه ولدها غرسية، ملكاً على بنبلونة وأعمالها (بلاد البشكنس)، وانصرفت مع رجالها مزودة بالهدايا والكسى الفاخرة، وفي وفود طوطة على الناصر يقول الشاعر إسماعيل بن بدر:

وقيدت زعيمتهم إليه

كبلقيس تحف به الجنود

تلفت لا ترى إلا شهاباً

به يرمى وتختطف العديد

فبادرت السجود لنور وجه

له رحب التواضع والسجود

فأوسعها بفضل العفو أمناً

وقد كادت بمهجتها تجود

ص: 402

فدام يسوسنا ما دام شـ

ـبه له في الأرض طالعه السعود

وسار الناصر بعد ذلك إلى أراضي ألبة والقلاع، وتوغل فيها، ففر النصارى من السهول، واعتصموا بالجبال، وكان أول ما استولى عليه من حصون العدو، حصن المنار، وهو من أعظم حصون ألبة، فدمره المسلمون، ودمروا حدائقه، ولم تبق منها قائمة. وتردد المسلمون بعد ذلك في مخلتف الأنحاء، وهم يدمرون في طريقهم كل شىء، حتى وصلوا إلى حصن أنة، فهدموه، وأتلفوا حدائقه ومصانعه، وكان ضمن أبنيته كنيسة فخمة، وضمن سكانه ثلاثمائة راهب. واجتاح الناصر سائر بقاع ألبة. ثم نزل على قلونية في شهر رمضان؛ وكان الناصر يود أن يلتقي براميرو ملك ليون في موقعة ما، ولكنه حاول عبثاً أن يحمله على مغادرة قلاعه، والاشتباك مع المسلمين في معركة فاصلة، وكان راميرو يرى ما ينزله المسلمون تباعاً بأراضي مملكته من صنوف التدمير والتخريب، وهو عاجز عن أن يقوم بأية حركة لوقف هذا السيل المخرب.

وأخيراً اجتمع النصارى، ومعهم ملكهم راميرو في قلعة مزورته الواقعة فوق ربوة وافرة الحصانة، على مقربة من قلونية، واستعدوا للقاء المسلمين؛ فعبأ المسلمون صفوفهم، واشتبكوا مع النصارى في معركة حامية، قتل فيها عدد من أكابر الفرسان النصارى، واستشهد عدد من المسلمين، وحاول المسلمون بعد ذلك استدراج النصارى إلى السهل. فلما عبروا وادي أوسمة حاول النصارى الهجوم، فردهم المسلمون وقتلوا منهم جملة؛ ثم رحل المسلمون بعد ذلك إلى حصن غرماج ( Gormaz) على مقربة من ليون. ورأى الناصر أن التقدم بعد ذلك في السهول القفرة يعرض جيشه لمتاعب شديدة، فارتد بقواته شرقاً، وهو يعيث في أراضي قشتالة. ثم زحف على مدينة برغش عاصمة قشتالة وخربها، وقتل على مقربتها عدداً كبيراً من أحبار الأديار المجاورة (سنة 934 م) ثم قفل راجعاً بجيشه إلى قرطبة، وقد قطع في غزوته هذه زهاء أربعة أشهر.

وذكر الناصر في كتاب الفتح الصادر عن هذه الغزوة، الجهات والمدن التي غزاها من بلاد ألبة والقلاع، فكان منها مدينة أوسمة، وحصن القصر، وحصن أنة والدير المنسوب إليه، ومدينة برغش وقصبتها المنيعة وبسيطها، وحصن بلنسية وبسيطه، وحصن اشكفيرش وبسيطه والأديار المتصلة به، ومدينة لزمة

ص: 403

العظيمة الشأن وبسيطها، ونظم الشعراء قصائدهم في تهنئة الناصر بما أصابه في هذه الغزوة من الظفر (1).

وتقص علينا الرواية الاسلامية خبر غزوة بحرية قام بها أسطول الناصر في تلك السنة (323 هـ). وخلاصة ذلك أن أسطولا بقيادة أمير البحر عبد الملك ابن سعيد بن أبي حمامة، قوامه أربعون مركباً منها عشرون من الجرافات التي تحمل النفط والآلات البحرية، وعشرون تحمل الرجال المقاتلة، وعدة ركابه من الجند ألف رجل ومن البحريين ألفين، خرج من ثغر ألمرية في شهر رجب (مايو 935 م) فسار أولا إلى جزيرة ميورقة الاسلامية، ثم خرج منها متجهاً نحو شاطىء الثغر الفرنجي، وقصد أولا إلى مدينة بالش وهاجمها، ووقعت بينه وبين أهلها معركة عنيفة هزم فيها الفرنج، وقتل منهم ثلاثمائة رجل؛ ثم سار الأسطول إلى مدينة إينش، وأحدق بها المسلمون براً وبحراً وأحرقوا المراكب في مرساها وقتلوا من أهلها نحو أربعمائة رجل؛ وبعث ابن حمامة من سفنه خمسة عشر سارت شمالا إلى بلدة مسِّنيط ثم سار خلفها ببقية الأسطول، وغزا الأسطول قرى كثيرة على الشاطىء، وحقق غنائم كثيرة، وخرج الافرنج لقتاله، فهزموا وقتل قائدهم. ثم تقدم الأسطول بعد ذلك من مدينة يرشلونة، عاصمة الثغر الفرنجي، فاجتمع الفرنج لمقاومته بقيادة زعيمهم بليط، فهزموا وقتل قائدهم، وأغلقت المدينة أبوابها ودافع أهلها من فوق الأسوار، فتحول الأسطول إلى الساحل الجنوبي، ودارت بينه وبين الفرنج المجتمعين على الشاطىء معركة شديدة هزم فيها الفرنج. ثم قفل الأسطول الإسلامي بعد ذلك عائداً إلى ثغر طرطوشة الإسلامي، مثقلا بالسبي والغنائم، وهنالك تلقى قائده أبا حمامة كتاب الناصر، بالنهوض إلى سبتة وطنجة لمحاربة من انتقض هنالك من أهلها فصدع القائد بالأمر، وسار بسفنه نحو الجنوب، ولبث متردداً بين مراسي العدوة حى شتاء العام التالي، ثم عاد إلى مراسيه في ألمرية في صفر سنة 324 هـ (2).

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحات 131 - 135 ابن خلدون ج 4 ص 142؛ وكذلك: Dozy: Hist. Vol.II.p. 148.

(2)

ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 144 ب و145 أ.

ص: 404

وفي هذه السنة أيضا (323 هـ)، عقد السلم بين الناصر لدين الله وراميرو ملك ليون. وكان راميرو، على أثر الغزوة المخربة التي قام بها المسلمون في أراضيه، قد بعث رسله إلى الناصر في التماس الصلح، فبعث إليه الناصر وزيره يحيى بن يحيى بن إسحاق سفيراً، فاجتمع في ليون مع راميرو، وعقد معه شروط الصلح. ووقع الناصر هذه المعاهدة في منتصف ربيع الثاني من هذه السنة (مارس 935 م)، في يوم مشهود. وكان الناصر يرمي بعقد هذا الصلح إلى إبعاد ملك ليون من التفاهم مع محمد بن هاشم صاحب سرقسطة ومعاونته. بيد أن هذا الصلح لم يدم طويلا، لما كان يجيش به راميرو من رغبة ملحة في النكث والتفاهم مع الخارجين على حكومة قرطبة (1).

ذلك أن بذور الثورة كانت تختمر في الثغر الأعلى، وكان النصارى إلى جانب ذلك يتحينون الفرصة للنهوض والانتقام. وكانت طوطة ملكة نبرّة الوصية على ولدها غرسية، قد لزمت السكينة حيناً وفقاً لمعاهدة السلم التي عقدتها مع الناصر، ثم تحرك البشكنس بعد ذلك وأغاروا على بعض الحصون الإسلامية (937 م). وظهرت في الوقت نفسه في الولايات الشمالية أعراض فتنة خطيرة. ذلك أن بني هاشم التجيبيين سادة سرقسطة، لم يكونوا دائماً على وفاق مع حكومة قرطبة، وكانت تحدوهم أطماع كثيرة. وكانوا يخشون عواقب السياسة التي يتبعها الناصر في إخضاع الولاة المحليين، وسحق سلطان الأسر القديمة، وكان وجودهم في الشمال بين الممالك النصرانية يفسح لهم مجال التآمر والخروج. وكان أبو يحيى محمد بن عبد الرحمن التجيبي، حينما توفي في سنة 312 هـ، قد خلفه ولده هاشم بمصادقة الناصر، وحكم سرقسطة، وضبط الثغر، واشترك في الغزو مع الناصر، وتوفي في سنة 318 هـ. فطلب ولده محمد بن هاشم التجيبي إلى الناصر أن يقره على ولاية سرقسطة، فلم يجبه إلى ذلك، فسار محمد إلى قرطبة مؤكداً لولائه، فصدر الأمر بتوليته في رجب سنة 319 هـ، والتزم بأن يورد قسماً من الجباية. ولما سار الناصر في سنة 322 هـ إلى الغزو بعث إلى أهل الثغور لموافاته، فقدم إليه التجيبيون، في رجالهم، وتخلف محمد بن هاشم عنهم، وسار الناصر لقتاله، ولكنه تحول

(1) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 143 أ.

ص: 405

عنه إلى قتال النصارى حسبما تقدم (1). ومن ثم فإنه لما اضطرمت نار الحرب بين ملك ليون وبين الناصر، رأى التجيبيون الفرصة سانحة لتنفيذ مشاريعهم، وكان راميرو ملك ليون بالرغم من ارتباطه بعهد السلم مع الناصر، يرقب الفرصة للنكث واستئناف الحرب ضد المسلمين، فلما استجاش به محمد بن هاشم، رأى الفرصة سانحة، فنكث عن السلم وعقد الحلف المنشود مع محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة، وقريبه مطرِّف بن منذر التجيبي صاحب قلعة أيوب (2)، وتعهد محمد لراميرو أن يعترف بطاعته، نظير معاونته إياه في الخروج على عبد الرحمن الناصر ومحاربته، بل يقال إن هذا الحلف كان قد عقد قبل ذلك سراً، وإن آثاره ظهرت منذ سنة 324 هـ (934 م)، حينما كان الناصر يغزو أراضي ليون، ولم يتقدم بنو هشام لمعاونته، بل بالعكس جاهر محمد بالخروج عليه وخلع طاعته، ثم اعترف بسيادة ليون على سرقسطة وأحوازها، ولما أبى بعض قواد الحصون مجاراته في خيانته، سار إليهم راميرو وأخضعهم، وسلم قلاعهم إلى الزعيم الثائر، ثم عقد محمد وراميرو محالفة مع طوطة ملكة نافار، وغزا البشكنس الأراضي الإسلامية حسبما قدمنا، وبذا تحالف الشمال كله ضد عبد الرحمن.

وتقدم إلينا الرواية الإسلامية، خبر معركة، نشبت في ذلك الوقت في الثغر الأعلى بين المسلمين والنصارى. وذلك أن الفرنج في برشلونة وحلفاءهم في الثغر، حاولوا انتهاز الفرصة، وغزوا الأراضي الإسلامية، فخرج إليهم أحمد بن محمد بن إلياس قائد القوات السلطانية المرابطة في الثغر على مقربة من سرقسطة، ونشبت بين المسلمين والنصارى معركة شديدة على ضفاف نهر إبرُه، فهزم النصارى هزيمة شديدة وقتل وغرق منهم عدد جم. وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه الموقعة في آخر شوال سنة 324 هـ (سبتمبر 936 م)(3).

وبعث الناصر في نفس الوقت جيشاً كثيفاً إلى الثغر الأعلى بقيادة الوزير عبد الحميد بن بسيل، ليقوم بالتضييق على سرقسطة وبني هاشم، وليدعم

(1) العذري في كتاب ترصيع الأخبار ص 43 و44.

(2)

Calatayud وهي تقع جنوب غربي سرقسطة في منتصف الطريق بينها وبين مدينة سالم.

(3)

المقتبس - السفر الخامس - لوحة 148 ب و149 أ.

ص: 406

القوى السلطانية المرابطة على مقربة منها، وذلك ريثما يستطيع السير بنفسه إلى الشمال. ثم أتبعه بجيش آخر، بعثه إلى الثغر أيضاً بقيادة الوزير سعيد بن المنذر القرشي، ليقوم بالمعاونة في التضييق على سرقسطة.

وفي نفس هذا العام (324 هـ) حاول نصارى ليون مرة أخرى الاستيلاء على قلعة مجريط أهم قلاع الثغر الأدنى، فهاجمتها قوة كبيرة، ولكن الحامية الإسلامية بقيادة أبي عمر بن أبي عمر استطاعت أن تصد هذا الهجوم، وأن تنقذ القلعة (1).

وكان عبد الرحمن أثناء ذلك يتأهب إلى الغزوة المرتقبة إلى الشمال. ففي منتصف شهر رجب سنة 325 هـ (مايو سنة 937 م)، خرج من قرطبة إلى مقاتلة أعدائه في جيش ضخم، وكان بروزه يوماً مشهوداً، تبدت فيه روعة أهباته، وفي ذلك يقول الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه:

يوم من العز مجموع له الناس

يختال في عقوتيه الجود والباس

وعلم عبد الرحمن أثناء سيره، أن النصارى في الوقت الذي يحتشدون فيه بأطراف الثغر الأعلى، لمناصرة حليفهم الخارج محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة، يحاولون في نفس الوقت أن يزحفوا صوب طليطلة لإثارة الثورة فيها. فسار بجيشه إلى طليطلة كيما يؤمن أهلها، ويرهب النصارى، ونزل عليها، فلما علم النصارى بمقدمه ارتدوا مذعورين إلى الشمال. وفي خلال ذلك وافاه كتاب من أحمد بن محمد بن إلياس قائد الثغر بظفره بالعصاة في مدينة وشقة، وكتاب آخر بإخماد ثورة أهل طلبيرة غربي طليطلة.

وسار عبد الرحمن بعد ذلك إلى الثغر الأعلى من طريق وادي الحجارة، وأبقى قوة من جيشه في منطقة طليطلة بقيادة مولاه درِّى، للسهر على النظام في تلك المنطقة؛ ورأى أن يبدأ بقلعة أيوب، وكان قد امتنع بها مطرِّف بن منذر التجيبي المعروف بأبي شويرب، وكان راميرو قد بعث لإنجاده فرقة من فرسان ألبة والقلاع. فحاصر عبد الرحمن القلعة، وبعث يدعوه إلى الطاعة، ويؤكد له الأمان بخطه، فرفض مطرف أن يستجيب إلى هذه الدعوة، فهاجم عبد الرحمن القلعة، وبرز إليه مطرف وحلفاؤه، ونشبت بين الطرفين معركة

(1) المقتبس - السفر الخامس - لوحة 149 ب.

ص: 407

شديدة، هزم على أثرها مطرف، وقتل، ولجأ أخوه حكم بن منذر في فلوله ومن معه من فرسان ألبة إلى القصبة، وامتنعوا بها، فاستمر الهجوم عليهم، وكثر القتل في المدافعين، حتى اضطر حكم أن يطلب الأمان لنفسه ولحلفائه النصارى، ليعودوا إلى بلادهم، ويلحق هو وأهله بالحضرة، فقبل الناصر ونزل حكم ومن معه من القصبة، وأعفى عن النصارى المستأمنين وقتل الباقون. ووقع فتح قلعة أيوب على هذا النحو في التاسع عشر من شهر رمضان من هذه السنة.

وكان فتح قلعة أيوب أول صدع خطير في ثورة بني تجيب، وكان بها، فضلا عن مناعتها الطبيعية، عدة كبيرة من فرسان سرقسطة الأكابر، وخمسمائة من الفرسان النصارى لم ينج منهم سوى الخمسين الذين أمنوا، وقد أفاضت الشعراء في تهنئة الناصر بهذا الفتح، ومن ذلك قصيدة لابن عبد ربه هذا مطلعها:

يا ابن الخلايف والصيد الصناديد

ألقت إليك الرعايا بالمقاليد

ورأى الناصر، قبل أن يسير إلى سرقسطة، أن يقوم بجولة في أرض النصارى.

فاتجه إلى أراضي ألبة والقلاع، فافتتح عدة كبيرة من حصونها تبلغ السبعة والثلاثين حصناً. واعتزم بعد ذلك أن يعاقب البشكنس على عدوانهم، فسار إلى بسيط بنبلونة، وخرب معاهدها وحصونها، ومزق جموع البشكنس وسحق كل مقاومة، وبعث فرقاً من جيشه إلى مختلف الأنحاء المجاورة فعاثت فيها وأصاب المسلمون غنائم كثيرة. وساد الرعب على البشكنس؛ وهرعت إليه طوطة، ملكة نبرّة تقدم إليه خضوعها وتوبتها، فقبل الناصر اعتذارها وأقر ولدها غرسية ملكاً على نبرّة في طاعته وتحت حمايته؛ وكان ذلك في أواخر رمضان وأوائل شوال من سنة 325 هـ (أغسطس 937 م)(1).

وسار الناصر بعد ذلك إلى تطيلة، ثم سار منها إلى سرقسطة، فنزل عليها في الثاني عشر من شهر شوال، وابتنى حولها المنازل والدور بمحلته، وعهد بحصارها إلى أحمد بن إسحاق القرشي قائد الفرسان، وهو من قرابته، وعينه حاكماً للثغر. ولكنه تهاون في الحصار وتوانى لمرض في قلبه، ولأطماع كانت تجيش بها نفسه، فأنبه عبد الرحمن وعزله، فاتفق مع أخيه أمية على التآمر

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحات 153 و155 و156 أ.

ص: 408

والخروج، فوقف عبد الرحمن على أمرهما واكتفى بنفيهما من الأندلس.

فسار أمية إلى مدينة شنترين (1) في ناحية الغرب، واستولى عليها ورفع بها علم الثورة، وتحالف مع ملك ليون. فأمر الناصر القائد أحمد بن محمد بن إلياس، وكان مقيماً في بطليوس ليرصد حركات أمية بن إسحاق، أن يغزو أرض العدو، فسار إلى أراضي ليون واشتبك مع الجلالقه في معركة، هزم فيها الجلالقة، وقتل منهم عدد جم، ولا سيما من أهل سمورة (جمادى الأولى سنة 326 هـ)، ثم أمر الناصر بعد ذلك القائد عبد الحميد بن بسيل، أن ينضم في قواته إلى أحمد ابن محمد بن إلياس، وأن يسيرا معاً إلى غزو ليون، فصدعا بالأمر، ووصلا بقواتهما إلى أرض النصارى وعاثا في جنباتها، وفي نفس الوقت تحركت بعض السفن من نهر الوادي الكبير وسارت نحو الغرب لغزو أهل شنترين الذين يناصرون أمية بن إسحاق. وانتهى الأمر بأن قام أحد الزعماء المحليين الذين يدينون بطاعة الأمير، واستطاع أن ينتزع شنترين من أمية، فالتجأ أمية إلى راميرو. أما أخوه أحمد فحاول أن يتصل بعمال الفاطميين في عدوة المغرب، وأن يأتمر معهم على حكومة قرطبة، فسعى عبد الرحمن إلى القبض عليه ثم أمر بإعدامه (2)، ولكن سنرى أن مغامرات بني إسحاق لم تنته عند هذا الحد.

واستمر حصار سرقسطة مدى أشهر، والناصر يشدد عليها الخناق شيئاً فشيئاً. وأخيراً اضطر محمد بن هاشم أن يبعث رسله في طلب الأمان والصلح، على أن يقره الناصر على حاله، فأبدى الناصر قبوله وتسامحه، وطلب أن يخرج إليه إخوة محمد ووجوه أهل سرقسطة لعقد الصلح. فخرج إليه وجوه سرقسطة، ومن بينهم إخوة محمد، يحيى وعبد الرحمن وهذيل. وعدة من ذوي الشوكة.

وهنا ثابت للناصر فكرة في انتهاز الفرصة، والقبض على تلك الصفوة المختارة من أهل سرقسطة، ليسدد إلى المدينة الثائرة ضربة مميتة، فأمر بالقبض عليهم جميعاً واعتقالهم داخل سرادقه، فلما علم محمد بن هاشم بما تم سُقط في يده، وشعر بوقوع هذه الضربة التي حرمته من كبار معاونيه، ولكنه استمر صامداً ممتنعاً، ورسل الناصر تتردد إليه بالإعذار والإنذار دون جدوى. وأخيراً بعث

(1) وهي بالإفرنجية Santarem.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 140؛ وابن الأثير ج 8 ص 115.

ص: 409

إليه الناصر بوزيره ومولاه محمد بن عبد الملك بن أبي عبدة، فاطمأن الثائر إليه، وأذعن إلى التوبة والإنابة وطلب الأمان والصلح، وكان ذلك خلال عيد الأضحى سنة 325 هـ.

فاستجاب الناصر إلى طلب محمد بن هاشم، وعقد له الأمان بأوثق عقد، وشهد الملأ من أهل العسكر وأهل الثغور، وشهدت نسخته في الناس عامة، وذلك في شهر المحرم سنة 326 هـ (نوفمبر 937 م). وكان مضمونه " أن يمنح الأمان لمحمد بن هاشم وإخوته وجميع أهله وأصحابه من مدينة سرقسطة، وجميع من يتصل بهم من أهلها، للمدة التي يرضاها الناصر، وأن يملكه سرقسطة تمليكاً يدخل فيها من يشاء، وإلى العدد الذي رضاه من رجاله، ويكون أهل مدينة سرقسطة ومن يبقيه محمد بن هاشم منهم من أهله وأتباعه آمنين بأمان الله، محفوظين بعهد الملة. مستمسكين بمثل أمان محمد بن هاشم، غير معتقبين في أنفسهم، ولا مأخوذين بذنب سلف، وأن يخرج محمد بن هاشم من سرقسطة بنفسه، ومن أحب إخراجه معه من خواص أهله وولده، إلى مدينة تطيلة أو غيرها من مدن الثغر، وحصوله مسجلا على الموضع الذي يتخيره، ويبقى بسرقسطة من أحب منهم، ويختلف عليهم. وعلى المُولّى بسرقسطة بعده، إحسان صحبتهم، وعليه أن يباعد منزله عنهم، لا يقربه شىء من دور محمد ابن هاشم، أو ينزل القصر القديم بعد خروج محمد بن هاشم عنه بجميع ماله فيه. وعلى أن يسجل الناصر لدين الله، لأخيه يحيى بن هاشم على ما كان بيده من مدينة لاردة وأحوازها. فإن انقضت المدة التي يضربها الناصر لمحمد، توجه إلى الحضرة، وأقام فيها ثلاثين يوماً أو نحوها، مظهراً لصدق طاعته، ماحياً لكل ما انتثر في أقطار الأرض من معصيته، وهو في توجهه إليه آمن في طريقه، ومدة مقامه ومنصرفه، غير مقطوع ولا معترض دون الانصراف، إذ انقضت المدة التي وضعت له. وله على السلطان إذا وفى بما عقد عليه من الشخوص إلى باب سُدَّته أن يكتب له عهداً على مدينة سرقسطة، ويصرفه إليها عاملا وقايداً، ويعزل عنها عامله وقايده. بعد أن يناله من كرامته، ويظهر عليه من آثار نعمته، ما يعود معه إلى أحسن الأحوال التي كان عليها قبل هفوته ".

وقد اشترط عهد الأمان أيضاً أن يقدم محمد بن هاشم إلى الناصر رهائن من

ص: 410

ولده وإخوته وصحبه وكاتبه، وأن يكون جماعتهم لدى الناصر بحال حفظ وتكرمة، وأمان في المسير والمقام، يديلهم ستة أشهر، باكفايهم ونظرائهم من إخوتهم خاصة، إلى أن يظهر لأمير المؤمنين براءة محمد بن هاشم من ممالأة المشركين، وتصحيحه طاعة أمير المؤمنين، وعلى أن يقطع محمد بن هاشم من المشركين في ظاهره وباطنه، من حدِّ بلد برشلونة إلى شرطانية إلى بنبلونة إلى ألبة والقلاع وإلى جليقية، ولا يكاتبهم ولا يداخلهم، ولا يصالحهم على طرف من أطراف الثغر إلا عن إذن أمير المؤمنين، وأن يورد جباية بلده لمحلها، بعد أن يسقط عنه جباية عام، وألا يتقبل حراً نازعاً، ولا عبداً آبقاً لأمير المؤمنين، ولا لأحد من رعيته، وأن يوثق من ظفر به من هذه الطبقة ويصرفه إلى مكانه، وألا يتعقب أحداً ممن سجل له عليه، أو يسجل بعد، ممن حاربه مع أمير المؤمنين وفارقه إليه أيام الطاعة، وأن يجدد البيعة لأمير المؤمنين ويلتزم شروطها، وأن يغزو مع أمير المؤمنين، ويعادي من عاداه ويحارب كل من حاربه، ويسالم من سالمه من أهل الملوك وغيرهم، ويقطع نصيبه من كل من أخرج يده عن طاعته، وإن كان ابنه أو أخاه، يلتزم كل ما ألزمه أمير المؤمنين من ظاهر القول وباطن الإرادة، لا ينقص تناول البغية، ولا يحرف عن التصحيح بالعلة، فقد التزم أمير المؤمنين في عقده، مثل ما سأله محمد في ذلك وأوجبه على نفسه مع دركه لهذه المنن، إن صدق الطاعة، أن يوليه مدينة سرقسطة، وما وقع في سجله معها ولاية مستمرة، ولا يعزله طول أيامه عنها، ثم لا يؤاخذه بذنب، ولا يعدد عليه اقتراف خطأ ولا عمد، ولا تقبل فيه مقالة كاشح ولا طعن حاسد، ويصير ذلك له وصية فيمن بعده، يلزمهم الوقوف عندها على سبيل الخلفاء في خالدات عهودهم إن شاء الله، ووقعت الأيمان في هذا الأمان من الناصر لدين الله مستوفاة مغلظة، أخذ على محمد بن هاشم أشد منها، فحلف في مقطع الحق بمسجد سرقسطة الجامع خمسين يميناً منسوقة بمحضر قاضي الجماعة بقرطبة والفقهاء وأعلام العسكر، والملأ من أهل بيت محمد بن هاشم، ووجوه أهل الثغر، على التزام ما عقد على نفسه منه واعتداده إياه ديانته ". ثم أشهد الناصر لدين الله على نفسه فيه جميع أهل عسكره، فكان أول من شهد عليه أولاده الحاضرون، ثم أعمامهم ثم الوزراء وأصحاب الخطط، ثم الفقهاء، ثم

ص: 411

وجوه أهل سرقسطة ومن حضر من أهل الثغر (1).

سقطت سرقسطة وسائر الحصون المجاورة لها في يد الناصر، وكذلك سقط في يده حصن روطة أمنع حصونها في الغرب، وبذا انهارت ثورة التجيبيين في الشمال، وكانت من أخطر الثورات التي واجهها الناصر، لأنها كانت مركزاً لتجمع القوى المعادية لخلافة قرطبة، من الخوارج والأمراء النصارى. أما عفو الناصر عن محمد بن هاشم، ومنحه الأمان له، واستصناعه بالرغم من فداحة جرمه، فرجع إلى ما كان يتمتع به محمد من مقدرة إدارية فائقة، ولما كان لبني هاشم في الشمال من مركز قوى مؤثل، ولما كان لهم من العصبة والأنصار. وقد رأينا الناصر في غير موطن، يعفو عن الثوار العتاة، ويحسن إليهم، وينظمهم في جيشه. وقد كانت هذه سياسة مستنيرة من الخليفة القادر، للاستفادة من هذه العناصر المنحرفة القوية معاً، متى استقرت توبتها، وحسن ولاؤها.

ودخل الناصر بجيشه مدينة سرقسطة وفقا للسلم المعقود في يوم الخميس 14 من المحرم سنة 326 هـ (22 نوفمبر 937 م)، وشهد منعتها وحصانة أسوارها، فأمر بهدم الأسوار حتى لا تعود منعتها فتشجع الخوارج على الثورة، وشحنها برجاله، ونظر في مصالحها، فساد بها الهدوء والأمن، وبعث الناصر أثناء مقامه بسرقسطة، قوة من جيشه بقيادة نجدة بن حسين الصقلبي لتقوم ببعض الغزوات في أرض العدو، وأمر محمد بن هاشم أن يرافقه في أصحابه امتحاناً لوفائه، فصدع بالأمر. وسار المسلمون بالرغم من اشتداد البرد وانهمار الثلوج صوب ناحية شنت إشتيبن، وتفرقوا إلى ثلاث فرق، أخذت كل فرقة منها بشن الغارات في قطاع معين، ثم اجتمعت عند حصن شنت إشتيبن، وهنا حاول النصارى اعتراض المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها النصارى. وتوغل المسلمون بعد ذلك في أراضي ألبة، وانتسفوا الزروع

(1) أورد لنا ابن حيان حوادث فتح سرقسطة، وعقد الأمان الذي أصدره الناصر لمحمد ابن هاشم نقلا عن عيسى بن أحمد الرازي. وقد أورد لنا أيضاً أسماء الشهود الذين وقعوا هذا الأمان من الأمراء والوزراء وأصحاب الخطط والموالي والفقهاء وغيرهم، وشغل ذلك أكثر من صفحة.

المقتبس في السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية لوحات 156 ب إلى 159 أ.

ص: 412

وخربوا الكنائس والديارات، ثم عادوا مثقلين بالغنائم إلى سرقسطة. وكان الناصر قد استتم خلال ذلك النظر في شئون الثغر، وحفظ أطرافه، وتزويده بالحماة والمقاتلة، وكل ما يضمن سلامته، ثم خرج بجيشه من سرقسطة قافلا إلى الحضرة في الرابع عشر من صفر، فوصل إلى قصر الخلافة في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 326 هـ (أواخر يناير 937 م)، وذلك بعد أن قضى في غزوته زهاء ثمانية أشهر (1).

ووفد محمد بن هاشم التجيبي بعد ذلك على قرطبة، فأكرم الناصر وفادته، وأقام في كنفه مدة في رغد وإيثار، وهو يحضر مجالس الخليفة، ثم غادر قرطبة في رجب بعد أن ولاه الناصر سرقسطة، وعقد له عليها وعلى الجهات التابعة لها، وولاه القيادة في نفس الوقت، وبذا رد إلى سابق مناصبه ومكانته.

* * *

وهكذا استطاع عبد الرحمن أن يمزق شمل هذا التحالف الخطر، وأن يخضع الشمال الشرقي من شبه الجزيرة كله لسلطانه وصولته؛ ولم يبق عليه إلا أن يحطم خصمه القوي العنيد راميرو الثاني ملك ليون، وهو محور النضال الحقيقي. فلم يمض سوى عامين حتى تأهب للقيام بأعظم غزواته ضد مملكة ليون، فحشد جيشاً ضخماً يبلغ زهاء مائة ألف، وعهد بقيادته إلى نجدة بن حسين الصقلبي. وكان الأجانب والصقالبة قد تبوأوا يومئذ ذروة القوة والنفوذ في بلاط قرطبة، وسيطروا على معظم المناصب الكبيرة في القصر والجيش. وكان لهذه السياسة التي أسرف الناصر في اتباعها، أسوأ الأثر في نفوس الزعماء العرب، وفي انحلال قوى الجيش المعنوية. وفي صيف سنة 939 م (327 هـ) سار الناصر إلى ليون على رأس جيشه الضخم، وعبر نهر التاجُه من عند طليطلة، ثم عبر نهر دويرة متجهاً نحو قلعة شنت منكش، أو شنت مانك (سيمانقة) دون أن يفطن إلى ما يفت في عضد هذه القوة العظيمة من العوامل الخفية؛ وكان راميرو الثائر يرابط على مقربة منها في حشود عظيمة، متأهباً لقتال المسلمين بكل ما وسع، وزوده حليفه الخائن أمية بن إسحاق بنصائح ومعلومات ثمينة،

(1) المقتبس في السفر الخامس - لوحة 163 أوب.

ص: 413

وانضمت إليه طوطة ملكة نافار ناكثة لعهدها، وبذا اتحدت قوى اسبانيا النصرانية لمقاتلة المسلمين مرة أخرى.

وهنا تختلف الرواية العربية والفرنجية اختلافاً بيناً في شأن الموقعة التي نشبت بين المسلمين والنصارى، وبينما تقدم إلينا الرواية الفرنجية كثيراً من التفاصيل الواضحة المغرقة أحياناً، إذا بالرواية العربية يغلب عليها الإيجاز والغموض والتحفظ؛ وبالرغم من أن الرواية الأندلسية تشير إليها في غير موضع وتصفها " بغزاة القدرة " تنويهاً بأهميتها، وما كان يعلق عليها من رغبة في سحق المملكة النصرانية، وتسميها بموقعة " الخندق " وهو نفس الإسم الذي تقدمه الرواية الفرنجية، فإنها لا تقدم إلينا أى تفصيل شاف عن مكانها وظروفها (1).

وسوف نستعرض أقوال الرواية الإسلامية أولا، ثم نتلوها بأقوال الرواية النصرانية، حتى نستطيع بالتمحيص والمقارنة، أن نخرج بفكرة واضحة عن حقائق هذه الموقعة التي تعتبر من كوارث التاريخ الأندلسي.

ويقدم إلينا المسعودي عن الموقعة رواية يطبعها لون القصة. فيقول لنا إن عبد الرحمن اقتحم بجيشه حدود ليون وزحف على مدينة سمّورة عاصمتها، وكانت في غاية المناعة، يحيط بها سبعة أسوار شاهقة البنيان، قد أحكمتها الملوك السابقة، وبين الأسوار خنادق متسعة تفيض بالماء، فافتتح المسلمون منها سورين، واحتمى النصارى بداخل المدينة، ثم لحق المسلمين الإعياء من امتناع المكان وحصانته، فكر عليهم النصارى بشدة وحماسة، فساد الاختلال بين المسلمين وهزموا هزيمة شديدة، وقتل منهم زهاء أربعين ألفاً وقيل خمسين ألفاً، وكان ذلك في شوال سنة 327 هـ (يوليه 939 م). وسميت الموقعة بموقعة الخندق لنشوبها على خنادق سمورة (2).

على أن الرواية الأندلسية أكثر وضوحاً ودقة، في شرح تفاصيل هذه

(1) أخبار مجموعة ص 136؛ ويشير ابن خلدون إلى الموقعة إشارات عابرة (ج 4 ص 137 و140). وكذا ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150. ولم يذكرها ابن عذارى في البيان المغرب.

(2)

مروج الذهب (بولاق) ج 1 ص 78؛ ونقلها المقري في نفح الطيب ج 1 ص 165 وابن الأثير ج 8 ص 115.

ص: 414

الكارثة. ولدينا من ذلك روايتان، تمتاز كلتاهما بنوع من الوضوح في تحديد مكان الموقعة وظروفها، هما رواية مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان، ورواية الوزير ابن الخطيب.

أما رواية ابن حيان، وهي التي ينقلها في المقتبس عن عيسى بن أحمد الرازي، فخلاصتها، هو أن الناصر لما عزم على غزو أهل جلِّيقية (مملكة ليون)، جد في الاستعداد والحشد، وبعث كتبه إلى الثغور، واستكثر من الآلات والسلاح، وخرج في حشوده إلى الغزو في يوم الجمعة 22 شعبان سنة 327 هـ الموافق لأول شهر يونيه العجمي (سنة 939 م). وكان الناصر قد سير قبل خروجه الوزير القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة في بعض قواته إلى جهة الغرب احتياطاً على أهله، وحماية لهم أثناء قيامه بالغزو.

ووصل الناصر في قواته إلى طليطلة في يوم 23 رمضان، ثم خرج منها الى أرض العدو (قشتالة) في الخامس من شوال، فعاث فيها أياماً، وألفى النصارى قد أخلوا معظم بلاد هذه المنطقة، وكانت غاصة بالنعم والأقوات، فاستولى المسلمون عليها، ثم تقدموا إلى حصن أشكر، وخربوه وانتسفوا ما حوله. ثم ساروا إلى حصن أطلة، فحصن برتيل، وذلك في يوم 13 شوال.

وكان محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة قد تقدم في قواته، في الوقت نفسه، فعبر نهر شنت مانكش (سيمانقا)، فارتد العدو بقواته وراء النهر، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها النصارى أولا، ولكنهم عادوا فاجتمعوا وتكاثروا على المسلمين، وسقط محمد بن هاشم عن فرسه خلال القتال فأسر، وهزم المسلمون على باب شنت مانكش هزيمة شديدة، وقتل منهم كثيرون وارتدوا في تراجعهم إلى خندق عميق، وهو الذي تنسب إليه الموقعة، فتردى فيه منهم خلق كثير، فتقدم الناصر مضطراً بقواته، وترك محلته، فملكها العدو في الحال، واحتل الناصر أعلى النهر بقواته، وقد عجز النصارى عن اتباعه، فلبث هناك يومه، وقد ساد الخلل في الجيش، وأيقن الناصر بتمحيص الله للمسلمين، ثم رحل قافلا حتى وصل إلى مدينة وادي الحجارة، ثم سار منها إلى قرطبة.

هذا ملخص ما نقله ابن حيان عن عيسى بن أحمد عن موقعة الخندق، ويزيد ابن حيان على ذلك، أن هذه الوقيعة التي اشتهر حديثها بالأندلس قد نالت

ص: 415

السلطان (الخليفة) والمسلمين فيها محنة عظيمة، وقتل وأسر فيها خلق كثير.

واستولى العدو على محلة السلطان وسرادقه وآلاته السلطانية، وفيها مصحفه الخاص ودرعه الأثير لديه. وشملت الهزيمة سائر الكافة، فلم ينج من نجا منها إلا على متون الدواب. وأصاب القتل والأسر بالأخص أهل البلاد والمطوعة. أما الجند فقد نجا معظمهم، وفشا القتل فيمن سواهم من المستنفرين والحشودة.

ويقول لنا ابن حيان، إنه كان بين ضحايا المعركة جده أبو سعد مروان بن حيان بن محمد بن حيان. ومن الحقائق المؤلمة التي ينقلها إلينا ابن حيان، أنه قد بدا في هذا اليوم، من قوم من وجوه الجند " النفاق لأضغان احتملوها على السلطان فقبعوا للصفوف، وسارعوا في الهرب، وجروا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم. وكان أسبقهم إلى ذلك وأكشفهم لما في نفسه الخاين " ابن فرتون بن محمد الطويل " وقد بعث الناصر خلفه برسول استطاع القبض عليه، فثقف وحمل إلى قرطبة، وهنالك صلب على باب السُّدة يوم وصول الناصر من غزاته، وألحق به نفر من أشكاله ممن عملوا عمله، ولحقهم وزره.

ويصف لنا عيسى بن أحمد، طريق العودة الذي سلكه الناصر بجيشه عقب الموقعة، فيقول إن الناصر، قصد أولا إلى مدينة الفرج (وادي الحجارة)، ثم غادرها في يوم الخميس الحادي عشر من ذى العقدة، وسار إلى جربيرة، ومنها إلى شبطران، ومنها إلى محارس، ومنها إلى مدينة طليطلة، فلبث بها أربعة أيام، ورحل منها يوم الخميس إلى فج سراج، ومنها إلى ملقون، ثم احتل بالبركة، ومنها إلى منزل رند، ثم إلى قنالش على وادي أربيشر، ومنها إلى طير برتيطة، ومنها إلى قليانة، فأرملاط، ومنها إلى منية نصر على باب قرطبة بعدوة النهر بالربض. وهنالك قضى الليل. تم سار إلى قصر قرطبة في الغد، وقد نفذ أمره بصلب فرتون بن محمد الطويل، على باب السُّدة الأكبر من أبواب القصر.

هذا، وقد نقل إلينا ابن حيان نص الكتاب الذي صدر باسم الناصر عن الموقعة، وهو من إنشاء الوزير الكاتب عيسى بن فطيس. وهو كتاب طويل، يحاول فيه كاتبه أن يصف أدوار الموقعة، وروعة القتال الذي نشب بين المسلمين والنصارى؛ ويستخلص منه أن المعركة بدأت في صالح المسلمين، وأنهم استطاعوا في البداية أن يردوا النصارى، وأن يفضوا جموعهم، حتى سقط محمد بن هاشم التجيبي

ص: 416

قائد الطليعة عن فرسه، وأسره النصارى، فعندئذ ارتد المسلمون إلى خطوطهم، وذلك بعد أن قتلوا عدداً كبيراً من أعلام النصارى، وقوامسهم وفرسانهم. ثم استؤنف القتال في اليوم الثالث، وقد تضخمت حشود النصارى بما ورد إليهم من الأمداد " من أقصى بنبلونة وألبة والقلاع، وأهل قشتيلة إلى مشركي قلمرية، وكل صنف من أصناف العجم معهم "، واضطرمت المعركة بين الفريقين، وانتهت هذه المعركة الثانية بهزيمة النصارى وقتل عدد من أعلامهم، وارتد المسلمون إلى خطوطهم ظافرين. وفي اليوم التالي بادر النصارى بالهجوم، فلقيهم المسلمون بعنف وشدة، واحتدم القتال، وسقط " عظيم من عظماء النصارى " فاستداروا حوله، وقد لحقتهم الهزيمة، وهنا يقول الكتاب " وبلغ أمير المؤمنين أقصى أمله من إذلال جميع المشركين، والاحتلال بساحتهم، وانحياز طاغيتهم في أعلى شاهق، يرجو النجاة بنفسه، فأمر بالرحيل، وقد ضاعف النظر، والعدو في ضبط ساقة جيشه، لما توقع خروج الكفرة في أثره، وأصبح منتقلا، فما أقدم أعداء الله أن ينظروا من الجيش إلا من بعد على رأس جبل ".

وسار الناصر، حسبما ينبأنا الكتاب، بعد ذلك صوب نهر دويرة، في اتجاه حصن شنت منكش، وهو يهدم الحصون، وينتسف الزروع في طريقه، وكان الناصر، يزمع السير شرقاً بحذاء دويرة، حتى حصن شنت إشتيبن، ولكنه عدل عن ذلك، وأزمع السير إلى حصن أنتيشة. وهنا يحدثنا الكتاب عن المرحلة الحاسمة من الموقعة، ذلك أن الناصر، أشرف في سيره على " خنادق ومهاو تتقاذفه، وأجراف منقطعة قد عرفها المشركون، وقدموا إليها، وألقوا إلى ساقة الجيش فرسانهم، فدارت عليهم الحرب، وصرع فيها من جلة فرسانهم، ومتقدمي رجالهم جملة، لو أصيبت بحيث يتراءى الجمعان لكانت سبب هزيمتهم، ولكنهم وثقوا بالوعد، وانتظروا تقدم الحماة، وترادف الأثقال، فحامى أمير المؤمنين برجاله وخاصته عن المسلمين. ساعات من النهار، حتى تقدم أكثرهم، وجازت الخندق لقتالهم، إلا من ضعفت دابته، أو ضعفت تعبئته عن استنفارها، فلما رأوا الخلل تصايحوا من قنن الجبال، وانحطوا من أعاليها انحطاط الأوعال، فأصابوا من الأمتعة والدواب المثقلة، ما لو أصابوا مثله في مجال حرب أو سهل

ص: 417

من الأرض، لما أنكر مثله مثله، عند مقارعة الرجال، وتصرف الأحوال، وحامى صاحب العسكر عن كل من أجاز الخندق، وخلص من مضايقه، حتى أسهلوا، وأصبح لأمير المؤمنين جيوشه، وانتظمت جموعه، وسلم الله رجاله، فلم يصب منهم أحد. وفي ذلك دليل للسامع عن الموقعة أنها لم تدر بغلبة، ولا ظفر المشركون، اظفروا به فيها عن مساواة أو كثرة، ولكن ضيق المسالك، ووعر الطريق، وسوء فهم الدليل، خلى لما جلبه إلى أقدار الله تعالى التي لا تصرف، ومحنه التي لم يزل يمتحن بها أولياءه ليعظهم، ويبتلي عبيده ليرهبهم، وأمير المؤمنين شاكر لله تعالى عظيم نعمه، وواقف على تصرف محنته، مستسهل ما اختص به في حب طاعته، ضارع إلى الله تعالى في التقبل لقوله وفعله ".

وقد أرخ هذا الكتاب في اليوم الثامن من ذى القعدة سنة 327 هـ، أعني عقب الموقعة بأربعة أسابيع، وحينما وصل الناصر في ارتداده إلى وادي الحجارة، وذلك ليكون إيضاحاً للناس ومعذرة من الخليفة، عما أصابه من هزيمة. على أن هذه العبارات الرفيقة التي صيغ فيها الخطاب، وهذه التأكيدات الجريئة، بأن أمير المؤمنين، عقب جواز الخندق، قد انتظمت جيوشه، وسلم الله رجاله، ولم يصب منهم أحد، لا يمكن أن تنفي شيئاً من الحقائق المؤلمة، التي تشهد كلها بفداحة النكبة التي نزلت بجيش الناصر على خندق شنت منكش، والتي يفصل لنا ابن حيان بعض نتائجها وآثارها فيما تقدم.

ونقل إلينا ابن حيان كذلك رواية موجزة عن الموقعة عن عريب بن مسعود جاء فيها: " غزا الناصر لدين الله سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالصوائف إلى مدينة شنت مانكش بلد ألبة، وبارز الكفرة، فوقعت حرب عظيمة انهزم المسلمون عنها، واستمسك الناصر لدين الله في رجال الحقيقة بعد أن هلك في [الموقعة] عالم من المسلمين، وقتل منهم كثير، وأسر كثير، وكان ممن أسر محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة. وذلك في شهر رمضان منها ".

وكان القائد الباسل محمد بن هاشم التجيبي، قد لبث في أسر راميرو (رذمير) ملك ليون، مدة استطالت أكثر من عامين، والناصر يسعى إلى افتكاكه، ويضاعف له الفدية، حتى أفرج عنه أخيراً، وحضر إلى قرطبة في

ص: 418

شهر صفر سنة 330 هـ، بعد عامين وثلاثة أشهر من أسره (1).

وأما رواية ابن الخطيب، فهي بالرغم من إيجازها أقرب الروايات الإسلامية إلى الدقة والحقائق التاريخية؛ فهو يحدد تاريخ الموقعة، ومكانها بدقة، ويصفها " بالوقيعة الشهيرة التي ابتلى الله بها عبد الرحمن ومحصه، والتي أوقعه بها عدو الله رذمير ابن أردون ". فأما تاريخ الموقعة فهو يوم الجمعة 11 شوال سنة 327 هـ (أول أغسطس سنة 939 م)، وقد وقعت على باب شانت منكش (2)، بعد قتال استمر أياماً، تراوحت فيه المغالبة بين الفريقين بأشد ما يكون وأصعبه. ثم كانت للعدو الكرة، فانكشف المسلمون انكشافاً لم يسمع بمثله، وألجأ العدو المسلمين إلى التراجع إلى خندق عميق، هو الذي تنسب إليه الموقعة (فهي تسمى موقعة الخندق (3). فتساقط فيه المسلمون حتى ساووا بين ضفتيه، وانكشف الناصر، واستولى العدو على محلاته، وما فيها من عدة ومتاع، وضاع فيها مصحفه ودرعه (4).

ولدينا من الرواية النصرانية أولا رواية ألفونسو الحكيم في تاريخه العام، وهي رواية موجزة مغرقة معاً، وخلاصتها أن عبد الرحمن ملك قرطبة وابن يحيى ملك سرقسطة، قدما في جيش ضخم إلى أرض الملك راميرو، ووصلا في جيشهما حتى بلدة سيت مانكاس. فلما علم بذلك الملك راميرو خرج لقتالهم وقاتلهم حتى هزم المسلمون، وقتل منهم ثمانون ألفاً، وكان هذا اليوم يوم القديس يوستي والقديس باستور. ويقول لوقا التوجي إنه كان يوم الإثنين. وأسر ابن يحيى.

وهرع المسلمون الآخرون إلى حصن يسمى " الخندق " Alfondiga وتركوا كثيراًمن قتلاهم في الميدان. وحاصرهم الملك راميرو في هذا الحصن، وفر منه

(1) نقلنا رواية ابن حيان عن موقعة الخندق والكتاب الذي صدر عن الناصر عقب وقوعها من السفر الخامس من المقتبس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحات 167 إلى 172 أ. هذا وقد نشرنا نص كتاب الناصر كاملا في نهاية الكتاب.

(2)

شنت مانكش هي بالإسبانية Simancas ( سيمانقة). وهي تقع على مقربة من نهر دويرة شرقي مدينة سمورة وجنوب غربي بلد الوليد. وما تزال هذه القلعة قائمة حتى اليوم بصورتها النصرانية المجددة.

وهي اليوم مقر دار المحفوظات الإسبانية.

(3)

وتعرف الموقعة بالإسبانية Alhandega محرفة عن كلمة " الخندق ".

(4)

أعمال الأعلام ص 36 و37.

ص: 419

عبد الرحمن ناجياً بنفسه في نفر من صحبه، وعاد الملك راميرو في جيشه ومعهم غنائم كثيرة من الذهب والفضة والأحجار النفيسة وأشياء كثيرة أخرى، وأخذ معه ابن يحيى أسيراً (1).

بيد أن هنالك روايات نصرانية أخرى أكثر دقة ووضوحاً. وخلاصة هذه الروايات هو أن عبد الرحمن سار بجيشه في اتجاه سيمانقة الواقعة على مقربة من نهر دويرة شرق مدينة سمورة، فلقيه راميرو وحليفته طوطة في قواتهما، ونشبت بين الفريقين موقعة في 5 أغسطس سنة 939 م، فأبدى رؤساء العشائر العربية في القتال فتوراً وتراجعوا أمام النصارى. ولكن حدث ما لم يتوقعه المسلمون، ذلك أن النصارى طاردوهم وألحوا في قتالهم، فارتد المسلمون أمامهم نحو الجنوب الغربي، حتى محلة صغيرة في جنوبي مدينة شلمنقة تسمى ألانديجا (الخندق)، ثم وقفوا وكروا على النصارى بفتور وتخاذل، وهجم النصارى عليهم بجرأة وشدة، فهزم المسلمون هزيمة شديدة، وأمعن النصارى فيهم قتلا وأسراً. فساد الخلل في الجيش الإسلامي، ومزقت منه فرق برمتها، وقتل قائده نجدة الصقلبي، وأسر محمد بن هاشم حاكم سرقسطة ومزق جيشه، وكان يحارب إلى جانب عبد الرحمن في هذه الغزوة، وحمل مصفداً إلى ليون. وأثخن عبد الرحمن نفسه جراحاً، ولم ينج من الموت والأسر إلا بأعجوبة، فولى شطر قرطبة في نفر من الفرسان (2). ولم يحاول راميرو أن يستغل نصره بمطاردة المسلمين. ويقال إن الذي منعه من مطاردتهم هو أمية بن اسحاق إذ حذره من الكمين ورغبه فيما خلفوه من الأسلاب والغنائم الضخمة. ولولا ذلك لفني الجيش الإسلامي بأسره (3).

وكان لانتصار راميرو وقع عظيم في أوربا وفي العالم الإسلامي، بيد أن الموقعة على روعتها لم تكن بعيدة الأثر في قوة الأندلس ومنعتها، ولم يدخر عبد الرحمن منذ عوده إلى قرطبة جهداً في تنظيم الجيش وإصلاحه، وتطهيره من العوامل الخطيرة التي أدت إلى هذه الكارثة. ويحاول ابن الخطيب أن يوضح لنا أسباب هذه الكارثة في قوله: " وجرت الهزيمة على المسلمين طائفة من جند الناصر

(1) Cronica General، ibid، Vol.II.p. 369

(2)

Dozy: Hist.; Vol.II.p. 155-156 وكذلك: Aschbach: Geschichte der Omajaden in Spanien.B.II.p. 50. حيث يورد الروايات النصرانية.

(3)

نفح الطيب ج 1 ص 165، وابن الأثير ج 8 ص 115.

ص: 420

لدين الله حسدته ما هيأ الله من الصنع، ولم تناصحه في الحرب حق النصح، فجالت ثانية للأعنة، واختل مصاف القتال ". ثم يقول لنا إن الناصر، قرر أن يبطش بأولئك الخونة المتهاونين، فأمر قبيل وصوله إلى قرطبة، أن تقام المصالب على ضفة نهرها، وما كاد يصل إلى قرطبة، حتى قبض على نحو ثلاثمائة من الفرسان، فصلبهم وأمر بالنداء عليهم: " هذا جزاء من غش الإسلام، وكاد أهله، وأخل بمصاف الجهاد " (1). بيد أن موقعة الخندق كانت خاتمة أعمال الناصر الحربية فلم يغز من بعدها بنفسه.

وفي ذلك يقول ابن حيان: " إنه قد اشتدت على الناصر نكبته في غزوته هذه، فاتهم سعده، واعتكر بكره، حتى خاف على نفسه، فأشير عليه بعكس همه. فالتفت إلى البنيان يعالج به همه وأساه، فأنشأ مدينة الزهراء، وأقصر من ذلك الوقت عن الغزو بنفسه، ووكل إلى حزمة قواده وشجعانهم، يجردهم بالصوائف كل عام ". ومن جهة أخرى فقد رأى عبد الرحمن أن يتبع نحو أمراء الثغر الأعلى سياسة جديدة. وذلك أنه، وفقاً لقول ابن حيان قد " اقتصر في تقليد شئون الثغر الأعلى الممانعة للدروب على أكابر ساكنيها ورّاثها عن الأجداد والآباء صلابة البأس، آل تجيب، وآل ذى النون، وآل زروال، وآل غزوان، وآل الطويل، وآل رزين، وأسبابهم المؤمرين قديماً بثغورهم، الذابين عن حريمهم، فضم بلادهم بينهم حصصاً، وجدد لهم ولأعقابهم بعدهم على أقسامهم منها كل عام، ثم لا يغبنهم بالصلات إذا وفدوا وطلبوا، وبالهدايا إن بعدوا "، وقد ترتب على ذلك أن كان هؤلاء الزعماء يقومون بدفاع النصارى، وكان الناصر يزودهم كل عام بالعدد والسلاح، والمستنفرة والمطوعة إلى الثغر تعضيداً لجهودهم (2).

واستأمن أمية بن إسحاق بعد ذلك عبد الرحمن، فلم ير بأساً من تأمينه والعفو عنه. وكانت سياسة عبد الرحمن ترمي دائماً إلى اصصناع خصومه الأقوياء بالعفو والإغضاء. وسعى عبد الرحمن حسبما تقدم إلى افتداء محمد بن هاشم، فأفرج عنه النصارى بعد أن لبث في سجون ليون زهاء ثلاثة أعوام، وغمره الناصر بعطفه

(1) أعمال الأعلام ص 37.

(2)

ابن حيان في السفر الخامس لوحة 168 ب.

ص: 421

فأسبغ عليه لقب الوزارة، وجعله قائداً للثغر، وعاد إلى سرقسطة، وكان يزور قرطبة من آن لآخر، واستمر والياً لسرقسطة حتى توفي في سنة 338 هـ. فعين الناصر ولده يحيى مكانه في الولاية والقيادة. وشغل النصارى مدى حين بعد موقعة الخندق بطائفة جديدة من الحروب الأهلية، واستطاع عبد الرحمن خلال ذلك أن يعني بإصلاح شئون المملكة وتقويتها.

وجنح راميرو ملك ليون إلى السلم مرة أخرى، وبعث إلى الناصر يطلب عقد الصلح فأجابه الناصر عن كتابه بالقبول، وبعث إليه سفيراً ليعقد معه شروط السلم. ولكنه كان كالعادة سلماً قصير الأمد.

وعقد الناصر من جهة أخرى السلم مع صاحب برشلونة الإفرنجي شنير بن منفريد، وبعث إليه كاتبه حسداي بن إسحاق الإسرائيلي، لينظم معه عقد السلم وفقاً للشروط التي ارتضاها الناصر، وخلاصتها أن يتخلى شنير عن إمداد جميع النصارى الذين ليسوا في سلم الناصر، وأن يلتزم طاعته، وأن يحل المصاهرة التي بينه وبين غرسية بن شانجه صاحب بنبلونة (نبرّة)، وكان شنير قد زوجه ابنته فألغى زواجها، وفقاً لرغبة الناصر. وأصدر الناصر أوامره إلى قادة الأسطول وعمال السواحل بتحامي أعماله ومسالمة أهل بلاده. ودعا حسداي أمراء الثغر الفرنجي إلى طاعة الناصر، فأجابه منهم، إلى جانب شنير، إنجه صاحب جيرنده، وبعث إلى قرطبة سفارة يطلب تأمين تجار أراضيه الذين يجوبون ربوع الأندلس، فأجيب إلى طلبه، وصدرت الأوامر إلى جميع عمال الجزائر الشرقية والمراسي الساحلية، بتأمين سائر رعايا إنجه على أنفسهم وأموالهم (1).

ولم يحترم ملك ليون عهد السلم طويلا، وعادت بعوثه تعيث في الأراضي الإسلامية. ومن ثم فإن غزوات المسلمين لإسبانيا النصرانية لم تنقطع في الأعوام التالية. ففي سنة 329 هـ (941 م) غزا المسلمون أراضي ليون وعاثوا فيها؛ وفي سنة 335 هـ (946 م) عنى الناصر بتجديد مدينة سالم (2) وهي أقصى مدن الأندلس الشمالية الغربية على حدود ليون، وحصنها وشحنها بالرجال والعدد،

(1) المقتبس - السفر الخامس - لوحات 173 - 175.

(2)

هي بالإسبانية Medinaceli وترجع تسميتها بذلك الإسم إلى أنها كانت منزل بني سالم، وهم بطن من بطون قبيلة مصمودة البربرية (راجع جمهرة أنساب العرب لابن حزم - القاهرة - ص 461).

ص: 422

وكانت قد خربت من جراء غزوات العدو المتكررة. وتوالت غزوات المسلمين لأراضي ليون في الأعوام التالية. وفي أواخر سنة 339 هـ (يناير 950 م)، توفي راميرو الثاني ملك ليون، فثارت الحرب الأهلية بين ولديه أردونيو وسانشو، وانتهز المسلمون هذه الفرصة فعاثوا في أراضي ليون غير مرة، وانتهى الأمر بفوز أردونيو وجلوسه على العرش. ورأى أردونيو أن يعقد الصلح مع الناصر، فأرسل إليه سفيراً يخطب وده، فاستجاب الناصر إلى دعوته، وعقد معه معاهدة صلح تعهد فيها أردونيو بأن يصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر (سنة 955 م)، ولكن أخاه سانشو رفض هذه المعاهدة وحال دون تنفيذها. فاضطر الناصر إلى استئناف الحرب، وسير قائده أحمد ابن يَعلى في جيش إلى ليون، فهزم النصارى وعقد الصلح بين الفريقين مرة أخرى، واستمرت بينهما علائق السلم مدى حين.

* * *

ونعود الآن قليلا إلى الوراء لنستعرض بعض الحوادث الداخلية، ومنها بالأخص ما حدث من محن المحل والمجاعة بالأندلس. ففي سنة 317 هـ (929 م)، وقع المحل بالأندلس واحتبس الغيث، واضمحلت الزروع، وعزت الأقوات، وغلت الأسعار على نحو ما حدث في سنة 303 هـ، فأمر الناصر خطيب المسجد الجامع بالحضرة، بالاستسقاء، فبدأ بذلك في خطبة الجمعة التالية، ثم برز بالناس إلى مصلى الربض يوم الإثنين الثامن من شهر صفر (23 مارس)، فلم يسقط الغيث، واستمر المحل والقحط، وجهدت الناس. وخرجت كتب الناصر إلى جميع العمال على الكور بالأمر بالاستسقاء، وكان الكتاب إلى جميع العمال بنفس النص على النحو الآتي:

" بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن الله عز وجل، إذا بسط رزقه وأغدق نعمته، وأجزل بركاته، أحب أن يشكر عليها، وإذا رواها وقبضها، أحب أن يسئلها، ويضرع إليه فيها، وهو الرزاق، ذو القوة المتين، والتواب الرحيم، الذي يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وهو الذي يتزل الغيث من بعد ما قنطوا، وينشر رحمته، وهو الولي الحميد، فأوجبت به الرغبة، عز وجهه فيه، والخشوع لعزته، والاستكانة له، والإلحاح في المسئلة

ص: 423

فيما احتبس به، والتوبة من الأعمال المنكرة التي توجب سخطه منه، وتبذل نقمته، وتستروحه رضاه، تعالى جده. وقد أمرنا الخطيب فيما قبلنا بالاستسقاء في المسجد الجامع يوم الجمعة، والجمعة الثانية التي تليه، إن أبطأت السقيا، والبروز يوم الإثنين بعدها لجماعة المسلمين عندنا إلى مصلاتهم، أو يأتى الله قبل ذلك بغيثه المعني عنه، ورحمته المنتظرة منه، المرجوة عنده، فمر الخطيب بموضعك أن يحتمل على مثل ذلك، ويأخذ به من قبله من المسلمين، وليحملهم بذلك المحمل، ولتكن ضراعتهم إلى الله تعالى، ضراعة من قد اعترف بذنبه، ورجا رحمة الله، والله غفور رحيم، وهو المستعان لا شريك له إن شاء الله " (1).

وفي سنة 324 هـ، وقع بالأندلس محل جديد لم يعهد فيها بمثله من قبل، فاحتبس المطر، وجفت الزروع. ومع ذلك فلم يترك هذا المحل وراءه كثيراً من الآثار المخربة، ويقول لنا ابن حيان، إن البركات والخيرات استمرت ذائعة بين الناس في سائر الجهات. وبذل الناصر لمعونة الناس ما جبر النقص في المحل. وانهمل الغيث في العام التالي، وقد نظم الشاعر عبد الله بن يحيى بن إدريس في ذلك قصيدة في مديح الناصر هذا مطلعها:

نعم الشفيع إلى الرحمن في المطر

مستنزل الغيث بالأعذار والنذر (2)

وعاد المحل والقحط يعصف بالأندلس في سنة 329 هـ (941 م)، وتوقف المطر، وعم الجفاف، وشرع قاضي الجماعة، وصاحب الصلاة محمد بن أبي عبد الله بن عيسى في إقامة صلاة الاستسقاء في يوم الجمعة الثاني من ربيع الآخر.

ولكن المحل تمادى، وبرز الناس إلى مصلى الربض مراراً وتكراراً. وفي الثاني عشر من جمادى الأولى (أول فبراير)، بدا نوء غليظ وسحاب كثيف ونزل الثلج طوال اليوم وغطى الأرض، ثم نزل المطر والثلج، وانقطع دون أن يروي الأرض. فعاد القاضي إلى الاستسقاء حتى استجاب الله لعباده بعد أيام قلائل، وبدأ الناس في الزرع، وتوالى نزول الغيث، واستسقى الناس سقيا وافياً، ورويت الأراضي والمزارع، وهبطت الأسعار وعاد الرخاء (3).

(1) ابن حيان في السفر الخامس - لوحة 102 أوب.

(2)

ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 150 أ.

(3)

ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 181.

ص: 424

هذا، ومما ذكره لنا ابن حيان من الحوادث الداخلية في سنة 324 هـ (936 م)، وقوع الحريق العظيم بمدينة قرطبة. ففي أوائل شهر شعبان من هذه السنة، نشبت النار بسوق قرطبة، فأحرقت جميع مجالس الحصاد، واتصل الحريق بحي الصرافين، وما جاور مسجد أبي هرون، فاحترق وتداعى المسجد.

ثم اتصلت النار بسوق العطارين، وما جاوره من الأسواق والأحياء، واتسع نطاقها بصورة مرعبة. وكان حريقاً شنيعاً مروع الآثار. وقد أمر الناصر بعد انتهائه، وانجلاء آثاره، أن يعاد بناء مسجد أبي هرون، فأعيد على أحسن حال.

وأمر الناصر كذلك يإعادة بناء ما تهدم من الدور والصروح العامة (1).

- 3 -

لم ينس عبد الرحمن خلال توفره على محاربة الثوار والنصارى داخل شبه الجزيرة، أن يعني بمقاومة الدعوة الفاطمية التي اجتاحت شمالي إفريقية، وامتدت بسرعة إلى عُدوة المغرب وإلى سبتة، وأخذت تهدد شواطىء الأندلس. وكانت الدعوة الفاطمية تنطوي بالنسبة للأندلس على خطر مزدوج ديني وسياسي معاً. وكانت في قوتها وعنفوانها تهدد طرفي إفريقية أعني مصر والمغرب. فمنذ عبيد الله المهدي أول الخلفاء الفاطميين، تتردد جيوش الخلافة الفتية من قواعدها في تونس نحو مصر والمغرب، غازية. وكان اجتياحها السريع للمغرب يثير بحق جزع حكومة قرطبة؛ ولا غرو فقد كانت عدوة المغرب تعتبر دائماً، قاعدة لغزو الأندلس وخط دفاعها الأول. وكان ثوار الأندلس يتجهون بأبصارهم إلى العدوة، ويفاوضون الفاطميين، ويأتمرون معهم على حكومة الأندلس، فكان على عبد الرحمن أن يغالب هذا الخطر الجديد قبل استفحاله. ففي سنة 319 هـ (931 م) سير عبد الرحمن إلى ثغر سبتة أسطولا قوياً يتكون من مائة وعشرين سفينة، ما بين حربية وناقلة، وسبعة آلاف رجل منهم خمسة آلاف من البحارة وألف من الحشم، وانضم إليه عدة من وجوه ألمرية وبجانة تطوعا في مراكبهم، وكان تحت قيادة أميري البحر أحمد بن محمد بن إلياس وسعيد بن يونس بن سعديل. فخرج هذا الأسطول من الجزيرة آخر جمادى الأولى من هذه السنة، واستولى على سبتة من يد ولاتها البربر بني عصام حلفاء الفاطميين، وطلب الناصر إلى صاحب طنجة

(1) ابن حيان السفر الخامس - لوحة 150 أ.

ص: 425

أبى العيش الحسني أن ينزل له عنها لتكمل له بذلك السيطرة على رأس العدوة، فأبى، فحاصره الأسطول وضيق عليه حتى أذعن، وأجاب الناصر إلى ما طلب، وانتقل مع إخوته وبني عمه من الأدارسة إلى مدينة البصرة وثغر أصيلا تحت طاعة الناصر (1).

وبادر زعماء البربر من الأدارسة وزنانة إلى طاعة الناصر ومهادنته، وامتدت دعوته إلى فاس. وبعث إليه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يطلب محالفته والدخول في طاعته، فأجابه عبد الرحمن إلى رغبته، وأمده بالأموال والهديا، وقوى أمره في المغرب. وفي سنة 321 هـ (933 م) استطاع موسى أن يهزم جيشاً أرسله عبيد الله الفاطمي لغزو المغرب، والقضاء على دعوة الناصر، بقيادة قائده ابن يصل عامل تاهرت. ثم توفي عبيد الله في العام التالي. وفي سنة 323 هـ سير ولده الخليفة القائم إلى المغرب حملة أخرى، بقيادة ميسور الصقلبي، فضيق على موسى وطارده حتى الصحراء، واستولى الأدارسة حلفاء الفاطميين على مملكته.

وبعث الناصر لإنجاده إلى شواطىء العدوة أسطولا قوامه أربعون سفينة بقيادة أمير البحر عبد الملك بن أبي حمامة، سار إلى سبتة، تم تقدم إلى مليلة فافتتحها، ثم افتتح نكور وجراوة، فقويت نفس موسى، واستقل نوعاً من عثرته، وانسحب الفاطميون إلى الداخل، وقضى الأسطول في غزواته هذه ستة أشهر، ثم عاد إلى قواعده في ألمرية.

وجازت جيوش عبد الرحمن وأساطيله بعد ذلك مراراً إلى المغرب، لمحاربة الفاطميين وحلفائهم من الأدارسة وغيرهم من أمراء البربر، واضطر الأدارسة في النهاية إلى طلب الصلح من عبد الرحمن والاعتراف بطاعته (332 هـ)، ودعى لعبد الرحمن على منابر المغرب، واستقرت دعوته هنالك مدى حين، ولكن سلطانه فيما وراء البحر لم يكن ثابت الدعائم، وكان رهيناً بقيام دولة الأمراء المحالفين له.

ولما تولى المعز لدين الله رابع الخلفاء الفاطميين الملك، وبدت الدولة الفاطمية في أوج قوتها في إفريقية، وأخذت أساطيلها القوية تزعج الدولة البيزنطية، بغزو

(1) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 125 أوب، والاستقصاء ج 1 ص 85.

ص: 426

شواطىء قلورية (1) في جنوبي إيطاليا، كان خطر غزو الفاطميين للأندلس يلوح قوياً في الأفق. والظاهر أن هذه الفكرة لم تكن بعيدة عن ذهن المعز، بل يبدو فوق ذلك أن حكومة قرطبة وقفت على بعض وثائق تؤيد هذه النية. وفي سنة 344 هـ (955 م) سارت بعض السفن الفاطمية وهاجمت ثغر ألمرية، وأحرقت ما فيه من السفن، وعاثت في ألمرية. فرد عبد الرحمن بأن أرسل قوة بحرية بقيادة أمير البحر غالب، إلى شواطىء إفريقية (تونس)، فعاثت فيها، وأمر عبد الرحمن في الوقت ئفسه بلعن الشيعة والفاطميين على منابر الأندلس. ثم عاد بعد ذلك بثلاثة أعوام، فسير أسطوله ثانية إلى إفريقية بقيادة أحمد بن يعلي، تهديداً للقوات الفاطمية، التي زحفت بقيادة جوهر الصقلي حذاء الشاطىء إلى عدوة المغرب، وكان المعز قد سير قائده جوهراً في سنة 347 هـ، في جيش عظيم إلى المغرب الأقصى، ومعه زعيم صنهاجة زيري بن مناد في قواته، فاجتاح شمالي المغرب الأقصى كله حتى المحيط، ونازل فاس واقتحمها عنوة. وكان الناصر يرقب تقدم الفاطميين على هذا النحو في أراضي العدوة بجزع، ويجعل أساطيله على أهبة دائمة. وعبرت في نفس الوقت حملة أندلسية أخرى من طريق سبتة إلى المغرب، ولبثت هنالك حتى ارتد الفاطميون أدارجهم (2).

ويقدم إلينا ابن حيان بقلمه البليغ تلك الصورة عن تقدير الناصر لأهمية عدوة المغرب في الدفاع عن الأندلس، ومقاومة الدعوة الفاطمية:

" لم تزل نفس الخليفة الناصر لدين الله، منذ استولى على أمر الملك، واعين النصر، وسلط على أهل الخلاف، دروباً على ما سخر له من ذلك، ظمؤا إلى درك اقصاره، متخطياً موسطته إلى نهايته، معملا فيه رؤيته، موقظاً له فكرته، تأمل هذا الفرج في ساحل البحر الرومي

مجاورة جبل البرابر الحالّين بلاد المغرب لملكتهم لعدوتهم الراكبة لعدوة بلد الأندلس، تكاد عدوتهما تتراءى لضيق بحر الزقاق الحاجز بينهما، وسهولة مرامه أى أوقات الزمان رؤى

(1) وهي بالإفرنجية Calabria.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 138 و141؛ وابن الأثير ج 8 ص 119؛ ونفح الطيب ج 1 ص 169؛ والبيان المغرب ج 2 ص 219 و220 و225 و237، 238؛ وراجع Dozy: Hist.، Vol.II.p. 164 & 165

ص: 427

ركوبه. فمنه طرقت الأندلس في الزمان الخالية، واكتسب أهلها المخافة، فدعته همته العلية، وفكرته المصيبة، إلى التوقل إلى تلك الباغية المرهوبة، والسمو لتلك العورة المكشوفة، وذلك عند ما كشف عند يكنف ذلك الساحل الغربي من طنجة الفتنة، وضع ما كان أوهته من صدع الفرقة، وملك مفتاح الجزيرة الخضراء فرضة الأندلس الدنيا، الراكبة فتح ذلك البحر المرهوب، المحاضية لضرتها مدينة سبتة فرضة المجاز من بلد العدرة. فاذكى نظر عينه ما كان منبثاً بخاطره من الرهبة، فأرهف العزم، وألطف الحيلة، وابتدئ ففتح ذلك بمخاضة من تقدمت له بأسلافه ملوك بني أمية من أمراء تلك البلاد في وصلة أو سلفت بينهم أصرة، يستثير وصايلهم، ويصل أحبلهم، ويستدعي ولايتهم، ويسبب ذلك ما شاء مهاداتهم، واكرام أسبابهم، وقضاء حوايجهم، فلم يلبث أن هويت إليه أفئدة كثير منهم، وزعمايهم بين مصحح في ولايته، مستجيب لدعوته، مغتنم لعطيته. مستعين بقوته على مدافعة من قد هد ركنه من بني عبيد الله إمام الشيعة المقتحم أرضه عليه ودونه، وبين منافق مقيم لسوقه بينه وبين تلك الشيعة، منذ بدت بينها العداوة، مايل مع الدولة، مجتلب لعاجل ما استمسك به من الرشوة.

" استوى للناصر لدين الله من الطائفتين أولياء قاموا بدعوته، ورفعوا فوق أعلامه، وعاطوا مضطهدا، عبيد الله الشيعي صاحب إفريقية بدعوته، وقلبوا مجانهم إليه، ونصبوا الحرب لرجاله، فكفكفوهم عن الإيغال في بلدتهم من قاصية المغرب، يهطنونهم بالكيد والمكر، فتمكنت بذلك قدم الناصر لدين الله، فيما حازه من مدينة سبتة والقطعة التي استضمها إليها من أرض العدوة، واجتذب من أجله كثيراً من فرسان البربر وحماة رجالهم إلى حضرته، استعان بهم في حروبه، وتمكن من ذلك من ارتياد عتاق الخيل بوادي البربر، واستنتاجهم الفاضل لبراذين الأندلس، فمتنت بذلك أسباب ملكه، وجل مقداره، وبعد صيته، وهابته ملوك الأمم حوله، وظهرت نتيجة ما عاتاه من مواصلة أمراء البربر، وسعى لهم سعيه لصدر دولته الفاضلة، سنة سبع عشرة وثلث مايه وما يليها، إذ ترددت فيها عليه كتب محمد بن خزر عظيم أمراء زنانة في وقته، وأنفرهم عن عبيد الله الشيعي، وأدناهم من داره، وأول من تناوله الناصر

ص: 428

لدين الله من جماعتهم بمكاتبته، واجتذبه بوصلته " (1).

- 4 -

هذا وربما كان قيام الخلافة الفاطمية في الضفة الأخرى من البحر، وانسياب دعوتها إلى المغرب الأقصى، على مقربة من شواطىء الأندلس، في مقدمة البواعث التي حدت بعبد الرحمن إلى العمل على إحياء تراث الخلافة الأموية الروحي، بعد أن توطدت دعائم دولتها السياسية بالأندلس، وكان مؤسسها عبد الرحمن الداخل قد أمر بمنع الدعاء لبني العباس، ولكنه لم يتخذ سمة الخلافة واكتفى بلقب الإمارة. وسار بنوه على أثره. وبالرغم من أن الدولة الأموية قد استطاعت غير مرة، أن تستعيد مجدها السالف، في عهد الحكم بن هشام وولده عبد الرحمن الأوسط، فإن أمراء بني أمية لم يفكروا في الإقدام على منافسة بني العباس في ألقاب الخلافة.

وقيل في تعليل ذلك إنهم كانوا يرون الخلافة تراثاً لآل البيت، ويدركون قصورهم عن ذلك " بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية " وأنهم بعبارة أخرى كانوا يرون أن الخلافة تكون لمن يملك الحرمين (2). بيد أننا نعتقد أن هذا الإحجام يرجع بالأخص إلى بواعث الحكمة والسياسة، والتحوط من إثارة الفتنة والخلافات الدينية والمذهبية.

فلما ظهرت الدعوة الفاطمية في إفريقية، ونمت بسرعة في أوائل القرن الرابع الهجري، ولما تواترت الأنباء من جهة أخرى، عما انتهت إليه الدولة العباسية في المشرق من الإضطراب والفوضى، وما حدث من استبداد موالي الترك بالأمر وحجرهم على الخلفاء، رأى عبد الرحمن أن يتسم بسمة الخلافة، وأن يسترد بذلك تراث أسرته الروحي، وأنه بما وفق إليه من النهوض بالدولة الإسلامية وتوطيد أركانها، أحق بألقاب الخلافة من دولة منحلة وأخرى طارئة. ونفذ الأمر بذلك في يوم الجمعة مستهل ذي الحجة سنة 316 هـ، حيث قام صاحب الصلاة القاضي أحمد بن أحمد بن بقى بن مخلد بالدعاء له بالخلافة، على منبر المسجد الجامع بقرطبة (3). وإليك نص الوثيقة الرسمية التي صدرت بذلك وهو:

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس لوحة 103 ب و104 أ.

(2)

ابن خلدون ج 1 (المقدمة) ص 190؛ والمسعودي في مروج الذهب (بولاق) ج 1 ص 78؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 99.

(3)

ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 99 أ.

ص: 429

" بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبيه محمد الكريم. أبا بعد فإنا أحق من استوفي حقه، وأجدر من استكمل حظه، ولبس من كرامة الله تعالى ما ألبسه، فنحن للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسر على أيدينا دركه، وسهل بدولتنا مرامه، وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وأعلى في البلاد من أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا، واستبشارهم بما أظلهم من دولتنا إن شاء الله، فالحمد لله ولي الإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضل علينا فيه. وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك - إذ كل مدعو بهذا الإسم غيرنا، منتحل له، ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحقه منه، وعلمنا التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه، فمر الخطيب بموضعك، أن يقول به، وأجر مخاطبتك لنا عليه إن شاء الله. والله المستعان. وكتب يوم الخميس لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة 316 "(1).

وهكذا اتخذ عبد الرحمن سمة الخلافة عن يقين بأفضليته، وأولوية حقه وحق أسرته، وتسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، وذلك في الثاني من شهر ذي الحجة سنة 316 هـ (يناير سنة 929 م) فكان أول أمير من بني أمية بالأندلس ينعت بأمير المؤمنين. وبدأت الدعوة من ذلك الحين لبني أمية بألقاب الخلافة في الأندلس والمغرب الأقصى، ونقشت ألقاب الخلافة على السكة. ويضع بعض المؤرخين اتخاذ لقب الناصر لسمة الخلافة في سنة (327 هـ) أى بعد وقوعه بنحو عشرة أعوام، وهو تحريف واضح تنقضه وثيقة الدعوة الرسمية (2).

- 5 -

وكان من أبرز الحوادث الداخلية في عصر الناصر، حركة الفيلسوف المتصوف ابن مَسَرَّة الجبلي، واهتمام الناصر بمقاومتها وقمعها، وذلك حتى بعد أن توفي زعيمها بأعوام طويلة، وإصدار كتابه الشهير في شأنها.

(1) يضع ابن حيان اتخاذ الناصر لسمة الخلافة في حوادث سنة 316 هـ والدعاء له بها، حسبما تقدم في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، ويلخص في كلامه نص الوثيقة (السفر الخامس - لوحة 99 أ). وقد اعتمدنا في نقل الوثيقة الخلافية على ما ورد في الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر، ص 78 و79، والبيان المغرب ج 2 ص 212.

(2)

هذه رواية ابن الأثير (ج 8 ص 178) وكذلك ابن خلدون (ج 4 ص 137).

والظاهر أن أصحاب هذه الرواية لم يطلعوا على وثيقة الدعوة التي أثبتنا نصها.

ص: 430

وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مَسَرَّة من أهل قرطبة، وبها ولد سنة 269 هـ (882 م)، ودرس على أبيه وعلى ابن وضاح والخشني وغيرهم، ولكنه جاهر ببعض الآراء الدينية المغرقة في التأويل والقدر وإنفاذ الوعيد وغيرها، فاتهم بالزندقة، فغادر الأندلس فارًّا إلى المشرق، وأنفق هنالك بضعة أعوام، وتفقه على يد المعتزلة والكلاميين وأهل الجدل. ثم عاد إلى الأندلس، وهو يخفي آراءه ونحلته الحقيقية تحت ستار من النسك والورع، وكان ذلك في بداية عهد الناصر، فاختلف إليه الطلاب من كل صوب، وكان يستهويهم بغزير علمه، وسحر بيانه، ومنطقه الخلاب، حتى التف حوله جمهرة كبيرة من الصحب والأتباع، أضحت تكون مدرسة خاصة من الآراء الدينية والكلامية المتطرفة. واختلف الناس في أمر ابن مسرة، فمنهم من كان يرتفع به إلى مرتبة الإمامة في العلم والزهد والورع، ومنهم من كان يرميه بالزندقة وترويج البدع، والانحراف عن مبادىء الدين الصحيحة. وتوفي ابن مسرة بقرطبة في شوال سنة 319 هـ (931 م)(1). ولكن آراءه وتعاليمه بقيت من بعده ذائعة بين تلاميذه وأتباعه، وتكونت من حولها فرقة سرية، اتهمت بالمروق والإلحاد، تتابع دعايته، وتعمل على بث تعاليمه، حتى برم بهم المتزمتون من أهل السنة، وأخذوا يسعون لدى السلطات المختصة، لتعمل على قمع هذه الجماعة، والقضاء على تعاليمها.

وإليك كيف يصور لنا ابن حيان بقلمه البارع خطة ابن مسرة في بث تعاليمه، واستهواء أتباعه. قال:

" كان مذهب الظنين، المرتب المرائي بالعبادة، المنطوى على دخل السريرة، محمد بن عبد الله بن مسرة، الرابض للفتنة، دب في الناس صدر دولة الخليفة الناصر لدين الله، واستهواهم بفضل ما أظهره من الزهد، وأبدى من الورع.

" وكان يستهوي العقول، ويصور الأفئدة. وكان من شأنه أن يلقي أول من يأتيه، مقتبساً من أهل السلامة، بالمساهلة، إلى أن يحيله عن رأيه بالمفاضلة، فإذا أصغى إلى عذوبة منطقه، وعلق في شرك حجاجه، غره رفقاً بباطله من

(1) ابن الفرضي في " تاريخ العلماء والرواة بالأندلس "(القاهرة) ج 2 رقم 1204. وكذلك الحميدي في " جذوة المقتبس " (القاهرة) ص 58 و59. والتكملة لابن الأبار (القاهرة) رقم 765 و991.

ص: 431

الطاير فرخه، فلا يبعد أن يلفته عن رأيه، ويشككه في اعتقاده

ويحصله في اتباعه، فاستهوى خلقاً من الناس، صدّهم عن سبيل الله، وأوحشهم من الجماعة، واتخذ من رأى غيهم في مذهبه وايمة دخل في عرضهم رجال من ذوي الفهم. ولم يزل يستظهر عليهم بالمواثيق في الكتمان إلا من الثقات الوثاق العقدة، فاكتتم بذلك شأنه، إلى أن عاقصته منيته، صدر دولة الناصر لدين الله، أيام شغله بحروب أهل الخلاف المتصلة. فرفع الله بموته عن الناس فتنة، ولم يلبث دعاته مع انتشارهم في البلاد أن تلبسوا بعده بما أودعه من مكنون علمه، فكثر القول في شأنه، وشيم أهل الخلاف من تلقايه، فذعر له أهل السنة من أهل قرطبة، وتوقعوا منه البلية، ففزع فقهاؤهم وكبراؤهم بها إلى أصحاب الخليفة الناصر لدين الله فنبهوا

" (1).

ومضت أعوام طويلة، قبل أن تصل أصوات أهل السنة المعارضين لتعاليم ابن مسرة إلى المسئولين، ولم يصدر قرار السلطة العليا في شأنه وشأن تعاليمه، إلا بعد أن مضى أكثر من عشرين عاماً على وفاته، مما يدل على أن دعوته وتعاليمه لبثت حية ذائعة. قال ابن حيان:

" وفي يوم الجمعة لتسع خلون من ذي الحجة سنة أربعين وثلاث ماية، قرئ على الناس بالمسجدين الجامعين بالحضرتين، قرطبة والزهراء، كتاب أمير المؤمنين الناصر لدين الله إلى الوزير صاحب المدينة عبد الله بن بدر، بإنكاره لما ابتدعه المبتدعون، وشذ فيه الخارجون، من رأي الجماعة المنتمون إلى صحبة محمد بن عبد الله بن مسرة، وانتحلوه في الديانة، فافتتن العوام بما أظفره من التقشف والشظف في المعيشة، واستتروا لبدعهم بسكنى الأطراف البعيدة، حتى استمالوا بفعلتهم عصابة

وفرقة، فتنت بمذاهبهم، وأن ذلك بلغ أمير المؤمنين، ففحص عليه، وعلم صحته، فتعاظمه، واستوحش من اجتراء تلك الطايفة الخبيثة عليه، فأوعز إلى وزيره ومتولي أحكامه ومدينته، تتبع هذه الطائفة، وإخافتها والبسط عليها، والقبض على من عثر عليه منها، وإنهاء خبره إلى أمير المؤمنين ".

وأورد لنا ابن حيان بعد ذلك، نص الكتاب الذي صدر باسم الخليفة

(1) مخطوط ابن حيان (السفر الخامس من المقتبس) المحفوظ بالخزانة الملكية. وقد حالت خروم المخطوط دون ظهور بعض الكلمات.

ص: 432

الناصر لدين الله، في الحملة على تلك الطائفة، والتبرؤ منها، وهو من إنشاء كاتبه ووزيره عبد الرحمن بن عبد الله الزجالي.

ويبدأ الكتاب بالتنويه بشأن الإسلام، وأفضليته على سائر الأديان، وبرسالة محمد خاتم النبيين، الذي اصطفاه الله، وأرسله إلى الناس، وكرم به أمته على ساير الأمم، وما نبه به الإسلام من إقامة الدين، وعدم افتراق الكلمة. وانه لما شملت النعمة، وعم الأقطار بعدل أمير المؤمنين السكون والدعة، طلعت فرقة لا تبتغي خيراً، ولا تأتمر رشداً، من طغام السواد، " وأبدت كتباً لم يعرفوها، ضلت فيها حلومهم، وقصرت عنها عقولهم " واستولى عليهم الشيطان بخيله ورجله، فقالوا بخلق القرآن، واستيئسوا، وآيسوا من روح الله، وأكثروا الجدل في آيات الله، وحرموا التأويل في حديث رسول الله، فبريت منهم الذمة، ووعدهم الله ببالغ نكاله، لما انطوت عليه قلوبهم من الزيغ، ولما كذبوا من التوبة، وأبطلوا من الشفاعة، ونالوا محكم التنزيل، والقدح في الحديث، والقول بمكروه في السلف الصالح، فشذوا عن مذهب الجماعة، حتى تركوا رد السلام على المسلمين، وهي التحية التي نسخت تحية الجاهلين، وقالوا بالاعتزال عن العامة. ولما فشي غيهم، وشاع جهلهم، واتصل بأمير المؤمنين، من قدحهم في الديانة، وخروجهم عن الجادة، أغلظ في الأخذ فوق أيديهم، وأنذرهم إنذاراً فظيعاً، واعتزم أن يوقع بهم العقاب الشديد، وأمر بقراءة كتابه هذا على المنبر الأعظم بحضرة قرطبة، ليفزع قلب الجاهل، ويضطر الغواة إلى الآثار الصحيحة التي يتقبلها الله منهم، وأن يقرأ هذا الكتاب في سائر الأقطار والكور، وفي البدو والحضر، وأن ينفذ عهده بذلك إلى ساير قواده، وجميع عماله. لكي يقوموا بمطاردة هذه " الطغمة الخبيثة، التي اجترأت على تبديل السنة، والاعتداء على القرآن العظيم، وأحاديث الرسول الأمين ".

ويختتم الكتاب بمطالبة العمال ببث العيون، وتتبع أولئك المارقين، وإخطار أمير المؤمنين بأسمائهم ومواضعهم، وأسماء الشهود عليهم، حتى يحملوا إلى باب سدته، وينكلوا بحضرته (1).

(1) ورد نص هذا الكتاب في اللوحات 17 و18 و19 من مخطوط المقتبس السالف الذكر.

وسوف ننشر نص الكتاب كاملا في نهاية الكتاب.

ص: 433

قال ابن حيان: " وتمادي الطلب لهذه الفرقة المسرِّية، والإخافة لهم، وتخويف الناس من فتنتهم بقية أيام الناصر لدين الله ".

وهنا ولأول مرة نجد شرحاً وافياً، بقلم ابن حيان القوي الناقد، لتلك الحركة الدينية الخطيرة، حركة ابن مسرَّة وتلاميذه، وهي التي استحالت أيام الناصر لدين الله إلى جمعية سرية واسعة الانتشار. فهل كانت حقاً، كما يصورها ابن حيان، وكما تصورها لنا الوثيقة الخلافية، التي ينقلها إلينا، جمعية مارقة ملحدة، تهدد العقائد والنظام والأمن؟ أم هل كانت حركة تفكير فلسفي حر، لم يتسع لها أفق التفكير المعاصر، وكانت كمعظم الحركات المماثلة ضحية لنقمة المتزمتين الرجعيين من الفقهاء والحكام، يدافعون بسحقها عن نفوذهم وسلطانهم المطلق؟.

ص: 434