المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

‌الفصل السابع

المملكة النصرانية الشمالية

منذ قيامها إلى ولاية ألفونسو الثاني

بعث المملكة النصرانية في الشمال. اجتماع فلول النصارى في الهضاب الشمالية. الدوق بتروس وبلاجيوس. نشوء المملكة النصرانية. صمت إيزيدرو الباجي عن ذكرها. أقوال الرواية الإسلامية. امارة جليقية والصخرة. رأى لابن خلدون في شأنها. إغفال الفاتحين لأمرها. حملات المسلمين عليها. ارتدادهم عن تلك الهضاب. اجتماع النصارى حول بلاجيوس. حملة ابن أبي نسعة على جليقية. إغارة النصارى على الأراضي الإسلامية. غزو عقبة بن الحجاج لجليقية. نمو المملكة النصرانية. وفاة بلاجيوس. ولده فافيلا. إمارة كانتابريا. تحالفها مع جليقية. اتحادهما تحت ولاية ألفونسو الأول. ألفونسو الأول أو الكاثوليكي. اجتياحه للأراضي الإسلامية. استيلاؤه على أسترقة. أخوه فرويلا أمير كانتابريا. استيلاء ألفونسو على مدينة لك. حملة يوسف الفهري لإنقاذ أربونة. القتال بينه وبين البشكنس. عبور ألفونسو لنهر دويرة. وفاة فرويلا. وفاة ألفونسو. فرويلا الأول. استيلاؤه على شلمنقة وشقوبية وسمورة وقشتالة. اختلاف الرواية الإسلامية في تاريخ هذه الغزوة. خطر المملكة النصرانية. عبد الرحمن الأموي يرسل حملة إلى جليقية. غزو ألبة والقلاع. ما تقوله الرواية النصرانية عن موقعة بونتومو. ثورات النصارى على فرويلا. غزوه لنافار. بطشه وسفكه. إنشاؤه لمدينة أوبييدو. وفاته. انقسام المملكة. ولاية أورليوس للولايات الشرقية. ولاية سيلو للولايات الغربية. وفاة أورليوس. ولاية سيلو على المملكة كلها. الصلح بينه وبين المسلمين. وفاة سيلو. اضطراب المملكة. قيام مورجات ولد ألفونسو الأول. فرار ألفونسو ابن فرويلا إلى ألبة. تحالف مورجات مع المسلمين. أقوال الرواية الاسلامية. وفاة مورجات. ولاية برمند الأول لجليقية. تحالفه مع ألفونسو. تخلي برمند وولاية ألفونسو على المملكة كلها. أسطورة القديس يعقوب وقيام مدينة شنت ياقب. عزلة المملكة الشمالية. خواص مجتمعها.

نقف الآن قليلا في تتبع أخبار دولة الإسلام في الأندلس، لنأتي على أخبار دولة متواضعة أخرى، قامت في اسبانيا إلى جانب الدولة الإسلامية في نوع من الخفاء والصمت، ولم يشعر المسلمون بمولدها ولا نموها في أعوامها الأول، ولم يقدروا أهميتها حين شعروا وجودها، ولم يعنوا بأمرها إلا حينما نمت وانتظمت إلى قوة تستطيع العدوان والمقاومة: تلك هي المملكة الإسبانية النصرانية التي يجب أن تأخذ منذ الآن مكانها في تاريخ شبه الجزيرة، إلى جانب دولة الإسلام فيها. ولم يكن قيام هذه المملكة الناشئة، سوى طور جديد في حياة تلك المملكة

ص: 207

القوطية التي سحقها العرب عند فتح الأندلس (92 هـ - 711 م)، والتي قامت بعد ذلك تستأنف حياتها ضئيلة متواضعة، في قاصية اسبانيا الشمالية الغربية وفيما وراء الصخر، ثم لبثت تنمو بطيئة ولكن ثابتة، حتى رسخت دعائمها في هاتيك الهضاب، وبدأت بعد ذلك معركة الحياة والموت، مع تلك المملكة الإسلامية التي قامت في الجنوب، على أنقاض مملكة القوط القديمة، وهي معركة تشغل منذ الآن حيزاً كبيراً في تاريخ الإسلام في اسبانيا.

وقد نشأت المملكة الإسبانية النصرانية في ظروف كالأساطير، ونشأت في نفس الوقت الذي افتتح فيه العرب اسبانيا، وسحقوا دولة القوط القديمة. ففي موقعة شَريش التي مزق فيها جيش القوط وقتل آخر ملوكهم ردريك (لذريق)(92 هـ)، فرت شراذم قليلة من الجيش المنهزم إلى الشمال، واختفت فيما وراء تلك الجبال الشمالية، التي وقف عندها تيار الفتح الإسلامي، واجتمعت بالأخص في هضاب كانتابريا (نافار وبسكونية) في الشرق، وفي هضاب أشتوريش (1) في الغرب، واجتمع فل النصارى في الهضاب الشرقية تحت لواء زعيم يدعى الدوق بتروس، واجتمع فلّهم في الهضاب الغربية في جليقية تحت لواء زعيم يدعى بلاجيوس أو بلايو. وكان بتروس ينتمي إلى أحد الأصول الملكية، وكان من قادة الجيش في عهد وتيزا ملك القوط، ثم في عهد خلفه ومغتصب ملكه ردريك. أما بلاجيوس أو بلايو فيحيط الغموض بأصله ونشأته، ولكن يبدو مما تنسبه إليه الرواية من ألوان الوطنية والبسالة والبطولة، أنه كان رفيع المنبت والنشأة، وتقول بعض الروايات إنه ولد الزعيم فافيلا (2) الذي قتل الملك وتيزا في هضاب جليقية، وإنه كان لذلك من خاصة الملك ردريك وقادته. وهذا ما يردده سيمونيت إذ يقول في أصل بلاجيوس ما يأتي؛ " وكان الحزب المتمسك بدينه ووطنه، المنكر لخيانة أولاد وتيزا، قد اختار له رئيساً رفيع المواهب هو الدون بلايو بن فافيلا، من سلالة القوط الملكية. ويقول البعض إنه ولد من يدعى فريمندو، وحفيد للملك ردريك، وقد حارب إلى جانب ردريك. ثم رأى فيه الأحبار والأكابر الذين التفوا حوله، أنه جدير بالعمل على إحياء مملكة

(1) في الجغرافية الحديثة " أستورية " Asturias

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 179، حيث يقول " وملكوا عليهم (أى الجلالقة) بلاي ابن فافلة ".

ص: 208

القوط " (1). وتعرف الرواية الإسلامية بلايو وتحدثنا عنه وتسميه (بلاي)، وتصفه أحياناً بأنه أمير أو ملك، وتنعته غالباً بأنه " علج من علوج النصارى " (2) وتتبع أخباره مع المسلمين: ولكنها لا تلقي ضياء كثيراً على أصله أو أحوال مملكته الصغيرة. ذلك لأن المسلمين لم ينتبهوا قط إلى ما وراء الهضاب الوعرة، التي امتنع بها هذا الزعيم وفله، والتي نشأت فيها جذور المملكة النصرانية الشمالية، التي غدت غير بعيد خطرا على دولة الإسلام في اسبانيا. ومن الغريب أن راوية نصرانياً كبيراً معاصراً هو إيزيدور الباجي، وهو حبر عاصر الفتح الإسلامي، وكتب روايته منذ منتصف القرن السابع، ووصل في كتابتها حتى سنة 754 م (3)، لم يذكر لنا في روايته شيئاً عن قيام تلك المملكة النصرانية الصغيرة في الشمال، ولا عن زعيمها أو ملكها بلايو، ولا عن غزوات المسلمين لها، مع أن إيزيدور يتتبع أخبار الغزوات الإسلامية كلها، منذ الفتح حتى منتصف القرن الثامن، سواء في اسبانيا أو في مملكة الفرنج، ويقدم إلينا عنها كثيراً من التفاصيل والملاحظات الهامة. وقد يرجع ذلك إلى أن إيزيدور وهو يقيم في الجنوب في مدينة باجة، كان يجهل قصة هذه المملكة النصرانية الناشئة، ولكن ما نراه من عنايته بتدوين أخبار الغزوات الإسلامية في فرنسا، وأخبار مملكة أكوتين، يحملنا على الاعتقاد بأنه لم يكن يجهل أخبار مملكة جليقية النصرانية، وهي أقرب إليه من فرنسا، وأن أسباباً أخرى لعلها ترجع إلى انتماء أميرها بلايو إلى حزب ردريك الذي كان يبغضه المؤرخ، هي التي حملته على إغفال أخبارها (4).

وعلى أى حال فإن الرواية الإسلامية، تذكر لنا كيف نشأت المملكة النصرانية

(1) F.J.Simonet cit. Saavedra ; Historia de los Mozarabes de Espana،.Vol.I.p. 148. ويقول المؤرخ المستشرق كاردون إن بلاجيوس ينتمي إلى أصل ملكي، وانه الأمير الوحيد الذي نجا من فتك العرب (راجع Cardonne: ibid ، I.p. 105.) ، بيد أن كاردون لا يقول لنا من أين استقى هذه الرواية.

(2)

راجع أخبار مجموعة ص 28، ونفح الطيب ج 1 ص 110.

(3)

وقد كتبت باللاتينية بعنوان Isidorus Pacensis Chronicon. ونشرت ضمن المجموعة التاريخية الكنسية الإسبانية الكبيرة المسماة Espana Sagrada تصنيف الأب P.Enrique.Florez الجزء الثامن. ونشر دوزي منها مقتطفات في كتابه: Recherches: V.I.p. 4-14. مع تعليقات.

(4)

راجع: Aschbach: ibid، I.p. 142

ص: 209

الإسبانية في الهضاب الشمالية، بعد أن سحقت في موقعة شريش، فقد لجأت شراذم قليلة من القوط عقب الفتح إلى الجبال الشمالية، وامتنعت في مفاوز جبال أشتوريش (أستورية)، وقامت إمارتان نصرانيتان صغيرتان في كانتابريا وجلِّيقية. وكانت إمارة كانتابريا التي أسسها الدوق بتروس، لوقوعها في الطرف الغربي من جبال البرنيه في سهول نافار وبسكونية، عرضة لاقتحام الفاتحين لها حين سيرهم إلى فرنسا وحين عودهم منها. ولكن إمارة جلِّيقية Galicia، كانت تقع في أعماق جبال أشتوريش الوعرة، بعيداً عن غزوات الفاتحين، وسميت جليقية لأنها قامت على حدود الولاية الرومانية القديمة التي كانت تسمى بهذا الإسم. ففي هذه الهضاب النائية المنيعة اجتمع بلايو وصحبه، وعددهم لا يتجاوز بضع مئات حسبما تقول الرواية، ولجأوا إلى مغار عظيم في آكام كوفادنجا، تحيط به وديان سحيقة خطرة، ويعرف في الرواية الإسلامية باسم (الصخرة)(1). ويقول لنا ابن خلدون في الفصل الذي يخصصه (لملوك الجلالقة)، إن هذه الإمارة الصغيرة التي كانت مهد المملكة النصرانية، لا تمت بصلة إلى القوط، وإن ملوك الجلالقة ليسوا من القوط، لأن أمة القوط كانت قد بادت ودثرت لعهد الفتح الإسلامي (2). بيد أنه يصعب علينا أن نقبل هذا الرأي على إطلاقه، فمن المحقق أن فلول النصارى التي لجأت إلى الشمال كانت مزيجاً من القوط والإسبان المحليين، ولكن الظاهر مما انتهى إلينا من أقوال الروايتين المسلمة والنصرانية، أن الزعماء ولاسيما بلاجيوس كانوا من القوط، وأن ملوك الجلالقة يمتون إلى القوط بأكبر الصلات.

ولم يعن المسلمون لأول عهد الفتح بأمر هذه الشراذم الممزقة عناية كافية. وكان فاتحا الأندلس موسى وطارق، قد قاد كل منهما حملة إلى جليقية لسحق البقية الباقية من فلِّ القوط، ولكنهما لم يتمكنا من تحقيق غايتهما لاستدعائهما إلى دمشق كما أسلفنا. وكان إغفال أمر هذه الفلول الباقية بعد ذلك من أعظم أخطاء الفاتحين. بيد أنه لما كثرت ثورات النصارى في الشمال، وبالأخص في بسكونية (أو بلاد البشكنس)، اهتم ولاة الأندلس بقمعها وتأمين الولايات الشمالية،

(1) نفح الطيب ج 2 ص 57.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 179، وهو يعارض هنا رأي ابن حيان في أن المملكة النصرانية يرجع أصلها إلى القوط.

ص: 210

وسير الحرُّ بن عبد الرحمن الثقفي والي الأندلس في سنة 98 هـ (718 م) جيشاً الى الشمال لإخضاع النصارى، فاجتاح المسلمون بلاد البشكنس وهضاب أشتوريش، وأوفدوا حليفهم الأسقف أوباس وهو أخو الملك وتيزا إلى بلايو ليقنعه بالتسليم وعبث المقاومة، فأبى بلايو ولجأ إلى كهوفه المنيعة في صخرة كوفادنجا، ونفذ المسلمون إلى أعماق الجبال وحاولوا عبثا أن يستولوا على مراكز العدو، وحالت بينهم وبينه الوديان السحيقة والآكام الرفيعة، وحوصر بلايو وأصحابه في " الصخرة " مدى حين، وقطعت عنهم المؤن، وتساقطوا تباعا من الجوع، حتى لم يبق منهم على قول الرواية سوى ثلاثين رجلا وعشر نساء (1). وتزعم بعض الروايات النصرانية أن بلايو كر على المسلمين، وأنهم هزموا هزيمة شديدة وفقدوا ألوفا كثيرة، ووقع أوباس في أيدي مواطنيه فعاقبوه على خيانته بالموت (2).

وقد أتيح لنا أن نزور هذه المنطقة الوعرة - منطقة كوفادنجا - وأن نشهد الصخرة المنيعة، التي تقول الرواية إن بلايو وأصحابه امتنعوا في مغارها، والتي تئوى في جانب منها إلى اليوم رفات بلايو. والحق أننا شهدنا من الوادي الذي تشرف عليه الصخرة، والذي يقال إن المسلمين رابطوا فيه لمحاصرة النصارى، أروع منظر يمكن تصوره من الصخور الوعرة، والآكام الرفيعة المدببة، وأدركنا كيف عجز المسلمون عن اقتحام مثل هذا المعقل المنيع.

ولما رأى المسلمون وعورة الهضاب وقسوة الطبيعة، ارتدوا عن جلّيقية محتقرين شأن هذه الشرذمة الممزقة الجائعة. فقويت لذلك نفس بلايو وأصحابه، وانضم إليهم كثير من النصارى في كانتابريا وسهول جليقية، واختاروه ملكا عليهم لما رأوا من بسالته وبراعته وقوة عزمه، وألفى بلايو الفرصة سانحة لتوطيد سلطانه وتوسيع أملاكه، فأخذ يغير على الأراضي الإسلامية الشمالية، وبدا لحكومة الأندلس خطر هذه العصابات الجبلية التي أخذت تنتظم إلى قوة يخشى بأسها. ولكن اضطراب الشئون الداخلية حال مدى حين دون مطاردتها وغزوها.

وفي سنة 112 هـ (730 م) في عهد أمير الأندلس الهيثم بن عبيد، بعث حاكم ولاية البرنيه وهو يومئذ الزعيم المسلم الذي تعرفه الرواية النصرانية باسم

(1) أخبار مجموعة ص 28؛ وكذلك Dozy: Hist ، II.p. 129

(2)

Cardonne: ibid ، I.p. 109، Aschbach: ibid;I.p. 145

ص: 211

منوسة أو مونس - جيشا إلى جبال أشتوريش لغزو جليقية وسحق أميرها بلايو. ولكن بلايو استطاع أن يصمد للمسلمين كرة أخرى، وأن يهزمهم هزيمة شنيعة. ولما رأى بلايو منعة معقله وقوة عصبته، اخترق بسكونية وهاجم قوات المسلمين في الوقت الذي كانت تتأهب فيه للسير إليه، ومزق بعض وحداتها، ثم ارتد إلى هضابه فاستعصم بها. ولما اضطربت شئون الأندلس بعد مقتل أميرها عبد الرحمن الغافقي وارتداد جيشه في بلاط الشهداء (114هـ - 732 م)، وشغل الولاة برد جيوش الفرنج، عن الأراضي الإسلامية في سبتمانيا، كثرت غارات العصابات الجليقية على الأراضي الإسلامية في شمال نهر دويرة (دورو) وفي منطقة أسترقة، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيرا من عيث النصارى. ولما تولى عقبة بن الحجاج حكومة الأندلس في سنة 116هـ (734 م)، ورأى خطر العصابات الجليقية وشدة عيثها في الأراضي الإسلامية، سار إلى جليقية وغزاها مرة أخرى في سنة 735 أو 736 م (118هـ) واستولى على بعض مواقعها، ولكن النصارى امتنعوا كعادتهم في الجبال ولم يبلغ عقبة منهم أمراً. ولما اضطرمت الأندلس بالفتن ونشبت الحرب الأهلية، بين مختلف الزعماء والقبائل، ازداد النصارى جرأة وتحرشاً بالمسلمين وعيثاً في أراضيهم، ولم تستطع حكومة قرطبة أن تسعفهم بالعون والمدد لاشتغالها بالشئون الداخلية. وكانت سلطة الحكومة المركزية ضعيفة في تلك الأنحاء النائية، وكان سكانها ومعظمهم من البربر، يكثرون من الخروج والثورة سخطاً على العرب، واستئثارهم بالحكم والسيادة. وكان النصارى من رعايا حكومة قرطبة، يدسون الدسائس ويرتكبون شتى الخيانات، ويشجعون بذلك بلايو وعصبته على الإغارة والعيث في أراضي المسلمين، وكانت الإمارة النصرانية الناشئة تنمو خلال ذلك ويشتد ساعدها، ويهرع النصارى إلى لواء بلايو من مختلف الأنحاء.

ويقول العلامة ألتاميرا: " كان كفاح بلايو وزملائه الأشراف، يرجع إلى الرغبة في استرداد جزء من الأراضي المفقودة، ومن جهة أخرى فإن احترام الفاتحين لدين المغلوبين وعاداتهم، لم يجعل في البداية للمعركة لونا دينيا أو عنصريا، بل كان مدارها من جانب الأشراف ورجال الدين، استرداد الأملاك وشيء من هيبة الملك "(1).

(1) R.Altamira: Historia de Espana، Vol.I.p. 224

ص: 212

واستمر بلايو في حكم إمارة جليقية زهاء تسعة عشر عاماً، وتوفي سنة 737 م. ولكن بعض الروايات النصرانية تضع تاريخ وفاته بعد ذلك، فتقول إنه لبث حتى ولاية عبد الرحمن بن يوسف الفهري للأندلس (127 - 137 هـ)(745 - 755 م)، وأن الموقعة التي نشبت بين منوسة وبلايو كانت بين سنتى 746 و751 (1)، وهي رواية ظاهرة الضعف، لأن منوسة قتل في سنة 114 هـ (732 م) كما قدمنا، والرواية الإسلامية واضحة دقيقة في ترتيب الوقائع والتواريخ في هذا الموطن. وخلف بلايو ولده فافيلا، ولكنه توفي بعد حكم لم يطل أمده سوى عامين (سنة 739 م). وكان الدوق بتروس أمير كانتابريا قد توفي في ذلك الحين أيضاً، وخلفه ولده ألفونسو دوق كانتابريا، ونمت هذه الإمارة النصرانية الصغيرة أيضا واشتد ساعدها، وقويت أواصر التحالف بينها وبين جلّيقية بتزوج أميرها ألفونسو من ابنة بلايو واسمها أرموزندة أو هرمزندة. فلما توفي فافيلا ولد بلايو، اختار الجلالقة ألفونسو دوق كانتابريا ملكاً عليهم، واتحدت الإمارتان، وقامت منهما مملكة نصرانية واحدة، هي مملكة ليون النصرانية أومملكة جلّيقية في الرواية الإسلامية، وتمتد من بلاد البشكنس شرقاً إلى شاطىء المحيط غرباً، ومن خليج بسكونية شمالا إلى نهر دويرة جنوباً، وتشمل مناطق شاسعة من القفر والهضاب الوعرة، وتحتجب وراء الجبال بعيدة عن سلطان المسلمين وغزواتهم (2).

ويعتبر ألفونسو دوق كانتابريا، أو ألفونسو الأول الملقب بالكاثوليكي مؤسس المملكة النصرانية الشمالية، وأصل ذلك الثبت الحافل من ملوك قشتالة (3)، الذين لبثوا قرونا يدفعون حدودهم إلى الجنوب تباعاً في قلب المملكة الإسلامية، ثم انتهوا بالقضاء عليها والاستيلاء على غرناطة آخر معاقلها (1492 م). وحكم ألفونسو في ظروف حسنة، فقد كانت الحرب الأهلية تمزق الأندلس، وكان أمر الولايات الشمالية فوضى، والضعف يسود المسلمين في تلك الأنحاء، وكان ثمة منطقة عظيمة من القفر والخراب تفصل بين جليقية وبين الأراضي الإسلامية، فاجتاحها ألفونسو بجموعه، وقتل من بها من المسلمين القلائل، ودفع النصارى

(1) Aschbach: ibid ، I.p. 148-149

(2)

Aschbach: ibid ، I.p. 152 و Dozy: Hist، V.II.p. 130.

(3)

ابن خلدون ج 4 ص 179.

ص: 213

إلى الشمال. ولما حل القحط بالأندلس (سنة 133هـ - 750 م) واشتد عصفه بالولايات الشمالية الغربية، جلا كثير من المسلمين عن تلك الأنحاء، واشتد ساعد النصارى فيها، ورفعوا لواء الثورة، وفتكوا بالمسلمين، ونادوا بألفونسو ملكا عليهم (1)، وانتهز ألفونسو الفرصة فغزا أسْتُرقة واستولى عليها من يد المسلمين، واستولى على كثير من البلاد والضياع المجاورة، وضمها لأملاكه (136هـ - 753 م). وهكذا نمت تلك المملكة النصرانية التي نشأت في ظروف كالأساطير واتسعت حدودها، واشتد بأسها بسرعة مدهشة، ولم يأت منتصف القرن الثامن حتى بدأت تناهض الإسلام في الأندلس وتغالبه، وتغير على معاقله وأراضيه.

وعهد ألفونسو بإمارة كانتابريا وهي القسم الشرقي من مملكته، إلى أخيه فرويلا (أو فرويلة)، فكان يغير أيضا على الأراضي الإسلامية المجاورة، ويعيث فيها قتلاً ونهباً وسبياً، ثم يعود مسرعاً إلى الجبال خشية أن يلحق به المسلمون. بيد أن المسلمين كانوا في شغل شاغل من الفتنة والحروب الداخلية، وكان يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس يعني يومئذ بقمع الثورة في الشمال، فانتهز ألفونسو تلك الفرصة وغزا مدينة لُك (لوجو) الحصينة وهي أقصى معاقل المسلمين في الشمال الغربي وافتتحها سنة (137هـ - 754 م)، وكان يوسف قد انتهى من إخماد الثورة في الشمال، وأراد إنجاد المدينة المحصورة، فجاءته الأنباء بمقدم عبد الرحمن الأموي، فهرول إلى الجنوب وترك لُك لمصيرها. وكان أيضا قد أرسل قبل أن يغادر الشمال قوة من جنده بقيادة الحصين بن الدجن وسليمان بن شهاب لإنجاد ثغر أربونة، الذي كان يحاصره الفرنج يومئذ، ففاجأها النصارى قبل أن تعبر البرنيه، ونشبت بين الفريقين معركة مزق فيها المسلمون وقتل قائدهم سليمان بن شهاب، وارتد فلهم إلى الجنوب (سنة 756 م)(2).

والظاهر أن الذي هاجم المسلمين في تلك الموقعة هو فرويلا وحلفاؤه أو رعاياه البشكنس. وعبر ألفونسو نهر دويرة (دورو) غير مرة، وعاث في أراضي المسلمين مراراً، وكان يقتل كل من وقع في يده من المسلمين، ويسوق النصارى معه إلى الشمال. ولبث مع أخيه فرويلا كلٌّ يعمل من جانبه على توسيع المملكة

(1) أخبار مجموعة ص 61 و62.

(2)

راجع ابن الأبار في الحلة السيراء ص 58؛ وكذلك Aschbach: I.ibid ; I.p. 155 والهوامش.

ص: 214

النصرانية، حتى توفي فرويلا سنة 764 م (146هـ)، وتولى أخوه ألفونسو من بعده حكم المملكة كلها، ولكنه لم يعش طويلا، وتوفي في العام التالي (765 م)(1) فخلفه ابنه فرويلا الأول. وكان عبد الرحمن الأموي يكرس كل جهوده وقواه لقمع الثورة الخطيرة التي نظمها العلاء بن مغيث باسم الدعوة العباسية، فرأى فرويلا الفرصة سانحة لغزو الأراضي الإسلامية (2) فعبر نهر دويرة في جيش ضخم وغزا لُك وبُرتقال وشَلَمنقة وشَقُوبية وآبلة وكورة وقشتالة (3)، واستولى عليها من المسلمين، وعاث في تلك المنطقة سفكاً وتخريباً وضمها إلى أملاكه، فصارت جزءا من مملكة جلّيقية، حتى استعادها المسلمون بعد ذلك بنحو قرنين في عهد الحاجب المنصور. وتختلف الرواية الإسلامية في تعيين تاريخ هذه الغزوة فيضعها ابن الأثير قبل ذلك بأعوام في حوادث سنة 140هـ (758 م) ويقول إن الذي قام بها هو تدويلية (تدفيليا) ابن أذفنش (ألفونسو)، ولكن ألفونسو توفي بعد ذلك كما رأينا (4)، ويضعها ابن خلدون بعد سنة 142 هـ وهي التي يعينها تاريخا لوفاة ألفونسو، في عهد فرويلا، وقد تولى فرويلا الملك بعد وفاة أبيه حسبما تقول الرواية النصرانية في سنة 765 م (147هـ)(5). وعلى أى حال فقد كانت هذه الغزوة أعظم فتح قام به النصارى يومئذ في الأراضي الإسلامية، بعد افتتاح الفرنج لسبتمانيا واستيلائهم على أربونة أمنع مواقع ولاية " الثغر " قبل ذلك بأعوام قلائل.

وهنا ظهر خطر المملكة النصرانية واضحاً جلياً. ولم يكن عبد الرحمن الأموي بغافل عن ذلك الخطر، وكان رغم اشتغاله المتواصل بقمع الثورة والفتن الداخلية، يتحين الفرص لدرئه، ففي سنة 148 هـ (766 م) أرسل بعض قواده إلى

(1) يضع ابن خلدون (ج 4 ص 180) وفاة ألفونسو (أدفونش) في سنة 142هـ (760م).

(2)

ينسب أشباخ هذه الغزوة لفرويلا الكبير (ج 1 ص 156) معتمدا على رواية ردريك الطليطلي، ولكن الرواية الاسلامية وهي أقدم من ذلك، تجمع على أنها وقعت بعد ذلك في عهد فرويلا ابن ألفونسو.

(3)

تراجع الأسماء الفرنجية لهذه الأماكن في جدول الأعلام التاريخية والجغرافية الملحق بنهاية الكتاب.

(4)

ابن الأثير ج 5 ص 186.

(5)

ابن خلدون ج 4 ص 122 و180؛ وكذلك المقري عن ابن حيان في نفح الطيب ج 1 ص 155.

ص: 215

الشمال على رأس قوة كبيرة، فسارت حتى حدود جليقية، واشتبكت مع النصارى والعصاة في عدة مواقع، وعادت مثقلة بالغنائم والأسرى (1). وفي سنة 150هـ (767 م) بعث عبد الرحمن جيشاً بقيادة مولاه بدر إلى ألبة والقلاع (2)، وهي المنطقة الواقعة بين بلاد البشكنس وجبال كانتابريا، على ضفاف نهر إيبرو في الطرف الشرقي من مملكة جليقية، فغزاها وتوغل فيها وأرغمها على أداء الجزية، وقبض على كثير من العصاة في تلك الأنحاء (3). وتقص الرواية النصرانية علينا بعد ذلك نبأ موقعة كبيرة وقعت بين المسلمين والنصارى في بونتومو من أعمال جليقية، وتقول لنا إن عبد الرحمن أرسل في سنة 773 م (157هـ) جيشاً كبيراً إلى الشمال بقيادة حاجبه عامر، أو تمام بن علقمة على يظهر، فلقيه النصارى بقيادة فرويلا في بونتومو، ونشبت بين الفريقين موقعة هائلة، هزم فيها المسلمون وقتل منهم عدد عظيم تقدره الرواية بأربعة وخمسين ألفاً وأسر قائدهم (4). ولم تشر الرواية المسلمة إلى أن موقعة بهذه الخطورة نشبت بين المسلمين والنصارى، ولاسيما في هذا التاريخ، الذي كان عبد الرحمن مشتبكا فيه مع الدعى الفاطمي في معارك تقتضى كل جهوده وموارده، والرواية النصرانية تبدي كعادتها في هذا الموطن مبالغة تسبغ عليها كبير ريب.

وكان فرويلا طاغية شديد البطش، ولم يكن حكمه موفقاً، فقد اضطرمت في جليقية الغربية نار ثورة كبيرة أيدها المسلمون فيما يظهر، وأخمدها فرويلا بعد جهد، ولكنه فقد كثيراً من أرضه التي افتتحها في تلك الأنحاء، وعادت إلى

(1) Conde: ibid ، I.p. 207

(2)

تطلق الرواية الإسلامية اسم "ألبة والقلاع" على ولايتي قشتالة القديمة Castille وآلفا Alava معربة عن اللاتينية القديمة Alava et Castella Vetula. وكانت "ألبة والقلاع" تشمل في العصور الوسطى، جميع المنطقة الواقعة بين نهر دويرة جنوبا والبحر شمالا، وبين نافار (بلاد البشكنس) وأراجون (الثغر الأعلى) شرقا ومملكة ليون غربا؛ وألبة هي في الواقع إحدى ولايات بلاد البشكنس، وتمتد غربا حتى "برغش" وشمالا حتى خليج بسكونية، وجنوبا حتى نهر إيبرو. وأما "القلاع" أو قشتالة Castella أو Castille فقد كانت تشمل باقي المنطقة من برغش شمالا إلى ما بعد نهر دويرة (الدورو) وجبال واد الرملة Guadarrama جنوبا، وحتى موقع مدينة مدريد عاصمة إسبانيا الحديثة.

(3)

البيان المغرب ج 2 ص 56؛ ونفح الطيب ج 1 ص 156.

(4)

Aschbach: ibid ; I، p. 159 والهوامش.

ص: 216

خريطة:

المملكة الإسبانية النصرانية.

ص: 217

المسلمين، ونشبت ضده في نافار في الشرق ثورة أخرى، فأخمدها بشدة، واجتاح نافار وأخضعها، وكان من أسراه في تلك المعارك فتاة حسناء من أسرة كريمة تدعى مونيا فأحبها وتزوجها، ورزق منها بولده ألفونسو، الذي تولى العرش فيما بعد، وكان مسرفاً في الانتقام والسفك، قتل كثيرا من أفراد أسرته وقتل أخاه بيده، وكان الشعب يبغضه ويلتف حول " أورليوس " ابن عم فرويلا. وأنشأ فرويلا مدينة أوبييدو التي غدت فيما بعد حاضرة جليقية، ولكنه لم يتخذها قاعدة للحكم، ولبث في مدينة كانجاس حاضرتها الأولى، حتى هلك قتيلا في ثورة جديدة نشبت سنة 775 م (1).

ولما توفي فُرُويلا كان ولده من مونيا ألفونسو طفلا، فافترقت كلمة الشعب، وانحازت منه أغلبية كبيرة إلى أورليوس أو أورالي (2) ولد فرويلا أخى ألفونسو الأول واختارته للملك، ولكنه لم يحكم إلا في الولايات الشرقية في نافار وبسكونية، حيث كان يحكم أبوه من قبل، وانحازت جليقية الغربية إلى سيلو أو شيلون (3) زوج أروزندا إبنة ألفونسو الأول، وانقسمت المملكة بذلك إلى إمارتين. ولكنهما تهادنتا ولم تقع بينهما حرب ولا منافسة. وفي سنة 778 م غزا شارلمان بلاد البشكنس في طريقه إلى سرقسطة حسبما قدمنا، فاضطر أورليوس أن يسعى إلى محالفة المسلمين. ولم تقع في ذلك الحين فيما يظهر حروب بين المسلمين ومملكة جليقية، لاشتغال كل منهما بشئونه الخاصة. وتوفي أورليوس سنة 781 م، فاختار البشكنس مكانه سيلو لأن ألفونسو ولد فرويلا كان لا يزال طفلا، واتحدت المملكة مرة أخرى. ولبث سيلو ملكاً على جليقية المتحدة ثلاثة أعوام أخرى، وفي عهده عقد الصلح بين المسلمين والنصارى. ولكن نشبت بعض ثورات محلية في جليقية نجح في إخمادها، وتوفي بعدئذ بقليل سنة 784 م (4). وتوفي سيلو دون عقب، ولكنه أوصى بالملك لألفونسو ولد فرويلا الطفل

(1) يضع ابن خلدون وفاة فرويلا في سنة 158 (775 م) متفقا بذلك مع الرواية النصرانية (ج 4 ص 180).

(2)

هكذا تسميه الرواية العربية وهي تعتبره ملكا لجليقية كلها (راجع ابن الأثير ج 6 ص 12).

(3)

وهو اسمه في الرواية العربية. ويعتبره ابن خلدون خطأ ولد فرويلا الكبير (ج 4 ص 180).

(4)

يضع ابن خلدون وفاة سيلو أو شيلون سنة 168هـ (784 م) متفقا أيضامع الرواية النصرانية (ج 4 ص 180). وكذا ابن الأثير (ج 6 ص 22).

ص: 218

وبالوصاية عليه لزوجه أروزندا. ولكن الأشراف لم يرضوا عن حكم طفل وامرأة، وانضم إليهم فريق من الشعب، ولم تلبث جلّيقية أن اضطرمت بثورة قوية على رأسها زعيم يدعى مورجات - وفي الرواية العربية مورقاط - وهو ولد غير شرعي لألفونسو الأول من جارية عربية، فاستولى على جليقية الغربية، وانضم إليه كثير من الأشراف والزعماء الذين اشتركوا في محاربة فرويلا خشية أن يستقر الملك لابنه فيبطش بهم فيما بعد، ففر ألفونسو إلى ألبة حيث عصبة أمه وعشيرتها، وقد كانت بسكونية حسبما تقدم. ورأى مورجات أن يوطد مركزه وسلطانه بالتحالف مع المسلمين، وتحالف حزب ألفونسو مع الفرنج أعداء المسلمين، واتخذ مورجات قاعدة حكمه في مدينة برافيا في قاصية جليقية. وكان رجال الدين ومن إليهم من النصارى والمتعصبين يبغضونه ويثيرون الشعب عليه، لأنه بالغ في التودد إلى المسلمين والتقرب إليهم، ولأنه يمت إليهم بصلة الدم بواسطة أمه العربية. ولكنه استطاع مع ذلك أن يحكم مملكته الصغيرة حتى وفاته في سنة 789 م (1).

وتشير الرواية العربية إلى طرف من هذه الحوادث، وتقول لنا إن مورقاط (مورجات) وثب على أذفنش (ألفونسو) فقتله، ولكن ألفونسو لم يقتل كما قدمنا. وسنرى أنه يتولى الملك ويخوض مع المسلمين في الأعوام التالية كثيراً من الوقائع. وتقول الرواية العربية أيضاً، إن المسلمين انتهزوا فرصة الاضطراب الذي وقع في جليقية، من جراء هذه الحوادث، فسار إليها وإلى طليطلة وغزاها وأثخن فيها (2)، وهذا ما لا تشير إليه الرواية النصرانية. والظاهر أن المسلمين أغاروا على ألبة والقلاع، لأنهم كانوا على وئام وتحالف مع مورقاط أمير جليقية. ووقعت هذه الغزوة حسبما تشير الرواية العربية حوالي سنة 169هـ (786 م) أعني في أواخر عهد عبد الرحمن الداخل.

وكان طبيعياً بعد أن توفي مورجات عميد الثورة ومغتصب الملك، أن يعود العرش إلى صاحبه الشرعي، أعني ألفونسو ولد فرويلا. ولكن الأشراف لبثوا

(1) Aschbach: ibid ، I.p. 165-166

(2)

راجع ابن الأثير ج 6 ص 22؛ وابن خلدون ج 4 ص 180، ويسمى مورقاط هنا بسمول قاط وهو تحريف أو خطأ مطبعي على ما يظهر.

ص: 219

في توجسهم من نقمة ألفونسو، واختاروا للملك برمند (أو برمودو)، وهو ولد لفرويلا وأخ لأروليوس، الذي تولى إمارة البشكنس من قبل. وكان قد هجر الحياة الدنيا إلى عزلة الدير، فتولى الملك على غضاضة منه، ولكنه لم يحكم على ما يظهر إلا في غربي جليقية، حيثما كان يسود نفوذ مورجات، ولبث ألفونسو أميرا على الأنحاء الشرقية. وفي ذلك الحين كان أمير الأندلس هشام بن عبد الرحمن يتأهب لغزو الشمال، فخشى برمند خطر الإنقسام على مستقبل المملكة، وعقد الصلح مع ألفونسو وولاه قيادة الجيش، ولم تمض ثلاثة أعوام حتى ضاق ذرعا بمهام الملك فتنازل عن العرش مختاراً لألفونسو، وارتد إلى حياة الدير والعزلة، وتولى ألفونسو الملك في أواخر سنة 791 م (175هـ)(1) باسم ألفونسو الثاني. وبذلك عادت المملكة النصرانية إلى اتحادها مرة أخرى.

وفي أواخر عهد ألفونسو الثاني، الملقب " بالعفيف " el Casto، وقع حدث ديني كان له فيما بعد أثر عميق في توجيه مصاير المملكة النصرانية، هو اكتشاف قبر القديس ياقب، وهو القديس يعقوب أو يعقوب الحواري. وتذكر الأسطورة أنه لما قتل بأمر هيرود الثاني ملك بيت المقدس، حمل تلاميذه جثته في مركب جاز به البحر المتوسط إلى المحيط، ثم حملتهم الرياح شمالا حتى انتهوا إلى موضع في قاصية جليقية، ودفنوا جثمان القديس في سفح تلال هنالك.

ومضت العصور، وغاض القبر ولم يعلم مكانه، حتى كانت سنة 835 م، حيث زعم القس تيودمير أسقف إيريا أنه اكتشف القبر، هداه إليه ضوء نجم، وحمل النبأ في الحال إلى الملك، فأمر أن يبني فوق هذه البقعة كنيسة، وذاعت الأسطورة في جميع الأنحاء، وصدقها المؤمنون دون تردد، وهرعوا يحجون إلى البقعة المقدسة، وقامت حول المزار المزعوم مدينة نمت بسرعة، وغدت مدينة شنت ياقب Santiago de Compostela المقدسة، وأنشئت فيما بعد فوق القبر مكان الكنيسة الساذجة كنيسة جامعة (كتدرائية)، غدت من أعظم كنائس اسبانيا ضخامة وروعة وفخامة. وكان لقيام هذه المدينة المقدسة أثر كبير في إذكاء الحماسة الدينية والعاطفية القومية في إسبانيا، وغدا القديس ياقب

(1) ابن الأثير ج 6 ص 40، وهو يتفق هنا مع الرواية النصرانية في الوقائع والتواريخ وراجع أيضا Aschbach: I.p. 188-192

ص: 220

" حامي " اسبانيا كلها، وغدا قبره من أشهر المزارات النصرانية في أوربا.

وينوه الأستاذ ألتاميرا بأهمية هذا الحدث الديني، وأثره في حضارة هذه المنطقة من اسبانيا، فيقول:" وقد بعث هذا الاكتشاف في النصارى أيما سرور، وانتظمت وفود عظيمة، جاءت لتحج إلى القبر، لا من الأراضي الإسبانية وحدها، ولكن من الخارج أيضاً، وهكذا بدأ تيار من الزيارات والمؤثرات الأوربية في جليقية، وكان لها أعظم تأثير في العادات والآداب "(1).

وقد أتيح لنا أن نزور مدينة شنت ياقب، وهي من أعجب وأجمل المدن الإسبانية، ذات طابع خاص بها، وهي أشد المدن الإسبانية احتفاظا بهذا الطابع الخاص. وطابعها القدم المشبع بالجلال والوقار، وهي تبدو بشوارعها المعقودة، وميادينها التي تغص بالصروح التاريخية، مدينة قديمة عريقة حقا. وأروع ما تقع عليه العين كنيستها العظمى، التي تقوم في وسطها وتبدو بواجهاتها الفخمة وصرحها الشامخ، وبرجها العظيم، أثراً من أعظم الآثار الدينية.

وقد نشأت هذه المملكة النصرانية الشمالية، مستقلة في ظروفها وفي خواصها، ولبثت آمادا طويلة بعيدة عن الإتصال بالأمم النصرانية الأخرى، ولم تنشأ بينها وبين جيرانها المسلمين علائق سياسية أو اجتماعية قوية تؤثر في نظمها وخواصها، فاستمرت تحتجب بوعر الجبال وعباب المحيط، تسود فيها روح المملكة القوطية القديمة ونظمها، واستمر الجلالقة دهرا ينتسبون إلى القوط، ويسمون أنفسهم قوطا، وتسير حكوماتهم على سنن السياسة القوطية ونظمها، فالعرش مطلق يقبض على زمام السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا يستطيع الأشراف الحد من سلطانه إلا بالثورة، أو باستعمال حقهم في الانتخاب، واستمرت خواص المجتمع القديم كما كانت أيام القوط: أقلية غنية قوية تستأثر بنعم الثروة والجاه، وأكثرية فقيرة مستعبدة ترزخ تحت جور العرش، واستغلال الأشراف والسادة، بيد أن هذه الأكثرية استطاعت أن تشق طريقها إلى الحرية، حينما اشتدت معركة الحياة والموت بين الإسلام والنصرانية في اسبانيا، واضطرت المملكة أن تلجأ إلى الأكثرية للذود عن حدودها وحياتها، وانقلب الرقيق القديم جنداً يثور ضد

(1) R.Altamira: Hist.de Espana; Vol.I.p. 239

وتعرف الرواية الإسلامية هذه الأسطورة وتشير إليها. راجع الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 115.

ص: 221

سادته، ويرغمهم على احترامه ومصانعته. هكذا نشأت المملكة النصرانية الشمالية، ونمت واتسعت حدودها فيما بين الجبال والقفر، حتى أصبحت تمتد من بلاد البشكنس شرقاً إلى المحيط غرباً، ومن المحيط شمالاً إلى ما بعد ضفاف نهر دويرة جنوباً، وتشمل عدة مناطق وقواعد، كانت قبل ذلك بفترة يسيرة في قبضة الإسلام.

وهنا نقف في تتبع أخبار المملكة النصرانية عند هذا الحد، لنستأنفه في مواطنه فيما سيأتي.

ص: 222