الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوّل
الخلافة في معترك الفتنة والفوضى
غداة الانقلاب. اقتسام السلطان. الشعب القرطبي. شخصية المهدي. اضطهاده للبربر. تحامل العامة عليهم. نفي المهدي للفتيان العامريين. إخفاؤه للخليفة هشام وادعاؤه بوفاته. عيثه وطغيانه. هشام بن سليمان. سعيه إلى خلع المهدي. القتال بين الفريقين. هزيمة هشام ومصرعه. تحريض المهدي على البربر والفتك بهم. مسيرهم إلى قلعة رباح. يرشحون سليمان بن الحكم للخلافة. استنصارهم بسانشو غرسية أمير قشتالة. الحرب بينهم وبين الفتى واضح. هزيمته وفراره. تأهب المهدي للدفاع. مسير البربر وحلفائهم النصارى إلى قرطبة. موقعة قنتش. هزيمة القرطبيين وتمزيق جموعهم. المهدي يظهر الخليفة هشام. فشل محاولته وفراره. مبايعة سليمان بن الحكم. المهدي وواضح يدبران محاولة جديدة. استنصارهما بأميرى برشلونة وأورقلة. مسير المهدي وحلفائه الفرنج إلى قرطبة. اللقاء بينهم وبين البربر. هزيمة البربر وفرار سليمان. تجديد البيعة للمهدي. مسيره لمطاردة البربر. هزيمته وارتداده إلى قرطبة. استعداده للدفاع. الوحشة بينه وبين واضح. ائتمار الفتيان به ومقتله. عود هشام المؤيد إلى الخلافة. واضح يتولى الحجابة. تمسك البربر بولاية سليمان. مسير البربر إلى الزهراء واحتلالها. عيثهم بأراضي قرطبة. هشام يقدم الحصون الأمامية لأمير قشتالة. حصار البربر لقرطبة. واضح يحاول الفرار. ضبطه ومقتله. ابن وداعة وابن مناو. هشام يحاول استرضاء البربر وسليمان. فشل المحاولة. اشتداد الحصار على قرطبة. مقتل حباسة بن ماكسن. هياج البربر. القتال بينهم وبين أهل قرطبة. هزيمة القرطبيين. اقتحام البربر للمدينة والفتك بأهلها. سليمان المستعين يسترد الخلافة. مصير هشام المؤيد. سليمان يتلقب بالظافر. تفكك عرى الدولة. توزيع الكور بين زعماء البربر. خلال سليمان وشعره.
تربع محمد بن هشام الملقب بالمهدي على كرسي الخلافة، مكان الخليفة هشام المؤيد، في 17 جمادى الآخرة سنة 399 هـ (16 فبراير سنة 1009 م)، وانقضى عهد السلطة الثنائية - سلطة الخليفة الشرعي الإسمية، وسلطة حاجبه والمتغلب عليه الفعلية - ليفسح مجالا لعود السلطة الموحدة. ولكن الظروف التي وقع فيها هذا الانقلاب الحاسم، الذي أودى بين عشية وضحاها، بسلطان دولة من أعظم الدول الأندلسية، لم تكن تسمح لأية سلطة نظامية أن تثبت وأن تستقر، فقد كان الخليفة الجديد، شخصية مغامرة رخوة، تحركها النزعات الوضيعة، ولا تحدوها أية غاية مثلى، وقد أطلقت سائر الأهواء المتوثبة من عقالها، وأخذ كل حزب وكل فريق وكل طائفة، تحاول أن تحصل نصيبها من
أسلاب الدولة المنهارة. فقد كان هناك المروانية أو بنو أمية، يرون أنهم أصحاب السلطة الشرعية، وأصحاب التراث المتخلف عن مغتصبيها، بني عامر؛ وكان هناك الفتيان العامريون، وأنصارهم من الصقالبة، ومن إليهم من الجند المرتزقة، وقد كانوا أولياء الدولة العامرية، وكانوا من حيث العدد والعصبية قوة يعتد بها؛ وكان هناك البربر، وقد كانوا عماد الجيش العامري، وكان عددهم قد تضاعف في أواخر أيام المنصور وبنيه، وتوافد كثير من زعمائهم إلى شبه الجزيرة؛ ثم كان هناك أخيراً الشعب القرطبي، أو بعبارة أخرى كتلة العامة والدهماء الذين آزروا الخليفة الجديد والتفوا حوله، وقد كانوا قوة خطرة متقلبة، كثيرة الأهواء والنزعات، لا تؤمن عواقبها.
استقبل الشعب القرطبي، ولاية الخليفة الجديد، بمظاهر السرور والرضى، وأقاموا الحفلات والولائم، وظنوا أنهم قد أفلتوا من أغلال النظام العامري المرهق، ليستقبلوا عهداً أكثر تسامحاً، وأوسع آفاقاً، وما دروا أن القدر يتربص بهم، وأن الأندلس سوف تجوز من تلك الساعة، عهداً مليئاً بالمحن والأحداث المؤلمة.
والواقع أن الخليفة الجديد لم يكن رجل الموقف، ولم تكن جرأته التي تذرع بها لانتزاع السلطة من هشام المؤيد، والقضاء على سلطان بني عامر، جرأة زعيم مقدام يقدر المسؤوليات التي أخذها على عاتقه، ولكن جرأة مغامر متهور، وزعيم عصابة غير مسؤولة، التفت حوله جموع الدهماء الصاخبة، دون وعي ولا تدبر، شأنها دائماً في كل انقلاب وكل حدث جديد. ومن ثم فإنه ما كاد يشعر باستقرار أمره، وتمكن سلطانه، حتى أطلق العنان لطغيانه وأهوائه، وجمع حوله بطانة سوء، أخذت تتنكر للناس، وتضطهدهم، وتسومهم سوء الخسف، وأبدى الموكلون بالقصر من رجاله نحو البربر بنوع خاص منتهى الشدة والفظاظة، وكان المهدي ورجاله يخصون البربر بالبغض والزراية، لأنهم كانوا عضد المنصور، وسند نظامه الحديدي، وكان أهل قرطبة ينساقون مع المهدي في هذه العاطفة ضد البربر، وينظرون إليهم شزراً.
وبدا سخط المهدي نحو البربر في سوء معاملتهم، والتشدد في دخولهم القصر، فكانوا يمنعون من الركوب عند الدخول، وينزع سلاحهم، ويوجه إليهم قارص
الكلام، ولم يفرق في ذلك بين أصاغرهم وزعمائهم، حتى أن كبيرهم زعيم قبيلة صنهاجة، زاوي بن زيري بن مناد، عند مقدمه إلى القصر، مع جماعة من رجاله، ردوا عند الباب بفظاظة، وأهينوا، فانصرفوا وقلوبهم تضطرم سخطاً.
وسرت إلى العامة عندئذ، موجة من التحامل ضد البربر، فهاجمت بعض جموعهم دور البربر في ضاحية الرُّصافة، ونهبوا بعضها، وبادر صاحب المدينة بضبط الحال ورد الغوغاء، وقتل ثلاثة منهم. وأسرع زاوي بن زيري، وحبوس بن ماكسن، وأبو الفتوح بن ناصر، وغيرهم من زعماء البربر بالدخول على محمد بن هشام، وأخبروه بما وقع، فاعتذر لهم، ووعدهم برد ما نهب، وقتل عدد من الغوغاء، ولكن البربر لم تهدأ ثائرتهم، وبقيت نفوسهم على اضطرامها.
وكان من أعمال العنف التي قام بها محمد بن هشام، أن نفى عدداً من الفتيان الصقالبة العامريين. فغادروا قرطبة، ولجأوا إلى أطراف الأندلس الشرقية، وكان من تملكهم لبعض نواحيها ومدنها ما سنذكر في موضعه. ولم يقبل منهم على مسالمة محمد بن هشام ومصادقته، سوى الفتى واضح صاحب مدينة سالم والثغر الأوسط، فإنه بعث إليه كتاباً يؤكد فيه طاعته، ويبدي ابتهاجه بمصرع عبد الرحمن المنصور، فرد عليه المهدي بالشكر، وبعث إليه أموالا ومتاعاً، ومرسوماً بولاية الثغر كله.
وعمد محمد بن هشام بعد ذلك إلى مطاردة الخليفة هشام المؤيد، فحبسه في القصر أولا، وأخرج جواريه وفتيانه، ودوابه المحبوبة، ثم أخرجه بعد ذلك من القصر، وأخفاه في بعض منازل قرطبة. وتوفي في ذلك الوقت رجل نصراني أو يهودي، قيل إنه كان يشبه هشاماً شبهاً قوياً، فأعلن محمد بن هشام، وفاة الخليفة، وأحضر الوزراء والفقهاء فشهدوا بأنه هو الخليفة هشام المؤيد حقاً.
ودفن هذا الخليفة المزعوم في اليوم السابع والعشرين من شعبان سنة 399 هـ (1).
ولما شعر محمد بن هشام أن الأمر قد استتب له، أطلق العنان لأهوائه، وشهواته الوضيعة، وانكب على معاقرة الخمر، وبالغ في الاستهتار والمجون، والمجاهرة بالفسق والفجور، بصورة مثيرة أفقدته عطف الكثيرين واحترامهم،
(1) البيان المغرب ج 3 ص 77؛ وابن الأثير ج 8 ص 252.
وبطش بكثير من الناس، وفي مقدمتهم ولي عهده سليمان بن هشام، فقد سجنه وسجن معه جماعة من قريش، وأخرج من الجيش نحو سبعة آلاف جندي، أقيلوا وقطعت أرزاقهم، وأضحوا عنصراً من عناصر التوتر والشغب؛ وزاد في التحامل على البربر، والتعريض بهم والطعن فيهم، في كل فرصة وموطن، حتى أصبح بغضه لهم، وتربصه بهم، من الأمور الذائعة، وأخذ كل فريق يحترز من صاحبه، ويتوقع منه الشر والغدر.
وكان هشام بن سليمان بن الناصر، وهو والد سليمان ولي العهد المعتقل، قد وجد على محمد بن هشام من جراء انحرافه وطغيانه ومجونه، وخشي سوء العاقبة على بني أمية، وانهيار أمرهم، فأخذ يسعى في خلع محمد بن هشام، وانضم إليه جماعة من الناقمين عليه، وفي مقدمتهم جماعة العبيد العامريين، وطوائف البربر، ومن تغيرت نفوسهم على محمد بن هشام، وحاصر الثوار محمد بن هشام في قصره، فبعث إلى هشام القاضي ابن ذكوان، وأبا عمر بن حزم، يعاتبانه على تصرفته، وأمر بالإفراج عن سليمان بن هشام، ووقع بين الرسولين وبين هشام حوار شديد، أعلن فيه أنه أحق من محمد بالعرش، فانصرفا عنه. والتفت العامة من الربض الغربي حول محمد؛ وخرج محمد المهدي في جموعه لمقاتلة خصومه، ودار القتال بينهما يومين متواليين، ثم أسفرت المعركة عن هزيمة هشام وجموعه من البربر والعامريين، وأسر هشام وابنه وأخوه أبو بكر ونفر من الزعماء، قتلهم المهدي جميعاً (1). وانثالت الدهماء على دور البربر، فأعملت فيها التدمير والنهب حتى دخل الليل، وكان ذلك في أواخر شوال سنة 399 هـ (يونيه سنة 1009 م).
ودافع البربر عن أنفسهم، ثم انسحب معظمهم إلى أرملاط (2) ضاحية قرطبة، ووقع القتال بقرطبة بين من تبقى منهم وبين العامة، وحرض المهدي على قتلهم، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتك العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم؛ واختفى كثير من زعمائهم. وتوجس المهدي من العواقب، فأصدر للبربر أماناً، ونادى بالكف عنهم، ونصحهم بتغيير زيهم اتقاء
(1) البيان المغرب عن ابن حيان ج 3 ص 84.
(2)
وهي بالإسبانية Guadimellato
الأذى، وكتب إلى البربر في أرملاط أماناً، فم يلتفتوا إليه، وغادروا أرملاط وساروا شمالا إلى قلعة رباح، وهناك أخذوا ينظمون أنفسهم ويتدبرون أمرهم.
وكان ممن فر من بني أمية عقب هزيمة هشام بن سليمان ومصرعه، ولد أخيه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وكان إماماً للبربر، فسار معهم، ورشحوه منذ البداية لتولي الأمر مكان المهدي، ولقبوه بالمستعين. وكان سانشو غرسية أمير قشتالة يرقب تطور الحوادث في قرطبة باهتمام، متأهباً لمظاهرة الفريق الخارج على الآخر، ففاوضه سليمان وزعماء البربر في طليطلة على أن يمدهم بالجند، وتعهدوا إليه بتسليم بعض الحصون الواقعة على الحدود، فقبل معاونتهم؛ وفي أثناء ذلك حاول الفتى واضح صاحب مدينة سالم أن يعرقل مسير البربر، فأمر مدن الثغر أن تمنع المؤن عن البربر، ولقوا من جراء ذلك شدة وإرهاقاً. وأمده المهدي ببعض قواته بصحبة غلامه بليق، فجمع جموعه وسار لقتال البربر، ولجأ البربر من جانبهم إلى حليفهم سانشو، فأمدهم بالجند والمؤن الوفيرة. والتقى البربر وجيش واضح في مكان يسمى شرنبة على مقربة من قلعة النهر أو قلعة هنارس الحالية Alcala de Henares فهزم واضح هزيمة شنيعة، واستولى البربر على محلته وسلاحه، وفرت فلوله صوب قرطبة. وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة 399 هـ (1).
وارتاع المهدي لتلك الهزيمة، وأخذ في تحصين قرطبة، وحفر حول فحص السرادق، وهو محلة البربر خندقاً، ورتب الرجال على الأبواب والأسوار، وأخذ ينظم قواته النظامية ومن العامة. وكان واضح قد أتاه منهزماً في أربعمائة فارس من الثغر، انضمت إلى قواته. وسار سليمان بن الحكم من جهة أخرى في جموع البربر، ومعها القوات القشتالية بقيادة سانشو غرسية، صوب قرطبة، وعسكروا بشرقها في سفح جبل يعرف بجبل قنتج أو قنتش وذلك في يوم 11 ربيع الأول سنة 400 هـ. وبرز واضح في جموعه من أهل قرطبة والثغر، واشتبك الفريقان في القتال يوم السبت 13 ربيع الأول (5 نوفمبر 1009 م)، واضطرمت بينهما معركة شديدة، وسرعان ما دب الخلل إلى جيش قرطبة، فارتد منهزماً إلى الوادي، وتبعه البربر بعنف. فضاقت بهم المسالك، وقتل منهم عدد جم
(1) البيان المغرب ج 3 ص 87.
يقدره البعض بعشرة آلاف، بينهم عدد كبير من العلماء والأئمة، وقتل النصارى وحدهم نيفاً وثلاثة آلاف رجل، وثبت واضح في رجاله حتى دخل الليل، فانسل تحت جنح الظلام وفر هارباً إلى الثغر (1).
ولما رأى المهدي هزيمة جنده، سقط في يده، وحاول أن ينقذ نفسه بحيلة سخيفة، يدفع بها دعوى سليمان، فأظهر الخليفة هشاماً المؤيد، وكان قد أخفاه حسبما تقدم، وزعم أنه مات، وأجلسه في مكان بارز في شرفة القصر، وبعث القاضي ابن ذكوان إلى البربر، يخبرهم أن الخليفة هشاماً ما زال على قيد الحياة، وأنه الإمام الشرعي، وليس المهدي سوى نائبه وصاحبه، فرده البربر بجفاء وسخرية، وأبدوا تمسكهم بولاية سليمان. ولم ير المهدي أمامه سوى الفرار والنجاة بحياته، فغادر القصر سراً، واخترق قرطبة متنكراً، ولحق بطليطلة. ودخل زاوي بن زيري زعيم البربر القصر، ودخل سليمان بن الحكم في أثره في يوم الإثنين الخامس عشر من ربيع الأول سنة أربعمائة، وبايعه الناس بالخلافة، وتلقب بالمستعين بالله، واستقبله الشعب القرطبي القُلَّب بحماسة، شأنه مع كل متغلب وظافر (2). ووكل سليمان بعض الفتيان الصقالبة بالمحافظة على هشام المؤيد في بعض أجنحة القصر، ونزل البربر في الزهراء اتقاء للاحتكاك مع العامة. ومع ذلك فقد كانت حوادث الاعتداء تتوالى عليهم في دروب قرطبة وأزقتها. وكان من أول أعمال سليمان أن أمر بإنزال جثة عبد الرحمن بن المنصور عن خشبتها، فغسلت ودفن في دار أبيه؛ ووفد سانشو غرسية إلى القصر، فاستقبل بحفاوة وخلع عليه وعلى أصحابه، ثم عاد إلى معسكره، ووعده البربر بتسليم الحصون التي تعهدوا بتسليمها متى استقر سلطانهم، ثم غادر قرطبة بعد أن ترك من جنده مائة أنزلوا في ربض منية العقاب.
أما محمد المهدي فما كاد يصل إلى طليطلة، حتى أخذ يدبر أمره من جديد، وكانت الثغور ما تزال باقية على طاعته ودعوته، وانضم إليه واضح وأخذ الأمر ييده. ولما علم سليمان بما يدبره المهدي وواضح، خرج في قواته من قرطبة،
(1) البيان المغرب ج 3 ص 90؛ ويقول ابن الخطيب إن النصارى قتلوا من أهل قرطبة ثلاثين ألفاً، وهو رقم يحمل طابع المبالغة (أعمال الأعلام ص 113).
(2)
الذخيرة لابن بسام. المجلد الأول القسم الأول، ص 30 و31؛ والبيان المغرب ج 3 ص 89 و90.
وسار صوب طليطلة، ثم دعا أهلها إلى طاعته، فأبوا. وانصرف سليمان بقواته إلى مدينة سالم، فلقي نفس الفشل في استمالة أهلها، فارتد عندئذ إلى قرطبة اتقاء لأهوال الشتاء (أواخر شعبان سنة 400 هـ). وفي خلال ذلك كله كان الفتى واضح قد سار إلى طرطوشة من ثغور الثغر الأعلى، واتصل بأمير برشلونة الكونت رامون بوريل وزميله أمير أورقلة الكونت أرمنجو، واتفق معهما على أن يمداه بجيش لمقاتلة البربر في قرطبة، فقبلا معاونته بشروط باهظة، من تقديم الطعام والشراب، وأن يتناول كل منهما في اليوم مائة دينار، وأن يتناول كل جندي دينارين في اليوم، وأن يستولي الجند النصارى على ما يغنمونه من سلاح البربر وأموالهم، وأخيراً أن يستولوا على مدينة سالم، وقد احتلوها بالفعل في طريقهم إلى طليطلة، بعد أن أخلاها واضح من المسلمين (1).
وسار الجيش الفرنجي برفقة واضح إلى طليطلة، حيث انضم إليه المهدي في قواته، وسارت القوات المتحدة صوب قرطبة. وكان سليمان المستعين قد وقف على أهبة خصومه، ووفرة القوات الزاحفة عليه، فاستنفر الناس لنصرته، فلقيت دعوته فتوراً، فحشد ما استطاع من جموعه، وخرج مع البربر لملاقاة خصومه. وكان اللقاء على قيد نحو عشرين كيلومتراً من شمالي قرطبة في مكان يعرف " بعقبة البقر "، وذلك في منتصف شوال سنة 400 هـ (أواخر مايو سنة 1010 م)، واحتل البربر بقيادة زعيمهم زاوي بن زيري المقدمة، ورابط سليمان بقواته في المؤخرة. واقتتل البربر مع الفرنج قتالا شديداً، قتل فيه كثير منهم، وفي مقدمتهم الكونت أرمنجو (وتسميه الرواية العربية أرمقند)، ولكن جانباً من فرسان الفرنج اخترقوا صفوف البربر، فظن سليمان أن الهزيمة وقعت بهم فارتد منهزماً وكشف بذلك مؤخرة البربر، فلما رأى البربر فرار سليمان بقواته، ارتدوا لفورهم نحو الزهراء، فأخذوا أهلهم وأموالهم وغادروها إلى الجنوب مسرعين، وفر سليمان في بقية من صحبه شرقاً صوب شاطبة. وفي اليوم التالي دخل واضح ومحمد المهدي قرطبة، وجدد المهدي البيعة لنفسه وعين واضحاً لحجابته (2).
واعتزم المهدي أن يقضي على البربر قبل أن يعودوا لمقارعته. فجمع الأموال
(1) البيان المغرب ج 3 ص 94.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 94 و95؛ والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 32.
من أهل قرطبة، وأعطى الفرنج أعطياتهم، وحشد كل ما استطاع من قواته، وخرج لمطاردة البربر. وكان البربر قد وصلوا عندئذ إلى " وادي آره " أو وادي يارو (1). على مقربة من مربلة في طريقهم إلى الجزيرة الخضراء. وكان جيش المهدي يتكون من نحو ثلاثين ألف من المسلمين، وتسعة آلاف من الفرنج.
وهناك التقى الجمعان، واشتبكا في معركة طاحنة، دارت فيها الهزيمة على المهدي وحلفائه، وقتل من الفرنج نحو ثلاثة آلاف، وغرق منهم عدد جم، واستولى البربر على كثير من أسلحتهم وخيلهم ومتاعهم (2)، ووقعت هذه الموقعة، في شهر ذي القعدة سنة 400 هـ (يونيه 1010 م)، وعلى أثرها ارتد المهدي إلى قرطبة، وهنالك غادره حلفاؤه النصارى عائدين إلى بلادهم. وسار البربر جنوباً إلى ناحية ريُّه، وهنالك لحق بهم سليمان المستعين بمن معه. وأخذ الفريقان يدبران معاً استئناف الصراع للاستيلاء على قرطبة.
وعكف المهدي على تحصين قرطبة، وحفر حولها خندقاً، أقيم وراءه سور، وأخذ يستعد للدفاع، ويحشد الجند توقعاً لمعاودة البربر الكرة. وكانت جموع من البربر في أثناء ذلك تغير على نواحي قرطبة من آن لآخر. وفي أثناء ذلك كان واضح قد ضاق ذرعاً بتصرفات المهدي وحماقاته، وسوء خلقه من عكوف على الشراب والمجون. وكان الفتيان العامريون وفي مقدمتهم واضح جميعاً ينقمون على المهدي ما فعله بهشام المؤيد، وبني عامر، وكان قد وصل إلى قرطبة جملة منهم من شاطبة، وفيهم بعض الفتيان البارزين مثل خيران وعنبر، فأتمروا على الغدر بالمهدي، وأخرجوا هشاماً من محبسه بالقصر، وأجلسوه للخلافة ونادوا بولايته، وأتوا بالمهدي بين يديه، فضرب عنقه، واحتز رأسه، وألقى بجسده من أعلى السطح، ورفعوا رأسه على قناة طيف بها في الشوارع، ووقعت هذه الجريمة في الثامن من ذي الحجة سنة 400 هـ (23 يوليه 1010 م)(3).
وهكذا استرد هشام المؤيد الخلافة، بعد سلسلة من الخطوب والأحداث المثيرة، وكان يومئذ كهلا في نحو السابعة والأربعين من عمره، وكان قد مضى
(1) وبالإسبانية Guadiaro
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 96؛ وأعمال الأعلام ص 113.
(3)
ابن خلدون ج 4 ص 150؛ وابن الأثير ج 8 ص 226؛ والذخيرة القسم الأول، المجلد الأول ص 32؛ والبيان المغرب ج 3 ص 96 و99 و100.
عليه مذ ولى الخلافة صبياً لأول مرة أربعة وثلاثون عاماً، وفي تلك الفترة شهدت الأندلس طائفة من الأحداث الجسام، لم تشهد مثلها من قبل: شهدت قيام الحاجب المنصور ودولته العامرية، واختفاء سلطة الخلافة، في ظل نظام الطغيان المرهق الذي فرضه بنو عامر، ثم شهدت الثورة الغامرة التي أطاحت بالدولة العامرية وعود الخلافة الأموية في ثوبها الباهت المهلهل، على يد مغامرين مثل محمد بن هشام المهدي، وسليمان المستعين، وشهدت وفاة هشام المزعومة، ثم بعثه، وعوده إلى تولي الخلافة، شبحاً من أشباح الماضي، وألعوبة في يد واضح وزملائه الفتيان العامريين، أصحاب الحول والسلطان، بعد ابتعاد البربر ومصرع المهدي.
وتولى واضح بالطبع منصب الحجابة للخليفة الذي اصطنعه، وسكنت الفتنة، وهدأت الخواطر نوعاً، وبعث الخليفة برأس المهدي إلى سليمان المستعين وحلفائه البربر، وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته، وأخذ يظهر في شوارع قرطبة خلافاً لما كان عليه فيما مضى، إظهاراً لهيبة الخلافة وسلطانها. ولكن البربر لم يقبلوا دعوته، وأبدوا تمسكهم بولاية سليمان، وكان البربر في الواقع يضطرمون حقداً على أهل قرطبة لما أصابهم منهم من أنواع النكال، ويزمعون الانتقام منهم بكل وسيلة. وحاول سليمان والبربر أن يحصلوا مرة أخرى على معاونة سانشو غرسية أمير قشتالة، وعرضوا أن يسلموه سائر الحصون الأمامية التي افتتحها الحكم والمنصور، إذا ارتضى محالفتهم ومعاونتهم على استعادة قرطبة، وخلع المؤيد، ولكن سانشو لم يصغ إليهم في تلك المرة، معتزماً أن يوجه مطالبه إلى الخليفة القائم. وعندئذ عول البربر على السير إلى قرطبة، فسارت جموعهم حتى وصلت إلى الزهراء غربي قرطبة، فهاجموها وقتلوا معظم الجند الذين بها، واحتلوها وذلك في شهر ربيع الأول سنة 401هـ (نوفمبر سنة 1010 م)، واستمروا بها بضعة أشهر حتى أواخر شعبان من تلك السنة، ثم زحفت جموعهم على أرباض قرطبة، يعيثون فيها تخريباً ونهباً وقتلا، ويجتنبون الاشتباك مع جند واضح، وضج أهل قرطبة لهذا الاعتداء، وزادت نفوسهم حقداً على البربر، وتحرقاً للانتقام منهم، وانتشرت جموع البربر في نفس الوقت جنوباً، حتى وصلت إلى أحواز غرناطة ومالقة وهي تنشر الخراب والدمار أينما حلت.
وفي تلك الأثناء وصل سفراء سانشو غرسية أمير قشتالة إلى قرطبة، يطالبون بالحصون الواقعة على الحدود، والتي افتتحها المسلمون منذ أيام الحكم حتى نهاية عهد بني عامر. ولم ير هشام وواضح بداً من إجابة سانشو إلى طلبه، اتقاء لعدوانه من جهة، واتقاء لتحالفه مع البربر من جهة أخرى. وعقد مجلس من الفقهاء والقضاة، وكتب محضر رسمي بتسليم عدد كبير من الحصون إلى النصارى، يقال إنها أربت على المائتين (1)، ومنها معاقل هامة، كانت قواعد أمامية للمسلمين، مثل شنت إشتيبن، وقلونية، وأوسمة، وغرماج وغيرها، وخسرت الأندلس بذلك خط دفاعها الأول، وتركت حدودها الأمامية مفتوحة لغزوات النصارى.
واستمر البربر على حصارهم لقرطبة، وعيثهم في أرباضها الخارجية، وكانت الحالة تسوء من يوم إلى يوم، وكان الناس في قرطبة، جيشاً وشعباً، يزمعون مقارعة البربر، والقضاء عليهم بكل ما وسعوا، ويرفضون كل رأي أو مسعى يتجه إلى مسالمتهم أو التفاهم معهم، ولم يجد المؤيد وواضح بداً من الانسياق مع التيار العام، واتخاذ كل وسيلة ممكنة للدفاع عن المدينة، ولكن الموارد كانت تقل يوماً عن يوم، حتى اضطر المؤيد إلى إخراج سائر نفائس القصر وتحفه ورياشه، ليقتني بثمنها الخيل والسلاح، وفضلا عن ذلك فقد أرهق القرطبيون بالمطالب والمغارم حتى ضاقوا ذرعاً؛ وأخيراً شعر واضح بأنه يواجه حالة مستحيلة، واعتزم أن يغادر قرطبة سراً، إلى بعض نواحي الثغر، ولكن بعض أكابر الجند وقفوا على مشروعه، فنهض أحدهم، وهو على بن وداعة مع نفر من زملائه، فعاتبوه على ما بدد من الأموال، وما أساء من تصرف، ثم قتلوه واحتزوا رأسه، وطيف بها في الشوارع، ونهبت دوره ودور أصحابه، فوجد بها مال كثير معبأ كان يعتزم الفرار به. وهكذا كفر واضح بدمه عن جريمته في اغتيال المهدي، وهكذا أضحت الجريمة وسيلة ذائعة في بلاط قرطبة، لاقتناص السلطان أو التخلص من صاحبه (2).
وعلى أثر ذلك ولى المؤيد ابن وداعة شرطة المدينة، فاستعمل الحزم والشدة، في قمع الشغب وصون النظام والأمن، فهابته العامة، وقلت حوادث الشغب، وتولى تدبير الأمور للمؤيد رجل من موالي العامريين يسمى ابن مناو؛ ثم جاءت
(1) أعمال الأعلام ص 117.
(2)
البيان المغرب ج 3 ص 103 و104؛ وأعمال الأعلام ص 117 و118.
إلى قرطبة كتب من أهل الثغور يعتذرون فيها عن عجزهم عن إرسال الأمداد، وينصحون المؤيد إما بمصالحة البربر، أو التفاوض مع أمير قشتالة؛ فكتب هشام إلى زاوي بن زيري يحثه على عقد الصلح، ويعده بما شاء من مال أو ولاية، فرد زاوي بأنه لايستطيع مخالفة أصحابه، وأنه مع ذلك لايدخر وسعاً في العمل لتأليف كلمة المسلمين وحقن الدماء (1).
ثم بذلت محاولة مماثلة لدى سليمان بن الحكم والبربر، إذ كتب أهل قرطبة على لسان هشام وابن مناو كتابين، وجه أحدهما من هشام إلى سليمان، وفيه يرجو العمل على إخماد الفتنة، وتسليم الأمر إليه، وعلى أن يغدو سليمان ولي عهده والقائم بأعباء الخلافة عنه، ووجه الثاني من وزراء قرطبة إلى وزراء البربر، فلم يحفل سليمان بكتاب هشام، وقال للرسل بل إنه هو أمير المؤمنين والخليفة، وأنه لا يعترف لهشام بصفة ما.
كل ذلك والأمر يشتد على أهل قرطبة. ودخل الوزراء ووجوه الجند والفتيان على هشام، وكشفوا له خطورة الحالة، واشتداد ضغط البربر على المدينة وأرباضها، وتفاقم الضيق والغلاء، وقصور الثغور عن إنجاد المدينة، وكون الشعب منقسم على نفسه ما بين راغب في الكفاح، وراغب في الصلح، فبكى هشام فيما قيل، واعتذر لعجزه وقصوره، وقال لهم افعلوا ما ترون.
وعجل باضطرام النار حادث وقع في آخر ذي الحجة سنة 402 هـ، إذ تقدم جماعة من وجوه البربر وفي مقدمتهم حباسة بن ماكسن ابن أخي زاوي، وكان من أشجع قادة البربر، ومعه جماعة قليلة من الفرسان، ونزلوا في بقعة قريبة من الأسوار، فرآهم أهل قرطبة من وراء الخندق، فاجتمع منهم عدد عظيم، وانقضوا على حباسة وصحبه، فدافعوا عن أنفسهم دفاعاً عظيماً، ولكنهم غلبوا في النهاية على أمرهم، وأسر حباسة، فلما عرفه القوم قتلوه بوحشية، وقطعوا جسده إرباً لعظيم حقدهم عليه، ولما قاسوه من شدة قتاله ونكايته، فلما وقف أخوه حبوس وعمه زاوي على الخبر، اضطرب البربر، واستعدوا للقتال، وفي اليوم التالي اشتبكوا مع أهل قرطبة في عدة معارك، وفتكوا بكثير منهم،
(1) البيان المغرب ج 3 ص 107 و108.
واستمرت المعارك من ذلك الحين بين الفريقين سجالا، وأهل قرطبة يخرجون من المدينة مرة بعد أخرى، ويقاتلون البربر محاولين تحطيم الحصار المرهق، والبربر من جانبهم ينزلون بهم أشد الضربات، وفي 26 شوال سنة 403 هـ (مايو سنة 1013 م) نشبت بين الفريقين معركة عامة، وقاتل أهل قرطبة قتالا شديداً، ولكنهم هزموا بعد معارك طاحنة، وقتل منهم عدد جم، وساد الاضطراب أرجاء المدينة، وفتحت أبوابها؛ وخرج القاضي ابن ذكوان مع جماعة من الفقهاء وساروا إلى معسكر البربر، وطلبوا الأمان من سليمان وزعماء القبائل البربرية، فمنح الأمان لقاء مبالغ عظيمة فرضت على المدينة، ودخل البربر المدينة دخول الوحوش المفترسة، فقتلوا كثيراً من سكانها، ولم يفروا الأطفال والشيوخ، وأوقعوا بها السلب والنهب، وأحرقوا الدور، واغتصبوا النساء والبنات، وارتكبوا أشنع ضروب السفك والإثم، وكانت محنة من أروع ما قاسته عاصمة الخلافة.
وفي اليوم التالي دخل سليمان المستعين قصر قرطبة، واستدعى هشاماً المؤيد وعنفه على موقفه، فاعتذر بأنه مغلوب على أمره. وهنا تختلف الرواية في مصير هشام، فالبعض يقول إن سليمان أخفاه حيناً، ثم قتله ولده محمد بن سليمان، والبعض الآخر بأنه فر من محبسه، وقصد إلى ألمرية حيث عاش حيناً في خمول وبؤس حتى توفي. بيد أننا نرجح الرواية الأولى، وإن كان اسم هشام سوف يظهر بعد ذلك على مسرح الحوادث. (1)
ولما استتب الأمر لسليمان، وهدأت الخواطر نوعاً، تلقب بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين، وانتقل إلى مدينة الزهراء بحاشيته وقواد البربر وجندهم، فاحتلوها وما حولها، ونزل علي والقاسم ابنا حمود قائدا فرقة العلوية بشقندة ضاحية قرطبة، وأخذ سليمان ينظم شئون الحكومة المضطربة. وكانت الفوضى قد سرت إلى جميع النواحي، وتفككت عرى الدولة، وقصر نفوذ الحكومة إلا عن قرطبة وما يجاورها، وقبض البربر الذين رفعوا سليمان إلى العرش، على السلطة الحقيقية، فتولوا مناصب الحجابة والوزارة، وسائر المناصب الهامة؛ ورأى سليمان إرضاء لهم من جهة، وإبعاداً عن قرطبة من جهة أخرى،
(1) راجع في سقوط قرطبة ومصير هشام، ابن خلدون ج 4 ص 151؛ وابن الأثير، ج 9 ص 75 والمراكشي ص 22 - 25؛ وأبو الفدا ج 2 ص 139؛ والبيان المغرب ج 3 ص 112 و113؛ وأعمال الأعلام ص 118 - 120.
يقطعهم كور الأندلس، وكانوا ست قبائل رئيسية، فأعطى قبيلة صنهاجة وزعماؤها بني زيري، ولاية البيرة (غرناطة)، وأعطى مغراوة جوفي البلاد، وبني برزال وبني يفرن ولاية جيان ومتعلقاتها، وبني دُمَّر وازداجة منطقة شذونة ومورور؛ وأقر المنذر بن يحيى التجيبي على ولاية سرقسطة والثغر الأعلى، وكان قد انضم إلى سليمان، وحارب مع البربر من أجل قضيته، وولى بني حمود الأدارسة ثغور المغرب، فولى علياً بن حمود على ثغر سبتة، وأخاه القاسم بن حمود على ثغور الجزيرة الخضراء، وطنجة وأصيلا، وهكذا سيطر البربر على ولايات الأندلس الجنوبية والوسطى، وأخذوا يحتلون في شئونها مكانة لها خطرها (1).
وكان الفتيان العامريون لما رأوا غلبة البربر على حكومة قرطبة الجديدة، قد توجسوا من غدرهم، وفر معظمهم إلى شرقي الأندلس، بعيداً عن سلطان الحكومة المركزية، وأنشأوا هنالك في القواعد الشرقية، حكومات محلية حسبما نذكر بعد.
وقضى سليمان المستعين في الحكم للمرة الثانية نحو ثلاثة أعوام، استمرت خلالها حال الاضطراب والفوضى في قرطبة وسائر أنحاء الأندلس. ولم تهدأ الخواطر ولم تطمئن النفوس. وغلب سلطان البربر، واشتد طغيانهم وتحكمهم، ولبثت الأهواء المتوثبة تجيش في صدور الطامعين من زعمائهم، حتى تمخضت غير بعيد عن انقلاب جديد في مصاير الخلافة.
وكان من أبرز صفات سليمان، مواهبه الأدبية الرفيعة، فقد كان أديباً متمكناً، وشاعراً مطبوعاً، قال فيه ابن بسام إنه " أحد من شَرُف الشعر باسمه، وتصرف على حكمه " وأورد له القصيدة الآتية، وهي الوحيدة التي عثر بها من نظمه، وفيها يعارض قطعة الرشيد " ملك الثلاث الآنسات عناني " وفيها تبدو براعته ورقة خياله:
عجباً يهاب الليث حد سناني
…
وأهاب لحظ فواتر الأجفان
فأقارع الأهوال لا متهيباً
…
منها سوى الإعراض والهجران
وتملكت نفسي ثلاث كالدمى
…
زهر الوجوه نواعم الأبدان
ككواكب الظلماء لُحن لناظري ..
. من فوق أغصان على كثبان
هذي الهلال، وتلك بنت المشترى
…
حسناً وهذي أخت غصن البان
(1) البيان المغرب ج 3 ص 113 - 115؛ وأعمال الأعلام ص 119.
حاكمت فيهن السلو إلى الصبا
…
فقضى بسلطان على سلطاني
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني ..
. في عز ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى
…
ذل الهوى عزٌّ وملك ثاني
ما ضر أني عبدهن صبابة
…
وبنو الزمان وهن من عبداني
إن لم أصغ فيهن سلطان الهوى
…
كلفاً بهن فلست من مروان
وإذا الكريم أحب أمَّن إلفه
…
خطب القلى وحوادث السلوان
وإذا تجارى في الهوى أهل الهوى
…
عاش الهوى في غبطة وأمان (1)
(1) ابن بسام في الذخيرة. المجلد الأول القسم الأول ص 33 و34؛ والمراكشي ص 25.