الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
الأندلس بين المد والجزر
صدى بلاط الشهداء. اهتمام الخلافة بحوادث الأندلس. تعيين عبد الملك بن قطن واليا للأندلس. مسير ابن قطن إلى الشمال. محاربته للثوار في الثغر الأعلى وبسكونية. غزوه لأكوتين. هزيمته أثناء العودة. صرامته وعزله. ولاية عقبة بن الحجاج. حزم عقبة وإصلاحاته. غزوه لجليقية. تحصينه لقواعد الثغر. غزواته في غاليس. حوادث أكوتين. عبد الرحمن اللخمي فارس الأندلس يغزو آرل. تحالف مورنتوس دوق بروفانس مع العرب. غزو القوات المتحدة لبرجونية. مهاجمة الفرنج لأفنيون واستيلاؤهم عليها. حصار كارل مارتل لأربونة. موقعة بين العرب والفرنج. هزيمة العرب. رفع الحصار عن أربونة. استيلاء كارل على مدن سبتمانيا وتخريبها. عوده إلى الشمال. مسير عقبة إلى سبتمانيا. استرداده لآرل. غزو الفرنج واللومبارد لبروفانس. قدوم كارل مارتل. ارتداد المسلمين. هزيمة مورنتوس وتمزيق قواته. مهاجمة البشكنس لعقبة حين عبوره الجبال. وفاة عقبة. ولاية عبد الملك ابن قطن الثانية. حوادث إفريقية. سخط البربر على العرب. ذيوع الدعوة الخارجية بين البربر. موقف البربر في اسبانيا. أقوال ابن خلدون في ذلك. أقوال دوزي. اضطرام البربر بعوامل الثورة. إخماد الثورة في المغرب الأقصى. ولاية إسماعيل بن عبيد الله للمغرب. عودة الثورة بزعامة ميسرة المدغري. استيلاء الثوار على طنجة. الحرب بين العرب والبربر. مصرع ميسرة. موقعة الأشراف. ولاية كلثوم بن عياض لإفريقية. الخلاف بين زعماء العرب. مسير كلثوم إلى المغرب. استئناف الحرب بين العرب والبربر. هزيمة العرب ومقتل كلثوم. امتناع الشاميين بسبتة. ولاية حنظلة بن صفوان لإفريقية. الثورة في إفريقية الوسطى. قتال حنظلة للثوار. هزيمة البربر ومصرع زعمائهم.
كان للخطب الجلل الذي أصاب الإسلام في بلاط الشهداء وقع عظيم في بلاط دمشق، وفي جميع أرجاء العالم الإسلامي، وكان ارتداد الإسلام أمام أسوار قسطنطينية قد وقع للمرة الثانية قبل ذلك بأربعة عشر عاما فقط، فكانت نكبة البلاط تتمة الفشل المؤلم، الذي أصاب مشاريع الخلافة في افتتاح أمم الغرب. ْعلى أنها لم تكن خاتمة الفتوح الإسلامية في فرنسا.
وأثار هذا الخطب في نفس هشام بن عبد الملك، أيما اهتمام بشئون الأندلس ومصير الإسلام في الغرب، فاختار عبد الملك بن قطن الفهري واليا للأندلس، وأمره أن يعمل على حماية شبه الجزيرة، وتوطيد هيبة الإسلام في تلك الأقطار
النائية. فعبر عبد الملك إلى اسبانيا، في جيش منتخب من جند إفريقية، في أواخر سنة 114هـ (1). كان ثوار المقاطعات الشمالية قد انتهزوا فرصة مقتل عبد الرحمن وانحلال جيشه، وحاولوا أن ينزعوا عنهم نير الإسلام، فسار عبد الملك إلى الثغر الأعلى (أراجون) وهزم الثوار في عدة مواقع، ثم عبر البرنيه إلى بسكونية (بلاد البشكنس)(2) سنة 115 هـ (733 م)، وكانت دائما أشد المقاطعات الجبلية مراساً، وأكثرها خروجاً وانتقاضاً، فعاث فيها وشتت جندها وألجأهم إلى طلب الصلح (3). ثم سار إلى لانجدوك، وكان الفرنج منذ موقعة البلاط، يتطلعون إلى استردادها، ويكثرون من الإغارة عليها، فنظم حامياتها، وحصن قواعدها. ثم أغار على أراضي أكوتين وعاث فيها، فاعترضه الدوق أودو ورده، ولم يخاطر عبد الملك بالتوغل في أرض الفرنج لصغر جيشه، فارتد إلى الجنوب، ولكنه أثناء عبوره جبال البرنيه، هاجمته العصابات الجبلية البسكونية، وأصابته في قتالها خسارة كبيرة، فعاد إلى قرطبة دون أن يتمكن من إخضاعها.
ولم يطل عهد عبد الملك بعد عوده، فقد كان صارماً، شديد الوطأة، كثير الظلم والبطش (4). فسخط عليه الزعماء وأولو الرأي، ودب الخلاف بين القبائل، وبدت بوادر الفتنة. هذا إلى أنه لم يوفق إلى إخماد الثورة في الولايات الشمالية، وتوطيد سلطان الإسلام فيها. فعزل في رمضان سنة 116 لسنتين من ولايته. واختار عبيد الله بن الحبحاب عامل إفريقية، مكانه لولاية الأندلس. عقبة بن الحجاج السلولي. فدخلها في شوال سنة 116 (أواخر سنة 734 م). وكان عقبة من طراز عبد الرحمن الغافقي جندياً عظيماً، نافذ العزم والهيبة، محمود الخلال والسيرة، كثير العدل والتقوى (5)، فأقام النظام والعدل، ورد المظالم، وقمع الرشوة
(1) المقري ج 2 ص 58، ابن الأثير ج 5 ص 64. ولكن ابن عبد الحكم يقول إن ولاية ابن قطن كانت سنة 115هـ (ص 217). وهذا يرجع إلى أنه يقول كما قدمنا بوقوع بلاط الشهداء سنة 115.
(2)
بسكونية أو بسكونس أو بلاد االبشكنس بالعربية هي vasconia القديمة، وقد كانت تشمل الرقعة الممتدة في غرب البرنيه بحذاء الشاطىء إلى شرق الأسترياس، وكانت أهم أجزائها في ذلك العصر ولاية نافار التي يسميها العرب أحيانا نبره، وكانت عندئذ إمارة مستقلة يحكمها على الأرجح زعيم أو أمير قوطي، وتشمل من مقاطعات اسبانيا الحديثة نافار وبسكاية Vizcaya
(3)
المقري ج 2 ص 58.
(4)
المقري ج 1 ص 110؛ وعن ابن بشكوال ج 2 ص 58.
(5)
المقري ج 2 ص 58؛ والبيان المغرب ج 2 ص 28.
والاختلاس، وعزل الحكام الظلمة وألقاهم في غيابة السجن، وأقام مكانهم جماعة من ذوى الحزم والنزاهة، وأنشأ كثيرا من المدارس والمساجد. فاستقرت الأحوال وخبت الفتنة، وتراضت القبائل. واعتزم عقبة في الوقت نفسه أن يعيد عهد الجهاد والفتوح العظيمة، وأن يوطد سلطان الإسلام في الولايات الشمالية، وفي غاليس (فرنسا). فنظم الجيش وزاد في قواته وأهبته، وغزا جليقية وتوغل فيها، واستولى على كثير من مواقعها، ولكنه لم يستطع أن يسحق بقية النصارى التي اجتمعت حول الزعيم القوطي بلاي (أو بلايو)، وما زالت معتصمة بأقاصي
الجبال في شعب عرفت لمنعتها " بالصخرة "، متحدية كل أمير وقائد مسلم (1). وحصن عقبة جميع المواقع الإسلامية على ضفاف نهر الرون، واتخذ ثغر أربونة قاعدة للجهاد والغزو، فحصنها وبعث إليها بالجند والمؤن والذخائر. وتقول الرواية الإسلامية إن عقبة لبث طوال حكمه الذي امتد خمسة أعوام مثابرا على الجهاد والغزو، وأنه كان يخرج للغزو كل عام، حتى عاد نهر الرون رباط المسلمين أو معقل فتوحاتهم (2)، بعد أن كان الفرنج قد استردوا ما بيد المسلمين في تلك الأنحاء. ولا تفصل الرواية الإسلامية حوادث هذه الغزوات، ولكن الروايات الفرنجية المعاصرة تلقى عليها شيئا من الضياء، وإليك ملخص الغزوات الإسلامية في غاليس في تلك الفترة حسبما تقصه علينا تلك الروايات:
رأى الفرنج على أثر ما أصاب المسلمين في بلاط الشهداء، أن الفرصة قد سنحت لإخراجهم من فرنسا. ولكن كارل مارتل شغل حينا بمحاربة القبائل الوثنية فيما وراء الرّين، في فريزيا وسكسونية، وشغل أودو برد العرب حينما غزوا أكوتين مرة أخرى بقيادة ابن قطن. ثم توفي أودو في العام التالي (سنة 735 م)، وتخلص كارل مارتل بذلك من منافسه القوي، وبادر إلى غزو أكوتين ودخل بوردو عاصمتها، وأقام هونالد ولد أودو دوقا مكان أبيه، على أن تكون أكوتين تابعة للمملكة الفرنجية. وفي تلك الأئناء ولي الأندلس عقبة بن الحجاج، وأخذ ينظم الأهبة لاسترداد الثغور الإسلامية الشمالية. وفي سنة 735 م (117هـ) غزا العرب مدينة آرل للمرة الثانية، بقيادة عبد الرحمن بن علقمة اللخمي والي
(1) البيان المغرب ج 2 ص 29.
(2)
المقري ج 2 ص 58؛ والبيان المغرب ج 2 ص 29.
أربونة، الموصوف بأنه " فارس الأندلس في عصره " تنويها بشجاعته الفائقة (1) واستولوا عليها. وكانت الولايات المجاورة لسبتمانيا الواقعة حول ضفاف الرون، وكلها مزيج من القوط والبرجونيين، تنزع إلى الخروج على كارل مارتل، وتحاول التخلص من نير الفرنج، وكان الدوق مورنتوس أو مورنت أمير بروفانس أقوى زعماء هذه المنطقة، يحكم ما بين نهر الرون وجبال الألب، ويسعى إلى توطيد استقلاله. وتوزيع ملكه على نحو ما كان يفعل أودو في أكوتين، فاتصل بالعرب وتحالف معهم. وفي سنة 736 م عبر الدوق وعبد الرحمن اللخمي الرون في جيش مشترك، واستولوا على مدينة أفنيون ورغم حصانتها (2). واخترق العرب بعد ذلك إقليم دوفينه، استولوا على أوسيز وففييه وفالانس وفيين وليون وغيرها، وغزوا برجونية وحصلوا على غنائم لا تحصى (3). وعلم كارل مارتل بذلك أثناء انشغاله بالحرب في سكسونية، فبعث أخاه شلدبراند في جيش ضخم ليصد العرب، ثم لحق به جيش آخر، وزحف الفرنج على أفنيون في كثرة وهاجموها بشدة حتى سقطت في أيديهم، وقتلوا حاميتها المسلمة، وتحصن العرب في أربونة، فسار إليها كارل مارتل، وحاصرها فقاومه المسلمون أشد مقاومة. وردوا كل هجماته. وأرسل عقبة في الحال جيشا لإنقاذ المدينة، فقصدها من جهة البحر. وجاز إلى الشاطئ قبل أن يشعر به الفرنج حتى صار على مقربة من أربونة. فلما علم كارل بمقدم هذا الجيش الجديد، بادر إلى لقائه ونشبت بينه وبين العرب موقعة هائلة، فيما بين البحر وأربونة، هزم فيها العرب هزيمة شديدة، وطاردهم الفرنج حتى الشاطىء، فلم ينج منهم سوى شراذم قليلة لجأت إلى السفن، وذلك في ربيع سنة 737 م (119هـ) ومع ذلك فلم تسلّم أربونة ولم يهن عزمها. فاضطر عندئذ كارل مارتل إلى رفع الحصار عنها، وارتد إلى مهاجمة المواقع الإسلامية الأخرى، فاستولى على بزييه وأجده وماجلونة وخرب قلاعها ومعاهدها، وأحرق نيمة وآثارها الرومانية الفخمة، فغدت جميعا أطلالا دارسة، بعد أن كانت أيام المسلمين زاهرة باسمة، وحول السهل الواقع غرب سبتمانيا وشمالها إلى قفر بلقع ليحول دون تقدم المسلمين. وهنا وصلته الأنباء بوفاة تيودوريك الرابع
(1) نفح الطيب ج 2 ص 59 و62.
(2)
وهي في الرواية العربية " صخرة أبنيون "(راجع نفح الطيب ج 1 ص 128).
(3)
Dom Vissette: ibid، V.I. P. 803.
ملك الفرنج الميروفنجي (سبتمبر سنة 737)، فارتد مسرعاً إلى عاصمة ملكه ليتقي تدابير خصومه، ولم يقم ملكا جديداً على العرش رغم وجود أعضاء من الأسرة الميروفنجية، بل آثر أن يترك العرش خاليا، حتى تمهد الظروف له أو لبنيه اعتلاءه، وتتويج سلطان محافظ القصر الفعلي بألقاب الملك.
وفي ذلك الحين كان عقبة بن الحجاج يتأهب لاستئناف الغزو، واسترداد ما انتزعه كارل مارتل من قواعد سبتمانيا. ففي ربيع سنة 738 م (120هـ) عبر عقبة جبال البرنيه في جيش ضخم ونفذ إلى سبتمانيا، وعبر الرون واسترد مدينة آرل للمرة الثالثة أو الرابعة. ثم استولى بمعاونة الدوق مورنتوس على أفنيون وعدة معاقل أخرى في بروفانس. وكان كارل في ذلك الحين قد عاد إلى محاربة السكسونيين، فبعث لقتال العرب جيشا بقيادة أخيه شلدبراند، واستغاث بصهره وحليفه لوتيراند ملك اللومبارد (1)، فغزا بروفانس من جهة الشرق ليضيق على قوات الدوق، ثم أسرع كارل إلى الرون بجيش ثالث، وزحفت الجيوش المتحدة على مواقع المسلمين، فاضطر عقبة إلى إخلاء بروفانس والارتداد الى ما وراء الرون، واستولى الفرنج أيضا على معظم سبتمانيا، ولم يبق منها بيد المسلمين سوى أربونة، ورقعة ضيقة من الأرض على الشاطىء بين أربونة والبرنيه، ومزقت قوى الدوق مورنتوس، وطارده الفرنج في شعب الجبال، ففر ناجياً بحياته، واستولى الفرنج على أراضيه، واصطدم عقبة حين عبوره البرنيه إلى الأندلس بعصابات قوية من البسكونيين والقوط، حاولت بتحريض الفرنج أن تسد دونه ممرات الجبال، فتكبد في تمزيقها بعض الخسائر، ولكنه ارتد بجيشه سالما إلى قرطبة. وكان هذا اللقاء الأخير بين العرب والفرنج في سهول الرون في سنة 739 م (121هـ)(2).
ثم توفي عقبة بن الحجاج بعد ذلك بقليل، وقدمت الجماعة مكانه عبد الملك ابن قَطَن، فولى الأندلس للمرة الثانية. وقيل بل ثار ابن قطن على عقبة في جمع
(1) يسمى العرب لومبارديا أنكبردة، واللومبارد بالأنكبرد، محرفة عن التسمية القديمة (لانجوبارد) Langobard ( راجع معجم ياقوت الجغرافي ج 1 ص 262).
(2)
رجعنا في تفصيل هذه الغزوات والوقائع إلى ما ورد في موسوعة Bouquet من أقوال الرواة والمؤرخين المعاصرين من الأحبار وغيرهم. وراجع أيضا: Dom Vissette: ibid ، V.I.p 807 & 809.
كبير من أنصاره، وكان عقبة قد ولاه على أثر عزله، قيادة الجيش في الشمال، فلبث يتحين الفرص للخروج والثورة. فأسر عقبة وقتل، أو أسر حتى توفي، وانتزع ابن قطن ولاية الأندلس لنفسه، ووقع هذا الانقلاب سنة 122 هـ (1)، وقيل بل سنة 123. قال الرازي:" ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين، في خلافة هشام بن عبد الملك، وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية، وكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر، وتوفي بقرمونة في صفر سنة ثلاث وعشرين واستقام الأمر لعبد الملك "(2). وعلى أى حال فقد كان هذا الانقلاب بالنسبة للأندلس فاتحة عهد من الاضطراب والفتن والحرب الأهلية المتصلة كما سنرى.
ويجب لكي نعرف عوامل هذا الاضطراب، أن نعود إلى حوادث إفريقية قبل ذلك بثلاثة أعوام أو أربعة. ففي سنة 116هـ عُين عبيد الله بن الحبحاب عامل مصر والياً لإفريقية، وقد بينا فيما سلف كيف كان البربر يضطرمون سخطاً على سادتهم العرب، وشرحنا طرفاً من عوامل هذا السخط، وبينا كيف أن دعوة الخوارج ذاعت بين البربر منذ أواخر القرن الأول، فأقبلو على اعتناقها لما تضمنت من مبادئ الحرية والديمقراطية، والحث على مقاتلة الغاصبين للرياسة والحكم. كذلك رأينا كيف استبسل البربر في الدفاع عن حرياتهم، وانقضوا على الفاتحين غير مرة، وحطموا سلطانهم، وفتكوا بقادتهم وجيوشهم، ولم يخضعوا لنير العرب إلا بعد كفاح رائع، استطال زهاء نصف قرن. ومع أن الأمر استتب للعرب آخر الأمر، واستطاعوا أن يفرضوا سلطانهم ودينهم على البربر، وأن يتخذوهم جندا لجيوش الخلافة في الغرب، فإن البربر لبثوا يعتبرون العرب أجانب غاصبين لحرياتهم، ولبثت القبائل البربرية القاصية، تضطرم دائما بنزعات الخروج والثورة. وكانت مثل هذه العواطف تحفز البربر في اسبانيا، إلى مخاصمة العرب والسخط عليهم والتربص بهم، خصوصاً لأنهم رغم قيامهم بمعظم أعباء الفتح، لم يفوزوا بكثير من مغانمه، واستأثر العرب دونهم بالسلطان والحكم. وفي ذلك يقول ابن خلدون: " ثم نبضت فيهم (أى البربر) عروق الخارجية
(1) البيان المغرب ج 3 ص 29.
(2)
المقري عن الرازي (نفح الطيب ج 1 ص 110). راجع أيضا عن مصير عقبة، نفح الطيب ج 2 ص 58، وابن الأثير ج 5 ص 92، وابن خلدون ج 4 ص 119.
فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق، وتعددت طوائفهم، وتشعبت طرقها من الإباضية والصفرية. وفشت هذه البدعة وعقدها رؤوس النفاق من العرب، وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة الانتزاء على الأمر، فاختلوا في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر، تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها، إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمر العرب " (1).
ويصف دوزي موقف البربر من العرب فيما يأتي: " اعتنق البربر سكان الأكواخ الحقيرة، كل التعاليم بحماسة لا توصف، ولا ريب أنهم لجهالتهم وسذاجتهم، لم يدركوا شيئاً من تضارب المذاهب ودقائقها، مما تدركه وتسيغه أذهان مستنيرة، فمن العبث إذاً أن نبحث عن أي الفرق كانوا يفضلون الانضمام إليها، وعما إذا كانوا من الحرورية أو الصفرية أو الإباضية، فقد اختلف الرواة في ذلك. ولكنهم كانوا يفقهون من المبادئ. ما يسمح لهم باعتناق المبادئ الثورية والديمقراطية، ومشاطرة الآمال الخيالية التي يذيعها فقهاؤهم في المساواة العامة، وما يقنعهم بأن ظالميهم كانوا آثمين نصيبهم النار. ولما كان الخلفاء منذ عثمان جميعاً غاصبين غير مؤمنين، فلم يكن جريمة أن يثوروا على المظالم الذي يسلبهم أراضيهم ونساءهم. فقد كان هذا حقاً بل كان واجباً. ولما كان العرب قد أبعدوهم عن السلطة، ولم يتركوا لهم إلا ما عجزوا عن أخذه منهم، أعني حكم القبائل، فقد اعتقدوا بسهولة أن نظرية سيادة الشعب، وهي نظرية يعتنقونها في ظل استقلالهم الوحشي منذ غابر العصور، إنما هي نظرية عريقة في الإسلام عريقة في الإيمان. وأن أقل بربري يمكن رفعه إلى العرش برأي الجماعة. وهكذا كان هذا الشعب الذي بولغ في ظلمه، يثيره متعصبون أنصاف فقهاء وأنصاف جند، وينزع إلى رفع هذا النير باسم الله وباسم النبي، وباسم هذا الكتاب المقدس (القرآن) الذي اعتمد عليه آخرون في إقامة الطغيان الرائع "(2).
فلما ولي عبيد الله بن الحبحاب إفريقية، كانت القبائل البربرية تضطرم بعوامل الثورة ولاسيما في المغرب الأقصى، فسير عبيد الله إلى مواطن الثورة في قاصية المغرب جيشاً بقيادة حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فأثخن في هاتيك الأنحاء ومزق
(1) ابن خلدون ج 6 ص 110.
(2)
Dozy: Hist.V.I. P. 149 - 150
جموع الثائرين، وعاد مثقلا بالغنائم والسبي، وسادت السكينة حيناً في المغرب الأقصى. وسير ابن الحبحاب حبيباً في معظم قواته في غزوة بحرية إلى سردانية وصقلية، وعين ولده إسماعيل واليا للمغرب الأقصى. ولكن هذه السكينة كانت ظاهراً خلباً فقط، فقد كان البربر يتوقون إلى الانتقام ويرقبون الفرص. وكان إسماعيل يحفزهم ويثيرهم بعسفه وسوء تصرفه، وذاع فوق ذلك أنه ينوي أن يعتبر مسلمي البربر كالنصارى فيئاً وغنيمة، وأن يفرض الأخماس عليهم. فذكا الهياج واستفحل، وانتهز البربر فرصة غياب الجيش والقادة في صقلية، فأعلنوا الثورة والتفوا حول داعية من الخوارج الصفرية، وهو سقاء يدعى ميسرة المدغري، وانقضوا على طنجة وهزموا حاميتها، وقتلوا قائدهم عمر بن عبد الله، واستولوا عليها ودعوا لميسرة بالخلافة. ثم زحفوا على السوس وهزموا إسماعيل بن عبيد الله وقتلوه، فقويت جموعهم واستفحل شأنهم، وذاعت الدعوة الخارجية في قفار المغرب ذيوعاً كبيراً، واضطرب سلطان العرب في معظم النواحي. فسير ابن الحبحاب في الحال جيشاً إلى المغرب الأقصى بقيادة خالد بن حبيب، واستدعى حبيب بن أبي عبيدة وجيشه من صقلية، ووقعت بين خالد والبربر بقيادة ميسرة معارك شديدة غير حاسمة في ظاهر طنجة، تم ارتد ميسرة إلى طنجة حينا، واغتاله بعض أنصاره لأمور نقموها منه، وولوا مكانه خالد بن حميد الزناتي، وهو من بطون زناتة. فبرز لقتال العرب ثانية، ونشبت بين الفريقين في مكان يعرف بوادي سلف، معارك هائلة هزم فيها العرب، وقتل خالد بن حبيب وجماعة كبيرة من الزعماء والقادة، وسميت الموقعة لذلك بغزوة الأشراف (أوائل سنة 123هـ)(1).
فلما رأى هشام بن عبد الملك عجز ابن الحبحاب عن ضبط الأمور، استدعاه وأقاله، واعتزم أن يخمد ثورة البربر بأي الوسائل، فعين لولاية إفريقية كلثوم ابن عياض القشيري (2)، وسيره إليها في جيش ضخم من عرب الشام، بقيادة ابن أخيه بَلْج بن بشر القشيري (جمادى الثانية سنة 123) واجتمعت إليه أثناء
(1) ابن عبد الحكم ص 217 و218؛ ابن الأثير ج 5 ص 70؛ وابن خلدون ج 6 ص 110
(2)
هكذا يسميه ابن الأثير (ج 5 ص 70)، وابن خلدون (ج 6 ص 111)، والمقري (ج 2 ص 58) ولكن ابن عبد الحكم يسميه كلثوم بن عياض القيسي (ص 218). وكذا بشر ابن بلج فيسميه القيسي بدلا من القشيري (ص 219).
مسيره قوات أخرى من مصر وطرابلس، حتى بلغ جيشه زهاء سبعين ألفا (1). وكان حبيب بن أبي عبيدة قد وقف بجيشه في منتصف الطريق، مترددا لما رآه من استفحال أمر البربر، فاستوقفه كلثوم حتى يصل إليه. وكان حبيب وزعماء العرب في إفريقية، يتوجسون شرا من غلبة الشاميين، فاستقبلوا كلثوما وبَلْجا بفتور، وأبدى بلج بالأخص جفاء وخشونة في معاملة أهل القيروان، وثارت بينه وبين حبيب مناقشات عاصفة، وكاد الخلاف يضطرم بين الفريقين، ويرتد العرب لقتال بعضهم بعضا لولا أن غلبت الحكمة إزاء الخطر الداهم (2). فسارت القوات المتحدة لقتال البربر، وسار البربر لقتالهم من طنجة في جموع زاخرة بقيادة خالد بن حميد الزناتي، ونشبت بين الفريقين على مقربة من طنجة في مكان يعرف بوادي سبسر، معارك هائلة كان النصر فيها حليف البربر، فمزق العرب للمرة الثالثة، وقتل كلثوم وحبيب وكثير من الزعماء والقادة (3). وارتدت فلول العرب إلى القيروان، وفر بلج بن بشر ونفر من الزعماء، منهم ثعلبة بن سلامة الجذامي وعبد الرحمن بن حبيب في بقية من جند الشام إلى سبتة، فامتنعوا بها واستغاثوا بوالي الأندلس عبد الملك بن قطن، ووقعت هذه النكبة في أواخر سنة 123 أو أوائل سنة 124هـ (741 م).
عندئذ سير هشام بن عبد الملك والي مصر، حنظلة بن صفوان الكلبي واليا لإفريقية، فقدمها في ربيع الثاني سنة 124. وكانت دعوة الخوارج قد سرت أيضاً إلى إفريقية الوسطى، بعد أن خرج المغرب الأقصى من قبضة الخلافة، وثار البربر في كثير من النواحي. وخرج منهم في ناحية قابس زعيم يدعى عكاشة الفزاري. وخرج في غرب القيروان زعيم آخر هو عبد الواحد بن يزيد الهواري. فحشد حنظلة كل قواته، ولقي الفزاري أولا، وهزمه وبعد معركة عنيفة ومزق جموعه. ثم التقى بجيش عبد الواحد على مقربة من القيروان بمكان يعرف بالأصنام،
(1) المقري عن ابن حيان ج 2 ص 58.
(2)
ابن عبد الحكم (ص 219)، وابن الأثير (ج 5 ص 70) وراجع أيضا دوزي: Hist، V.I.p. 245.
(3)
يتفق ابن عبد الحكم (ص 220) وابن الأثير (ج 5 ص71) وابن خلدون (ج 6 ص 111)، على أن كلثوم بن عياض قتل في الموقعة، ولكن المقري يقول نقلا عن ابن حيان إنه فر مع بلج إلى سبتة، وعبر إلى الأندلس حيث توفي (ج 2 ص 58 - 59).
ويقال إن جموع البربر بلغت يومئذ ثلاثمائة ألف، وبلغ العرب أربعين ألفاً فقط (1). ونشب بين الفريقين قتال رائع ثبت فيه العرب، ومزق البربر وقتلت منهم جموع عظيمة، وقتل عبد الواحد وأسر الفزاري وقتل بأمر حنظلة. وكانت هذه الموقعة الشهيرة سنة 125هـ (842 م).
وليس من موضوعنا أن نتتبع ما تلا من الحوادث في إفريقية (2)، ويكفي أن نقول إن ثورة الخوارج لبثت على اضطرامها، وظهر الثوار والمتغلبون في كل ناحية، ولبثت إفريقية عصراً آخر فريسة الاضطراب والفوضى، واضمحلت سيادة العرب، ثم زالت غير بعيد لتحل مكانها سيادة المستعربين من البربر والموالي.
(1) ابن الأثير ج 5 ص 71.
(2)
يفصل ابن خلدون هذه الحوادث في ج 6 ص 111 وما بعدها، وكذلك ابن عبد الحكم في أخبار مصر وفتوحها ص 233 وما بعدها.