المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

‌الفصل الثاني

هشام المؤيد بالله

مؤامرة الفتيان الصقالبة لإبعاد هشام وترشيح المغيرة بن الناصر. الحاجب جعفر يناهض مشروعهم. محمد بن أبي عامر يتولى قتل المغيرة. معسكر الصقالبة ومعسكر الأحرار. أخذ البيعة لهشام. وصف ابن الخطيب لأحوال الخلافة الأندلسية يومئذ. اجتماع السلطة في يدي الحاجب جعفر وابن أبي عامر. صبح البشكنسية أم المؤيد. ظهورها في بلاط قرطبة وتمكن نفوذها من الحكم. حظوة الحاجب جعفر لديها. محمد بن أبي عامر. أصله ونشأته. خلاله وطموحه. حظوته لدى صبح. طبيعة العلائق بينهما. مصانعته للحاجب جعفر. نفوذه لدى صبح. جعفر المصحفي يتولى الحجابة وابن أبي عامر الوزارة. الصراع الخفي بين الرجلين. الخليفة الصبي هشام. شغفه باللهو واللعب. حجبه والحجر عليه. دور ابن أبي عامر في ذلك. طموحه في الاستئثار بالسلطة. الفتيان الصقالبة. تفاهم الحاجب وابن أبي عامر على سحقهم. ابن أبي عامر يتولى قيادة الجيش ويغزو أرض النصارى. الخلاف بين الحاجب والقائد غالب. مسير ابن أبي عامر وغالب إلى الغزو. ذيوع شهرة ابن أبي عامر. الصراع بينه وبين المصحفي. محاولة المصحفي التفاهم مع غالب. ابن أبي عامر يحبط خطته. مسير ابن أبي عامر وغالب ثانية إلى الغزو. زواج ابن أبي عامر من أسماء ابنة القائد. تولية غالب منصب الحجابة. تضاءل مكانة المصحفي. إقالته والقبض عليه وعلى أهله. اشتداد ابن أبي عامر في مطاردته. وفاة المصحفي أو قتله في سجنه. شعر له في محنته. ابن أبي عامر يسحق خصومه ومنافسيه. اهتمامه بتنظيم الجيش. اصطناعه للبربر واضطهاده للعرب.

لما توفي الحكم المستنصر بالله، في اليوم الثاني من صفر سنة 366 هـ، حرص خادماه الخصيان، الفتيان فائق وجؤذر، على كتمان خبر موته، وقاما بضبط القصر، واتخاذ التدابير اللازمة، لتسيير الأمور وفق الخطة التي وضعاها. وكانت هذه الخطة، تنحصر في تنحية ولي العهد الصبي هشام عن العرش، واختيار عمه أخى المستنصر، المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، لولاية العرش، وكان الفتيان الصقالبة داخل القصر، زهاء ألف، ولهم نفوذ عظيم، وفي يدهم الحرس الخليفي ومعظمه من الصقالبة والمرتزقة. فكانوا بذلك قوة يخشى بأسها.

استدعى فائق وجؤذر، الحاجب جعفر بن عثمان المُصْحفي، ونبآه بموت الخليفة وعرضا عليه مشروعهما، في تولية المغيرة، فتظاهر الحاجب بالاستحسان والموافقة، ووعدهما بالعمل وفق خطتهما، وتنفيذ ما يشيران به. ثم خرج،

ص: 517

فبادر إلى ضبط أبواب القصر، واستدعى أصحابه من خاصة الحكم، مثل زياد بن أفلح مولى الحكم، وقاسم بن محمد، ومحمد بن أبي عامر، وهشام بن محمد بن عثمان وغيرهم. واستدعى في نفس الوقت عصبته وأشياعه من زعماء البربر، مثل بني برزال، كما استدعى سائر القادة الأحرار، فاجتمع له منهم ومن أجنادهم طوائف ضخمة. فنعى لهم الخليفة، وعرض عليهم مشروع الفتيان الصقالبة، في تنحية هشام وتولية المغيرة، وأوضح لهم أن هذا المشروع خطر داهم عليهم، وأنه إذا ولى المغيرة، واستبد الصقالبة بالأمر، قضى عليهم وعلى دولتهم ونفوذهم، ونكل بهم المغيرة والصقالبة. والأمر بالعكس إذا ولى هشام ولي العهد الشرعي، فإنهم يستبقون سلطانهم ونفوذهم، وتغدو الدولة دولتهم، ويأمنون على أنفسهم وأموالهم. فاقترح بعض أصحابه أن يقتل المغيرة، فيؤمن بذلك شره في الحال والاستقبال، وتطوع محمد بن أبي عامر لتنفيذ هذه المهمة الدموية، حفظاً للوئام والوحدة، فبعث جعفر معه سرية من الجند الأحرار الموثوق فيهم، وسار معه بدر القائد مولى الحكم، في سرية من غلمان الخليفة. وأحاط الجند بدار المغيرة، ثم نفذ محمد بن أبي عامر في نفر من أصحابه، ونبأه بموت الخليفة وجلوس ابنه هشام، وأنه أتى ليتبين حقيقة موقفه، فذعر المغيرة وأكد لابن أبي عامر، أنه مطيع مخلص لكل ما تقرر، وتضرع إليه أن يحقن دمه، وأن يراجع القوم في أمره. ولكن الرد كان قاطعاً في وجوب التخلص من المغيرة، فدفع إليه ابن أبى عامر عدة من رجاله، فقتلوه خنقاً أمام زوجته، ثم أشاعوا أنه قتل نفسه، ودفن في نفس مجلسه، وكان سنه يوم قتل سبعاً وعشرين سنة. ووقع ذلك كله في يوم واحد فقط.

ولما وقف الفتيان فائق وجؤذر على ما وقع، تملكهما السخط والروع، وبادرا إلى الحاجب جعفر، وتظاهرا بالرضا والاستبشار بما وقع، واعتذرا له مما سبق أن اقترحا عليه، وأخذ الفريقان من ذلك الحين، يتوجس كل من صاحبه ويتربص به، وانقسم أهل القصر إلى معسكرين، معسكر الصقالبة يتزعمه فائق وجؤذر، ومعسكر الأحرار يتزعمه الحاجب جعفر ومحمد بن أبي عامر (1)

(1) نقل إلينا ابن بسام في الذخيرة هذه التفاصيل عن ابن حيان (الذخيرة - القسم الرابع المجلد الأول ص 40 و41). ونقلها أيضاً صاحب البيان المغرب ج 2 ص 278 - 280.

ص: 518

وسنرى فيما بعد، كيف تطورت هذه المعركة الخفية بين المعسكرين.

* * *

وهكذا وقع الاتفاق على تولية هشام، وأخذت له البيعة في صبيحة اليوم التالي لوفاة أبيه الحكم، وهو يوم الإثنين الثالث من صفر سنة 366 هـ (أول أكتوبر سنة 976 م). فأجلس الخليفة الصبي هشام، في كرسي الخلافة، ولما يجاوز الثانية عشرة من عمره. وتولى أخذ البيعة له الحاجب جعفر محمد ابن أبي عامر، ولم يعترض أحد على توليته. واستمر أخذ البيعة أياماً، وكتب بها إلى الأقطار، فلم يردها أحد. وينقل إلينا ابن الخطيب، عن ابن حيان، مئات من أسماء الوزراء والعلماء والقضاة والأكابر، من مختلف الطبقات، الذين أخذوا البيعة لهشام، ومنهم كثيرون، ممن اشتركوا في أخذ البيعة له بولاية العهد، في حياة أبيه (1).

ويصف لنا ابن الخطيب حالة الخلافة الأندلسية، وأحوال الأندلس، عند ولاية هشام، فيما يأتي: " بويع ولي عهده (أي الحكم) هشام الملقب بالمؤيد بالله والخلافة قد بلغت المنتهى، وأدركت الجنى، وبلغ طورها، وانتهى دورها، فكانت كمامة ثم زهرة بسّامة، ثم ثمرة بهية، ثم فاكهة شهية؛ وكان بكرسي

العامرية مجلاها، ثم تلاها ما تلاها، وأرخص الحطوط من أعلاها، فكان المال قد ضاقت عنه خزائنه، والمصر قد عظمت مزاياه ومزاينه، والملك تعوذ بالله، أن لا يصيبه عائنُه الذي يعاينه، والمباني قد بلغت السماء سمواً، وزاحمت الكواكب علواً، والبلاد وقد بلغ فيها إلى أقاصي الاهتمام، وفرغت بناتها من لبنات التمام، والآثار الصالحة قد تخلدت، والمآثر الواضحة قد تعددت، والأذهان في بسطة الإسلام قد تبلدت، ورسم الخلاف قد أمحى، والدّولة المراونية قد بركت وسط المرعى، والدعوة قد انتشرت في المغرب الأقصى" (2).

* * *

وهكذا تمت البيعة لهشام المؤيد، بين يوم وليلة، وقضى على كل معارضة، وتوارى الأعمام وبنو العم، واجتمعت مقاليد السلطة في أيدي رجلين، هما الحاجب

(1) أعمال الأعلام ص 48. وقد شغلت أسماء الذين أخذوا البيعة لهشام تسع صفحات كاملة. (48 - 57).

(2)

أعمال الأعلام ص 43 و44.

ص: 519

جعفر بن عثمان المصحفي، ومحمد بن أبي عامر، وهو يومئذ مدير الشرطة، ومتولي خطة المواريث، وناظر الحشم. بيد أنه من الخطأ أن يقال إن السلطة، قد خلصت لهذين الرجلين وحدهما، فقد كان ثمة شخصية ثالثة تشاطرهما السلطان من وراء ستار. تلك هي "صبح" البشكنسية حظية الحكم وأم ولده هشام الخليفة الصبي، وكانت قد منحت الوصاية على ولدها، واكتسبت بذلك صفة شرعية في الاشتراك في الحكم وتدبير الشئون.

فمن ذلك كانت تلك المرأة، التي لبثت ردحاً طويلا من الزمن، تسيطر بسحرها ونفوذها، على خلافة قرطبة، وتشترك في تدبير شئونها، في السلام والحرب، مع أعظم رجالات الأندلس؟ لسنا نعرف الكثير عن نشأتها وحياتها الأولى. وكل ما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية في ذلك، هو أن " صبحاً " كانت جارية بشكنسية أي نافارية. ولا تذكر الرواية إن كانت قد استرقت بالأسر في بعض المواقع، أم كانت رقيقاً بالملك والتداول، ولكنها تصفها بالجارية والحظية؛ وصبح أو صبيحة ترجمة لكلمة Aurora الفرنجية، ومعناها الفجر أو الصباح الباكر، وهو الاسم النصراني الذي كانت تحمله صبح فيما يظهر (1).

وظهرت صبح في بلاط قرطبة في أوائل عهد الحكم المستنصر، وكانت فتاة رائعة الحسن والخلال، فشغف بها الحكم، وأغدق عليها حبه وعطفه، وسماها "بجعفر"(2) ولم تلبث أن استأثرت لديه بكل نفوذ ورأي. ثم ازداد هذا النفوذ توطداً وتمكناً، حينما رزق منها الحكم بولده عبد الرحمن ثم بولده هشام حسبما تقدم. ولم تك صبح يومئذ جارية أو حظية فقط، بل كانت ملكة حقيقية، ولا تشير الرواية الإسلامية إلى أنها غدت زوجة حرة للحكم المستنصر، بعد أن كانت جارية وحظية. ولكن هنالك ما يدل، على أن صبحاً، كانت تتمتع في البلاط والحكومة بما يشبه مركز الملكة الشرعية. فالرواية الإسلامية تنعتها بالسيدة صبح أم المؤيد (3) أو السيدة أم هشام. وتصفها التواريخ الإفرنجية "بالسلطانة صبح"(4). بيد أن

(1) البيان المغرب ج 2 ص 268 و269. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 100

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 251 و253.

(3)

راجع الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 43؛ والبيان المغرب ج 2 ص 267 و282.

(4)

Conde: Dominacion، V I. p. 480 & 493 ; Dozy: Hist. Vol، II. p. 190 & 195.

ص: 520

هناك ما يقطع مع ذلك بأنها بقيت من الوجهة الشرعية جارية " وأم ولد " فقط، وأن الحكم توفي عنها دون تغيير في مركزها الشرعي (1).

استمرت صبح أيام الحكم، تتمتع في البلاط والحكومة، بنفوذ لا حد له، وكان الحكم يثق بإخلاصها وحزمها، ويستمع لرأيها في معظم الشئون. وكانت كلمتها هي العليا، في تعيين الوزراء ورجال البطانة، وكان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، يجتهد في خدمتها وإرضائها، ويستأثر لديها ولدى الحكم بنفوذ كبير. واستمرت الحال حيناً على ذلك، حتى دخلت في الميدان شخصية جديدة قدر لها أن تضطلع فيما بعد بأعظم قسط في توجيه مصاير الأندلس. تلك هي شخصية محمد بن أبي عامر الذي تقدم ذكره غير مرة، والذي رأيناه في أواخر عهد الحكم يشغل منصب مدير الشرطة وناظر الخاص.

كان محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري، يرجع إلى أصل من أعرق الأصول العربية. وكان جده عبد الملك بن عامر المعافري، أول من دخل الأندلس مع الفاتحين موسى وطارق، وظهر في الفتح بشجاعته وحسن بلائه. ونزلت أسرة بني عامر بالجزيرة الخضراء، وأقطعت حصن طرُّش الواقع على نهر وادي يارُه، الذي يصب على مقربة من جبل طارق، وظهرت بالعلم والوجاهة، وتولى كثير من أبنائها مناصب القضاء والإدارة؛ وولد محمد بن أبي عامر بحصن طرُّش وأنفق فيه حداثته. وكان أبوه عبد الله، المكني بأبي حفص من أهل العلم والتقى، عالماً بالحديث والشريعة، وكانت أمه بريهة بنت يحيى تنتمي إلى بني تميم. ونشأ محمد على تقاليد أسرته، مؤثراً حياة الدرس، ووفد على قرطبة حَدَثاً، ودرس في معاهدها درساً مستفيضاً، وبرع في الأدب والشريعة، وكان من أساتذته العلامة اللغوي أبو علي القالي البغدادي، وأبو بكر بن القوطية، والمحدث أبو بكر بن معاوية القرشي، وكان طموحاً مضطرم النفس والعزم، رفيع المواهب والخلال. وتنوه بهذا الطموح المدهش معظم الروايات المعاصرة واللاحقة (2). وكان محمد بن أبي عامر في نحو

(1) البيان المغرب ج 2 ص 269. والمعجب للمراكشي ص 74.

(2)

الحلة السيراء ص 148، والبيان المغرب ج 2 ص 274 هـ والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 243. والإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ص 474.

ص: 521

السابعة والعشرين من عمره، حينما أراد الخليفة الحكم أن يعين مشرفاً لإدارة أملاك ولده عبد الرحمن، ورشحه الحاجب جعفر فيمن رشح لتولي هذا المنصب، وأعجبت صبح بذكائه وحسن روائه، وظرف شمائله، فاختارته دون غيره، وعين بمرتب قدره خمسة عشر ديناراً في الشهر، وذلك في أوائل سنة 356 هـ (967 م)(1) ، ولما توفي عبد الرحمن طفلا، عين مشرفاً لإدارة أملاك أخيه هشام. وتقدم في وظائف الدولة بسرعة. فأضيف إليه النظر على الخزانة العامة.

وعلى أمانة دار السِّكة، ثم عين للنظر على خطة المواريث (358 هـ)، فقاضياً لكورة إشبيلية ولبلة. ثم عينه الحكم مديراً للشرطة الوسطى (361 هـ)، وفي أواخر أيامه عينه ناظراً على الحشم (الخاص). ويقدم إلينا ابن حيان وظائف ابن أبي عامر في أواخر أيام الحكم على النحو الآتي: صاحب الشرطة الوسطى، والمواريث، وقاضي إشبيلية، ووكيل الأمير أبي الوليد هشام، وكان عندئذ يلقب " بفتى الدولة "(2).

وهكذا وصل محمد بن أبي عامر إلى أرفع وظائف الدولة والقصر في أعوام قلائل. ويرجع الفضل في تقدمه بتلك السرعة، أولا إلى مواهبه وكفاياته الباهرة، ثم يرجع بالأخص إلى عطف صبح وحمايتها له. وقد انتهى هذا العطف غير بعيد إلى النتيجة الطبيعية. كانت صبح امرأة حسناء، لا تزال في زهرة العمر، وما زال قلبها يضطرم حباً وجوى، وكان سيدها الحكم قد أشرف على الستين، وهدمه الإعياء والمرض؛ أما ابن أبي عامر فقد كان فتى في نضرة الشباب، وسيم المحيا، حسن القد والتكوين، ساحر الخلال، وكان من جهة أخرى يفتن في خدمة صبح وإرضائها، ولا ينفك يغمرها بنفيس الهدايا والتحف، حتى لقد أهداها ذات مرة نموذج قصر من الفضة، بديع الصنع والزخرف، أنفق عليه مالا عظيماً، ولم ير مثله من قبل بين تحف القصر وذخائره، وشهده أهل قرطبة حين حمل من دار ابن أبي عامر إلى القصر، فكان منظراً يخلب اللب، ولبثوا

(1) البيان المغرب ج 2 ص 267. وينقل إلينا المقري رواية أخرى عن اتصال ابن أبي عامر بصبح، خلاصتها أنه كان يجلس في دكان عند باب القصر، ليكتب للخدم والمترافعين للسلطان، إلى أن طلبت صبح من يكتب عنها، فعرفها به بعض من كان يأنس الجلوس إليه من فتيان القصر: فاستحسنت كتابته، وعينته أميناُ لبعض شئونها (نفح الطيب ج 1 ص 187).

(2)

المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ - ص 106.

ص: 522

يتحدثون بشأنه حيناً؛ فكانت هذه العناية تقع من قلب صبح أحسن موقع، وتزيدها عطفاً على ابن أبي عامر وشغفاً به. وكان الحكم يشهد هذا السحر الذي ينفثه ابن أبي عامر إلى حظيته، وإلى نساء القصر جميعاً، ويعجب له. ويروى أنه قال يوماً لبعض ثقاته:" ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا حتى ملك قلوبهن، مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا هداياه، ولا يرضين الا ما أتاه، إنه لساحر عظيم أو خادم لبيب، وإني خائف على ما بيده "(1).

ولم تلبث علائق صبح وابن أبي عامر أن ذاعت، وغدت حديث أهل قرطبة، ولم يك ثمة ريب في أنها استحالت غير بعيد إلى علائق غرامية. وربما ارتاب الحكم في طبيعة هذه العلائق، وثاب له رأي في نكبة ابن أبي عامر، وسعى لديه بعض خصومه، واتهمه بأنه يبدد الأموال العامة، التي عين للنظر عليها، في شراء التحف والإنفاق على أصدقائه، فأمره الحكم أن يقدم حساب الخزانة العامة، ليتحقق من سلامتها، وقد كان بالخزانة في الواقع عجز كبير، فهرع ابن أبي عامر إلى صديقه الوزير ابن حُدير، وكان وافر الوجاهة والثراء، فأغاثه وأعانه بماله على تدارك هذا العجز، وتقدم إلى الحكم سليم العهدة برىء الذمة، فزالت شكوكه، وتوطدت ثقته فيه.

واستمر ابن أبي عامر متمتعاً بنفوذه وسلطانه، يندبه الحكم لعظائم المهام والشئون، وكان آخرها ما عهد إليه من تنظيم البيعة بولاية العهد لولده هشام حسبما تقدم؛ وابن أبي عامر خلال ذلك كله، يحرص على عطف صبح، ويستزيده ويصانع الحاجب جعفر، ويجتهد في إرضائه وكسب ثقته، وكان بين الرجلين تباين يفيد منه ابن أبي عامر، فقد كان الحاجب جعفر على ما يبديه من التواضع والبشر والترفق بالناس، قليل الجود، مؤثراً لجمع المال. وكان ابن أبي عامر على نقيضه في ذلك، فكان واسع البذل والجود، حريصاً على اصطناع الرجال، وكانت داره الفخمة بضاحية الرصافة، مقصد الناس من كل صوب، وكانت مائدته معدة دائماً، وكان بذلك كله يخلق جواً من الحب والإعجاب، ويجتذب الصحب والأنصار، بسحر خلاله، ووافر بذله ومروءته، وبارع وسائله وأساليبه (2).

(1) البيان المغرب ج 2 ص 268.

(2)

الذخيرة - القسم الرابع المجلد الأول ص 42. والبيان المغرب ج 2 ص 275.

ص: 523

فلما توفي الحكم المستنصر، وأسندت الخلافة إلى ولده الطفل هشام، اتخذت الأمور وضعاً جديداً، ينذر بتطورات جديدة. وقد رأينا أي دور قام به ابن أبي عامر عندئذ، من الانضمام إلى الحاجب جعفر في معارضة الفتيان الصقالبة، ومقتل مرشحهم للخلافة، المغيرة بن عبد الرحمن الناصر.

* * *

وهكذا تحقق مشروع الحكم بجلوس ولده هشام، وتحقق مشروع الثلاثة ذوي السلطان من بعده، وكان طبيعياً أن تحرص صبح على تولية ولدها لتحكم باسمه، وكان طبيعياً كذلك أن يؤازر ابن أبي عامر صاحبته المحسنة إليه، ليستمر بواسطتها محتفظاً بسلطانه ونفوذه. أما الحاجب جعفر فقد كان له مثل ذلك الباعث في تولية هشام، إذ كان يخشى من تولية المغيرة، وأوليائه الصقالبة، على نفسه وعلى سلطانه. وهكذا جمعت البواعث والغايات المشتركة بين أولئك الثلاثة، الذين قدر لهم أن يسيطروا على تراث الخلافة الأموية. ولكن هذا التحالف الذي أملته الضرورة المؤقتة، لم يكن طبيعياً ولا سيما بين الحاجب جعفر، ومنافسه القوي محمد بن أبي عامر. وكانت العلائق بين صبح وابن أبي عامر، تزداد كل يوم توثقاً، ولا سيما منذ وفاة الحكم. وكان ابن أبي عامر، يرى في تلك المرأة، التي تجتمع في يدها السلطة الشرعية، بوصايتها على ولدها الطفل، أداة صالحة هينة، يستطيع أن يخضعها لإرادته، ويسخرها لمعاونته، على تحقيق مشاريعه البعيدة المدى. وكانت صبح من جانبها تغدق كل عطفها وثقتها، على هذا الرجل القوي الذي سحرها بخلاله، وقوة نفسه، وباهر كفاياته، وتضع فيه كل أملها لحماية العرش الذي يشغله ولدها الفتى، فلم تمض أيام قلائل على تولية هشام، حتى عين حاجب أبيه جعفراً المصحفي حاجباً له، ورقى في نفس الوقت ابن أبي عامر من خطة الشرطة إلى مرتبة الوزارة، وجعله معاوناً للمصحفي في تدبير دولته (1). وبذلك أشرك ابن أبي عامر، في تولي السلطة المباشرة مع المصحفي، ولم يعترض أحد من رجال القصر أو الدولة على ذلك الاختيار، سوى الحاجب جعفر، فقد كان يرى في هذا التعيين انتقاصاً لسلطته، ونكراناً لجميله، بعد أن حمل أعباء السلطة كلها دهراً. وكان يرى في ابن أبي عامر بالأخص منافساً يخشى

(1) البيان المغرب ج 2 ص 270.

ص: 524

بأسه، ويرتاب في نياته وأطماعه. ومن ذلك اليوم يضطرم بين الرجلين صراع عنيف صامت لم يك ثمة شك في نتيجته. وكان ابن أبي عامر هو الأقوى بلا ريب، سواء بمواهبه وقوة نفسه، أو بمؤازرة صبح له. ولم تكن هذه المؤازرة ترجع فقط إلى ذلك الحب القديم، الذي تضطرم به جوانح صبح نحو ذلك الرجل القوي، ولكنها كانت أيضاً ترجع إلى ثقة صبح في مقدرته وبراعته، وفي أنه هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يحمي ملك ولدها الفتى، وأن يوطد الأمن والسلام في المملكة. كان ابن أبي عامر في الواقع هو السيد المطلق، وكانت صبح تفوض إليه كل سلطة وكل أمر، فكان يدير الشئون كلها بمهارة، تثير إعجاب خصومه وأصدقائه على السواء.

وكان الخليفة الفتى هشام المؤيد بالله، ميالا بطبيعته وسنه إلى اللهو والدعة، ولم يكن له شىء من تلك الخلال الرفيعة، التي تهيء الأمراء للاضطلاع بمهام الملك، فكان يلزم القصر والحدائق، ويقضي كل أوقاته في اللهو واللعب، بين الخصيان وآلات الطرب؛ وكان ابن أبي عامر وصبح يشجعان هذه الميول السيئة في نفس الأمير، ويريانها ملائمة لمقاصدهما (1). ومذ ولي هشام، حجر عليه ابن أبي عامر، ولم يسمح لأحد غيره برؤيته أو مخاطبته، وكان يحمل صبحاً بدهائه وقوة عزمه، على أن تختلق الأعذار لحجب ولدها، حتى غدا هشام شبه معتقل أو سجين. وفي ذلك يقول لنا مؤرخ أندلسي:" حجر المنصور ابن أبي عامر على هشام المؤيد، بحيث لم يره أحد مذ ولي الحجابة، وربما أركبه بعض سنين، وجعل عليه برنساً فلا يعرف، وإذا سافر وكل من يفعل به ذلك "(2).

ويقدم إلينا ابن الخطيب تلك الصورة عن الخليفة هشام: " ولما كان هشام مندرجاً في طي كافله الحاجب المنصور، بحيث لا ينسب إليه تدبير، ولا يرجع إليه من الأمور قليل ولا كثير، إذ كان في نفسه وأصل تركيبه مضعفاً مهيناً مشغولا بالنزهات، ولعب الصبيان والبنات، وفي الكبر بمجالسة النساء ومحادثة الإماء، يحرص بزعمه على اكتساب البرْكات والآلات المنسوبات "(3). وفي الفرص النادرة، التي كان يسمح فيها للأمير بالخروج، كان ابن أبي عامر يتخذ أشد

(1) Dozy: Hist. Vol. II. p. 227.

(2)

راجع نفح الطيب ج 1 ص 276.

(3)

أعمال الأعلام ص 58.

ص: 525

التحوطات، فيحيط موكب الأمير حين يخترق شوارع قرطبة، بصفوف كثيفة من الجند، تمنع الشعب من رؤيته أو الاقتراب منه. وكان حجب هشام على هذا النحو، عماد ذلك الانقلاب العظيم الذي اعتزم ابن أبي عامر، أن يحدثه في نظم الدولة، لتمكين سلطانه وجمع سلطات الخلافة كلها في يده.

وكان لابد لتحقيق هذه الغاية الكبرى، أن يسحق ابن أبي عامر كل سلطة

أخرى تعترض سبيله. وكان الصقالبة وعددهم نحو ألف، لا يزالون قوة يحسب حسابها، وكذا كان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ما يزال بحكم منصبه وتأييد عصبته، مسيطراً على السلطة العليا. وكانت الوحشة ما تزال قائمة بين الحاجب وبين الصقالبة، مذ تسبب في فشل مشروعهم لتولية المغيرة بن عبد الرحمن، وحصد شوكتهم بتولية هشام. وكان الحاجب يخشى غدرهم ودسائسهم. وبلغه أن فريقاً من زعمائهم، وعلى رأسهم الفتيان جؤذر وفائق، يدبرون مؤامرة لقب نظام الحكم، فاتخذ بعض التحوطات، ووضع الفتيان تحت الرقابة، وأغلق باب الحديد، الذي كان مخصصاً بدخولهم ودخول أصحابهم إلى القصر، وقصر دخولهم مع بقية الناس على باب السُّدة، وفصل الغلمان من أصحاب جؤذر وفائق، وتفاهم مع ابن أبي عامر على إلحاقهم بحاشيته، وكانوا زهاء خمسمائة، فقبل ابن أبي عامر خدمتهم وفخم بهم شأنه، ثم انحاز إليه بنو برزال، وكانوا قبلا من أصحاب الحاجب جعفر، فقوى بهم أمره، ولم يمض سوى قليل حتى استقال زعيم الصقالبة الفتى جؤذر، وشعر الصقالبة بأن نجمهم قد أفل، وسلطانهم قد انهار، فسرى بينهم التذمر، واجتمع المتمردون حول فتى من زعمائهم يدعى درّي. فتفاهم الحاجب وابن أبي عامر على إزالته، فدعي إلى بيت الوزارة لسؤاله عن أمور نسبت إليه وإلى عماله من رعيته في بياسة؛ ولما قدم دري ورأى كثرة الجند، شعر بالشر، وأراد العودة فمنعه ابن أبي عامر، فهجم عليه وأراد أن يبطش به، فصاح ابن أبي عامر بالجند، فهرع إليه بنو برزال وانهالوا عليه ضرباً، ثم حمل إلى داره وقتل في نفس المساء. ورأى ابن أبى عامر الفرصة سانحة لسحق الصقالبة، فأمر كبيرهم فائقاً وباقي زعمائهم بالتزام دورهم، وفرق بذلك شملهم. ثم جد في مطاردتهم واستصفاء أموالهم، وفشى فيهم القتل والنفي، حتى هلك الكثير منهم، وأبعد الفتى فائق في النهاية إلى

ص: 526

ميورقة فمات هناك، وانهار بذلك سلطان الصقالبة، وأمن الحاجب وزميله ابن أبي عامر شرهم، وتقلد الحاجب جعفر أمر القصر والحُرم بدلا منهم.

ويبدي ابن حيان ارتياحه لسحق الصقالبة واستئصال شأفتهم على هذا النحو.

وقد كان الصقالبة في البداية زينة للدولة والبلاط، وكان ظهورهم بجموعهم المتألقة وأزيائهم الفخمة، يسبغ على القصر، وعلى مواكب الخلافة، طابعاً من الأبهة والعظمة. ولكنهم منذ استأثروا بثقة الخليفة، وبسطوا سلطانهم على القصر والدولة، اشتد طغيانهم، وثقلت وطأتهم على أهل الدولة، وعلى الشعب قاطبة (1).

وسنحت بعد ذلك بقليل فرصة أخرى، لكي يوطد ابن أبي عامر قدمه في السلطة، ويبسط نفوذه على الجيش عصب كل سلطان حقيقي. وذلك أن القشتاليين، كانوا قد انتهزوا فرصة مرض الحكم، وانشغال المسلمين عقب وفاته، فدفعوا غاراتهم جنوباً، ووصلوا إلى مقربة من العاصمة ذاتها، ولم يبد الحاجب في ذلك، ما كان واجباً من الهمة والنجدة، فاهتم ابن أبي عامر، وأشار إلى الحاجب جعفر بتجهيز الجيش واستئناف الجهاد؛ ولكن الحاجب لم يجد من القادة من يعهد إليه بتلك المهمة، فتقدم ابن أبي عامر للاضطلاع بها، وجهز المال والجند، وأشرف بنفسه على اختيار الجند. وخرج من قرطبة في رجب سنة 366 هـ (فبراير 977 م)، وسار شمالا إلى أراضي قشتالة، ثم عطف غرباً حتى أحواز شلمنقة، وحاصر حصن الحامة، ومكانه اليوم محلة تسمى بالإسبانية " لوس بانيوس " Los Banos ( الحمامات)، وتقع في جنوب بلدة (بخار) في السفح الغربي لجبال جريدوس، ثم استولى على الحصن وربضه، وقفل راجعاً إلى قرطبة، مثقلا بالأسرى والغنائم، وذلك لثلاثة وخمسين يوماً من خروجه إلى الغزو (2).

وكان لهذا الظفر الحربي الأول، الذي حقق على يد ابن أبي عامر، أكبر الأثر في نفوس الجند، ونفوس الشعوب قاطبة، فقد رأى الجند فيه قائدهم المظفر، وقد استولى على قلوبهم ببذله ووفرة عطائه، ورأى فيه الشعب حامي المملكة والمدافع عنها، وكان لهذه البداية نتائج بعيدة المدى.

ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى تأهب ابن أبي عامر للسير إلى غزوته

(1) البيان المغرب ج 2 ص 280 و281. والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 44.

(2)

الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 45. والبيان المغرب ج 2 ص 382. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 208.

ص: 527

الثانية؛ وكانت قد وقعت ثمة ظروف جديدة زادت في توطيد مركزه، وفي إضعاف مركز الحاجب جعفر. وكان بين الحاجب، وبين القائد غالب بن عبد الرحمن صاحب مدينة سالم، وأعظم فرسان الأندلس، عداء مستحكم، زاده ما تقوّل به الحاجب على غالب، من تقصيره في الدفاع عن الحدود الشمالية، وعجزه عن رد النصارى، فانتهز ابن أبي عامر هذه الفرصة ليضم غالباً إلى جانبه، وسعى إلى خدمته والدفاع عنه لدى صبح، ولدى الخليفة، حتى خرج المرسوم برفعه إلى خطة " ذي الوزارتين "، وبأن يندب لقيادة جيش الثغر، وأن يندب ابن أبي عامر لقيادة جيش الحضرة. وخرج ابن أبي عامر على أثر ذلك بالجيش إلى غزوته الثانية، وذلك في يوم عيد الفطر سنة 366 هـ (مايو 977 م)، فالتقى بغالب وجيشه في محلة مجريط (1) على طريق وادي الحجارة، واخترق الجيشان معاً أراضي قشتالة القديمة، واستولى المسلمون على حصن مولة، وأصابوا كثيراً من الغنائم والسبي. وكان لجيش غالب التفوق في الأعمال الحربية في تلك المنطقة، ولكن غالباً تنحى عن ذلك لابن أبي عامر، وارتد بجيشه إلى الثغر، بعد أن توثق بينهما التحالف، والتفاهم على سحق الحاجب جعفر عدوهما المشترك؛ وقفل ابن أبي عامر إلى قرطبة بالغنائم والسبي، وقد نسب إليه فخر الظفر على الأعداء، فزاد صيته، وارتفعت هيبته، وتمكنت منزلته لدى الخليفة، وازداد الشعب حوله التفافاً وله حباً (2).

وهنا بدت طلائع المعركة الحاسمة بين ابن أبي عامر وجعفر المصحفي.

فما كاد ابن أبي عامر يصل إلى قرطبة، حتى خرج أمر الخليفة بعزل محمد بن جعفر ولد الحاجب عن حكمها، وتقليده لابن أبي عامر، وبذلك تم لابن أبي عامر السيطرة على المدينة والجيش معاً. وكانت قرطبة تعاني قبل توليه حكمها من اضطراب الأمور، واختلال الأمن، وذيوع الفساد والفسق، فضبط أمرها وقمع أهل الشر والدعارة، فساد بها الهدوء والأمن. ثم استخلف ابن أبي عامر على حكم المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي عامر. فسار في طريقته، في

(1) هي محلة وقلعة حصينة أنشأها الأمير محمد بن عبد الرحمن فوق سفح جبال وادي الرملة على مقربة من طليطلة لصد غارات النصارى. ولبثت تؤدي مهمتها الدفاعية، حتى سقطت في أيدي النصارى في سنة 476 هـ (1083 م). وعلى موقعها القديم أنشئت مدينة مدريد الحديثة.

(2)

الذخيرة - القسم الرابع ج 1 ص 46 و47، والبيان المغرب ج 2 ص 283.

ص: 528

انتهاج الحزم والشدة في ضبط الأمور، ومطاردة أهل البغي والعدوان. كل ذلك والحاجب جعفر، يشهد سلطانه يغيض شيئاً فشيئاً، وسلطان ابن أبي عامر في صعود وتمكن مستمر، ويشهد انصراف الخليفة والشعب عنه، ويشعر في قرارة نفسه بدنو الخاتمة المحتومة.

وخطر للحاجب جعفر أن يقف هذا التحول الخطر، باستمالة القائد غالب ومصالحته، فطلب يد ابنته أسماء زوجاً لابنه محمد، فاستجاب غالب إلى طلبه، وكادت تتم المصاهرة، ولكن سرعان ما علم ابن أبي عامر بذلك المشروع، فثارت نفسه، وكتب إلى غالب يناشده الولاء، ويخطب ابنته لنفسه، وعضده في ذلك أهل القصر، فنزل غالب على تلك الرغبة، وعدل إلى مصاهرة ابن أبى عامر، وتم العقد في أوائل المحرم سنة 367 هـ (977 م). ولم يمض قليل على ذلك حتى خرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثالثة، فسار إلى طليطلة في أوائل صفر، حيث التقى مع صهره غالب. وسار الإثنان في قواتهما شمالا، وافتتحا في طريقهما بعض الحصون، ثم قصدا إلى مدينة شلمنقة الواقعة جنوب غربي مملكة ليون فاقتحماها، وعاثا في أرباضها، واستوليا على كثير من الغنائم والسبي؛ وعاد ابن أبي عامر إلى قرطبة لأربعة وثلاثين يوماً فقط من خروجه، ومعه عدد عظيم من رؤوس النصارى. فاغتبط الخليفة بصنعه، ورفعه إلى خطة الوزارتين أسوة بصهره غالب، ورفع راتبه إلى ثمانين ديناراً في الشهر، وهو راتب الحجابة في ذلك العصر.

وما كاد ابن أبي عامر يستقر في قرطبة، حتى اتخذت الأهبة لإتمام زفافه.

فأحضرت أسماء إلى العاصمة في موكب فخم، وكانت من أجمل نساء عصرها وأوفرهن ثقافة وسحراً، وكانت قد تزوجت لأول مرة بالوزير ابن حُدير أيام الحكم، ثم طلقت منه. وزفت أسماء إلى ابن أبي عامر، في حفلات كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء، ونظم الاحتفال في قصر الخليفة، وبإشراف أمه صبح، وأغدقت صبح على العروس أروع الهدايا والتحف. وكان زواجاً سعيداً موفقاً لبث مدى الحياة (1)، وإن كان غالب قد خرج بعد ذلك بأعوام قلائل على صهره حسبما نفصل بعد.

(1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 46 و47، والبيان المغرب ج 2 ص 284 و285، ونفح الطيب ج 1 ص 187. وراجع أيضاً. Dozy: Hist. Vol. II. p. 214 & 215.

ص: 529

واستقدم الخليفة غالباً من الثغر، وقلده خطة الحجابة إلى جانب جعفر، فكانت ضربة جديدة للحاجب. ولكن جعفراً لم يسعه إلا الإذعان والسكوت، وقد أضحى يشعر شعوراً قوياً بالخطر المحدق به، وبأنه لم يبق له من الحجابة سوى الاسم، ولم ينخدع بما كان يبديه نحوه ابن أبي عامر من التلطف والمصانعة، وهو يقبض دونه على كل شىء في القصر والدولة.

وأخيراً وقعت النكبة المرتقبة، ففي الثالث عشر من شعبان سنة 367 هـ، أصدر الخليفة أمره بإقالة الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، والقبض عليه وعلى ولده وآله، والتحفظ علي أموالهم. وبادر ابن أبي عامر إلى محاسبتهم واستصفاء أموالهم، وشدد في مطاردتهم، حتى مزقهم كل ممزق، وعوجل هشام ابن أخي الحاجب فقتل في مطبقه، وكان من أشد الناس عداوة لابن أبي عامر، وزج جعفر إلى ظلام السجن، يعتقل فيه حيناً، ثم يعتقل حيناً في داره، واضطر إزاء التشدد في مطالبته أن يبيع داره الفخمة بالرُّصافة، وكانت من أعظم دور قرطبة، وأمعن ابن أبي عامر في نكايته، واستجوابه بمحضر من زملائه القدماء؛ واستطالت محنة المُصْحفي أعواماً، عانى خلالها أروع آلام المهانة والذلة، وهو يستعطف ابن أبي عامر فلا يرحمه؛ واستمر سجيناً في مطبق الزهراء حتى توفي سنة 372 هـ (982 م). وقيل إنه قتل خنقاً في مطبقه، وقيل إنه دست إليه شربة مسمومة كانت سبب وفاته.

وكان المصحفي حسبما تقدم شاعراً جزلا، وقد أذكت المحنة شاعريته، وصدر عنه في مطبقه كثير من القصائد المؤثرة. ومن ذلك قوله:

صبرت على الأيام لما تولت

وألزمت نفسي صبرها فاستمرت

فيا عجباً للقلب كيف اصطباره

وللنفس بعد العز كيف استذلت

وما النفس إلاحيث يجعلها الفتى

فإن طمعت تاقت وإلا تسلت

وكانت على الأيام نفسي عزيزة

فلما رأت صبري على الذل ذلت

وقلت لها يا نفس موتي كريمة

فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت

ويعلق ابن حيان على محنة المصحفي بقوله: " وكانت لله عند جعفر، في إيثاره هشاماً بخلافته، واتباع شهوة نفسه وحظ دنياه، وتسرعه إلى قتل المغيرة لأول وهلة، دون قصاص جريرة استدركته دون إملاء، فسلط

ص: 530

عليه من كان قدر أن يتسلط على الناس باسمه " (1).

وهكذا سار ابن أبي عامر إلى غايته بسرعة مدهشة، ولجأ في تحقيقها إلى أذكى الوسائل وأشدها، واستطاع بعزمه وصرامته وبارع خططه، أن يسحق كل عقبة، وأن يروع كل منافس ومناوىء. ويجمل ابن خلدون معركة ابن أبي عامر مع خصومه في تلك العبارة القوية:" ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطهم عن مراتبهم، وقتل بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام وتوقيعه، حتى استأصل شأفتهم، ومزق جموعهم"(2). ولم يكن مهلك المصحفي، بعد سحق الصقالبة، سوى حلقة جديدة في سلسلة المطاردة الشاملة التي نظمها ابن أبي عامر لاستئصال شأفة خصومه ومنافسيه. ذلك أنه جد في نفس الوقت، في مطاردة كل من يخشى بأسه من بني أمية أو غيرهم من زعماء القبائل، حتى سحق كل من يصلح منهم للولاية والرياسة، ومزقهم في البلاد شر ممزق، كل ذلك تحت شعار حمايته للمؤيد وللعرش، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء العصر:

أبنى أمية أين أقمار الدجى

منكم وأين نجومها والكوكب

غابت أسود منكم عن غابها

فلذاك حاز الملك هذا الثعلب

ولما خلا الجو لابن أبي عامر من أولياء الخلافة، والمرشحين للرياسة، اهتم بتنظيم الجيش. فأنشأ صفوفاً جديدة من المرتزقة من زناتة وصنهاجة وغيرهما من قبائل البربر، ومن الجند النصارى من ليون وقشتالة ونافار، وبذل لهم الأجور السخية، واجتذب قلوبهم بعدله ورفقه وجوده. وغير أنظمة الجيش القديمة، فقدم رجال البربر، وأخر زعماء العرب، وأقصاهم عن مناصبهم، وفرق جند القبيلة الواحدة في صفوف مختلفة، وكانوا من قبل ينتظمون في صف واحد.

وكان العرب يتمسكون منذ أيام الفتح بوحدة القبيلة، لأن العصبية كانت في قبائلهم حتى أيام الناصر، ما تزال فتية قوية، ولكن الناصر عمل على سحق القبائل العربية، وإضعاف هيبتها، وجاء ابن أبي عامر فألفى الميدان ممهداً لخططه، فلم تلق سياسته الجديدة كبير معارضة (3).

(1) راجع في محنة المصحفي، الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 48 و49، والبيان المغرب ج 2 ص 285 - 288، والحلة السيراء ص 142.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 147.

(3)

البيان المغرب ج 2 ص 316، وابن خلدون ج 4 ص 148، ونفح الطيب ج 1 ص 137. وراجع: Dozy: Hist. Vol. II. p. 232 & 233

ص: 531