المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولالحاجب المنصور - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الأولالحاجب المنصور

‌الفصل الأوّل

الحاجب المنصور

ابن أبي عامر يطمح إلى حلل الملك. إنشاؤه لمدينة الزهراء وانتقاله إليها. يؤلف حرسه من الصقالبة والبربر. تشدده في الحجر على هشام. موقف صبح من ذلك. ذيوع علاقتها مع ابن أبي عامر. تحولها إلى خصومته والتشهير به. تفاهمها مع القائد غالب. التفاف المعارضين حوله. جعفر بن حمدون الأندلسي يتولى الوزارة. تقاطر البربر من العدوة. الوحشة بين ابن أبي عامر وغالب. نهوض غالب لمحاربته. استعانته بملك ليون. القتال بين غالب وابن أبي عامر. مصرع غالب وهزيمة قواته. الموقعة حسبما يصفها ابن حزم. غزوات ابن أبي عامر. غايته من القيام بها. مسيره إلى ليون ومحاصرته لسمورة. هزيمته للنصارى في شنت منكش. توغله في ليون ثم عوده إلى قرطبة. اتخاذه لسمة الملك وتسميه بالحاجب المنصور. غدره بجعفر الأندلسي. الحرب الأهلية في ليون. اعتراف برمودو بطاعة المنصور. مسير المنصور إلى الغزو. يخترق شرقي الأندلس ويغزو قطلونية. اقتحامه لبرشلونة وتدميرها. حوادث المغرب. مسير الحسن بن كنون إلى غزو المغرب. المنصور يرسل جيشاً لقتاله. مطاردة الحسن وإرغامه على طلب الأمان. مسيره إلى قرطبة واغتياله. ندب الوزير السلمي لحكم المغرب. إجتماع قبائل البربر حوله. مسير زيري زعيم مغراوة إلى قرطبة. القتال بين السلمي وبني يفرن. مقتله وولاية زيري حكم المغرب. مسير زيري ثانية إلى قرطبة. عوده وخيبة أمله. غزو بني يفرن لفاس واحتلالها. القتال بين مغراوة وبني يفرن. اشتداد ساعد زيري. إنشاؤه لمدينة وجدة. غزو المنصور لليون واستيلاؤه على قلمرية. غزوه لنافار. ما تزعمه الرواية النصرانية. عود المنصور إلى غزو ليون. اقتحامه لمدينة ليون وتدميرها. استيلاؤه على سمورة. حوادث الثغر الأعلى. عبد الله ولد المنصور. تآمره مع عبد الرحمن التجيبي والي سرقسطة وآخرين. وقوف المنصور على المؤامرة في خروجه إلى الغزو. اعتقاله لعبد الرحمن التجيبي. فرار عبد الله والتجاؤه إلى غرسية أمير قشتالة. غزو المنصور لقشتالة وهزيمة أميرها. غرسية يرسل عبد الله استجابة لطلب المنصور. إعدامه. تأملات عن هذا الحادث. سانشو ابن غرسية يخرج عليه بتحريض المنصور. المنصور يغزو قشتالة ويستولي على شنت إشتيبن وكلونية. قصة الأيل الذي أهداه صاعد إلى المنصور. مسير المنصور إلى غزو ليون. إذعان برمودو وتعهده بأداء الجزية. المنصور يرشح ولده عبد الملك للولاية من بعده ويوليه الحجابة. اقتصاره على التسمي " بالمنصور ". اختصاصه بألقاب السيادة. إحجامه عن المساس بالخلافة. عوامل هذا الإحجام. موقف صبح أم المؤيد. اتصالها بزيري حاكم المغرب. تحوطات المنصور. تفاهمه مع هشام وموكبهما المشترك. يأس صبح ووفاتها. الوحشة بين المنصور وزيري. مسير عبد الملك إلى العدوة لمحاربة زيري. هزيمة البربر وسقوط فاس. عبد الملك يتولى حكم المغرب. الصلح بين زيري والمنصور. المنصور يغزو جليقية. اختراقه لأراضي البرتغال. استيلاؤه على بازو وقلمرية. توغله في جليقية ومسيره إلى شنت ياقب. يهدم أسوارها وكنيستها العظمى. مسيره شمالا حتى ثغر لاكرونيه. عوده من طريق لاميجو إلى قرطبة. ملك ليون يطلب

ص: 534

الصلح. غزوة أخرى لقشتالة. موقعة صخرة جربيرة. اقتحام المنصور لمدينة برغش. غزوه لنافار. آخر غزوات المنصور. ما تقوله الرواية الإسلامية. موقعة قلعة النسور. ما تقوله عنها الرواية النصرانية. آراء البحث الحديث في شأنها. مرض المنصور ووفاته. قبره بمدينة سالم.

أضحى ابن أبي عامر، بعد أن قضى على كل خصومه ومنافسيه، وحده، سيد الميدان، وأضحى بعد أن وضع يده على الجيش، صاحب السلطة العليا دون منازع ولا مدافع. ولم يكن الخليفة هشام المؤيد، بعد ذلك، سوى أداة لينة في يد المتغلب القوي، يوجهها كيف يشاء.

على أن ابن أبي عامر لم يقنع بما حققه لنفسه من الاستئثار بالسلطة الفعلية.

وعلى الرغم من أنه لم يفكر يومئذ في الافتئات على شىء من رسوم الخلافة الشرعية، فإنه اتجه إلى أن يتشح بحلل الملك في صورة من صوره، فتكون له ثوباً خلاباً، يتوج سلطانه الفعلي، بمظاهر العظمة والأبهة الملوكية.

ولم يكن اتجاه ابن أبي عامر يقف عند تحقيق المظهر دون غيره، ولكن كانت لديه أسباب عملية قوية، تدعو إلى التحوط من أخطار التآمر والغيلة، وقد أصبح يخشى على نفسه من الوجود في قصر الزهراء، ومما قد يضمره بعض الحاقدين المتربصين (1)، ورأى أن يتخذ له مركزاً مستقلا للإدارة والحكم، يجمع بين السلامة ومظاهر السلطان والعظمة. فوضع أسس مدينة ملوكية جديدة أسماها الزاهرة (368 هـ - 978 م). وقد اختلف في الموقع الذي كانت تحتله الزاهرة لأن البحوث الأثرية الحديثة لم تكشف شيئاً من معالمها، مثلما فعلت بالنسبة لمدينة الزهراء. ويقول البعض إنها كانت تحتل بسيطاً يقع جنوب شرقي قرطبة في منحنى نهر الوادي الكبير، وعلى قيد أميال قليلة منها. ويقول البعض الآخر إنها كانت تحتل بقعة على مقربة من شرقي قرطبة على الضفة الجنوبية لنهر الوادي الكبير (2).

وأنشأ المنصور بالزاهرة قصراً ملوكياً فخماً، ومسجداً، ودواوين للإدارة والحكم، ومساكن للبطانة والحرس، وأقام حولها سوراً ضخماً، ونقل إليها خزائن المال والسلاح، وإدارات الحكم؛ وتم بناء المدينة الجديدة في نحو عامين، وأقطع ما حولها للوزراء والقادة، وأكابر رجال الدولة، فابتنوا الدور العظيمة، وأنشئت الشوارع والأسواق الفسيحة، واتصلت أرباضها بأرباض قرطبة،

(1) البيان المغرب ج 2 ص 294، وأعمال الأعلام 62.

(2)

وهذا يستفاد من أقوال ابن حزم في " طوق الحمامة " ص 110.

ص: 535

وأضحت تنافس المدينة الخليفية في الضخامة والرونق.

وفي أوائل سنة 370 هـ (980 م)، انتقل محمد بن أبي عامر إلى مدينة الزاهرة، واتخذ له حرساً خاصماً من الصقالبة والبربر، وأحاط قصره الجديد بالحراس والحاشية، يرقبون كل حركة وسكنة في الداخل والخارج، وأقفرت بذلك مدينة الزهراء الخليفية، وهجر الوزراء والكبراء قصر الخلافة، وساد الصمت حول مركز الخلافة الشرعي؛ وأنشأ ابن أبي عامر في نفس الوقت حول القصر الخليفي سوراً وخندقاً، وأحكم غلق أبوابه، ووكل بها من يمنع دخول أي شخص أو نبأ إلى الخليفة دون علمه وإذنه. وبث عيونه على هشام وحاشيته، وأشاع أنه قد فوض إليه النظر في سائر شئون المملكة، لكي يتفرغ لشئون العبادة. وهكذا أهمل شأن الخليفة الفتى، وقطعت سائر علائقه مع الخارج، ولبث محجوباً في أعماق قصره، يغمره الخمول والنسيان (1).

ماذا كان موقف صبح إزاء هذا الانقلاب الحاسم في مركز ولدها ومركز الخلافة؟ لاريب أنها كانت بموقفها وتصرفها، أكبر معين لابن أبي عامر على إحداثه، وكان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها، يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه، وكان إعجابها الشديد بمقدرته وتوفيقه يضاعف ثقتها به، ويعميها دائماً عن إدراك الغاية الخطيرة التي يسعى إلى تحقيقها، هذا إذا لم نفترض أن تلك البشكنسية المضطرمة الجوانح، كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر قد انتهت بالخروج عن كل تحفظ، وغدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة، وتناولها بلاذع التعليق والهجو، وظهرت بهذه المناسبة قصائد وأناشيد شعبية كثيرة، في التشهير بحجر ابن أبي عامر على هشام وعلائقه بصبح، فمن ذلك ما قيل على لسان هشام في الشكوى من الحجر عليه:

ْأليس من العجائب أن مثلي

يرى ما قل ممتنعاً عليه

وتملك باسمه الدنيا جميعاً

وما من ذاك شىء في يديه (2)

ومن ذلك ما قيل في هشام وأمه صبح، وقاضيه ابن السليم:

(1) البيان المغرب ج 2 ص 295 و296 و297 و298، وابن خلدون ج 4 ص 148 والحلة السيراء ص 149، ونفح الطيب ج 1 ص 272.

(2)

هذان البيتان ينسبان أيضاً إلى المقتدر العباسي.

ص: 536

اقترب الوعد وحان الهلاك

وكل ما تحذره قد أتاك

خليفة يلعب في مكتب

أمه حبلى وقاض

(1)

وهذه الأناشيد اللاذعة وأمثالها تعبر عن روح العصر، وتدل على ما كان يثيره موقف صبح وسمعتها، من الحملات المرة. وتتفق الرواية الإسلامية في الإشارة إلى هذه العلاقة الغرامية التي استطال أمدها، بين صبح وابن أبي عامر، وإن كانت تؤثر التحفظ والاحتشام، ولم نجد ما يعارضها سوى كلمة أوردها المقري لكاتب مغربي يدافع فيها عن ابن أبي عامر، ويدفع عن صبح تهمة شغفها به، ويرمي أولئك الشعراء بالتحامل والكذب (2).

على أنه يبدو أن الحوادث قد بدأت تتطور من ذلك الحين، وأن موقف صبح قد بدأ يتخذ وجهة أخرى. فقد أدركت صبح أخيراً ما يرمي إليه ابن أبي عامر، وأدركت خطورته على مستقبل ولدها، ومستقبل الأسرة والخلافة، فثارت نفسها سخطاً. وكانت صبح قد جاوزت الأربعين يومئذ، وقد تصرم ذلك الحب القديم، الذي شغفها بابن أبي عامر دهراً، وأضحت تبغض ذلك الرجل الذي سلب ولدها، وسلبها كل نفوذ وسلطة، ومن ذلك الحين تنقلب صبح إلى خصومة ابن أبي عامر ومقاومته. وقد كان من الصعب، إزاء عزم ابن ابي عامر ويقظته، وسلطانه الشامل، ان تستطيع صبح القيام بأية عمل مباشر، فلجأت عندئذ إلى العمل المستتر، وأخذت تبث في نفس ولدها هشام، بغض ابن أبي عامر والسعي إلى مناوأته واسترداد سلطانه منه، وتولى مقاليد الحكم بنفسه، وشهرت بواسطة أعوانها من الناقمين، على ابن أبي عامر، دعاية شديدة، واتهمته بأنه يسجن الخليفة الشرعي ويحكم رغم إرادته ويغتصب سلطته. والظاهر أن صبحاً لم تقف عند هذا الحد من المقاومة الأدبية، وأنها حاولت في نفس الوقت، أن تقوم بمحاولة عملية لمقاومة أبن أبي عامر وإسقاطه.

وربما كان لتدبير صبح وتحريضها، أثر فيما وقع يومئذ بين ابن أبي عامر وصهره القائد غالب، صاحب مدينة سالم. وكان غالب بالرغم من تقلده خطة الوزارة، يقيم بالثغر، بعيداً عن قرطبة. وكان يتمتع في قرطبة وسائر مدن الأندلس

(1) البيان المغرب عن ابن حيان ج 2 ص 300، ونفح الطيب ج 1 ص 281.

(2)

راجع نفح الطيب ج 1 ص 282.

ص: 537

بسمعة عالية في ميدان الفروسية والقيادة، وهو ما كان ينقمه ابن أبي عامر على صهره. وكان المعارضون يرون فيه الرجل الوحيد، الذي يستطيع أن يقارع ابن أبي عامر ويقاومه. فرأى ابن أبي عامر أن يرفع إلى مرتبة الوزارة جعفر بن علي ابن حمدون المعروف بالأندلسي، وكان من مشاهير الفرسان والقادة البربر من زناته، وكان مقيماً بالعدوة، فعبر البحر إلى الأندلس، واستقر في الوزارة، يكنفه ابن أبي عامر بحبه وثقته، ويستعين به على تأليف البربر وكسب محبتهم، ولاسيما بعد أن غدوا يؤلفون معظم حرسه وحاشيته. وتقاطر البربر من العدوة، وابن أبي عامر يستقبلهم بأوفر ضروب البذل والإحسان، ويقوي بهم صفوفه وبطانته. وكان غالب يستشعر الوحشة والريبة من تصرفات صهره، ويتوقع منها سوء العاقبة. ولم يمض قليل حتى ساء التفاهم بين غالب وصهره، فعمد غالب إلى مصانعة ابن أبي عامر، ودعاه أثناء غزوه بالصائفة في أراضي قشتالة، إلى وليمة أقامها بمدينة أنتيسة (1)، إحدى مدن الثغر التي تحت ولايته، وجاء ابن أبي عامر إلى القلعة حيث أقيمت الوليمة، في بعض أصحابه، فانفرد به غالب وشرع في عتابه. ثم اشتد بينهما النقاش، فشهر غالب سيفه على صهره فجأة، فأصابه في بعض أنامله وصدغه، واستطاع ابن أبي عامر أن يفر ناجياً بنفسه، من مأزق بالغ الخطورة. وامتنع غالب بالقلعة، بينما سار ابن أبي عامر لفوره إلى مدينة سالم، حيث دار غالب وأهله، فاستولى عليها وعلى سائر أمواله ومتاعه، وفرقها في الجيش، وعاد إلى الحضرة، وهو يضمر لغالب أسوأ النيات.

وكان غالب أعظم قادة الأندلس وأبرعهم في ذلك العصر، وكانت لديه في الثغر قوات يعتد بها، فنهض لقتال قوات ابن أبي عامر، وغلب عليها، في البداية غير مرة. ثم رأى أن يستعين براميرو الثالث ملك ليون، فأمده ببعض قواته. وسار ابن أبي عامر لمقارعة خصمه في معركة حاسمة. ووقع اللقاء بين الفريقين أمام حصن شنت بجنت San Vicente على مقربة من أنتيسة، ونشبت بينهما معركة شديدة، أبلى فيها غالب وقواته بلاء حسناً وكاد يحرز النصر في البداية، ولكنه ما لبث أن سقط ميتاً عن جواده خلال المعمعة، ولم يعرف سبب مصرعه لأنه لم يقتل بيد أحد، وحملت رأسه في الحال إلى ابن أبي عامر، فدب الوهن

(1) وهي بالإسبانية Atienza. وهي تقع شمال وادي الحجارة، على مقربة من غربي مدينة سالم.

ص: 538

والذعر إلى قواته، وطاردتها قوات الأندلس، وأمعنت فيها قتلا وأسراً، وهلك من الجند النصارى الذين كانوا يقاتلون إلى جانب غالب عدد جم. وكان بين القتلى أمير نصراني هو راميرو ابن سانشو أباركا من أمراء البشكنس (1). وقتل كذلك في المعركة عدة من الكبراء والقادة المسلمين، الذين كانوا مثل غالب يعارضون سياسة ابن أبي عامر. وكان ذلك في الرابع من محرم سنة 371 هـ (أغسطس سنة 981 م)(2).

وقد روى الفيلسوف ابن حزم عن أبيه الوزير ابن حزم، وزير ابن أبي عامر، وكان ممن صحبه في تلك الموقعة، تفاصيل الموقعة حسبما شهدها. وهو يصف لنا هيئة القائد غالب خلال الموقعة في قوله:" وهو شيخ كبير قد قارب الثمانين عاماً وهو على فرسه، وفي رأسه طرطور عال، وقد عصب حاجبيه بعصابة " قال: وكان قد جمع جموعاً عظيمة من المسلمين والنصارى، فبدأ بالهجوم على الميمنة، وفيها جعفر بن علي وأخوه يحيى والبربر، وحمل عليهم حملة، أزاحتهم عن مواقعهم، ومزقت صفوفهم؛ ثم حمل على الميسرة، وكان فيها الوزير ابن حزم مع غيره من الرؤساء، ففعل بها كما فعل بالأولى. ثم أخذ يتأهب لمهاجمة القلب، وهو تحت قيادة ابن أبي عامر نفسه، وهو يقول:" اللهم إن كنت أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره ". ثم يصف لنا ابن حزم مصرع غالب على النحو الآتي، قال:" فهز فرسه، وترك جبهة القتال وأخذ ناحية إلى خندق كان في جانب عسكره، فظن أصحابه أنه يريد الخلاء، فلما أبطأ عليهم ركبت طائفة منهم نحوه، فوجدوه قد سقط إلى الأرض ميتاً، وقد فارق الدنيا بلا ضربة ولا رمية ولا أثر، وفرسه واقف بجانبه يعلك لحامه، ولا يعلم أحد سبب موته. فلما أدرك أصحابه سقط في أيديهم، وطلبوا حظ أنفسهم، فبادر مبادر منهم بالبشرى إلى ابن أبي عامر، فلم يصدق حتى وافى مواف بخاتمه، ووافاه آخر بيده، ووافاه آخر برأسه ".

هذا وقد بلغت القسوة بابن أبي عامر، أن أمر بالتمثيل بجثمان خصمه الصريع

(1) وهو الذي تسميه الرواية العربية برذمير بن شانجه ويعرف " براي قرجة ".

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 298 و299، وأعمال الأعلام ص 62 و63. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 233 & 234.

ص: 539

الباسل، فحشى جلده بالقطن، وصلب على باب القصر بقرطبة، وصلب رأسه على باب الزاهرة، ولبث كذلك دهراً، حتى أدركه الفيلسوف ابن حزم نفسه، وهو فتى، وذلك عند إنزاله يوم هدم الزاهرة في سنة 399 هـ (1008 م)(1).

* * *

وهنا تبدأ سلسلة هذه الغزوات الشهيرة العديدة، التي شهرها ابن أبي عامر على الممالك الإسبانية النصرانية، واستمر يضطلع بها باستمرار ودون هوادة، والتي خرج منها جميعاً متوجاً بغار الظفر، ولم يهزم في أية واحدة منها.

وتتحدث معظم الروايات الإسلامية عن حروب ابن أبي عامر وغزواته بإفاضة، وتعددها بأكثر من خمسين غزوة. ولكنها لا تقدم إلينا عنها تفاصيل واضحة، ولاسيما عن الزمان والمكان (2)، ويجمل ابن خلدون ذكرها في قوله:" وردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا اثنين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه، لم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش، ولا أصيب له بعث ولا هلكت سرية "(3).

وتجمل الرواية الإسلامية بواعث هذه الغزوات المستمرة في نزعة الجهاد.

ولكن الحقيقة هي أن ابن أبي عامر، كان باضطلاعه بتلك الغزوات المتعاقبة يرمي إلى غاية سياسية بعيدة المدى، لم يفكر فيها أحد قبله من أمراء الأندلس، أو لم يجد لديه وسيلة أو مقدرة لتنفيذها. ذلك أنه فكر في أن يسحق الممالك الإسبانية النصرانية سحقاً تاماً، وأن يقضي على استقلالها القومي، وأن يخضعها جميعاً إلى سلطة الخلافة. وقد خالف ابن أبي عامر في غزواته، سنن أسلافه من الأمراء والقادة، فقد كان هؤلاء يحاربون في معظم الأحيان للدفاع ورد غارات النصارى، ولكن ابن أبي عامر كان هو البادئ بالحرب دائماً، ولم يقبل من أعدائه قط صلحاً أو مهادنة، ولم يقنع إلا بالنصر الكامل.

(1) راجع رواية ابن حزم في رسالة " نقط العروس "(المنشورة في مجلة كلية الآداب بالقاهرة في عدد ديسمبر سنة 1951) ص 81 و82.

(2)

ذكر ابن الأبار في الحلة السيراء أن المؤرخ الكبير أبو مروان ابن حيان قد استوعب هذه الغزوات وفصلها في كتابه الكبير الذي ألفه في أخبار الدولة العامرية. ولكن هذا المؤلف لم يصل بعد إلينا (ص 149).

(3)

ابن خلدون ج 4 ص 148. وكذلك ابن الأثير ج 8 ص 224 وج 9 ص 12.

ص: 540

ولكن سوف نرى أن غزوات المنصور، بالرغم من تحري هذه الغاية البعيدة المدى، وبالرغم مما كان يحالفها من الظفر المستمر، لم تخرج في مجموعها عن أساليب الصوائف والغزوات الإسلامية المأثورة، ولم تتجه بالفعل إلى تحري هذه الغاية الكبرى.

سار ابن أبي عامر عقب الفراغ من أمر صهره غالب، إلى مملكة ليون، ليعاقب ملكها راميرو الثالث على معاونته لخصمه غالب، وتدخله على هذا النحو في شئون الأندلس، وقصد إلى مدينة سمورة الحصينة الواقعة شمالي شلمنقة، وضرب حولها الحصار (أوائل سنة 371 هـ الموافقة 981 م) ولكنه لم يستطع الاستيلاء على قلعتها المنيعة بسرعة، فتركها وعاث فيما حولها من السهول، وأمعنت قواته في التخريب والقتل، وأحرقت مئات القرى والضياع، وهام النصارى على وجوههم في الجبال والوديان ألوفاً مؤلفة. وهرع راميرو الثالث إلى غرسية فرنانديز كونت قشتالة، وسانشو ملك نافار، وعقد الثلاثة تحالفاً لمحاربة ابن أبي عامر، وسارت قواتهم المشتركة للقائه. ونشب القتال بين الفريقين في ظاهر بلدة " روضة " في جنوب غربي " شنت منكش "(1)، فهزم النصارى وقتل منهم عدد كبير، واستولى المسلمون على قلعة شنت منكش الشهيرة؛ ثم زحف ابن أبي عامر بعد ذلك شمالا إلى مدينة ليون عاصمة المملكة، وهنالك وقف راميرو في قواته محاولا اعتراضه، وحاول المسلمون اقتحام المدينة، ووصلوا في هجومهم بالفعل إلى أبوابها، ولكن الشتاء كان قد دخل، وغمرهم البرد والثلوج، فاضطروا إلى وقف القتال، وعاد ابن أبي عامر إلى قرطبة بعد غزوات دامت بضعة أشهر (2).

وعلى أثر هذا النصر، وفي أواخر سنة 371 هـ (أواخر 981 م) اتخذ ابن أبي عامر سمة الملك، فتسمى بالحاجب المنصور، وأمر بالدعاء له على المنابر، ونفذت الكتب والأوامر باسمه عن " الحاجب المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر " ونقش اسمه في السكة، وجرى الوزراء ورجال الدولة على تقبيل يده، عند المثول لديه، واجتمعت حول شخصه، وحول داره، مظاهر الجلالة الملكية، وتم بذلك استئثاره بجميع السلطات والرسوم، ولم يبق من الخلافة الأموية سوى

(1) روضة هي بالإسبانية Rueda، وشنت منكش هي Simancas.

(2)

Dozy: Hist. Vol. II. p. 234-235 ; Recherches (3ème ed.) Vol. I. p. 180-181.

ص: 541

الاسم (1). هذا وسوف نجري منذ الآن فصاعداً على تسمية ابن أبي عامر باسمه الملكي: المنصور.

وكان المنصور حين استقدم جعفراً بن علي الأندلسي، ورفعه إلى خطة الوزارة ليعارض به نفوذ القائد غالب، وليوثق بوجوده مودة البربر وتأييدهم، يتوجس مع ذلك من وجوده وسلطانه، ويخشى أطماعه ومشاريعه، في الناحية الأخرى من البحر، فما كاد ينتهي من أمر غالب، ومن ترتيب رسومه الملكية، حتى قرر أمره، فدعاه ذات مساء إلى مأدبة حافلة، وأغرى به السقاة حتى فقد وعيه، ثم دس عليه في طريقه إلى منزله من قتله، وحمل إليه رأسه سراً (372 هـ).

فتظاهر المنصور بالحزن على ضحيته، وكانت هذه الجريمة المثيرة، عنواناً لبعض النواحي القاتمة، في خلاله وفي وسائله السياسية (2).

وفي ذلك الحين كانت الأحوال قد اضطربت في ليون، وفقد راميرو الثالث من جراء هزائمه المتوالية كل عطف وتأييد، وزاد الشعب نقمة عليه، محاولاته في توسيع سلطانه، وتمكين حكمه المطلق. وما لبثت جليقية أهم ولاياته، أن اضطرمت بالثورة، وقرر أشرافها خلع راميرو، وتولية ابن عمه برمودو (أو برمند) ملكاً مكانه. وفي أكتوبر سنة 982 م، توج هذا الأمير ملكاً على ليون في مدينة شنت ياقب. فسار راميرو إلى محاربته ونشبت بينهما موقعة شديدة غير حاسمة، في بلدة بورتليا دي أريناس، على حدود ليون وجليقية، ثم عاد برمودو إلى جمع قواته، وسار لمحاربة خصمه. مرة أخرى، فهزمه واستولى على مدينة ليون في مارس سنة 984. فالتجأ راميرو إلى مدينة أسترقة، والتمس مساعدة المنصور، على أن يعترف بطاعته؛ ولكنه توفي بعد ذلك بأشهر قلائل؛ وحاولت أمه أن تحكم مكانه بمعاونة المنصور، فأبى المنصور أن يستمع إليها وأدرك برمودو من جهة أخرى أنه لن يستطيع مقاومة الأشراف المعارضين لحكمه إلا بمعاونة المسلمين، فتقدم إلى المنصور، وعرض أن يعترف بطاعته، فقبل المنصور وأمده بجيش، استطاع أن يخضع به سائر المملكة، وأن يوطد حكمه. وبقيت بعد ذلك في مدينة ليون حامية كبيرة من المسلمين.

(1) ابن خلدون ج 4 ص 148، والبيان المغرب ج 2 ص 299، و300.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 301، وأعمال الأعلام ص 65.

ص: 542

وهكذا غدت مملكة ليون الإسبانية النصرانية لأول مرة، ولاية تابعة لحكومة قرطبة، تؤدي لها الجزية، وتأتمر بأوامرها، وكانت هذه أول ثمرة لسياسة الغزو المنظم، التي سار عليها المنصور.

وتحول اهتمام المنصور بعد ذلك إلى شمال شرق الأندلس، فحشد جيشاً ضخماً استعداداً لغزوة هامة، لم تخطر من قبل لأحد من أمراء الأندلس. وخرج في قواته من قرطبة في ذي الحجة سنة 374 هـ (مايو 985 م)، ومعه عدة من الكتاب والشعراء، يجتمعون في مجلسه خلال السير. وتوصف غزوة المنصور هذه بأنها الثالثة والعشرون. وسار المنصور جنوباً صوب إلبيرة (غرناطة)، ثم اتجه شرقاً إلى بسطة، فلورقة، فتدمير، فمرسية، وأقام في مرسية ثلاثة وعشرين يوماً في ضيافة أحمد بن عبد الرحمن المعروف بدجيم بن مروان بن خطاب وولده أبى الأصبغ موسى. وكان ابن خطاب من أعظم رجالات الأندلس وجاهة وثراء وجوداً؛ ومن المدهش حقاً، ما تنقله إلينا الرواية، من أنه استضاف المنصور وسائر حاشيته وجيشه خلال هذه المدة، وتكفل بسائر النفقات، وأبدى من ضروب الجود والبذخ ما يفوق قصص ألف ليلة وليلة، وغدا بذلك من أعظم أصدقاء المنصور وأكثرهم حظوة لديه (1).

وسار المنصور في جيشه بعد ذلك شمالا. وكان يقصد ثغر برشلونة العظيم.

وقد لبثت برشلونة منذ الفتح في أيدي المسلمين نحو قرن من الزمان، وكانت أعظم ثغور الأندلس الشمالية الشرقية، ثم افتتحها عاهل الفرنج شارلمان أو كارل الأكبر في سنة 801 م (185 هـ) أيام الحكم بن هشام، بعد حصار طويل، وبعد أن دافع المسلمون عنها أروع دفاع. واتخذ الفرنج من برشلونة قاعدة لولاية " الثغر القوطي "، الذي نما فيما بعد، واستطاع حكامه الكونتات القوط مع الزمن، أن ينتزعوه من يد الفرنج، وأن يجعلوا منه إمارة مستقلة، هي إمارة قطلونية، التي

(1) الحلة السيراء عن ابن حيان وابن الفياض ص 251 و252 و253. هذا ويقدم إلينا العذري نسبة ابن خطاب كاملة، فهو أحمد بن عبد الرحمن المعروف بدجيم بن مروان بن خطاب بن محمد بن مروان بن خطاب بن عبد الجبار الداخل. ويقول لنا إنه استضاف المنصور وجميع عسكره أياماً، وصنع له فيما صنع حماماً كان ماء الحمام من ماء الورد الطيب للغاية وأهدى له قناطر من الفضة الخالصة. (العذري في كتاب ترسيع الأخبار السابق ذكره ص 15).

ص: 543

حافظت عصراً على استقلالها، ثم اندمجت بعد ذلك في مملكة أراجون القوية (1).

واخترق المنصور بجيشه قطلونية، وهزم قوات أميرها الكونت بوريل، في أواخر شهر يونيه، وأشرف على ظاهر برشلونة في اليوم الأول من يوليه، ولم تمض أيام قلائل حتى اقتحم المسلمون المدينة، ودخلوها في يوم الاثنين منتصف صفر، سنة 375 هـ، الموافق سادس يوليه سنة 985 م (2). ودمر المسلمون المدينة وأحرقوها، وقتلوا معظم أهلها، وتركوها قاعاً صفصفاً، وكان بين الأسرى أودلرادو نائب كونت برشلونة، فاقتيد إلى قرطبة، حيث قضى في الأسر أعواماً طويلة. والظاهر أن المنصور لم يحاول الاحتفاظ ببرشلونة، ولم تكن لديه نية افتتاحها بصورة دائمة، ولكنه قصد أن يدمر قوى النصارى في هذا الطرف النائي من شبه الجزيرة الإسبانية.

* * *

وما كاد المنصور يرتد بجيشه إلى قرطبة، حتى استغرقت حوادث المغرب جل اهتمامه. وقد فصلنا فيما تقدم عند الكلام على عهد عبد الرحمن الناصر، ثم عهد ولده الحكم المستنصر، أدوار الصراع الذي نشب في المغرب الأقصى، بين الفاطميين مذ قامت دولتهم في إفريقية، وبين بني أمية، ورأينا كيف استطاع الحكم المستنصر، بعد سلسلة من الأحداث المثيرة، والمعارك الطاحنة، بينه وبين الفاطميين وحلفائهم الأدارسة بالمغرب، أن يقضي على قوى الشيعة والأدارسة، وكيف استسلم إليه الأدارسة وكبير زعمائهم الحسن بن كنون في سنة 363 هـ، واستقروا حيناً في كنفه في قرطبة، ثم خرجوا منها بعد ذلك بعامين، وساروا إلى مصر حيث استقروا بها في كنف خليفتها الفاطمي العزيز بالله.

وكان العزيز قد شغل في أوائل ولايته، برد خطر القرامطة عن مصر والشأم؛ فلما تمت هزيمة القرامطة، وزال خطرهم (368 هـ)، عاد إلى الاهتمام بشئون المغرب، وثاب له رأي في العمل على استعادة سلطان الدعوة الفاطمية، وسحق

(1) راجع تفاصيل ذلك في القسم الأول من العصر الأول من " دولة الإسلام في الأندلس " ص 234 - 236.

(2)

تتفق الروايات النصرانية مع الرواية الإسلامية في تحديد تاريخ دخول المسلمين لبرشلونة

على هذا النحو. راجع الإحاطة لابن الخطيب (القاهرة) ج 2 ص 71. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 239. والمراجع.

ص: 544

الدعوة المروانية في المغرب الأقصى، فأوعز إلى نائبه على إفريقية (تونس) بُلُكّين بن زيري بن مناد الصنهاجي، أن يسير في قواته إلى المغرب؛ فبدأ بلكين زحفه على المغرب سنة 369 هـ، فاستولى على مدينة فاس، وهزم سائر الأمراء الذين تصدوا لمقاومته من زناتة وغيرهم، وفر أولئك الأمراء المعارضون جميعاً إلى الشمال، واعتصموا بسبتة، وبعثوا إلى المنصور يستغيثون به. فعهد المنصور يومئذ، إلى جعفر بن علي بن حمدون المعروف بالأندلسي، وهو من زعماء زناته بمحاربة بلكين، وأمده بالجند والمال، والتف حوله باقي الزعماء. ولكن بلكين استمر في تقدمه، رغم كل معارضة، حتى استولى على المغرب كله، ولم يبق منه بيد خصوم الشيعة سوى القطاع الشمالي.

وفي سنة 373 هـ (983 م) بعث العزيز بالله، الحسن بن كنون زعيم الأدارسة، من مصر إلى المغرب تحقيقاً لملتمسه، ليسعى إلى استرجاع ملكه، وقلده عهده، وأمر نائبه على المغرب بلكين أن يمده بالقوات اللازمة؛ وكان العزيز، ووزيره ابن كلِّس تخالجهما أيضاً رغبة في التخلص من الحسن وصحبه، والتخفف من مؤنتهم (1). فسار الحسن إلى المغرب، في جيش صغير أمده به بلكين، ودعا لنفسه، فالتف حوله كثير من البربر، ولاسيما بني يفرن، وجاهروا بطاعته؛ وعلم المنصور بخبره، فبعث ابن عمه الوزير أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن عامر المعروف بعسكلاجة، في جيش كثيف، إلى المغرب، لقتاله والقضاء على دعوته. فعبر البحر إلى سبتة لقتال الحسن، وانضم إليه زعماء مغراوة في قواتهم، وفي مقدمتهم كبيرهم زيري بن عطية بن خزر، ثم بعث المنصور لإمداده جيشاً آخر إلى المغرب بقيادة ولده عبد الملك. وطارد عسكلاجة الحسن، ثم أحاطه بقواته، وحاصره حتى أرهقه الحصار، ولم ير بداً من طلب الأمان والتسليم، على أن يسير إلى الأندلس كسابق عهده، فأجيب إلى طلبه، وأرسل على عجل إلى قرطبة تحقيقاً لرغبة المنصور. ولما علم المنصور بمقدم الحسن، آثر أن ينقض الأمان الذي منحه ابن عمه، وأن يقضي على حياة ذلك الخصم العنيد، الذي تكرر خروجه على حكومة قرطبة، فأنفذ إليه من قتله في الطريق وأتاه برأسه، وذلك في جمادى الأولى سنة 375 هـ (أواخر سنة 985 م) وانهارت بذلك دعوة الأدارسة

(1)" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 19.

ص: 545

بالمغرب الأقصى، وتفرق أنصارهم، وركدت ريحهم.

وعلى أثر ذلك ندب المنصور لحكم المغرب الوزير الحسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي، ومنحه السلطان المطلق، وأمره أن يعمل على استمالة البربر في تلك الأقطار، إذ يجب أن لا ننسى أن البربر كانوا للمنصور ظهيراً، وعوناً على إخضاع القبائل العربية بالأندلس، ومنهم اتخذ المنصور حاشيته وجنده، وكثيراً من رجالات حكومته وجيشه. فسار الوزير إلى المغرب (376 هـ) ونزل بفاس، وضبط شئون البلاد، واجتمعت إليه أمراء زناته ومغراوة، واتخذ من زعيم مغراوة زيري بن عطية عوناً وحليفاً، لما أبداه من إخلاص للدعوة المروانية وتأييدها. واستدعى المنصور زيري للوفود عليه، فسار إلى قرطبة، واحتفى المنصور بمقدمه، وأسبغ عليه كثيراً من مظاهر العطف والتكريم، وأوعز إليه بمقاتلة بني يفرن أولياء الفاطميين؛ فلما عاد زيري إلى المغرب سار مع الوزير الحسن إلى قتال بني يفرن وزعيمهم يدُّو بن يَعلى، ولكنه هزم، وجرح الوزير الحسن، ثم توفي متأثراً بجراحه (سنة 381 هـ). فلما علم المنصور بذلك عقد لزيري على المغرب، وندبه لحكمه، وأمره بضبط الأمور، والتعاون مع جيش الخلافة، وأصحاب الحسن، فاضطلع زيري بمهام الحكم بمقدرة وكفاية، وكان حازماً، قوى النفس والعزم، فقوى أمره وتوطد سلطانه، ولكنه لبث مشغولا بأمر خصومه من بني يفرن وغيرهم، ولبثت الحرب سجالا بينهم مدى حين (1).

وفي سنة 382 هـ (992 م) استدعى المنصور زيري بن عطية، للقدوم عليه للمرة الثانية، فاستخلف زيري على المغرب ولده المعز، وسار إلى قرطبة، وقدم إلى المنصور هدية عظيمة منها طيور نادرة، وحيوانات غريبة، وأسود؛ فأكرم المنصور وفادته، وأنزله بقصر المصحفي، وغمره بالمال والصلات، ومنحه لقب الوزارة، وجدد له عهده على المغرب، وعلى جميع ما غلب عليه؛ ولكن زيري لم يبتهج بلقب الوزارة، بل بالعكس ساءه ذلك، إذ كان يعتبر نفسه في مرتبة الإمارة، فعبر البحر إلى العدوة وفي نفسه مرارة وخيبة أمل.

وما كاد يصل إلى طنجة حتى نمى إليه أن خصومه الألداء بني يفرن وأميرهم يدُّو

(1) راجع في حوادث المغرب الأقصى، ابن خلدون ج 7 ص 28 - 30، والاستقصاء ج 1 ص 88 - 92، و" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 17 - 21.

ص: 546

ابن يعلى، قد انتهزوا فرصة غيبته، فزحفوا على فاس واستولوا عليها، وقتلوا بها كثيراً من رجال مغراوة. فأسرع بالسير إلى فاس، وهناك جمع قواته، ونشبت بين مغراوة وبني يفرن معارك عديدة متوالية، قتل فيها كثير من الطائفتين وانتهت بهزيمة بني يفرن ومقتل أميرهم يدُّو، وبعث زيري برأسه إلى المنصور (383 هـ).

وأصبح زيري بعد هزيمة بني يفرن وركود أمرهم، أعظم أمراء المغرب قوة وبأساً، واستقر سلطانه في سائر أنحاء المغرب، واستمر في الظاهر على ولائه للمنصور، وللدعوة الأموية. ولكن نفسه كانت تجيش بمشاريع أخرى. ولما كانت فاس بموقعها في الطرف الغربي للمغرب، وعلى مقربة من مواطن القبائل الخصيمة، أصبحت لا تصلح لمشاريعه، فقد اعتزم أن ينشىء لنفسه قاعدة جديدة، فأنشأ مدينة وجدة الواقعة جنوبي شرقي مليلة، وعلى مقربة من جنوب غربي تلمسان، وابتنى بها قصبة منيعة وقصراً، وأحاطها بأسوار ضخمة، ونقل إليها أمواله وذخائره، وسكنها بأهله وحشمه، واتخذها قاعدة الحكم (سنة 386 هـ - 996 م) لموقعها المتوسط بين المغربين الأوسط والأقصى (1).

* * *

ولنقف الآن قليلا في تتبع حوادث المغرب، لنعود إلى تتبع حوادث الأندلس، ذلك أن المنصور سار على سنته من المضي في غزو الممالك النصرانية. وكانت الأحوال في ليون ما تزال بعيدة عن الإستقرار، نظراً لما كان يضطرم بين حامية ليون المسلمة، وبين النصارى من الشغب المستمر. وكان برمودو ملك ليون، بعد أن استتب له الأمر، يرقب الفرص لإخراج المسلمين من مملكته، فجد في جمع قواته، وانقض ذات يوم على المسلمين، وطاردهم إلى خارج حدوده، فاضطر المنصور أن يرد بغزو ليون، فسار في قواته نحو الشمال مخترقاً أراضي ليون، ثم سار غرباً إلى مدينة قُلُمرية، الواقعة في شمال البرتغال على مقربة من المحيط، واستولى عليها في يونيه سنة 987 م (378 هـ)، وأمعن في تخريبها حتى لبثت قاعاً صفصفاً مدى سبعة أعوام. وفي خلال ذلك كان البشكنس أو النافاريون قد أغاروا بقيادة ملكهم سانشو على أراضي الثغر الشمالي، فسار المنصور إلى

(1) الإستقصاء ج 1 ص 92.

ص: 547

قتالهم وطاردهم حتى مدينة بنبلونة عاصمة نافار؛ وهنا تقول الرواية النصرانية إن البشكنس انقلبوا إلى الهجوم، وهزموا المسلمين (أواخر 987 م). ثم تزيد على ذلك أن جيشاً من الفرنسيين، قد سار في نفس الوقت إلى برشلونة، تعاونه سفن من البحر، فاستولى عليها، ولم تلبث طويلا في يد المسلمين. وقد رأينا فيما تقدم أن المسلمين حين غزوا برشلونة، لم يقصدوا إلى الاحتفاظ بها، بل اكتفوا بتخريبها وإحراقها.

على أن الرواية الإسلامية تحدثنا عن غزوة نافار هذه، دون أن تشير أية إشارة إلى هزيمة المسلمين، وهي تسميها بغزاة البياض، وتضع تاريخها في سنة 379 هـ (989 م)، وتقول لنا إن المنصور عاد بجيشه إلى سرقسطة، حيث التقى هنالك بولده عبد الملك أثر عوده من حروب المغرب (1).

وما كادت تمضي أشهر قلائل، حتى عاد المنصور لاستئناف الغزو؛ فخرج في ربيع سنة 378 هـ (988 م) في جيش ضخم، وعبر نهر دويرة، واخترق أراضي ليون شمالا، فرابط برمودو معظم قواته بمدينة سمُّورة، اعتقاداً منه أن المنصور سيبدأ بمهاجمتها، ولكن المنصور سار تواً إلى مدينة ليون، فقاومته حيناً لمناعة قلاعها، ولكنه اقتحم أسوارها، بعد قتال رائع، قتل فيه قائدها الكونت جونزالفو كونثالث، ودخلها المسلمون فخربروا صروحها، وأبادوا سكانها، وغادروها أطلالا دارسة. وسار المنصور بعد ذلك جنوباً إلى سمورة، وأحرق في طريقه عدداً من الأديار ومنها ديري إسلونزا وسهاجون العظيمين، وضرب الحصار حول المدينة، فغادرها برمودو سراً، واضطر السكان إلى تسليمها إلى المنصور، فأمر بنهبها، واضطر معظم نبلاء المملكة (الكونتات) إلى الاعتراف بطاعته، ولم يبق بيد برمودو من مملكته، سوى الرقعة الجبلية الشمالية الغربية من جليقية (2).

وفي العام التالي وقعت بالثغر الأعلى حوادث هامة. وكان الثغر الأعلى وقاعدته سرقسطة، لوقوعه في أقصى الشمال بعيداً عن قرطبة، يغدو في فرص

(1) البيان المغرب ج 2 ص 302 و303.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 181. وكذلك Cronica General ; ibid ; Vol. II. p. 446. و Dozy: Hist. Vol. II. p. 244 & 245.

ص: 548

كثيرة مهداً للقلاقل والثورات المتعاقبة. وكان حكامه بنو هاشم التجيبيون الذين غلبوا على بني قسيّ، وانتزعوا سرقسطة لأنفسهم، منذ أيام الأمير عبد الله، يتمتعون بنوع من الإستقلال المحلي، ويحرصون على سلطانهم، بالرغم من اعترافهم الإسمي بسلطان الحكومة المركزية. وكان حاكم الثغر الأعلى وهو يومئذ عبد الرحمن بن مطرِّف التجيبي، يرقب سياسة المنصور، في القضاء على سلطان الحكام المحليين، بتوجس وحذر، ويلتمس السبل لحماية سلطانه، ولم يكن بعيداً عن التفكير في التحالف مع جيرانه من النصارى، في نافار، وقشتالة، كما فعل أسلافه أيام الناصر؛ ولكن تطور الحوادث جعله يتجه اتجاهاً آخر.

ذلك أن عبد الله ابن المنصور بن أبي عامر، كان ناقماً على أبيه لأنه يؤثر أخاه عبد الملك عليه ويصطفيه دونه، ويوليه كل عطفه وثقته. وكان عبد الله يومئذ فتى في الحادية والعشرين من عمره، وكان يشعر أنه يتفوق في الشجاعة والخلال على أخيه الأكبر، ولكن المنصور كان يشك في بنوة ولده عبد الله، ويضن عليه بحبه وثقته، ويخشى نياته ومشاريعه (1). وكان عبد الله قد ذهب إلى سرقسطة، ونزل عند صاحبها عبد الرحمن، وهو متغير النفس على أبيه. فانتهز التجيبي الفرصة، واستمال عبد الله إليه، وأذكى حقده على أبيه، وائتمر الإثنان على الوثوب بالمنصور في أول فرصة والقضاء عليه، على أن يقتسما ملك الأندلس، فيستولي عبد الله على قرطبة وما والاها، ويستولي عبد الرحمن على الثغر وأحوازه، وانضم إليهما في تلك المؤامرة بعض أكابر الجند ورجال الدولة، من المعارضين للمنصور والناقمين عليه، وفي مقدمتهم الوزير عبد الله بن عبد العزيز المرواني

حاكم طليطلة المعروف بالربضي.

وترامت أخبار هذه المؤامرة الخطيرة إلى المنصور قبل نضجها، فأعمل الحيلة في استدعاء ولده عبد الله من سرقسطة، وأبدى له كثيراً من الرفق والعطف، وصرف الوزير المرواني عن حكم طليطلة صرفاً جميلا، ثم أقاله بعد ذلك من الوزارة، واعتقله بداره. ثم خرج بالصائفة غازياً إلى أراضي قشتالة، واستدعى أمداد الثغور، فتوافدت إلى لقائه، وفيهم عبد الرحمن بن مطرف ورجاله.

واجتمعت الحشود بقوات قرطبة في مدينة وادي الحجارة. وهناك أجمع أهل

(1) البيان المغرب ج 2 ص 305 و306.

ص: 549

الثغور بوحي المنصور، على الشكوى من عبد الرحمن بدعوى احتباسه لأرزاقهم، فقرر المنصور إقالته، ولكنه رأى استمالة لبني هاشم، أن يعين مكانه في حكم سرقسطة، ولده يحيى الملقب "بسماحة"(نهاية صفر 379 هـ). ولم تمض على ذلك أيام قلائل، حتى أمر المنصور بالقبض على عبد الرحمن، ومحاسبته، تم أعدم بأمره فيما بعد إثر عوده إلى الزاهرة (1).

واستدعى المنصور في نفس الوقت ولده عبد الله إلى معسكره خشية مما قد يقع منه. ثم سار في قواته شمالا إلى شنت إشتيبن، وبينما هو مشغول بحصارها، إذ فر ولده عبد الله في نفر من غلمانه، ولحق بغرسية فرنانديز كونت قشتالة، فوعده بحمايته وتأييده. فطالب المنصور غرسية بتسليم ولده، وأقسم ألا يكف عن قتاله، حتى ينزل على رغبته، فأبى غرسية، واضطرم القتال بين الفريقين، وسار المنصور شرقاً، واستولى على أوسمة (وخشمة) ووضع بها حامية إسلامية، ثم استولى على " القبة " بعد ذلك بقليل، وتوالت الهزائم على غرسية، حتى اضطر أخيراً إلى أن يتضرع إلى المنصور أن يكف عنه، وتعهد بإجابته إلى سائر مطالبه؛ فقبل المنصور ضراعته، وبعث غرسية عبد الله، في جماعة من القشتاليين، فاستقبله سعد الخادم، مع جماعة من الفرسان، وقبل يده ولاطفه، ثم تركه مع بعضهم، فأنزلوه عن بغله، وأخطروه أن يتأهب للموت، فترجل عبد الله، وقدم نفسه للموت هادئاً، ثبت الجنان رائع الشجاعة، فضرب عنقه عند غروب الشمس من يوم الأربعاء 14 جمادى الآخرة سنة 380 هـ (9 سبتمبر 990 م) وأنفذ برأسه في الحال إلى والده المنصور، فبعث به المنصور مع كتاب الفتح إلى الخليفة، ودفن شلوه في مكان مصرعه، وكان عمره يوم إعدامه ثلاثة وعشرين عاماً. وكانت غزوة المنصور التي وقعت خلالها تلك الحوادث هي غزوته الخامسة والأربعون (2).

وقد يبدو لنا المنصور، بإقدامه على إزهاق ولده، في أشنع الصور وأروعها.

ولكن يجب علينا أن نذكر الظروف التي اضطر فيها المنصور، إلى اتخاذ تلك الخطوة المؤلمة؛ فقد كان ائتمار عبد الله بأبيه، وتحالفه أولا مع التجيبيين سادة الثغر، وخصوم الحكومة المركزية منذ بعيد، ثم التجاؤه بعد ذلك إلى أمير قشتالة

(1) البيان المغرب ج 2 ص 304.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 304 و305. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 247 & 248.

ص: 550

من أقطع الدلائل على مرض نفسه، وخطورة مقصده؛ ولو نجحت المؤامرة، لقضى على سلطان المنصور، وانهارت دعائم الدولة الإسلامية العظيمة، التي نجح المنصور في إقامتها وتوطيدها، ولكان المنصور نفسه حسبما كان يعتقد، من أول ضحاياها (1)، فما كان عبد الله يتردد عندئذ في إزهاق أبيه ليفسح المجال لنفسه.

ولقد كان تصرف المنصور قبل كل شىء تصرفاً سياسياً صارماً، خلواً من كل عاطفة، إلا عاطفة الاحتفاظ بالنفس والسلطان، وكان للمنصور في تصرفه المثير أسوة في كل عصر، وفي كل قطر، بل كانت له أسوة في بني أمية أنفسهم من أمراء وخلفاء، فقد قام عبد الرحمن الداخل بإزهاق ابن أخيه وأبناء عمومته، وأقدم الأمير عبد الله على إزهاق إخوته الثلاثة، وإزهاق ولديه، ثم جاء الناصر لدين الله، فأقدم على إزهاق ولده وأبناء عمومته، كل ذلك بتهمة التآمر، وحرصاً على السلطان. وقد كان القتل، وما زال على كر العصور، سلاح الطغاة الأقوياء، يجعلونه سياجاً لطغيانهم ودولتهم؛ وهكذا جعل المنصور مقتل ولده سياجاً لطغيانه فاهتز له الناس، وملئوا وحشة وروعاً (2).

هذا وأما عبد الله بن عبد العزيز المرواني، أحد أركان المؤامرة، فقد استطاع الفرار في الوقت المناسب، والتجأ إلى حماية برمودو ملك ليون.

وكان من ذيول المؤامرة أن قرر المنصور أن يعاقب غرسية فرنانديز كونت قشتالة، على ما ارتكبه في حقه، باغراء ولده عبد الله وحمايته، فحرض ولده سانشو على الثورة عليه، وأيده عدد كبير من الأشراف، وانتهى سانشو بأن أعلن الحرب على أبيه، وجاهر المنصور بتأييده، ثم انتهز فرصة اضطرام هذه الحرب الأهلية، وسار لمحاربة الكونت، واستولى على شنت إشتيبن وكلونية. ثم ترك جزءاً من قواته لمتابعة الصائفة وعاد إلى قرطبة.

وهنا تقدم الرواية الإسلامية إلينا قصة حادث مدهش، يعتبر من أغرب موافقات القدر، وهو أن شاعر المنصور أبا العلاء صاعدا بن الحسن البغدادي، أهدى إليه أيّلا في عنقه حبل، وسماه غرسية باسم كونت قشتاله، وبعث به إلى القصر يوم السبت منتصف ربيع الثاني سنة 385 هـ، ومعه أبيات جاء فيها:

(1) البيان المغرب ج 2 ص 306.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 305.

ص: 551

يا حرز كل مخوف وأمان كل

مشرد ومعز كل مذلل

عبد جذبت بضبعه ورفعت من

مقداره أهدى إليك بأيِّل

سميته غرسية وبعثته

في حبله ليتاح فيه تفاؤلي

فكان من عجائب القدر، أن تحققت نبوءة الشاعر. ففي نفس اليوم الذي قدم فيه الأيل والقصيدة إلى المنصور، تمت الهزيمة على الكونت غرسية فرنانديز، وجرح وأسر على ضفاف نهر دويرة، على مقربة من بلدة " القصر "، وذلك في يوم 25 مايو سنة 995 (منتصف ربيع الثاني 385 هـ). ثم توفي الكونت بعد أيام قلائل متأثراً بجراحه، وتم الأمر لولده سانشو، ولكنه اضطر أن يؤدي الجزية للمسلمين (1).

وفي خريف هذا العام سار المنصور إلى غزو ليون ومعاقبة ملكها برمودو على حمايته لعبد الله بن عبد العزيز المرواني. وكانت الأحوال قد ساءت في ليون، واستولى الأشراف الإقطاعيون على سائر أراضيها وضياعها، ولم يبق لملكها سوى الاسم، واضطر برمودو أن يغادر مدينة ليون عاصمة ملكه، وأن يتخذ أسترقة عاصمة مكانها. فلما أرهقه المنصور بالحرب غادر أسترقه، والتمس الصلح من المنصور، وسلمه المتآمر عبد الله، وتعهد بدفع الجزية، فأجابه المنصور إلى ما طلب. واستولى فيما بعد على مدينة سمورة، وأسكنها المسلمين وولى عليها عاملا من قبله هو أبو الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي. وهكذا عادت قشتالة وليون إلى دفع الجزية لحكومة قرطبة (2). وأما عبد الله المرواني، فقد ألقى به المنصور إلى السجن مصفداً، وتركه يرزح في أصفاده، بالرغم مما رفعه إليه من القصائد المؤثرة في طلب العفو والمغفرة (3).

* * *

وقد تقدم أن ابن أبي عامر اتخذ سمة الملك منذ سنة 371 هـ (981 م)، وتسمى بالحاجب المنصور، وأمر بالدعاء له على المنابر، وكانت هذه أول خطوة في اتخاذه ألقاب الملك بصفة رسمية، بعد أن استأثر بكل سلطة فعلية.

(1) الذخيرة المجلد الرابع القسم الأول ص 22 و23، وأعمال الأعلام ص 68 و69، والمعجب لعبد الواحد (القاهرة 1914) ص 20، وابن خلدون ج 4 ص 181.

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 181. وراجع Dozy: Hist. Vol. II. p. 249.

(3)

راجع الحلة السيراء ص 113 و114.

ص: 552

وفي سنة 381 هـ (991 م) أى بعد ذلك بعشرة أعوام، اتخذ المنصور خطوة أخرى في سبيل تدعيم صفته الملوكية. فرشح ولده عبد الملك للولاية من بعده، وهو فتى لم يجاوز الثامنة عشرة، ونزل له عن خطة الحجابة والقيادة العليا، وسائر الخطط الأخرى التي كان يتقلدها، واقتصر على التسمى بالمنصور، وأن تنفذ الكتب عنه " باسم المنصور أبي عامر وفقه الله " كما قلد ولده عبد الرحمن خطة الوزارة. ثم كانت الخطوة الثالثة بعد ذلك بخمسة أعوام، حينما أصدر المنصور في سنة 386 هـ (996 م) أمره، بأن يخص بألقاب السيادة من دون سائر الناس في المخاطبات، وأن يرفع ذلك عن سائر أهل الدولة، ونفذت الكتب بذلك، وخوطب المنصور من ذلك الوقت " بالملك الكريم "، وبولغ في تكريمه وتعظيمه في سائر المخاطبات، واستمر ذلك بقية حياته (1).

ولم يك ثمة شك فيما يرمي إليه ابن أبي عامر، من وراء هذه الخطوات المتعاقبة في سبيل الاتشاح بألقاب الملك والسيادة. فهو قد حقق من الناحية العملية أمنيته الجوهرية، بالاستيلاء على الدولة والاستئثار بكل سلطة فعلية. ولكنه كان ويرمي إلى أبعد من ذلك. فهو قد أصبح أعظم وأقوى رجل في الدولة، وقد جمع بين يديه سائر السلطات السياسية والعسكرية. وكان الجيش وهو عماد السلطان والدولة، يتكون معظمه من البربر والنصارى المرتزقة، ويدين للمنصور بمنتهى الولاء والإخلاص، وهو الذي عنى بإنشائه وتنظيمه، وقاده إلى ميادين النصر عشرين عاماً. وإذاً فقد كان يبدو من هذه الظروف كلها، أنه لم يك ثمة ما يحول دون أن يحقق المنصور غايته الأخيرة، فيتوج حكمه بالصفة الشرعية، وينتزع لنفسه ما بقي من رسوم الملك والخلافة، ويؤسس بذلك لنفسه ولعقبه دولة جديدة، تحل مكان الدولة الأموية المحتضرة.

وهنالك ما يدل على أن المنصور، كان يعتزم بالفعل أن يتخذ سمة الخلافة؛ وهذا ما يقرره الفيلسوف ابن حزم، ويروي تفاصيله نقلا عن أبيه الوزير ابن حزم وزير المنصور. وملخص روايته أن المنصور جمع للمشورة في ذلك الأمر قوماً من خواصه منهم ابن حزم، وابن عياش، وابن فطيس من الوزراء، وبعض الفقهاء، وقد صوّب رأيه ابن عياش وابن فطيس، ولكن ابن حزم

(1) البيان المغرب ج 2 ص 315 و316.

ص: 553

عارض فيه، وأعرب عن خوفه من أن يحرك ذلك ساكن الأحوال، وأن المنصور ليس في حاجة إلى مثله، وبيده سائر الأمور؛ وتردد رأي الفقهاء بين الاعتراض والموافقة (1).

على أنه يبدو من جهة أخرى، من تريث المنصور وتمهله في اتخاذ الخطوات المذكورة، أنه كان يخشى نتائج العنف والتسرع. فما الذي كان يخشاه المنصور إذاً، وقد اجتمعت في يده كل السلطات، وأضحى يسيطر على سائر القوى؟ لقد كان نهوض المنصور وتقدمه في سبيل السلطان، مقترناً بظروف لا تساعد على اكتساب محبة الشعب وتأييده الخالص. فقد وقع عن طريق اتصاله بصبح، بالمرأة التي كانت تسيطر على الدولة، والتي كانت علائقه بها تثير كثيراً من الهمس والتعليق اللاذع، وقد وقع على حساب الخليفة الطفل هشام المؤيد، الذي استلب ابن أبي عامر سلطانه وحقوقه تباعاً، ثم حجر عليه بطريقة قاسية تشبه الموت المدني، وقطع علائقه مع العالم، ولم يكن يسمح له بمقابلة أحد، أو بالخروج من القصر؛ وفي الفرص النادرة التي كان يسمح بخروجه فيها، كان يسير في موكبه وعليه برنس يخفي شخصه، ومن حوله صفوف كثيفة من الجند، فلا يستطيع أحد أن يراه أو يقترب منه (2). وكان الشعب القرطبي يشهد أطوار هذه المأساة المؤلمة واجماً ناقماً، ويعتبر الخليفة الشرعي ضحية وشهيداً، يستحق كل عطفه ورثائه. ولم يكف كل ما حققه المنصور من مظاهر السلطان والمجد، وما أحرزه من الظفر المتوالي، وما أسبغه حكمه على الأندلس من أسباب السكينة والعزة ْوالأمن والرخاء، لم يكف ذلك كله لحمل الشعب على نسيان قضية خليفته الشرعي.

أضف إلى ذلك كله، تلك الوسائل الدموية المثيرة، التي لجأ إليها ابن أبي عامر للتخلص من خصومه ومنافسيه، فقد كانت تباعد بينه وبين الشعب؛ ولم يكن الشعب، إزاء هذه الظروف والعوامل كلها، ليمنح ابن أبي عامر حبه وولاءه، وإن كان من جهة أخرى يخشاه ويرهبه، بل ويعجب بحزمه وعزمه وعبقريته في تسيير الأمور، وفي تأمين البلاد، وإذلال العدو.

ومن ثم كان تريث ابن أبي عامر وتحوطه. فإنه لم يكن واثقاً من إغضاء

(1) راجع نقط العروس لابن حزم ص 77.

(2)

البيان المغرب ج 3 ص 41، ونفح الطيب ج 1 ص 276.

ص: 554

الشعب، عن انقلاب حاسم يقضي به على آخر مظاهر الخلافة الشرعية، وينتزع به تراث بني أمية. ومن جهة أخرى، فقد كانت هناك صبح أم الخليفة المعتقل، المحروم من كل حقوقه وسلطانه؛ وكانت صبح قد غدت بمضي الزمن ألد خصوم ابن أبي عامر وأخطرهم. وقد رأينا كيف بدأت تعمل لمقاومته، مذ شعرت بخطورة مشاريعه، على مركز ولدها، وتحاول أن تجمع من حولها كلمة الناقمين والمعارضين لابن أبي عامر، باسم حماية الخليفة الشرعي، وإنقاذه من نير المتغلب، وكيف وقعت أول محاولة حقيقية لمقاومة ابن أبي عامر، في انقلاب صهره القائد غالب عليه ومحاربته إياه، ولم تبذل من ذلك الحين أية محاولة أخرى في هذا السبيل. هذا وسلطان المنصور على مر الأعوام يتوطد، ومركز هشام المؤيد يزداد سوءاً وانحلالا، وتغيض ذكريات الخلافة ورسومها شيئاً فشيئاً.

فلما عمد المنصور أخيراً إلى اتخاذ ألقاب السيادة والملك، شعرت صبح بأن الضربة القاضية أضحت على وشك الوقوع، واعتزمت ان تضاعف العمل في سبيل حماية ولدها، وتحريره من قبضة المتغلب. فكررت ضد المنصور دعايتها القديمة، واتهمته على يد دعاتها وأعوانها، باغتصاب سلطان الخلافة، ومقاومة رغبة الخليفة في تولي الحكم بنفسه؛ وخطر لها في نفس الوقت أن تتصل بزيري ابن عطية حاكم المغرب، وأن تدفعه إلى مناوأة المنصور، فبعثت إليه رسلها، وأنفذت إليه الأموال سراً، ليحشد الجند ويتأهب للعبور إلى الأندلس. وكان زيري من أولياء بني أمية ومن أشد المخلصين لقضيتهم، وكان ينقم على المنصور سياسته في الحجر على هشام؛ وفوق ذلك فقد كان غاضباً على المنصور، لما أساء به في حقه حين زيارته إلى قرطبة؛ وإذاً فقد لبى زيري دعوة صبح، وأخذ يشهر بالمنصور وسياسته، وحجره على الخليفة، ويدعو إلى مقاومته، ورد الأمر إلى الخليفة الشرعي (1).

وكان المنصور يقظاً، فلم يفته شىء من خطط صبح وأعوانها. وكان أول همه أن يرفع يدها عن الأموال، التي أخذت تفتن في تهريبها بواسطة فتيان القصر، وكان المنصور مريضاً، فبعث ولده عبد الملك في قوة من الجيش إلى قصر الخلافة بقرطبة، ومعه جمهرة من الفقهاء والوزراء، ثم دخل بهم إلى مجلس الخليفة،

(1) البيان المغرب ج 2 ص 302، و" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 27.

ص: 555

وخاطبه في الأمر، فأنكر هشام ذلك، وتبرأ من خصومة المنصور، ووافق على نقل المال، فنقل فوراً إلى الزاهرة، ولم يبق منه في خزائن القصر شىء، ولم تجد توسلات صبح، ولا وعيدها، وتطاولها على عبد الملك شيئاً، ويقال إن ما حمله المنصور يومئذ من المال بلغ عدة ملايين (1).

ولما أبل المنصور من مرضه بعد ذلك بقليل، سار إلى قصر قرطبة مع ابنه عبد الملك وسائر عظماء الدرلة، وانفرد بالخليفة في مجلسه، فاعترف له هشام بالفضل، وحمد اضطلاعه بشئون الدولة، وأقره على سياسته. ثم عمد المنصور إلى اتخاذ خطوة جريئة أخرى، فأخرج هشاماً من القصر، وأركبه في زي الخلافة في موكب عظيم، وركب إلى جانبه، وأمامه ولده عبد الملك، وسار الجيش أمام الموكب ومن خلفه، وتبع الموكب جموع عظيمة من طوائف الجند والفتيان الصقالبة. وشق هذا الموكب الخليفي شوارع قرطبة، بين جموع حاشدة مستبشرة من الشعب، وكان يوماً عظيماً مشهوداً، وكان آية الظفر للمنصور وسياسته (2).

وهكذا فشلت صبح في محاولتها، ولم يسفر ذلك الصراع المتأخر إلا عن توطيد سلطان المنصور، وسحق البقية الباقية من خصومه ومعارضيه. ولم تك صبح في الواقع أهلا لمقاومة ذلك الرجل القوي، خصوصاً بعد أن مكن له في كل شىء، ولم يبق للخليفة الأموي من السلطان سوى الاسم. ولما أيقنت صبح أن المقاومة عبث، وأنه لا منقذ لولدها من ذلك النير الحديدي، لجأت إلى السكينة والعزلة، فلا نسمع عنها بعد ذلك في سير الحوادث، ولا نعرف تاريخ وفاتها بالتحقيق، ولا نعرف إن كانت وفاتها قبل وفاة المنصور أو بعدها؛ وكل ما تقوله الرواية الإسلامية في ذلك، هو أن وفاتها كانت أيام ولدها هشام. والظاهر أنها توفيت بعد ذلك بقليل قبل وفاة المنصور، حوالي سنة 390 هـ (1000 م)، لأننا لا نعثر باسمها بعد ذلك في حوادث الأندلس. وقد نظم شاعر العصر أبو عمر محمد ابن دراج القسطلي، قصيدة موثرة يرثي فيها صبحاً " أم هشام المؤيد بالله "، ومما جاء فيها:

(1) الذخيرة (عن ابن حيان) المجلد الرابع القسم الأول ص 52 - 54، ونفح الطيب ج 2 ص 95.

(2)

الذخيرة المجلد الرابع القسم الأول ص 54.

ص: 556

هل الملك يملك ريب المنو

ن أم العز يصرف صرف القضاء

ألم نر كيف استباحت يدا

هـ حريم الملوك وعلق النساء

هو الرزء أودى بعزم الملو

ك مصاباً وأودى بحسن العزاء

لبيض أياديك في الصالحا

ت تمسك وجه الضحى بالضياء

فتلك مآثرها في التقى

وبذل اللهي ما بها من خفاء

جزاك بأعمالك الزاكيا

ت خيرُ المجازين خير الجزاء

ولقيت من ضنك ذاك الضريح

نسيم النعيم وطيب الثواء (1)

هذا وأما عن موقف زيري بن عطية، وتطاوله على المنصور، فقد رد المنصور بأن قطع عنه رزق الوزارة، ومحا اسمه من ديوانه، واعتبره خارجاً عاصياً؛ ورد زيري على ذلك بأن قطع ذكر المنصور من الخطبة، وطرد عماله بالمغرب، وأعلن الخروج والثورة. فجهز المنصور لقتاله جيشاً عظيماً بإمرة مولاه الفتى واضح، وأمده بالأمول والذخائر؛ وعبر واضح البحر في قواته إلى طنجة، وهناك انضمت إليه جموع غفيرة من بربر غمارة وصنهاجة، وحالفته على قتال زيري. وخرج زيري في قواته والتقى الجمعان بوادي زارات جنوبي طنجة، ونشبت بينهما معارك شديدة متصلة مدى ثلاثة أشهر، ثم انتهت بهزيمة واضح وتمزيق جيشه، ففر في فله إلى طنجة، وكتب إلى المنصور يستصرخ به.

فخرج المنصور من قرطبة إلى الجزيرة الخضراء، وتوافدت إليه الجيوش، ثم أجاز ابنه عبد الملك بمعظم قوات الأندلس وقوادها، وأمره بالتشدد في محاربة زيري والقضاء عليه؛ فعبر عبد الملك البحر في قواته إلى سبتة، واتصل خبره بزيري فتأهب للقائه، وبعث إلى جميع بطون زناتة يستصرخهم لنصرته، فهرعت إليه الوفود والقوات من سائر النواحي، وسار لقتال عبد الملك في جموع عظيمة.

وزحف عبد الملك من طنجة، ومعه الفتى واضح في قوات لا تحصى، والتقى الفريقان بوادي منى من أحواز طنجة، ونشبت بينهما معارك هائلة هزم البربر في نهايتها شر هزيمة، وقتل منهم عدد ضخم، وجرح زيري واستولى عبد الملك على معسكره، ثم طارده حتى مكناسة، ففر إلى الصحراء مع نفر من أصحابه.

(1) وردت هذه القصيدة بأكملها في ديوان ابن دراج المنشور بعناية الدكتور محمود علي مكي (ص 119 - 123) ووردت كذلك في يتيمة الدهر (القاهرة 1947) ج 2 ص 109 و110.

ص: 557

وقد أشاد شاعر العصر ابن دراج القسطلي بعبقرية المنصور وأهباته العسكرية ضد زيري بن عطية في قصيدة طويلة هذا مطلعها:

لك الله بالنصر العزيز كفيل

أجد مقام أم أجد رحيل

هو الفتح أما يومه فمعجل

إليك وأما صنعه فجزيل

وآيات نصر ما تزال ولم تزل

بهن عمايات الضلال تزول

سيوف تثير الحق أنى انتضيتها

وخيل يجول النصر حيث تجول

ومنها:

لئن صديت الباب قوم ببغيهم

فسيف الهدى في راحتيك صقيل

فإن يحيى فيهم بغي جالوت جدهم

فأحجار داود لديك مثول

هدًى وتقى يؤدي الظلام لديهما

وحق بدفع المبطلين كفيل

يجمع له منه قائد النصر عاجل

إليه ومن حسن اليقين دليل

تحمل منه البحر بحراً من القنا

يروع بها أمواجه ويهول

بكل معالاة الشراع كأنها

وقد حملت أسد الحقائق غيل (1)

ودخل عبد الملك مدينة فاس ظافراً، في نهاية شوال سنة 387 هـ (نوفمبر 997 م) وكتب إلى أبيه المنصور بالفتح، فكتب إليه بعهده على المغرب، وعاد واضح بالجيش إلى قرطبة. ولبث عبد الملك والياً للمغرب ستة أشهر فقط، نظم خلالها شئونه، ووطد أمره، ثم عاد إلى الأندلس، وخلفه على المغرب عيسى ابن سعيد صاحب الشرطة، فلبث في ولايته حتى أوائل سنة 389 هـ. ثم أقيل وخلفه الفتى واضح.

وفي تلك الأثناء كان زيري بن عطية قد جمع فلوله من قوات زناتة، ووافته جموع كثيرة من مغراوة، وكانت صنهاجة قد اختلفت على أمرها، فانتهز زيري هذه الفرصة وزحف شرقاً على بلاد صنهاجة، وأوغل فيها، واستولى على تاهرت وتلمسان وبعض بلاد الزاب، وأقام بها الدعوة لهشام المؤيد وللمنصور، ثم كتب إلى المنصور يتقرب إليه ويسترضيه، ويؤكد حسن طاعته من جديد، فعفا عنه المنصور، وأعاده لولاية المغرب، بيد أنه لم يعش طويلا فتوفي في سنة 391 هـ (1001 م)، متأثراً بجراحه التي أصابته في موقعة وادي منى. وخلفه في

(1) وردت هذه القصيدة في ديوان ابن دراج المشار إليه (ص 3 - 9).

ص: 558

الولاية ولده المعز. فأقره المنصور، ولبث المعز والياً للمنصور، مقيماً على دعوة بني أمية، يعمل على توطيدها بالمغرب، إلى أن اضطرب حبل الخلافة بالأندلس (1).

* * *

وبينما كان عبد الملك المنصور بالمغرب يتم إخضاع زيري وشيعته، كان المنصور يتخذ الأهبة لأعظم غزاته. وكانت منطقة جلِّيقية في قاصية اسبانيا الغربية، تعتبر لنأيها ووعورتها، أمنع مناطق اسبانيا النصرانية، وأبعدها عن متناول الفاتحين. ولم يفكر أحد من الغزاة المسلمين، منذ أيام طارق أن يقصد إلى تلك المنطقة الجبلية الوعرة، لما يعترض الوصول إليها من الصعاب الهائلة.

ولكن المنصور اعتزم أن يسير إلى جليقية لسببين: الأول أنها كانت ملاذاً وملجأ لملوك ليون، يمتنعون به كلما أرهقتهم الغزوات الإسلامية، والثاني أنها كانت مستقراً لمدينة شنتياقب (أو شنت ياقب) الدينية، كعبة إسبانيا النصرانية ومزارها المقدس، ورمز زعامتها الروحية. وقد سبق أن عرضنا إلى نشأة هذه المدينة المقدسة، وإلى أسطورة القديس ياقب (أو يعقوب الحواري) التي اتخذت أساساً لإنشائها، وكيف زعمت الأسطورة أن قبر القديس يعقوب، قد اكتشف بمعجزة وقعت في هذه المنطقة، فأنشئت فوقه كنيسة، وأنشئت حول الكنيسة مدينة مقدسة، سميت باسم القديس، وغدت عاصمة اسبانيا الدينية، ومزاراً شهيراً يقصده النصارى من سائر الأنحاء (2). وقد شاء المنصور أن يضرب اسبانيا النصرانية في صميم معقلها القاصي، وفي صميم زعامتها الروحية، بغزو جليقية، واقتحام مدينتها المقدسة. فخرج من قرطبة في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة 387 هـ (3 يوليه 997 م) على رأس قوى الفرسان، وفي الوقت نفسه تحرك الأسطول الأندلسي، الذي أعده المنصور لهذه الغزوة الكبرى، من مرساه أمام قصر أبي دانس Alcacer do sal في مياه البرتغال الغربية، شمالا بحذاء الشاطىء البرتغالي، يحمل المشاة والأقوات والذخيرة؛ واخترق المنصور اسبانيا الغربية شمالا، وهو يعبر الجبال والأنهار العظيمة تباعاً، حتى وصل إلى مدينة

(1) راجع حوادث المغرب في البيان المغرب ج 2 ص 302، وابن خلدون ج 7 ص 33، والإستقصاء ج 1 ص 93 و94، و" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 30 - 35.

(2)

راجع تفاصيل ذلك في القسم الأول من العصر الأول من " دولة الاسلام في الأندلس " ص 220 و221.

ص: 559

قورية؛ ثم زحف نحو الشمال الغربي، واستولى في طريقه على مدينتي بازو وقلمرية (1). وهنا وفد على المنصور، عدد كبير من القوامس (الكونتات) النصارى المعترفين بطاعته، وهم الواقعة أملاكهم في أراضي البرتغال ما بين نهري دويرة ومنيو، وانضموا مع قواتهم إلى جيشه. ثم سار المنصور شمالا حتى وصل إلى نهر دويرة، وهنالك وافاه الأسطول، مخترقاً النهر من مصبه عند ثغر بورتو، فجعل منه جسراً مريحاً لعبور جيشه وعدده وأقواته، واتجه الجيش الإسلامي بعد ذلك صوب جلِّيقية، وهو يقتحم السهل والوعر في شعب الجبال، ثم عبر نهر منيو (منهو)، وسار بحذاء شاطىء المحيط، واستولى في طريقه على بعض الحصون، وخرب عدداً من الأديرة التاريخية في تلك المنطقة. وكانت جموع كبيرة من النصارى، قد فرت إلى الجزائر المقابلة للشاطىء، فعبر المسلمون إليهم من بعض المخائض وأسروا معظمهم، واخترقوا مفاوز الجبال المجاورة للمحيط، واستخرجوا من لجأ إليها من النصارى، واستصفوا غنائمها؛ ثم اقتحموا الجبال إلى السهل، وخربوا بلدة إيليا (إيريا) ونهبوها، وهي أيضاً من المزارات الدينية الشهيرة. وأشرف المسلمون على مدينة شنت ياقب في يوم الأربعاء الثاني من شعبان (11 اغسطس)، فوجدوها خالية من أهلها، وكانوا قد غادروها حين اقتراب الغزاة، فدخلها المسلمون، وهدموا أسوارها وصروحها التاريخية، وكنيستها العظمى، واستولوا على سائر ما فيها من الذخائر والتحف، وأمر المنصور بصون قبر القديس ياقب القائم وسط الكنيسة العظمى، والمحافظة عليه. ولم يجد المنصور بالكنيسة إلا شيخاً من الرهبان يجلس على القبر فسأله عن مقامه، فقال أؤانس يعقوب، فتركه وأمر بالكف عنه. وأخذ المسلمون أبواب المدينة، ونواقيس الكنيسة العظمى، وحملها الأسرى النصارى على كواهلهم حتى قرطبة، فوضعت الأبواب فيما بعد، في سقف الزيادة التي أنشأها المنصور بالمسجد الجامع، وعلقت به النواقيس رؤوساً للثريات الكبرى (2).

وسار المنصور بعد ذلك مخترقاً أراضي برمودو التي امتنع بها وعاث فيها.

(1) هما بالإفرنجية على التوالي Viseu و Coimbra.

(2)

تتبعنا حوادث هذه الغزوة حسبما أوردها ابن عذارى في البيان المغرب ج 2 ص 316 - 319. وراجع ابن خلدون ج 4 ص 181، وأعمال الأعلام ص 67 و68، ونفح الطيب ج 1 ص 193 - 195. وكذلك Cronica General ; ibid ; Vol. II. p. 448 & 449.

ص: 560

ولم يستطع أحد أن يقف في سبيله، ووصل إلى شاطىء المحيط على مقربة من بلدة كرونية (قرجيطة). ثم انحدر جنوباً حتى وصل إلى أراضي الزعماء النصارى (القوامس) الموالين له، والذين صحبوه في غزوته، فأمر بالكف عنها، وتابع سيره حتى وصل إلى مدينة لاميجو في شمال البرتغال الحديثة (وتسميها الرواية الإسلامية لميقة)، وهنالك وزع الهدايا والكسى الفاخرة على الزعماء النصارى، وصرفهم إلى بلادهم، وكتب بالفتح إلى دار الخلافة، ثم عبر نهر دويرة على النحو الذي تقدم وصفه، وقفل راجعاً إلى قرطبة، وفي ركبه عدد كبير من الأسرى، ومقادير عظيمة من الغنائم. وكانت غزوة عظيمة، استبشر بها المسلمون، وقرت نفوسهم، واهتزت لها اسبانيا النصرانية من أقصاها إلى أقصاها، ولبث أثرها العميق أعواماً بعيدة، وكانت غزوة المنصور الثامنة والأربعون.

ونظم ابن دارج القسطلي في تهنئة المنصور بغزوة " شنتياقُه "(شنت ياقب) قصيدة طويلة هذا مطلعها:

اليوم أنكص إبليسٌ على عقبه

مُبرّءاً سبَبُ الغاوين من سببه

واستيقنت شيع الكفار حيث نأت

في الشرق والغرب أن الشرك من كذبه

بشنتياقة لما أن دلفْتَ له

بالبيض كالبدر يسري في سنا شهبه

وجلة الدين والإسلام عاطفة

عليك كالفَلَك الجاري على قُطُبه (1)

وعلى أثر غزوة شنت ياقب اضطر برمودو ملك ليون، بعد الذي أصاب بلاده من الهزائم والمحن، أن يسعى إلى طلب الصلح، فبعث ولده بلايو صحبة معن بن عبد العزيز حاكم سمّورة المسلم، إلى قرطبة طالباً عقد الصلح، فأجابه المنصور إلى ما طلب، وانصرف راجعاً إلى أبيه (2). ولم يعش برمودو طويلا بعد ذلك، فتوفي سنة 999 م، وخلفه في الملك ولده الطفل ألفونسو الخامس، تحت وصاية أحد الأشراف، ولزم مكانه في قاصية جلّيقية.

وقام المنصور بعد ذلك بعدة غزوات أخرى في أراضي النصارى، بيد أننا

لا نظفر في شأنها بتفاصيل دقيقة واضحة. والظاهر من إشارة أوردها صاحب

(1) وردت هذه القصيدة في ديوان ابن دراج المتقدم ذكره (ص 440 - 443).

ويلاحظ أنه قد ورد بها اسم " شنت ياقب "، " شنتياقة " وهو أقرب إلى اسمه الإسباني Santiago

(2)

ابن خلدون ج 4 ص 181.

ص: 561

البيان المغرب، أن المنصور قام بغزوة إلى نافار في سنة 389 هـ (999 م)(1)، وفي العام التالي أعني في سنة 390 هـ (1000 م) سار المنصور إلى أراضي قشتالة في جيش ضخم، وذلك أن الملوك والأمراء والنصارى " من حيز بنبلونة إلى أسترقة "، اتفقوا جميعاً بزعامة سانشو غرسية كونت قشتالة، على مقاومة المنصور والتفاني في قتاله، وحشد سائر أمراء البشكنس وقشتالة وليون قواتهم، وجمع سانشو غرسية سائر قواته في وسط قشتالة، في وادي دويرة الأدنى خلف الحاجز الجبلي الوعر المسمى " صخرة جربيرة " Pena Cervera، وتعاهد الملوك والأمراء النصارى على الثبات وعدم الفرار. ورأى المنصور كعادته أن يبادر أعداءه بالقتال، فسار في قواته تواً إلى مدينة سالم، ونفذ شمالا إلى أراضي قشتالة حيث يرابط أعداؤه، فلما أشرف على صخرة جربيرة، هاله ما رأى من وعورتها، وحصانة المراكز التي يحتلها العدو، ووفرة جموعه وعدده. ورأى سانشو أن يعجل بمهاجمة المسلمين، قبل أن يوطدوا مراكزهم، فاندفع النصارى في هجوم عنيف خاطف على المسلمين، فاضطربت ميمنة المسلمين وميسرتهم، ودب الخلل إليهم، وعمد إلى الفرار كثير منهم، وكادت تدور عليهم الدائرة. ولكن القلب، وكان يقوده ابنا المنصور عبد الملك وعبد الرحمن، ويتألف معظمه من فرق البربر القوية الباسلة، صمد أمام الموجة الهائلة، وهرع المنصور إلى رابية مشرفة على الموقعة، ومن ورائه خاصته وحاشيته، وهو يحث رجاله وقادته على الثبات، فلم يمض سوى قليل حتى انقلبت الآية، وارتد، العدو في غير نظام، وتمكن أحد الزعماء البربر من قتل أحد كونتات بني غومس (2) وجاء برأسه؛ فضاعف المسلمون جهودهم، وشددوا الوطأة على النصارى، وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، وطاردوهم إلى عدة مراحل حتى مزقوهم شر ممزق.

وكانت هذه الوقيعة في اليوم الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة 390 هـ (30 يوليه سنة 1000 م). وخسر المسلمون في الموقعة أكثر من سبعمائة قتيل.

وتابع المنصور زحفه في أراضي قشتالة، وهو يدمر كل شىء في طريقه،

(1) البيان المغرب ج 2 ص 321.

(2)

بني غومس يسمون كذلك في الرواية العربية، وهم أبناء غومس دياث Gomez Diaz أحد زعماء ليون. وقد تزوج ابنة كونت قشتالة فرنان كونثالث، وأصبحوا خلفاء له، وكانت أملاكهم في سالدانيا وكريون وسمورة.

ص: 562

حتى اقتحم عاصمتها " برغش " وذلك في يوم عيد الفطر (4 سبتمبر)، ثم واصل سيره إلى سرقسطة، وقام من هنالك بغزوة في أراضي نافار، حتى أشرف على عاصمتها بنبلونة. وكل ذلك دون أن يجرأ أحد من النصارى على الوقوف في سبيله.

ثم عاد إلى قرطبة وقد أنفق في هذه الغزوات مائة يوم وتسعة أيام. ووجه على أثر عوده إلى قواده، كتاباً ليقرأوه في الجيش. وفيه ينحى المنصور باللائمة على جنده، لما بدا منهم من التخاذل والنكوص، ويذكرهم بأنه لولا شجاعة فئة قليلة، منهم، عاونت بثباتها على إحراز النصر ومحو العار، لانتهى بإقالتهم جميعاً (1).

وكان لهذه الغزوة، وما لابسها من الظروف الدقيقة، أعظم وقع في الأندلس.

وكان لنصر جربيرة مغزى أعمق من أي نصر أحرزه المنصور. وفيه يقول صاعد شاعر المنصور مهنئاً، من قصيدة تعتبر من غرر قصائده:

جددت شكري للهوى المتجدد

وعهدت عندك منه ما لم يعهد

اليوم عاش الدين وابتدأ الهدى

غضاً وعاد الملك عذب المورد

ووقفت في ثاني حنين وقفة

فرأيت صنع الله يؤخذ باليد

من فاته بدر وأدرك عمره

جربير فهو من الرحيل الأسعد

خملت ميامنهم عليك نشيجة

كالسيل يحطم جلمداً عن جلمد

ما ناجزوك وفي الجوانح موضع

لتصبُّر ومكانة لتجلُّد

طال الشقاء عليهم وتبرموا

بالجيش في الذل المقيم المقعد

فتحالفوا لمحنث وتجمعوا

لمفرق وتألفوا لمبدد

وفي ربيع سنة 392 هـ (1002 م) خرج المنصور إلى الغزو لآخر مرة، فاخترق أراضي قشتالة شمالا، ووصل في زحفه حتى بلدة قناليش الواقعة جنوبي ناجرة، ثم سار غربا في اتجاه برغش وعاث في تلك المنطقة (2). ولا تقدم الرواية الإسلامية عن هذه الغزوة تفاصيل أخرى، ولا تحدثنا بالأخص عن أية موقعة حاسمة، وقعت بين المسلمين والنصارى. ولكن بعض الروايات النصرانية الإسبانية القديمة، تذكر لنا في هذا الموطن، أن القوات النصرانية المتحدة، المكونة من جيوش برمودو ملك ليون، وغرسي فرناندز كونت قشتالة،

(1) راجع في تفاصيل هذه الموقعة الشهيرة: أعمال الأعلام ص 69 - 72.

(2)

راجع الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (طبعة القاهرة القديمة) ج 2 ص 72.

ص: 563

وغرسية سانشيز ملك نافار، وقفت في وجه المنصور في ظاهر بلدة صغيرة تسمى " قلعة النسور "(1)، وتقع في غربي مدينة سرية، وأنه وقعت بين المسلمين والنصارى، موقعة هزم فيها المسلمون، وقتل منهم عدة آلاف، وأن المنصور انسحب في قواته تحت جنح الظلام، ثم توفي بعد ذلك بقليل حزناً وغماً، أو من الجراح التي أصابته في الموقعة (2).

ولا بأس من أن نقدم هنا خلاصة لما تذكره الرواية النصرانية من تفاصيل الموقعة، وإليك ما يقوله في ذلك المؤرخ لافونتي. ومما هو جدير بالذكر أنه يرجع بداية حوادثها إلى سنة 1001 م، وفي هذا الوقت كان ملك ليون ألفونسو الخامس الطفل ولد برمودو الثاني، وكان تحت وصاية منندو كونثالث كونت جليقية وزوجته دونيا مايور؛ وكان يحكم قشتالة الكونت سانشو غرسيس ولد غرسي فرناندز، ويحكم نافار الملك سانشو غرسيس الكبير.

يقول لافونتي: إنه في هذه السنة أعني سنة 1001 م، بدت في قلب اسبانيا المسلمة طلائع استعدادات عظيمة، وجمع ولاة شنترين وبطليوس وماردة كل قواتهم، وعبرت حشود عظيمة من الجند البربر إلى الجزيرة، وكانت هي الأمداد التي وعد بإرسالها المعز بن زيري من المغرب إلى المنصور، واجتمعت جيوش إفريقية والأندلس والبرتغال المسلمة في طليطلة، فهل كان المنصور يزمع أن يضرب قشتالة التي أتعبته مقاومتها الضربة الأخيرة؟ لقد تفاهم سانشو أمير قشتالة مع قريبيه ملكي ليون ونافار على التعاون على مقاومة الجيش الإسلامي العظيم، وأدرك الجميع ضرورة الاتحاد والتحالف. واجتمعت الجيوش النصرانية المتحدة في السهل الواقع جنوب مدينة سرية عند منابع دويرة، قريباً من مدينة نوماثيا Numacia القديمة؛ وكان يقود جيوش ليون وجلّيقية والأسترياس الكونت منندو وصي الملك الطفل ألفونسو الخامس، ويقود قوات قشتالة ونافار، كل ملكها.

وقدم المسلمون، وقد انقسمت قواتهم إلى شطرين، قوات الأندلس وقوات البربر؛ وساروا تواً نحو ضفاف نهر دويرة، حتى التقوا بالنصارى في

(1) وهي بالإسبانية Calatanazor

(2)

Cronica General ; ibid ; Vol. II. p. 449.

ص: 564

مكان يسمى " قلعة النسور ". ثم وقعت بين الفريقين مناوشات ختمها مقدم الليل، وفي فجر اليوم التالي تأهب كل فريق، وحشد قواته، واختلط ضجيج المسلمين بصيحات النصارى، وأصوات المزمار بدوي الطبول. واشتبك الفريقان بعنف، وأخذ زعماء كل فريق يحث رجاله ويشجعهم. وكان المنصور يثب هنا وهنالك كأنه نمر، وقد شقت فرسانه صفوف القشتاليين، وساءه ما لقي من مقاومة، فاندفعت قواته إلى الهجوم بعنف، واستمر القتال تحت جو قاتم من الغبار المتصاعد، حتى دخل الليل، فانفصل الجيشان دون أن يكتب النصر لأحدهما.

وأصيب المنصور خلال القتال بجراح عديدة، فأوى إلى خيمته، وقد علم أن كثيراً من قادته قتلوا، وأدرك مبلغ الخسارة الفادحة التي حاقت بجيشه؛ فأصدر أوامره قبل الصبح بالارتداد. وعبر نهر دويرة، وهو على أهبة الحرب حتى لا يفكر النصارى في مطاردته. ثم شعر المنصور خلال السير بالإعياء والخور، ولم يستطع أن يستمر فوق صهوة جواده لخطورة جراحه، فحمل في محفة إلى مدينة سالم.

ثم يقول لافونتي: إن بعض مؤرخينا ومنهم ماريانا يحاول أن يرد هذه الموقعة إلى ما قبل ذلك بثلاثة أعوام، وأنه يوجد منهم من يقرنها بأخطاء ومغامرات خرافية بل مضحكة.

تلك هي خلاصة التفاصيل التي تسبغها الرواية النصرانية على موقعة قلعة النسور. ويلاحظ أن هذه الرواية ترجع الموقعة إلى سنة 1001 م، وأن المؤرخ يتحدث هنا عن طبقة جديدة من الملوك النصارى، وهم خلفاء أولئك الذين تزعم الروايات النصرانية الأخرى تحالفهم على قتال المنصور (1).

وقد حاول بعض الباحثين الإسبان المحدثين، مثل سافدرا وكوديرا التدليل على صحة هذه الرواية وقبولها. ولكن فريقاً آخر من أقطاب البحث الحديث وفي مقدمتهم دوزي، يرون بطلان هذه الرواية، ومخالفتها للحقائق التاريخية الثابتة.

ذلك أن برمودو ملك ليون كان قد توفي في سنة 999 م، وتوفي غرسية فرناندز كونت قشتالة في سنة 995 م، وتوفي غرسية سانشيز ملك نافار في سنة 1000 م،

(1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana. T، III. p. 24-26.

ص: 565

فكيف تتحدث الرواية هنا عن تحالف الملوك الثلاثة، وقد ماتوا جميعاً قبل الموقعة المزعومة؟ هذا ومن جهة أخرى فإن الرواية الإسلامية لا تذكر شيئاً عن هذه الموقعة، وهي لا تضن علينا في مواطن كثيرة بالتحدث عن هزائم المسلمين، وصمتها في هذا الموطن قرينة، على أنه لم يك ثمة موقعة ولا هزيمة (1). ويعلل مؤرخ إسباني معاصر هو الأستاذ مننديث بيدال، أصل هذه الأسطورة بكونه إنما يرجع إلى ما أحرزه سانشو غرسية كونت قشتالة، من نجاح جزئي في بعض الوقائع، وقد حرصت الأساطير القشتالية على تسجيل هذا النجاح، وعمدت إلى المبالغة فيه شيئاً فشيئاً (2).

وعلى أثر اختتام الغزوة، ارتد المنصور بجيشه جنوباً، وقد لحقه الإعياء، واشتد به المرض، فترك جواده، وسار نحو أسبوعين محمولا على محفة، حتى وصل إلى مدينة سالم، وهي معقل الثغر المنيع؛ وكان من أعز أماني المنصور أن تدركه منيته خلال الغزو، مجاهداً في سبيل الله، وكان دائماً يحمل معه أكفانه حيثما سار إلى الغزو، وهي أكفان صنعت من غزل بناته، واشتريت من خالص ماله الموروث. وقد استجاب الله دعاءه، فما كاد يحل بمدينة سالم، حتى شعر بدنو أجله، فاستدعى ولده عبد الملك، وألقى إليه نصائحه الأخيرة. وفي ليلة الإثنين 27 رمضان سنة 392، الموافق 11 أغسطس سنة 1002، توفي المنصور محمد بن أبي عامر، ودفن كرغبته في صحن قصر مدينة سالم، وذلك لسبعة وعشرين عاماً من حكمه، وعمره أربعة وستون عاماً، إذ كان مولده في سنة 328 هـ، ونقش على شاهد قبره هذان البيتان:

آثاره تنبيك عن أخباره

حتى كأنك بالعيان تراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله

أبداً ولا يحمي الثغور سواه (3)

ولبث قبر المنصور بمدينة سالم عصوراً، مزاراً معروفاً، وذلك بالرغم من

(1) راجع: Dozy: Recherches: Vol. I، p. 198-202 ; Hist. V. II. p. 268. وقد لخص العلامة المستشرق كونثالث بالانثيا آراء الفريقين في كتابه:

Historia de la Espana Musulmana (4a Ed.) p. 57 & 58.

(2)

R.M. Pidal: Historia y Epopya p. 21

(3)

الحلة السيراء ص 151.

ص: 566

استيلاء النصارى على المدينة، منذ أواخر القرن الحادي عشر. ويروي لنا ابن الخطيب، أنه عهد إلى بعض رسله ممن وجههم إلى قشتالة، لتأكيد عقد الصلح مع ملكها، بأن يزور في طريقه مدينة سالم، وأن يشاهد قبر المنصور، وأن هذا الرسول قد أخبره عند عوده، أن القبر ما يزال قائماً في مكانه إلا أن رسومه من شعر منقوش، وتاريخ مثبوت، قد عفت ومحيت آثارها، وقد كان ذلك فيما يبدو في وزارة ابن الخطيب الثانية فيما بين سنتي 1361 و1370 م (1).

(1) أعمال الأعلام ص 81.

ص: 567