المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

‌الفصل الثامن

هشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

(1)

ولاية العهد. هشام يخلف أباه عبد الرحمن. خلاله. خروج أخويه سليمان وعبد الله. خضوع عبد الله. مطاردة سليمان وعبوره إلى المغرب. الثورة في الشمال. إخمادها. عدوان النصارى. غزو جليقية وهزيمة النصارى. غزو المسلمين الثغر الفرنجي. موقف حكام الشمال وانحرافهم إلى الفرنج. الاستيلاء على جرندة ومحاصرة أربونة. موقعة فيل دني بين المسلمين والفرنج. غزو جليقية ثانية. هزيمة الجلالقة. وفاة هشام. حزمه وتقواه. منشآته بقرطبة. شغفه بالجهاد. إعزازه للغة العربية. نفوذ الفقهاء في عهده. انتشار مذهب مالك بالأندلس. (2) الحكم بن هشام وخلاله. محاربته لنفوذ الفقهاء وسخطهم عليه. غزوة ألبة والقلاع. الثورة في سرقسطة. عود سليمان وعبد الله عمى الحكم إلى الثورة. استنصار عبد الله بشارلمان. غزو الفرنج للثغر الأعلى ثم انسحابهم. هدوء الثورة في الشمال. الحرب بين الحكم وعمه سليمان. هزيمة سليمان وإعدامه. خضوع عبد الله. سياسة الفرنج نحو اسبانيا المسلمة. تحرشهم بالمملكة الإسلامية. موقف الخلافة العباسية من هذه السياسة. اتحاد الغاية بينها وبين الفرنج. إنتهاز الفرنج لاضطراب الحوادث الداخلية. غزوهم للثغر الأعلى ومحاصرتهم لبرشلونة. دفاع المسلمين الباسل عنها. سقوطها في أيدى الفرنج. إنشاء الفرنج للثغر القوطي. ائتمار الفقهاء والأعيان بالحكم. اكتشاف المؤامرة وسحقها. الثورة في ماردة. الثورة في طليطلة تعيين عمروس ابن يوسف حاكما لها. واقعة الحفرة. حصار الفرنج لطرطوشة. تحرك نصارى الشمال. عيثهم في أراضي المسلمين. مسير الحكم لمحاربتهم. غزو المسلمين لقطلونية. عقد الهدنة بين الحكم وشارلمان. بواعث هذا الصلح. الثورات المحلية. القحط في الأندلس. غزو المسلمين لجليقية. سخط أهل قرطبة على الحكم. تحريض الفقهاء. تحرك العامة وزحفهم على القصر. واقعة الربض. إخماد الثورة وتمزيق الثوار. معاقبة أهل الربض ونفيهم. مسير الأندلسيين إلى الإسكندرية وافتتاحهم لإقريطش. بلاغ الحكم عن الثورة وشعره فيها. تحوطاته بعد إخمادها. مرض الحكم ووفاته. وصيته لولده عبد الرحمن. أخلاق الحكم وصفاته. توطيده لهيبة الملك. إصطفاؤه للصقالبة. أبهته وفخامته. شعره. رجال دولته. الحاجب عبد الكريم. قومس أهل الذمة. ازدهار العلوم والآداب. عباس بن فرناس ويحيى الغزال.

- 1 -

خلف عبد الرحمن الداخل ولدُه هشام بعهد منه، ولم يكن أكبر ولده، بل كان أكبرهم سليمان والي طليطلة، ولم يك يومئذ ثمة نظام خاص لولاية العهد، بل كانت ولاية العهد كما هو مأثور، حقا مفوضا للأمير أو الإمام، يجريه وفقا

ص: 223

للمصلحة العامة (1)، ولم يكن انحصاره في ولد الأمير أو أسرته، سوى تقليد من تقاليد السياسة والعصبية، سارت عليه الدولة الأموية، فوضعت بذلك في الدول الإسلامية أسس الأسر الملوكية، والعروش المتوارثة. وكان من الطبيعي بعد أن ظفر عبد الرحمن الأموي، بإحياء تراث أسرته المندثر في المشرق، أن يصل ما انقطع، وأن تقوم من هذا الفرع الأموي، أسرة ملوكية جديدة تتعاقب في العرش، وتعيد بالأندلس مجد الدولة الأموية الذاهب.

وهكذا اختار عبد الرحمن لولاية العهد من بين بنيه الأحد عشر، ولده هشاماً، وآثره بهذا الاختيار لما توسمه فيه من المزايا والمواهب الخاصة. وكان مولده بقرطبة في سنة 139 هـ - 756 م (2). وكانت أمه - وهي " أم ولد "(3) بارعة في الحسن تدعى"حلل"(4) - أحب نساء عبد الرحمن إليه، وأكثرهم نفوذا لديه، وكان هشام حينما توفي أبوه مقيما بماردة مقر ولايته، فأخذ البيعة له أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي، ولكن على غضاضة منه، لأنه مثل أخيه سليمان، كان يرى نفسه أحق بولاية العهد من أخيه الأصغر. ودخل هشام قرطبة لأيام قلائل من وفاة أبيه، وبويع في مستهل جمادى الأولى سنة 172هـ (788 م)، وكان حينما ولى العرش في الثالثة والثلاثين من عمره، بيد أنه كان عاقلا حازما وافر الشجاعة والعزم، كثير العدل والتقوى، جم التواضع والرفق. وتشيد الرواية الإسلامية بجميل خلاله، وتنوه بالأخص بورعه، وتواضعه، وحبه للخير، فيقول لنا ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد إنه " كان أحسن الناس وجهاً، وأشرفهم نفسا، الكامل المروءة، الحاكم بالكتاب والسنة، الذي أخذ الزكاة على حلها، ووضعها في حقها، لم يعرف عنه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه ". وقيل بلغ من تواضعه أن كان يطوف شوارع قرطبة مختلطاً بالرعية يسمع المظالم بنفسه، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، وربما كان يخرج في الليالي المظلمة الممطرة، فيلقى بصرر المال في المساجد لمن وجد فيها بغية تعميرها بالمصلين،

(1) يعقد ابن خلدون في مقدمته، فصلا عن ولاية العهد في الأمة الإسلامية، (ص 175 وما بعدها).

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 62؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 37.

(3)

هي الجارية إذا رزقت من سيدها بولد، وعندئذ لا يجوز بيعها ولا هبتها.

(4)

وفي رواية " حوراء ". وفي رواية أخرى " جمال ".

ص: 224

ويسعى إلى غوث البائس والمسكين بمختلف الوسائل (1). وكان يذهب مذهب عمر بن عبد العزيز، في تحري الحق والعدالة، فكان يبعث إلى الكور بقوم من ثقاته، للتحري عن مسلك العمال وسيرهم بين الرعية، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أسقطه واشتد في عقابه (2).

وكانت ولاية هشام نذير فوره جديدة من الثورات المحلية. ذلك أن سليمان أكبر أخوته لم يقر إمارته، ودعا لنفسه في طليطلة وما جاورها، وكذلك أخوه عبد الله البلنسي لم يخلد إلى الرضى، بالرغم مما بذله هشام لاسترضائه، ولم يلبث أن لحق بأخيه سليمان في طليطلة، وتحالفا على العصيان والثورة، وسار سليمان خفية إلى قرطبة ليحاول إضرام الثورة ضد أخيه، فلم يظفر بشىء، وطارده الجند، ففر إلى ماردة وحاول أن يعتصم بها، ولكن رده عاملها. وكان هشام قد بعث جيشا لحصار طليطلة وإخضاعها، ففر سليمان إلى جبال بلنسية، ولجأ إلى بعض ثغور تدمير. ولما رأى عبد الله البلنسي ما حل بأخيه من الفشل والهزيمة، خشي عاقبة الخروج، وارتد إلى قرطبة يلتمس الصفح من أخيه، فعفا عنه هشام وأكرم مثواه، وبعث جيشا بقيادة ولده معاوية لمطاردة سليمان وصحبه، فتوغل في أنحاء تدمير (مرسية) واضطر سليمان إلى طلب الأمان والعفو، فأجابه هشام إلى طلبه، على أن يعبر بأهله وولده إلى المغرب، وأعطاه ستين ألف دينار صلحا على تركة أبيه. وسار معه أخوه عبد الله، وأقاما بعدوة المغرب، وانتهت بذلك ثورة الأخوين (سنة 174 هـ - 790 م)(3).

واعتقد ثوار الشمال في نفس الوقت أن الفرصة قد سنحت بوفاة عبد الرحمن لإضرام نار الثورة كرة أخرى، فخرج بطرطوشة سعيد بن الحسين الأنصاري، وكان قد التجأ إليها منذ مصرع أبيه، والتف حوله اليمنية، وأخرج عاملها من قبل هشام، يوسف العبسي، فعارضه موسى بن فرقوق في المضرية ودعا لهشام (4)،

(1) راجع في التنويه بخلال هشام وصفاته، أخبار مجموعة ص 120 و121؛ وابن الأثير ج 6 ص 37؛ والعقد الفريد (مصر سنة 1928) ج 3 ص 202؛ والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 10.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 67، وأخبار مجموعة ص 127.

(3)

البيان المغرب ج 2 ص 64 و65.

(4)

ابن خلدون ج 4 ص 124.

ص: 225

وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بثغر برشلونة، والتفت حوله جموع كبيرة، واستولى على سرقسطة ووشقة، وقوى أمره، وبسط سلطانه على الولاية كلها، فسير إليه هشام جيشا كبيرا بقيادة عبيد الله بن عثمان، فسار إلى طرطوشة وانتزعها من يد الثوار، وحاصر سرقسطة وفيها مطروح وصحبه، وضيق عليها الخناق حتى ضاق أهلها ذرعا بالحصار، وفي ذات يوم اغتال مطروحا بعض أصحابه واحتزوا رأسه، وقدموها إلى ابن عثمان، فبعث بها إلى هشام، ودخل سرقسطة ظافراً (سنة 175 هـ)(1)، وقضى بذلك على الثورة في تلك الأنحاء.

وكان نصارى الشمال، منذ اشتد ساعدهم، يكثرون من الإغارة على البلاد الإسلامية والعيث فيها، ويشتد هذا العيث والعدوان كلما اضطرمت الأندلس بالفتن الداخلية، وشغلت حكومة قرطبة عن حماية الأطراف النائية. وكان الفرنج جرياً على سياستهم المأثورة، يشجعون النصارى من البشكنس والجلالقة على مواصلة التحرش بالمملكة الإسلامية، وكان هشام كأبيه يقدر خطورة هذه الدسائس الفرنجية، وتحدوه من جهة أخرى نزعة قوية إلى الجهاد والغزو، فما كاد ينتهي من القضاء على الثورة الداخلية، حتى سير إلى الشمال جيشاً قويا من أربعين ألف مقاتل بقيادة عبيد الله بن عثمان، فاخترق ألبة والقلاع (قشتالة القديمة)، واجتاح جليقية، وهزم الجلالقة بقيادة ملكهم برمودو (أو برمند) وحلفاءهم البشكنس، ومزق جموعهم (سنة 175هـ - 791 م)، وعاد إلى قرطبة مثقلا بالغنائم والسبي. ولم يمض قليل على ذلك حتى سارت إلى جليقية حملة أخرى بقيادة يوسف بن بخت، وهزم برمودو مرة أخرى، وقتلت جموع كبيرة من النصارى، وعلى أثر ذلك تنازل برمودو عن العرش لألفونسو الثاني ولد فرويلا، وأمير جليقية الشرقية، ولجأ إلى عزلة الدير.

وفي العام التالي أعني في سنة 176هـ (792 م) تأهب هشام لمحاربة الفرنج، واستئناف عهد الجهاد والغزو، فسير إلى الشمال جيشاً كثيفاً. بقيادة حاجبه عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث (2). فعبر البرنيه من ناحية قطلونية، واستولى

(1) العذري في كتاب " ترصيع الأخبار "(ص 26 و29).

(2)

وهو حفيد مغيث الرومي فاتح قرطبة.

ص: 226

أثناء سيره على مدينة جيرونة (جرندة) الحصينة في قاصية شمال شرقي إسبانيا، وكان الفرنج قد استولوا عليها منذ سنة 785 م من يد مطروح بن سليمان. وكان حكام هذه الأنحاء التي لبثت تضطرم بالثورة على حكومة قرطبة، منذ غزوة شارلمان الأولى لإسبانيا، قد استقلوا بما في أيديهم من المدن، وجنحوا إلى محالفة الفرنج جيرانهم من الشمال، والتماس حمايتهم. ومن ذلك أن أبا ثور صاحب مدينة وشقة، الذي سبق ذكره في حوادث باب الشزري، بعث رسله إلى تولوشة عاصمة أكوتين يطلب التحالف من ملكها الدوق لويس ابن شارلمان (790 م)(1).

واستولى الحاجب عبد الملك بعد ذلك على عدد آخر من المعاقل والحصون، ثم نفذ إلى سبتمانيا، وزحف على أربونة قاعدة الثغر الإسلامي القديم. وتقول الرواية الإسلامية إن المسلمين افتتحوا خلال تلك الغزوة أربونة (2)، ولكن الروايات الفرنجية المعاصرة لا تذكر شيئاً عن ذلك الفتح، وتذكر أن المسلمين ارتدوا عن أربونة لمناعتها إلى قرقشونة. وكان شارلمان (أو كارل الأكبر) ملك الفرنج يشتغل يومئذ بمحاربة خصومه السكسونيين بعيدا عن فرنسا، فتأهب ولده لويس أمير أكوتين لصد العرب، وأوفد لمحاربتهم جيشا بقيادة جيوم كونت دى تولوز، فالتقى الفريقان في مكان يسمى " فيل دني " على ضفاف نهر أوربينا بين أربونة وقرقشونة، ونشبت بينهما موقعة غير حاسمة، ارتد المسلمون على أثرها إلى الجنوب مثقلين بالغنائم والسبي، وقدرت أخماس السبي وحدها بخمسة وأربعين ألفاً من الذهب، وأرغم الأسرى النصارى على حمل أو جر أحمال من الأحجار والتراب من سور أربونة حتى قرطبة، وأمر هشام أن يُبنى منها جناح جديد للمسجد الجامع تخليداً لتلك الغزوة الشهيرة.

وكانت منطقة رندة، المعروفة بإقليم " تاكرنّا "، أو " تاكرني "(3)، وفيها يحتشد البربر، مهد الفتن والقلاقل المتوالية. ففي سنة 178 هـ (794 م) أثار البربر هنالك ضرام الفتنة مرة أخرى، وخلعوا الطاعة وعاثوا في تلك الأنحاء، فسير إليهم هشام حملة بقيادة عبد القادر بن أبان بن عبد الله، فأخمد الثورة دون رأفة، وأباد جموع البربر، وخرب بلادهم وضياعهم، وفرقهم في الأنحاء

(1) راجع R.M. Pidal: ibid، p. 203

(2)

ابن الأثير ج 6 ص 45؛ والبيان المغرب ج 2 ص 64، ونفح الطيب ج 1 ص 158.

(3)

راجع معجم البلدان لياقوت ج 2 ص 353.

ص: 227

والقبائل تمزيقا لعصبتهم، وبقيت هذه المنطقة عدة أعوام قفرا خرابا.

وفي ربيع سنة 179 هـ (795 م) سير هشام إلى جليقية حملة أخرى بقيادة عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، أخى الحاجب، فاخترق المسلمون مفاوز جليقية حتى أستُرقة، ففر السكان النصارى إلى رؤوس الجبال، وتأهب ألفونسو ملك جليقية للقاء المسلمين، على رأس جيش من الجلالقة وحلفائهم البشكنس، ونشب القتال بين الفريقين في قاصية جليقية، في المكان المعروف بالصخرة، وانتصر الجلالقة في البداية في بعض الوقائع المحلية، وقتل جماعة من المسلمين في كمين دبر لهم، ولكن النصارى هزموا في النهاية، وعاث المسلمون في جليقية، وأصابوا كثيراً من الغنائم، ثم ارتدوا إلى الجنوب بعد أن مزقت قوى الجلالقة وسكنوا إلى حين، وساد الأمن في الولايات الشمالية (1).

وكانت هذه آخر غزوة سيرها هشام، إذ توفي عقب ذلك بقليل في الثالث من صفر سنة 180 هـ (18 إبريل سنة 796 م) في نحو الأربعين من عمره، بعد أن حكم نحو ثمانية أعوام. وكان أبيض، أشهل، مشرباً بالحمرة، وبعينيه حول، وكنيته أبو الوليد ويلقب بالرضا (2). وفي عهده ساد الأمن والاستقرار ربوع الأندلس بالرغم مما وقع خلاله من الثورات المحلية. وكان هشام إلى جانب رفقه وتواضعه، حازماً، صارماً في الحق، حريصا على توطيد النظام والعدالة، فلم يتردد في القبض على ابنه الأكبر عبد الملك وزجه إلى السجن لما ثبت لديه من ائتماره به، فبقى في سجنه أعواماً طويلة حتى توفي بعد وفاة أبيه (3). وكان فوق شغفه بالجهاد والغزو، محباً للإصلاح والإنشاء، فعنى بإتمام مسجد قرطبة الجامع الذي بدأ بإنشائه أبوه وتوفي قبل إتمامه، وأنشأ عدة مساجد أخرى، وزين قرطبة بكثير من الأبنية والحدائق الفخمة، وجدد قنطرة قرطبة الشهيرة التي بناها السمح بن مالك على النهر الكبير، وأنفق في تجديدها أموالا عظيمة، وكان

(1) البيان المغرب ج 2 ص 66، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 72. ويقول ابن الأثير إن الذي قاد هذه الحملة هو عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث (ج 6 ص 48). وراجع ابن خلدون ج 4 ص 125.

(2)

ابن الأثير ج 6 ص 46، وابن الأبار ص 37، والبيان المغرب ج 2 ص 62.

(3)

ابن الأثير ج 6 ص 41.

ص: 228

يشرف على إصلاحها بنفسه (1)، وعلى الجملة فقد كان عهده زاهراً، وافر الأمن والرخاء.

وكان هشام شديد الورع والتقوى، وكان شغفه بالجهاد وإعلاء كلمة الدين من أخص مظاهر تقواه، وكان ينفق الأموال الطائلة في افتداء أسرى المسلمين، حتى لم يبق في عهده منهم في قبضة العدو أحد، ويرتب في ديوانه أرزاقا لأسر الجند المتوفين في الجهاد (2). وفي عصره اتخذت السياسة الأموية إجراء يشهد ببعد نظرها، إذ جعلت العربية لغة التدريس في معاهد النصارى واليهود. وكان لذلك الإجراء بالرغم من بساطته، أثر عميق في التقريب بين أصحاب المذاهب المختلفة، وفي بث روح التفاهم والوئام بينها، ولاسيما بين المسلمين والنصارى، وكان من أثره أيضاً أن كثر اعتناق النصارى للإسلام بعد أن وقفوا على أصوله وتفاصيله، وقربت مسافة الخلاف بينهم وبين الفاتحين، ولم يكن ذلك بعيداً في الواقع عن غاية السياسة الأموية (3).

وكان هشام يؤثر مجالس العلم والأدب ولاسيما الحديث والفقه على غيرها.

وفي عصره ذاع مذهب مالك (4). وكان الإمام مالك، وهو معاصر لهشام، يعجب بسيرته وخلاله، ويشيد بعدله وتقواه، وكانت تجمع بين الرجلين على بعد المزار عاطفة مشتركة هي بغض بني العباس، وكان قد رحل إلى المشرق عدة من فقهاء الأندلس، منذ أيام عبد الرحمن الداخل، وفي مقدمتهم زياد بن عبد الرحمن، وعيسى بن دينار، وسعيد بن أبي هند، ويحيى بن يحيى الليثي، فدرسوا على مالك بالمدينة، واستقوا من علمه واجتهاده، ونقلوا عنه كتابه " الموطأ "، وذاع مذهب مالك على يدهم في الأندلس في عصر هشام. وكان هشام كثير الإجلال لمالك ومذهبه، فزاد ذلك في ذيوعه وتوطده، وغدا مذهب أهل الأندلس الغالب، وكانوا قبل ذلك يعملون بمذهب الأوزاعي إمام

(1) البيان المغرب ج 2 ص 68، وابن الأثير ج 6 ص 49. وما تزال هذه القنطرة العربية قائمة حتى اليوم على نهر الوادي الكبير خلف الجامع الأموي، محتفظة بعقودها القديمة، بالرغم مما توالى عليها من ضروب الإصلاح والتجديد.

(2)

أخبار مجموعة ص 120.

(3)

راجع Scott: ibid، I.p. 433..

(4)

الإمام مالك بن أنس، أبو عبد الله، أحد أصحاب المذاهب الأربعة الشهيرة (95 - 179هـ) وترجمته في ابن خلكان ج 1 ص 555 - 57.

ص: 229

أهل الشأم (1). وفي عصر هشام قوى نفوذ الفقهاء ورجال الدين، وتربعوا في أهم المناصب، وكثر تدخلهم في شئون الدولة، خلافا لما كان عليه عبد الرحمن الداخل من إقصائهم والتحرز من تدخلهم ونفوذهم، وكان لذلك أثر غير محمود ترتبت عليه فيما بعد نتائج سياسية واجتماعية خطيرة.

- 2 -

وخلف هشاماً ولدُه الحكم بعهد منه، وبويع عقب وفاة أبيه بأيام قلائل في الثامن من صفر سنة 180 هـ (أبريل 796 م)، وهو في السادسة والعشرين من عمره، وكان مولده بقرطبة سنة 154 هـ (771 م)، وأمه أم ولد تدعى زخرف، وكان طاغية، حازماً، شجاعاً، شديد الوطأة على خصومه والخارجين عليه، وكانت تحدوه مع ذلك نزعة إلى الإنصاف والعدالة (2). وهو أول من أظهر فخامة الملك بالأندلس، وأسرف في تأييد هيبته، وجدد عهد أجداده بالمشرق ببذخه وروعته، واستكثر من المماليك والبطانة. وكان ميالا إلى اللهو، مولعاً بالصيد، يؤثر مجالس الندماء والشعراء، على مجالس الفقهاء والعلماء.

وآنس الفقهاء تصدع مركزهم الذي سما في عهد أبيه هشام، وكانت سياسة الحكم ترمي إلى الحد من نفوذهم، وإبعادهم عن التدخل في شئون الدولة، وكانوا بالعكس يرمون إلى انتزاع السلطة السياسية ليحكموا الأمة من وراء العرش بواسطة جمهورية دينية، فجاءت سياسة الحكم ضربة قاضية على أمانيهم، وثارث نفوسهم سخطاً على الأمير الفتى، وأخذوا يلوحون بسبه والتعريض به من فوق المنابر، ويوغرون عليه صدور العامة بالدس والوقيعة، ويسبغون على دعايتهم ثوب الوعظ والإرشاد، والحض على التمسك بأحكام الدين. وكان الحكم بإسرافه في مجالى اللهو والبذخ، يسبغ على أقوالهم قوة، وكانت دعايتهم قوية بالأخص بين البربر والمولدين (أو مسلمي الإسبان)، إذ كان هؤلاء يبغضون العرب لكبريائهم واستئثارهم بالمناصب والنفوذ، وكانوا دائماً على أهبة الخروج والعصيان كلما سنحت الفرصة. وكان لتحريض الفقهاء وسعايتهم كما سنرى آثار بعيدة المدى (3).

(1) أخبار مجموعة ص 120؛ والاستقصاء ج 1 ص 61، ونفح الطيب ج 2 ص 158؛ وراجع أيضاً Dozy: Hist.،I.p. 286 & 287

(2)

أخبار مجموعة ص 125.

(3)

راجع المعجب ص 11؛ ونفح الطيب ج 1 ص 159، وكذلك Dozy: Hist،I.p. 288 وألتاليرا Hiat.de Espana، Vol.I.p. 227

ص: 230

وفي بداية عهد الحكم، في صيف سنة 180 هـ (796 م) سار الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث غازياً بالصائفة إلى ألبة والقلاع، (قشتالة القديمة) واستولى على قلعة قلهُرّة الواقعة على نهر إيبرو، وأثخن في بلاد البشكنس (نافار)، وعاد مثقلا بالغنائم والسبي. ولكن سرعان ما اضطر الحكم إلى ترك الجهاد والغزو، ليعني بمقاومة بوادر الخروج والثورة التي أخذت تتفتح حوله من كل صوب. وكان الثغر الأعلى (أراجون) موطن الخطر في تلك المرة، وكانت تؤازره وتذكيه عوامل خارجية في منتهي الخطورة. ذلك أن الحكم ما كاد يجلس على عرش أبيه، حتى عول عماه سليمان وعبد الله على التحرك مرة أخرى.

وكانا يقيمان في عدوة المغرب منذ أيام أخيهما هشام، يرقبان الفرص. واتصل عبد الله بابن الأغلب صاحب إفريقية وخاطبه في مشروعهما، ولكنه لم يلق على ما يظهر منه تأييداً، فاتجه الأخوان وجهة أخرى. وكانت مدائن الثغر الأعلى (1) وفي مقدمتها سرقسطة ما زالت، منذ أيام عبد الرحمن الداخل تفيض بعوامل الفتنة، ففي سنة 181 هـ (797 م) ثار بالثغر الأعلى بهلول بن مروان المعروف بأبى الحجاج ودخل سرقسطة، وثار حاكم مدينة وشقة في نفس الوقت. فعبر سليمان وعبد الله سراً إلى الأندلس، وسار عبد الله إلى الثغر الأعلى يؤلب البلاد، ويحشد الأنصار لمقاتلة الحكم، ثم عبر جبال البرنيه إلى بلاد الفرنج، وسعى إلى مقابلة شارلمان (كارل الأكبر) في مدينة إيكسلا شابيل حيث كان يعقد بلاطه يومئذ، والتمس إليه العون والمؤازرة، فأكرم ملك الفرنج وفادته، واستجاب إلى دعوته، وألفى الفرصة سانحة للتدخل في شئون الأندلس، وتحقيق مطامعه القديمة.

وسير شارلمان جيشاً مع ولده لويس أمير أكوتين، فعبر البرنيه واستولى على مدينة جيرونة (جيرندة)، ثم توغل في ولاية الثغر الأعلى، بممالأة بعض الزعماء الخوارج، وقيل إن الأخوين عبد الملك وعبد الكريم ابنى عبد الواحد

(1) قال ياقوت في معجمه الجغرافي " الثغر "، كل موضع قريب من أرض العدو يسمى ثغرا، كأنه مأخوذ عن الثغرة " وهي الفرجة في الحائط ". وكان رباط الثغر أيام فتح الأندلس يشمل أربونة وما حولها، باعتبارها أقصى ولاية في اسبانيا المسلمة، مما يلى أرض الفرنج، فلما سقطت أربونة في يد النصارى ارتد " ثغر " الأندلس إلى ما رواء جبال البرنيه؛ فأصبح " الثغر " يطلق على ولاية سرقسطة وما جاورها حتى برشلونة والبحر شرقا، وهذا هو " الثغر الأعلى "، ويشمل عدا سرقسطة لاردة، وتطيلة، ووشقة، وطرطوشة، وطركونة وغيرها؛ ويقابل "أراجون"، من ولايات اسبانيا الحديثة. وسميت طليطلة وأعمالها " بالثغر الأوسط " لمجاورتها لمملكة ليون النصرانية (جليقية).

ص: 231

ابن مغيث انضما يومئذ إلى عبد الله في ثورته، وأنهما سارا إلى سرقسطة، ولكن أبا صفوان حاكمها من قبل الحكم، استطاع أن يهزم الخوارج، وأن يأسر زعيمهم عبد الكريم، وأن الأخوين عادا بعد ذلك إلى الطاعة واستأمنا في أوائل سنة 186هـ فأمنهما الحكم، ووفدا على قرطبة وقدما خضوعهما وإخلاصهما (1). وقد نجد ما يؤيد هذه الرواية في أنه لم يرد للأخوين ذكر خلال هذه الأعوام الخمسة، مع أنهما كانا دائماً في الطليعة في قيادة مختلف الحملات والغزوات. وعلى أي حال فقد بادر الحكم بالسير إلى الشمال لرد هذا الخطر الجديد. والظاهر أن الفرنج لم يلقوا الحوادث ممهدة في ذلك الجزء المضطرم من الأندلس، وخشوا من جهة أخرى من نكث حلفائهم المسلمين، وتكرار مأساة باب الشزري، فارتدوا إلى الشمال بعد أن حاصروا مدينة وشقة حيناً (797 م)، تاركين الأمور لمصيرها، ولما رأى الزعماء الخوارج عبث المقاومة، عادوا إلى الطاعة، واسترد الحكم سلطانه على سرقسطة ووشقة ولاردة وغيرها.

(1) وردت هذه الرواية منسوبة إلى الرازي مؤرخ الأندلس، في أوراق مخطوطة عن تاريخ الأندلس من سنة 180 إلى سنة 232هـ عثر بها صديقي العلامة المرحوم " ليفي بروفنسال " عميد كلية الجزائر والأستاذ بجامعة باريس سابقا. وقد تفضل بإطلاعي عليها ونقلت عنها. ولم نكن نعرف وقتئذ بالتحقيق من هو مؤلف هذا المخطوط؛ ولكن تبين فيما بعد من مقارنة الروايات التي يوردها عن مؤرخي الأندلس السابقين مثل الرازي وابن القوطية وابن الفرضي، ثم ابن حزم وأحمد ابن خالد، كما تبين منه مما تتسم به كتاباته وتعليقاته من الرزانة والدقة، أن هذه الأوراق المخطوطة، إنما هي قطعة من مؤلف مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان، وهو المسمى " المقتبس في تاريخ رجال الأندلس ". وتحتوي هذه القطعة على كثير من المعلومات والتفاصيل الحسنة عن حوادث العصر الذي نتحدث عنه وعن شخصياته. وقد حصلت بعد ذلك بأعوام من مكتبة القرويين بفاس، على نسخة مصورة من قطعة كبيرة مخطوطة من تاريخ ابن حيان المشار إليه تبين أنها تتمة للجزء المتقدم، إذ تبدأ حوادثها من سنة 233هـ وتننتهي في سنة 267هـ، وهي عبارة عن جزء كبير يقع في مائة وتسعين صفحة كبيرة. وهي قديمة بالية متآكلة الحوافي. وقد انتفعت بها منذ الطبعة الثالثة من الكتاب انتفاعا عظيما حسبما يرى القارىء بعد هذا. ثم ظهرت أخيرا قطعة كبيرة من " المقتبس " تتعلق بعصر الناصر وتحفظ بالمكتبة الملكية بالرباط، وقد أشرنا إليها وإلى محتوياتها في مقدمة الكتاب. وقد انتفعنا بها في هذه الطبعة الجديدة أعظم انتفاع حسبما يرى القارىء بعد. وقد نشرت من قبل قطعة أخرى من تاريخ ابن حيان بعناية المستشرق الإسباني أنتونيا، وهي تتعلق بالأخص بحوادث عصر الفتنة الكبرى (250 - 300هـ). وتوجد قطعة صغيرة مخطوطة أخرى من تاريخ ابن حيان بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد، وهي تتعلق بأحوال الخلافة وحوادث الأندلس في سنى 362 - 365هـ أيام الحكم المستنصر.

ص: 232

وفي ذلك الحين كان سليمان بن عبد الرحمن قد استطاع أن يحشد أنصاره ولاسيما من البربر، وهرع إليه أخوه عبد الله البلنسي بعد فشله في الشمال، وسار الخوارج إلى قرطبة يحاولون الإغارة عليها، فالتقوا بجند الحكم على مقربة منها في مكان يسمى " فنجيط " وذلك في شوال سنة 182 هـ، فهزم سليمان. ثم التقى الجمعان ثانية بالقرب من إستجَّة في صفر سنة 183، فهزم سليمان مرة أخرى بعد قتال عنيف، وفر في أصحابه متجها إلى ماردة، فبعث الحكم الجند في أثره، فطاردته حتى قبض عليه. وجىء به إلى الحكم، فأمر بإعدامه، وأعدم معه عدة من زعماء الفتنة، وأرسلت رؤوسهم إلى قرطبة حيث طيف بها (سنة 184 هـ - 800 م).

وفر أخوه عبد الله إلى بلنسية فاختفى بها، ولكنه لم ير في النهاية مناصا من طلب العفو، فعفا عنه الحكم وأصدر له أماناً خاصاً، وذلك على أن يبقى في بلنسية وتجري عليه أرزاقه، وبعث عبد الله إلى الحكم بابنه عبيد الله فأكرمه الحكم وزوجه إحدى أخواته، وركن عبد الله إلى السكينة طوال عهد الحكم (1).

وهكذا انتهت المرحلة الأولى من الحوادث التي اقترنت بثورة سليمان وأخيه عبد الله، ولم يجن الفرنج فيها كبير غنم، ولكن ذلك لم يثن شارلمان عاهل الفرنج عن عزمه ومشاريعه. ذلك أن سياسة التدخل في شئون إسبانيا المسلمة، كانت أصلا من أصول السياسة الفرنجية، وكان الفرنج ينظرون بعين التوجس، إلى قيام هذه الإمارة الإسلامية الجديدة فيما وراء البرنيه، وإلى توطدها ونموها، ويخشون بالأخص أن يضطرم الإسلام بفورة جديدة من الجهاد والغزو، فينساب تيار الفتح الإسلامي إلى غاليس كرة أخرى، وقد حاول شارلمان ضربته الأولى في عهد عبد الرحمن الداخل فباء بالهزيمة والفشل، ونكب في مفاوز رونسفال (باب الشزري). ولما عبر المسلمون جبال البرنيه في عهد هشام وغزوا سبتمانيا، تجددت مخاوف الفرنج وتجددت مشاريعهم لتأمين حدودهم الجنوبية، وكانوا يلتمسون الفرصة كلما اضطرمت الأندلس بالثورة. وهنا يجدر بنا أن نتساءل، هل كان لسياسة الخلافة العباسية أثر في صوغ هذه السياسة الفرنجية نحو الأندلس أو الإيحاء بها؟ لقد رأينا كيف كانت الخلافة العباسية تحاول بث دعوتها في الأندلس على يد بعض الزعماء الخوارج، وكيف كانت هذه الدعوة تحدث أثرها في إضرام نار

(1) مخطوط ابن حيان المشار إليه لوحة 90.

ص: 233

الفتنة. على أن الخلافة العباسية، كانت من جهة أخرى تتصل بالمملكة الفرنجية بصلات سياسية. وترجع الرواية الفرنجية هذه الصلة إلى عهد المنصور، وتقول لنا إن ببين ملك الفرنج أرسل إلى المنصور سفارة رد عليها المنصور بمثلها، وتضيف الرواية الفرنجية إلى ذلك أنه كانت ثمة بعدئذ مكاتبات وسفارات بين الرشيد وبين شارلمان ولد ببين، ومع أن الرواية الإسلامية لا تذكر شيئا عن هذه العلائق بين ملك الفرنج والخليفة العباسي، فإن في تفاصيل الرواية الفرنجية، وفي طبيعة الحوادث التي كان يجوزها الشرق والغرب يومئذ، ما يحملنا على الاعتقاد في صحتها (1). وهذه العلائق ذاتها تلقي ضوءاً على موقف السياسة العباسية، من حوادث الأندلس في ذلك الحين. فقد كانت الخلافة العباسية ترى في قيام إمارة قرطبة الأموية في الغرب منافسا لها في سيادة العالم الإسلامي، ولم يكن يسوءها أن تتعثر هذه الإمارة الفتية في معترك من الصعاب والفتن، وأن تشغل بمقارعة أعدائها في الداخل والخارج. وإذاً فقد كانت الخلافة العباسية تشاطر السياسة الفرنجية نفس الغاية التي ترمي إليها بالنسبة لإمارة قرطبة، وهي العمل على إضعافها وتحطيمها إن أمكن، ولما كانت الدولة العباسية لا تستطيع أن تعمل لتحقيق هذه الغاية بطريق مباشر، فقد كان في وسعها على الأقل أن تعمل لتأييدها بطريق الدعوة والتحريض. ولم يكن بعيداً أن يجد الخليفة العباسي، وهو يبسط حكمه على ملايين من النصارى، وفي أرضه يقع القبر المقدس، وسيلة للتفاهم مع إمبراطور الفرنج وحامي النصرانية، وأن يجد عاهل الفرنج ما يشجعه على إذكاء تحرشه بإمارة قرطبة، في رفق الخليفة برعاياه النصارى، هذا فضلا عن أن السياسة الفرنجية تعمل بذلك على تحقيق غايتها الأصلية من مناوأة الإسلام في اسبانيا وإضعاف سيادته ونفوذه، وحماية حدود مملكة الفرنج الجنوبية. وإذاً فمن المحتمل أن يكون لهذه السفارات والمراسلات السياسية، التي تقول الرواية الفرنجية بوقوعها بين الرشيد وشارلمان، صلة بهذه المرحلة من تدخل الفرنج في شئون اسبانيا المسلمة، واعتدائهم المتكرر على أراضيها. وقد وقع الغزو الفرنجي لشمال اسبانيا في عهد الحكم بين سنتي 181 و185هـ، أعني في أواسط عهد الرشيد

(1) تناولت موضوع العلائق بين الرشيد وشارلمان في فصل خاص في كتابي " مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام "(الطبعة الرابعة ص 218 - 224).

ص: 234

(170 - 193هـ). والواقع أن في اتحاد المصلحة والغاية بين الخليفة العباسي وعاهل الفرنج، ما يسبغ على هذا الفرض تأييداً.

ولما كانت السياسة الفرنجية ترمي قبل كل شىء إلى تأمين غاليس (جنوب فرنسا) من خطر الغزو الإسلامي، فقد رأت أن تنشىء في قاصية اسبانيا الشمالية الشرقية مما يلي جبال البرنيه، ولاية فرنجية جديدة تكون سدا بين الغزاة وبين مملكة الفرنج، وأنشئت هذه الولاية التي سميت " بالثغر القوطي " أو الثغر الإسباني في البداية، من مدن جيرونة (جيرندة) وأوزونة وسولسونة، وما حولها مما اقتطعه الفرنج من أراضي اسبانيا المسلمة، التي كانت تابعة لرباط الثغر الإسلامي القديم. ولما عاد الاضطراب إلى الثغر الأعلى، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورات الداخلية المتوالية، ألفى الفرنج الفرصة سانحة لدفع غزواتهم نحو الجنوب، وكان شارلمان يطمح بالأخص إلى افتتاح ثغر برشلونة المنيع ليكون معقلا لحماية أملاكه الجنوبية، وحلقة اتصال بحري سهل بينها وبين فرنسا. وعمد شارلمان قبل البدء في تنفيذ مشروعه إلى عقد محالفة بينه وبين أمير جليقية ألفونسو الثاني (سنة 798 م)، لكي يكتسب ولاء البشكنس ومعاونتهم. وفي سنة 801 م (185 هـ) سير شارلمان إلى اسبانيا جيشاً ضخماً لافتتاح برشلونة بقيادة ولده لويس أمير أكوتين، وانقسم هذا الجيش إلى قسمين، سار أحدهما بقيادة حاكم جيرونة لمحاصرة برشلونة، وسار الآخر بقيادة جيوم كونت دي تولوز ليرابط جنوب غربي برشلونة بين لاردة وطركونة، ليحول دون وصول أى مدد إلى المدينة المحصورة. وكان الحكم يشغل يومئذ بمطاردة الخوارج عليه وفي مقدمتهم عمه عبد الله، وكان والي برشلونة، سعدون الرعيني، في مأزق حرج، يتطلع عبثاً إلى قدوم المدد، وهو في ثغره القاصي بعيداً عن كل عون ومساعدة، ولم يكن له ما يؤمل من معاونة زملائه ولاة الثغر الأعلى، ومعظمهم يضمر الخروج على حكومة قرطبة، ويرى في اضطراب الأمور ملاذاً. ومع ذلك فقد صمدت برشلونة، وصمم واليها الشجاع على المقاومة، ولبثت حيناً تعاني أمر ضروب الحرمان والجوع، دون أن يأتيها المدد المنشود. ثم تفاقم الأمر وجاء جيش جديد من الفرنج بقيادة لويس ليشدد الحصار على المدينة، فرأى سعدون الرعيني أن يحاول التماس المدد بنفسه من قرطبة، وغادر برشلونة تحت جنح الظلام،

ص: 235

وحاول أن يخترق خطوط العدو، ولكنه ضبط وأسر، ولم تستطع برشلونة ثباتاً بعد أن هلك ألوف من أهلها، وفتحت ثغرات عديدة في أسوارها، فاضطرت إلى التسليم بعد أن ذاقت ويلات الحصار سبعة أشهر. واتخذ الفرنج من برشلونة مكان جيرندة، قاعدة للثغر القوطي الذي نما فيما بعد، وكان الفرنج يعينون حكامه من الكونتات الذين ينتمون إلى أصل قوطي أو فرنجي. ولم يلبث أولئك الحكام، حينما شعروا بقوتهم وبعدهم عن سلطان مملكة الفرنج، أن أعلنوا استقلالهم، وغدا الثغر الفرنجي إمارة نصرانية هي إمارة قطلونية، التي اندمجت فيما بعد في مملكة أراجون القوية، وخسر الإسلام بفقد برشلونة أمنع ثغوره في قاصية اسبانيا، وارتدت حدود الأندلس إلى الثغر الأعلى، بعد أن كانت تجاوز جبال البرنيه (1).

وفي سنة 189 هـ (805 م) اكتشف الحكم مؤامرة خطيرة دبرت لخلعه، وكان من ورائها رهط الفقهاء الذين قضى الحكم على نفوذهم، مثل يحيى بن يحيى الليثي، وعيسى بن دينار، وطالوت الفقيه، وغيرهم من زعماء المالكية. وقد رأينا كيف سخط الفقهاء على الحكم لتصدع نفوذهم القديم، وأثاروا عليه وعلى خلاله دعاية قوية، واتهموه من فوق المنابر بالقسوة والخروج على أحكام الدين، وكيف كان الحكم، بمرحه وبذخه، وشغفه باللهو والشراب، يسبغ على دعايتهم قوة. وكان ثمة فريق آخر من أعيان قرطبة ينقم على الحكم صرامته وطغيانه. وكان هؤلاء وهؤلاء يتربصون بالحكم ويلتمسون الفرصة للإيقاع به، وكان في موقف الشعب القرطبي، ما يشجعهم على تدبير مشاريعهم، إذ كان الشعب متأثراً بدعاية الفقهاء في حق الحكم، وبما كان يبديه الحكم من ترفع عن الشعب، فكان أهل قرطبة يبغضون الحكم وبلاطه. وهكذا ائتمر الفقهاء والأعيان بالحكم واتفقوا على خلعه، وكان في مقدمة المتآمرين مالك بن يزيد بن يحيى التجيبي، وموسى بن سالم الخولاني، وأبو كعب بن عبد البر وأخوه عيسى، ويحيى ابن مضر القيسي الفقيه وغيرهم، وكان بينهم بعض المروانية من أقارب الحكم، ومنهم محمد بن القاسم المرواني الذي اختاره المتآمرون لرياستهم، ووعدوه بأن

(1) تضع الرواية الإسلامية تاريخ سقوط برشلونة في سنة 185 هـ (801 م) متفقة بذلك مع الرواية الفرنجية، وقد وردت عنه نبذة حسنة في مخطوط ابن حيان الذي أشرنا إليه (ص 90). وراجع ابن الأثير ج 6 ص 55؛ وكذلك Scott: ibid ، V.I.p. 448-452; و Altamira: Hist.de Espana: Vol.I.p. 241

ص: 236

يكون خلف الحكم في الإمارة (1)، ولكنه خشى العاقبة وبادر بإبلاغ الحكم، واكتشفت المؤامراة قبل نضجها، وقبض الحكم على عدد كبير من المتآمرين. واستطاع بعضهم الفرار، مثل يحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار. وأعدم الحكم منهم اثنين وسبعين رجلا، وأبدى في إعدامهم قسوة ظاهرة، إذ صلبهم على شاطىء النهر تجاه مشارف القصر، وكان من بين القتلى عماه مسلمة المشهور بكليب، وأمية، ابنا عبد الرحمن بن معاوية، قتلهما لارتيابه في سلوكهما، فأثار هذا الإجراء الدموي في قرطبة أيما ارتياع، وأسبغ على خلال الحكم ريباً، وأذكى الحفيظة على الأمير في نفوس الخاصة والعامة معاً. وشعر الحكم بخطورة هذا الأثر، فحصن قرطبة ورمم أسوارها، واحتفر الخنادق حولها، وفرض على الشعب حكم إرهاب يزيد في حفيظته. ولم تمض أشهر على ذلك حتى اضطرمت في قرطبة فورة من السخط، وثار العامة في الرَّبض (الضاحية) بزعامة رجل منهم يقال له ديبل، وكان الحكم غائباً يشرف على محاصرة الثوار في ماردة، فعاد مسرعاً إلى قرطبة، وقبض على زعيم الفتنة وعدة كبيرة من أنصاره، وصلبوا جميعاً ومثل بهم، وسحق الهياج دون رأفة، وهدأت العاصمة إلى حين (2).

وفي العام التالي، سنة 190 هـ (806 م)، نشبت الثورة في ماردة بقيادة زعيمها أصبغ بن عبد الله بن وانسوس، فسار الحكم إلى قتاله، ولكنه ارتد عنه حينما وقف على نبأ الهياج في قرطبة. وترددت الحملات والبعوث بعد ذلك إلى ماردة لإخماد الثورة، واستمر زعيمها أصبغ على مقاومته بضعة أعوام، وكان ذا وجاهة وبأس، يلتف حوله مواطنوه البربر وهم كثرة في ماردة وما حولها، ولكنه اضطر أخيراً إزاء حزم الحكم وصرامته إلى طلب الأمان والصلح، فأجابه الحكم إلى طلبه، وعادت ماردة إلى الطاعة (3).

وكانت طليطلة حاضرة القوط القديمة، وقاعدة "الثغر الأوسط"(4) ما تزال

(1) راجع البيان المغرب ج 2 ص 73؛ وابن الأثير ج 6 ص 66؛ ولكن ابن القوطية يذكر أن المتآمرين بايعوا شخصاً آخر من أبناء عمومة الحكم.

(2)

البيان المغرب ج 2 ص 73؛ وابن الأثير ج 6 ص 86، ومخطوط ابن حيان المشار إليه ص 98.

(3)

البيان المغرب ج 2 ص 74، ومخطوط ابن حيان المشار إليه ص 99.

(4)

تسمى طليطلة وأعمالها في الجغرافية الأندلسية " بالثغر الأوسط " حسبما تقدم.

ص: 237

منذ الفتح تفيض بعوامل الهياج والثورة، وكان بين أهلها كثرة من المولدين أو النصارى الذين دخلوا في الإسلام، والمستعربين أو النصارى المعاهدين. وقد سبق أن عنينا بالتعريف بهذين العنصرين، اللذين اضلعا بأدوار خطيرة في تاريخ اسبانيا المسلمة، وأوضحنا أن العرب والبربر، وهما العنصران اللذان تعاونا في فتح اسبانيا، لم يكونا أغلبية بين الشعب الأندلسي الذي تكون بعد الفتح بمضي الزمن، وكان العرب بالأخص أقلية في معظم المدن الكبيرة، لكن هذه الأقلية العربية كانت تستأثر بالحكم، وخصوصاً في الأقاليم الوسطى والجنوبية القريبة من قرطبة مركز الإمارة والسيادة. وكان البربر من جانبهم أغلبية في بعض المناطق الغربية والشمالية، وكانوا حيثما غلبت كثرتهم وسلطتهم، يتحدون في معظم الأحيان مع المولدين، وأحياناً مع النصارى المعاهدين أنفسهم، على مناوأة حكومة قرطبة.

أما "المولدون" فكان معظمهم حسبما أسلفنا من الإسبان والقوط الذين اعتنقوا الإسلام منذ الفتح تباعاً، واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد كانوا كثرة في بعض المدن القوطية العريقة مثل طليطلة وبعض مدن الثغر الأعلى، وقد برزت منهم بعض الأسر القوية ذات السلطان والبأس، مثل بني قسىّ زعماء الثغر الأعلى وبنو حفصون زعماء ريُّه، ويصفهم المستشرق سيمونيت بأنهم كانوا بعد اندماجهم في المجتمع الإسلامي أشد تعصباً ضد النصارى من المسلمين الخلص أنفسهم (1).

وأما النصارى المعاهدون أو المستعربون كما يسمون بالإسبانية Mozarabes، فهم حسبما أشرنا من قبل النصارى الإسبان الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم، وبقوا في المدن الأندلسية المفتوحة تحت الحكم الإسلامي. وبالرغم مما كانت تسبغه الحكومة الإسلامية عليهم من أسباب الرعاية، وما كان لهم في كثير من الأحيان من الحظوة والتمتع بثقة الأمراء، وتولي كثير من الوظائف الهامة، فقد كانوا على العموم عنصراً قليل الولاء للحكومة الإسلامية، وكانوا في المدن البعيدة في كثير من الأحيان، يحالفون الثوار من المسلمين والبربر والمولدين، ويمالئونهم، ويعملون على عقد الصلات بينهم وبين الملوك النصارى، سعياً إلى مناوأة حكومة قرطبة وخلق الصعاب في وجهها. وسنرى أى دور خطير يلعبه أولئك النصارى المعاهدون في قرطبة في عهد عبد الرحمن بن الحكم، لإثارة الفتن والاضطراب في المملكة الإسلامية.

(1) Simonet: Hist.de los Mozarabes، Vol.I.p. 362

ص: 238

هذا، وفضلا عما كان للمولدين والنصارى المعاهدين من كثرة ظاهرة في مدينة طليطلة، فإن أهل طليطلة على وجه العموم، لم ينسوا سالف عزهم ومجدهم أيام أن كانت مدينتهم دار ملك القوط، وكانوا يعتزون بكثرتهم وثروتهم وحصانة مدينتهم (1)، وتحدوهم روح من التمرد والخروج المستمر على حكومة قرطبة. وقد رأينا كيف كانت طليطلة مركز الثورة، وملاذ الزعماء الخوارج منذ عهد عبد الرحمن الداخل. وفي عهد الحكم عادت طليطلة إلى سابق سيرتها، وثار فيها في سنة 181هـ (797 م) عبيدة بن حميد، فوجه الحكم قائده عمروس ابن يوسف لمحاربته، وكان يقود الجيش في طلبيرة، فالتقى بالثوار في عدة مواقع، ولما رأى ثبات الثوار لجأ إلى سلاح الغيلة، واستمال بعض وجهاء المدينة بالمنح والوعود، ودفعهم إلى اغتيال عبيدة بن حميد، وبذا أخمدت الثورة إلى حين، وأذعنت المدينة الثائرة لسلطان الحكم. ولكن هذا الهدوء المؤقت لم يطل أمده، ولم تمض بضعة أعوام حتى عادت طليطلة إلى الثورة، ولم ير الحكم وسيلة لإخضاعها سوى تعيين عمروس بن يوسف حاكماً لها. وكان عمروس " مولداً " من أهل وشقة، ذا وجاهة وبأس، وكان قد ظهر في الثغر الأعلى، وأظهر طاعة الحكم ودعا له، خلافاً لكثير من زعماء الثغر الخوارج، فسر الحكم بمسلكه ودعاه إلى خدمته، واختاره للقيادة، ثم اختاره لولاية طليطلة ليعالج المدينة الثائرة، ويعمل على إخضاعها، ولوحظ في هذا الاختيار أن عمروس مولد، وأن معظم أهل طليطلة من المولدين. وكتب الحكم إلى أهل طليطلة يقول:"إني قد اخترت لكم فلاناً وهو منكم لتطمئن قلوبكم إليه، وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينا، ولتعرفوا جميل رأينا فيكم". ودخل عمروس طليطلة، فأنس به أهلها، وتظاهر أمامهم ببغض بني أمية والموافقة على خلع طاعتهم، واستمالهم برفقه ولينه، ثم أنشأ بموافقهم في ظاهر طليطلة قلعة حصينة بحجة إيواء الجند والموظفين فيها بعيداً عن أهل المدينة وحرصاً على راحتهم، وبعث إلى الحكم يستقدم إليه الجند سراً، فسير الحكم جيشاً بقيادة ولده عبد الرحمن لمقاتلة نصارى الشمال في الظاهر، ثم عرج هذا الجيش حين العودة على طليطلة، وخرج عمروس لملاقاة الأمير

(1) إن إلقاء نظرة على موقع طليطلة فوق المنحدر الصخري الوعر المشرف على منحنى نهر التاجه، والنهر محيط بها من كل نواحيها تقريباً، وبقية الأسوار الهائلة التي كانت تحيط بها، كل ذلك يدل على ما كانت عليه هذه المدينة التالدة من الحصانة في تلك العصور.

ص: 239

وتحيته، ومعه وجوه المدينة، فأكرمهم عبد الرحمن ولاطفهم. وهنا دبرت المؤامرة التي هلك فيها وجوه طليطلة وأعيانها، وفي بعض الروايات أن الذي دبرها وأوعز بتنفيذها هو الحكم، في خطاب أرسله سراً إلى عمروس مع ولده عبد الرحمن، وفي البعض الآخر أن الذي دبر الكمين هو عمروس. وعلى أى حال فقد نفذت المؤامرة بأن أقام عمروس في القلعة الجديدة، وليمة حافلة دعا إليها ألوفاً من الكبراء والأعيان، ورتب الدخول من باب والخروج من باب آخر، منعاً للزحام، وجعل الخدم يقتادون المدعوين إلى غرف الطعام عشرة عشرة، وكلما دخل منهم فوج أخذوا إلى ناحية معينة، وضربت أعناقهم، وألقيت جثثهم إلى حفرة عظيمة، حفرت خصيصاً في مؤخرة القصر، وأصوات الطبول والمزامير تحول دون سماع استغاثتهم، ولم يفطن أحد إلى الحقيقة المروعة إلا بعد أن تعالى النهار، ولم يبد للداخلين أثر في الخروج، ولم يسمع لهم ضجيج، فعندئذ فطن البعض إلى الكمين، وتصايح القادمون ونكصوا على أعقابهم، وهلك في تلك المذبحة التي تعرف بواقعة " الحفرة " عدد كبير من وجوه طليطلة وأعيانها، يقدره البعض ببضع مئين والبعض الآخر ببضعة آلاف، وكانت ضربة شديدة للمدينة الثائرة جردتها من زعامتها، وأضعفت من شأنها، وقضت مدى حين على روح الثورة فيها، وكانت وقعة الحفرة في سنة 191 هـ (807 م)(1).

وفي ذلك الحين غزا الفرنج بقيادة لويس ولد شارلمان (2)، ولاية الثغر الأعلى مرة أخرى، وحاصروا مدينة طرطوشة (سنة 192 هـ)، فبعث الحكم جيشاً إلى الشمال بقيادة ولده عبد الرحمن، فارتد الفرنج إلى أراضيهم، ثم عادوا إلى حصار طرطوشة في العام التالي بقيادة لويس أيضاً، وعاد المسلمون إلى قتالهم بقيادة عبد الرحمن، ومعه في تلك المرة عمروس عامل الثغر الأوسط،

(1) راجع ابن الأثير ج 6 ص 65، وابن خلدون ج 4 ص 126 و127، والبيان المغرب ج 2 ص 71 و72، وفيه أن من هلك في مذبحة الحفرة، بلغ زهاء سبعمائة فقط. وجاء في مخطوط ابن حيان السابق ذكره، رواية عيسى بن أحمد الرازي، أن الذي دبر الكمين هو الأمير عبد الرحمن بن الحكم، وأنه هو الذي أولم الوليمة، وأنه هلك في المذبحة زهاء خمسة آلاف (ص 93). وراجع أيضاً Dozy: Hist..I.p. 291-294.

(2)

وتسميه الرواية العربية خطأ برذريق أو لذريق بن قارله (ابن الأثير ج 6 ص 66 والبيان المغرب ج 2 ص 74).

ص: 240

وعبدون عامل الثغر الأعلى، في قواتهما، ونشبت بين المسلمين والفرنج عدة وقائع انتهت بهزيمة الفرنج وإنقاذ طرطوشة، وذلك في سنة 193هـ (809 م).

وعمد نصارى الشمال كعادتهم إلى انتهاز كل فرصة سانحة للإغارة على أراضي المسلمين، وشجعهم انشغال حكومة قرطبة بقمع الثورات المختلفة، وكان ملك جليقية يومئذ ألفونسو الثاني، الملقب بالعفيف، أميراً شديد التعصب لدينه ووطنه، وكانت حملاته المتوالية إلى أراضي المسلمين يطبعها لون ديني عميق، وعبر ألفونسو نهر دويرة (دورو) إلى أراضي المسلمين غير مرة، وعاث فيها قتلا ونهباً وسبياً، وكانت حملاته تتجه بالأخص إلى أطراف الثغر الأدنى، والي المنطقة الواقعة بين نهري دويرة والتَّاجُه، لبعدها عن حكومة قرطبة، وضعف وسائل الدفاع فيها، وتوغل ألفونسو في حملاته حتى قُلُمْرية (قلنبرية) وأشبونة، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيراً من جراء غزوات النصارى، وترامت إلى الحكم آلامهم واستغاثتهم، ورفع إليه شاعره عباس بن ناصح الجزيري قصيدة يصف فيها آلام أهل الثغر ومصائبهم. ففي صيف سنة 194هـ (810 م)(1)، سار الحكم غازياً بنفسه إلى أراضي ألبة والقلاع، وتوغل فيها مما يلي وادي الحجارة غرباً، وأثخن في تلك الأنحاء، وهزم النصارى في عدة وقائع، وقتل وسبى منهم جموعا كثيرة، واطمأنت نفوس المسلمين في الثغر بزجر النصارى وردهم إلى داخل أراضيهم.

وسير الحكم في العام التالي جيشاً إلى الثغر الأعلى بقيادة عمه عبد الله البلنسي، فغزا قطلونية، وهاجم مدينة برشلونة، وهزم الفرنج، ولكنه لم يحرز فتوحا ثابتة. وشعر الفرنج، كما شعر المسلمون بعقم هذه الحملات المخربة، وآثر الفريقان التفاهم والمهادنة، ويقول لنا ابن حيان إنه كان ثمة باعث آخر على التعجيل بعقد السلم بين العاهلين، هو استفحال أمر إدريس بن إدريس بن عبد الله الحسنى بأرض العدوة (المغرب)، وتقاطر الوفود من إفريقية والأندلس إلى بيعته، وتوجس الحكم من مصاير هذه الحركة الجديدة بالمغرب (2). وهكذا عقد

(1) هذه رواية صاحب البيان المغرب (ج 2 ص 75) ويضع ابن الأثير تاريخ هذه الغزوة في سنة 196هـ.

(2)

مخطوط ابن حيان المشار إليه ص 100. ويسمى ابن حيان هنا ملك الفرنج باسمه الصحيح " قارله بن ببين ". وراجع الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ج 1 ص 71 و72.

ص: 241

السلم بين شارلمان والحكم، واستمر معقوداً حتى وفاة شارلمان بعد ذلك بأعوام قلائل في سنة 814 م.

ووقعت في تلك الأثناء عدة ثورات محلية، فثار حزم بن وهب في باجة، وامتد سلطانه حتى أشبونة، فسير إليه الحكم ولده هشاماً، فقاتل الثوار حتى أذعنوا لطلب الأمان. وعادت طليطلة إلى الثورة في سنة 197هـ لأعوام قلائل من واقعة الحفرة، فرأى الحكم أن يسير إليها بنفسه، فسار في قواته من طريق منحرفة كأنه يقصد الشمال، ثم تحول إليها فجأة، ولم تكن الثورة يومئذ، في مثل عنفها القديم، فلم يجد الحكم مشقة في دخول المدينة الثائرة وإخضاعها (سنة 199هـ). وثارت بعد ذلك ماردة بقيادة زعيمها مروان بن يونس الجليقي، فبعث الحكم إليها ولده عبد الرحمن في الجند فأخضعها.

وفي سنة 197هـ (812 م) عصف بالولايات الشمالية قحط شديد، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيراً من ضروب الحرمان والبؤس، ومات منهم خلق كثير، وعبر البحر إلى العدوة الكثير منهم، فبادر الحكم إلى إغاثتهم ومعاونة المنكوبين منهم، وتخفيف الويل عنهم، وفرق الصدقات الواسعة والأموال الكثيرة في الضعفاء والمساكين، وأبناء السبيل، وفي ذلك يمتدحه شاعره عباس بن ناصح الجزيري بقوله:

نكد الزمان فآمنت أيامه

من أن يكون بعصره عسر

طلع الزمان بأزمة فجلت له

تلك الكريهة جوده الغمر

وكانت آخر غزوة قام بها الحكم في الشمال في سنة 200هـ (815 م) إذ سير الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى جلِّيقية في جيش ضخم، وكان الجلالقة وحلفاؤهم البشكنس ما يزالون على عدوانهم وعيثهم بالأراضي الإسلامية المجاورة، فتوغل المسلمون في أراضي جليقية، وأثخنوا فيها، ونشبت بينهم وبين النصارى موقعة شديدة على ضفاف نهر أرون استمرت عدة أيام، وانتهت بهزيمة النصارى، وقتل منهم عدد كبير، ووقع في الأسر جماعة من أمرائهم وأكابرهم، وارتد النصارى إلى الداخل، واعتصموا بالوهاد والربى، وعاد الحاجب إلى قرطبة ظافراً (1).

(1) نفح الطيب ج 1 ص 159؛ والبيان المغرب ج 2 ص 77.

ص: 242

وفي أواخر عهد الحكم اضطرمت بقرطبة ثورة خطيرة كادت أن تزعزع عرشه، وكان الشعب القرطبي ينقم على الأمير طغيانه وصرامته وكبرياءه، وكان بين أهل قرطبة كثير من " المولدين " الذين يبغضون السلطة الحاكمة، لشعورهم بنقص في مركزهم الإجتماعي وفي حقوقهم العامة، وكان الفقهاء من جهة أخرى، وفي مقدمتهم جماعة من المحرضين البارعين مثل طالوت المعافري وغيره، يعملون على إذكاء سخط العامة على الحكم وبلاطه، بما يرمون به الحكم من جنوح إلى المعاصي، واقتراف للإثم، وانهماك في اللهو والشراب، فكانت بين الأمير وبين أهل قرطبة وحشة تشتد على ممر الأيام، وزاد في سخط العامة ما فرضه الحكم على المواد الغذائية، من عشور مرهقة، وكان العامة يجاهرون بذم الأمير والخوض في سيرته، ويجتمعون في المساجد ليلا لتجريحه والطعن عليه، ووصلت بهم الجرأة إلى أن كانوا يتعرضون له في الطريق، وينعتونه علنا " بالمخمور ". وحدث ذات يوم أن خرج الأمير إلى الصيد، وشق سوق "الربض" فتعرضوا له بالقول، وصفقوا عليه بالأكف، فأمر بالقبض على عشرة من زعمائهم وصلبهم. ويقول لنا ابن القوطية، إن أولئك الذين قبض عليهم وصلبوا كانوا من زعماء مؤامرة دبرت ضد الحكم، وكان منهم بعض أعلام القوم، مثل يحيى بن نصر اليحصبي، وموسى بن سالم الخولاني وولده (1). وهنا ازداد الهياج، وبدت أعراض الثورة، وتحفز العامة للوثوب، وأكثروا من التعرض لجند الأمير وحرسه والاعتداء عليهم، وشعر الحكم بخطورة الموقف، فحصن القصر واتخذ أهبته. وفي ذات يوم اضطرمت نار الثورة فجأة، وذلك على أثر مشادة وقعت بين أحد مماليك الحكم وبين صيقل عهد إليه بصقل سيفه، فتباطأ الصيقل، فقتله المملوك، فثار العامة في الحال، وهرعوا إلى السلاح، وكان أشدهم تحفزاً وهياجاً أهل "الربض" الجنوبي في الضفة الأخرى من النهر، وهي ضاحية قرطبة الجنوبية المسماة (شَقُندة)، وكانت كثرتهم من الأوغاد والسفلة، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من رمضان سنة 202 هـ (25 مارس 818 م)(2)، وزحفت

(1) ابن القوطية في " افتتاح الأندلس " ص 50 و51.

(2)

تختلف الرواية الإسلامية في تاريخ هذه الموقعة اختلافاً بينا، فتضع معظم الروايات الأندلسية تاريخها في سنة 202هـ؛ ويعين ابن الأبار اليوم والشهر الذي وقعت فيه فيقول إنها وقعت =

ص: 243

جموع الثوار إلى القصر من كل ناحية، وتأهب الحكم في حرسه وغلمانه لردها، وبعث ابن عمه عبيد الله البلنسي صاحب الصوائف، والحاجب عبد الكريم، في قوة من الفرسان والمشاة، فاستقبلت الجموع الزاحفة، وردتها إلى الوراء بعد أن نفذت إلى فناء القصر، ثم شقت طريقها إلى النهر واقتحمته إلى الضاحية الثائرة، وأضرمت النار في عدة من أنحائها، ونجحت هذه الوسيلة في تفرقة ْشمل الثوار، إذ ما كادت ألسنة اللهب تبدو، حتى هرع الكثير منهم إلى دورهم يحاولون إطفاء النار وإنقاذ الأهل والولد. وهنا احتاط الجند بالثوار من كل ناحية وأمعنوا فيهم قتلا حتى أفنوا منهم خلقاً كثيراً، وطاردوهم في كل مكان، ونهبت دورهم، وأسر منهم عدد كبير، وفر من استطاع، ومنهم بعض الفقهاء والمحرضين مثل طالوت وغيره، والتجأ البعض إلى طليطلة، واستمر القتل والنهب ثلاثة أيام حتى مزقوا كل ممزق، وصلب الحكم تجاه قصره على شاطىء النهر ثلاثمائة رجل من الثوار، صفوفاً منكسة، إرهاباً لأهل قرطبة. ثم كف الجند عنهم، ونودي بالأمان وهدأت الفتنة، وأمر الحكم بديار الثوار فهدمت عن آخرها، ولا سيما "الرَّبَض"، القبلي الذي كان مهد الفتنة، وقام على الهدم ربيع القومس عامل أهل الذمة وقائد الغلمان الخاصة، فمسح أحياء الثوار مسحاً، وغدت ْألوف كثيرة منهم دون مأوى، وأمر الحكم بخروجهم من قرطبة في الحال، وأن

= في يوم الأربعاء 13 رمضان سنة 202 (الحلة السيراء ص 39)؛ ويوافقه ابن عذارى في تاريخها في نفس العام (ج 2 ص 87)؛ وتؤيد هذا التاريخ عدة روايات وردت في مخطوط ابن حيان الذي بين أيدينا، ومنها رواية الرازي (ص 103 و104). ولكن ابن الأثير يضع تاريخ واقعة الربض في سنة 198هـ، وإن كان يشير أيضاً إلى ما قيل من وقوعها في سنة 202هـ (ج 6 ص 101 و102)؛ ويأخذ المشارقة بهذه الرواية؛ فنرى المقريزي مثلا يضع مقدم الأندلسيين الذين نزحوا على أثر الواقعة إلى الإسكندرية في سنة 199هـ، ويشير إلى اشتراكهم في الحرب الأهلية التي كانت تضطرم يومئذ بها في سنتي 200 و201هـ (راجع خطط المقريزي - مصر - ج 1 ص 278 - 280) وذلك مما قد يعزز رواية ابن الأثير في حدوث الواقعة سنة 198هـ؛ ويميل دوزي أيضاً إلى الأخذ بهذه الرواية (ج 1 ص 296 - 297)، ويستشهد بما يرويه المقريزي من الوقائع المادية. على أننا نميل من جانبنا إلى الأخذ بالرواية الأندلسية لقدمها واتفاقها، وكونها أقرب إلى ميدان الحوادث وأقرب إلى التحقيق. وأما رواية المقريزي، فقد يحمل ما ورد فيها إلى اضطراب في ذكر الحوادث، خصوصاً وأن الحرب الأهلية المصرية التي يشير إلى اشتراك الأندلسيين فيها قد استمرت من سنة 199 إلى سنة 205هـ، مما يمكن معه أن نوفق بين أقواله وبين حدوث واقعة الربض في سنة 202هـ (وراجع النجوم الزاهرة ج 2 ص 169 و178).

ص: 244

لا أمان لمن لديه تخلف منهم. وبدأ رحيلهم في العشرين من رمضان (202هـ) فتفرقوا في الثغور والكور، ولجأت جموع منهم إلى طليطلة لمخالفة أهلها على الحكم يومئذ، وعبر البحر كثير منهم إلى عدوة المغرب، واتجهت جماعة كبيرة منهم قوامها زهاء خمسة عشر ألفاً إلى المشرق في عدة من السفن، ورست في مياه الإسكندرية، وكانت مصر تضطرم يومئذ بنار الحرب الأهلية التي نشبت بين السّرى بن الحكم وبين خصومه حول ولايتها، فنزل الأندلسيون إلى الثغر واستقروا فيه، واشتركوا في الحرب الأهلية، واستمرت الفتنة بمصر، والأندلسيون بالإسكندرية، حتى قدم عبد الله بن طاهر إلى مصر أميراً عليها من قبل الخليفة المأمون، فسار إلى الإسكندرية وحاصرها، واضطر الأندلسيون إلى الإذعان والصلح، وغادروا الإسكندرية في سفنهم، وساروا إلى جزيرة إقريطش (كريت)، بقيادة زعيمهم أبى حفص عمر بن عيسى البلوطي، وافتتحوها، ونزلوا بها (212هـ - 827 م)، وأسسوا بها دولة صغيرة زاهرة استمرت زهاء قرن وثلث، حتى استعاد البيزنطيون الجزيرة من المسلمين سنة 350 هـ (961 م).

هكذا كانت ثورة " الربض " التي كادت أن تحمل الحكم وعرشه، وكانت ثورة شعبية بمعنى الكلمة، ولكنها كانت دون تنظيم ودون زعامة، وقد أدرك الحكم خطورتها، ولم تأخذه في إخمادها هوادة ولا رأفة، وأصدر عقب إخمادها كتاباً إلى الكور يشرح فيه الواقعة وظروفها. وقد رأينا أن ننقل نصه فيما يلى كوثيقة سياسية وديوانية هامة من وثائق العصر:

" بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن الله ذوالفضل والمنن، والطول والعدل، إذا أراد إتمام أمر وتهميه، لمن جعله أهله وكفيه، سدده وأعزه، وأنفذ قضاءه بفلحه، ولم يجعل لأحد من خلقه قوة على عناده ودفاعه، حتى يمضي فيه حكمه له وعليه كما شاء، وختم في أم الكتاب لا مبدل لكلماته عز وجل، وإنه لما كان يوم الأربعاء لثلاث عشرة من شهر رمضان، تداعى فسقة أهل قرطبة وسفلتهم، وأذنبتهم من الشرطانيين، ألد الفئة، المعلوجي شراً وبطراً، عن غير مكروه سيرة، ولا قبيح أثر، ولا نكر حادثة، كان منا فيهم، فأظهروا السلاح، وتلينوا للكفاح، وهتفوا بالخلعان، وتأنقوا بالخلاف، ومدوا عنقاً إلى ما لم يجعله الله له أهلا من التأمير على خلقه، والتسور في حكمه. فلما رأيت ذلك من

ص: 245

غدرهم وعدوانهم، أمرت بشد جدار المدينة، فشد بالرجال والأسلحة، ثم أنهضت الأجناد خيلا ورجالا، إلى من تداعى من الفسقة في أرباضها، فأقحموا الخيل في شوارعهم وأزقتهم، وأخذوا بفوهاتها عليهم، ثم صدقوهم الحملات، وكورهم بالسَّدَّات المتواليات، فما صبر العبدان أن كشفوا السوءات، ومنحوا أكتافهم المتواليات، وأمكن الله منهم ذوى البصائر المؤيدات، فأسلمهم الله بجريرتهم، وصدعهم ببغيهم، وأخذهم بنكثهم، فقتلوا تقتيلا، وعموا تدميراً، وعروا تشويهاً وتمثيلا، جزاء عاجلا على الذي نكثوه من بيعتنا، ودفعوه من طاعتنا، ولعذاب الآخرة أخزى وأشد تنكيلا. فلما قتلهم الله بجرمهم فيها، وأحسن العون عليهم لنا، أمسكت عن نهب الأموال، وسبي الذرية والعيال، وعن قتل من لا ذنب له من أهل البراءة والاعتزال، ازدلافاً إلى رضى الله ناصري عليهم ذى العزة والجلال، تهنأت صلحه وفلحه، واستورعت حمده وشكره، فاحمدوا الله ذا الآلاء والقمع، معشرة الأولياء والرعية، الذي أتاح لنا ولجميع المسلمين في قتلهم وإذلالهم، وقمعهم وإهلاكهم، مما أعظم به علينا المنة، وخصنا فيه بالكفاية، وتمم علينا وعليكم به النعمة، فقد كانوا أهل جرأة مقدم، وذعرة ضلالة، واستخفاف بالأئمة، وظهير إلى المشركين، وحطوط إليهم، وتحنن لدولتهم، فلله الحمد المكرور، والاعتراف المذخور، على قطع دابرهم، وحسم شرهم، أحببت إعلامك بالذي كان من صنع الله عليهم لولائك بنا، ومكانك منا، لمشاركتنا في نصرته، وتحمد الله ومن قبلك من شيعتنا ومعتقدي طاعتنا، على جميل صنعه فيه، وتشيعوا شكره عليه إن شاء الله " (1).

ومن نظم الحكم في واقعة الربض قوله:

رأيت صدوع الأرض بالسيف واقعاً

وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا

فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة

أبادرها مستنضى السيف دارعا

(1) نقلنا هذه الوثيقة عن مخطوط ابن حيان المشار إليه (ص 103 و104). وتراجع حوادث واقعة الربض في ابن الأبار (الحلة السيراء ص 39 و40)، والبيان المغرب (ج 2 ص 77 و78)، والمعجب للمراكشي (ص 11)، وابن الأثير (ج 6 ص101 و102)، وابن القوطية ص 51 و52. ويورد ابن خلدون والمقري عن الواقعة روايات محرفة متداخلة في حوادث سابقة (راجع ابن خلدون ج 4 ص 126، ونفح الطيب ج 1 ص 156). ووردت في مخطوط ابن حيان عنها تفاصيل كثيرة منسوبة إلى الرازي وغيره (ص 103 - 110).

ص: 246

تنبيك أني لم أكن في قراعهم

بوان وقد ما كنت بالسيف قارعا

وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم

فوافوا منايا قدرت ومصارعا

فهذي بلادي إننى قد تركتها

مهاداً ولم أترك عليها منازعا

وإني إذ أجادر أجراعاً عن الردى

فما كنت ذا جيد عن الموت جارعا

خرج الحكم ظافراً من تلك الثورة الشعبية بعد أن سحقها سحقاً. ومع ذلك فقد لبث أهل قرطبة على تحديهم له، ولبثوا يتغامزون عليه، ويقدحون في سيرته. وقد وصف لنا كاتب قريب من العصر، موقف أهل قرطبة بعد الواقعة من الحكم في قوله: " فأكثروا الخوض، وأطالوا الهمهمة، وفزع رؤوسهم الى السمر في مساجدهم بالليل، مستخفين من السلطان، مدبرين عليه، وقد كان خائفاً من ثورتهم، متهمماً لدخلتهم، حذراً منهم، مستعداً لهم، مرتقباً لوثبتهم، مرتبطاً الخيل على باب قصره، نوباً بين غلمانه

". ثم إنه استكثر من العبيد والسلاح، وعززهم بالأحرار، يرابطون دائماً حول القصر، واستشعر الناس من ذلك الهيبة والخوف، وركنوا إلى السكينة، وفرض الحكم العشور على جميع الناس بقرطبة وبالكور، فزاد في نفورهم منه، وبغضهم له (1).

وأثارت حوادث الربض، واستكانة الشعب، من جهة أخرى، قريض الشعراء الأحرار، من خصوم الحكم، والناقمين على عسفه وطغيانه، وصدرت في ذلك قصائد كثيرة تنعي مسلك أهل قرطبة واستكانتهم، ومن ذلك قول الشاعر غريب بن عبد الله من قصيدة طويلة:

يا أهل قرطبة الذين تواكلوا

جد الدفاع من التواكل أفضل

جد الدفاع لو انكم دافعتم

يوم الهياج لكم أعز وأجمل

إن التواكل وهنة ومذلة

والجد فيه الصنع والمتمهل

صرتم أحاديث العباد وكنتم

عوناً لهم في كل هم ينزل

أمسى عبيدكم الذين ملكتم

ملكوا عليكم والأمور تحول

ومرض الحكم بعد ذلك واستطالت به العلة، فاستناب عنه في أواخر عهده عبد الرحمن أكبر أولاده لتدبير الأمور (2)، واختاره لولاية عهده، وأخذ له البيعة

(1) مخطوط ابن حيان المشار إليه ص 105 و110.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 41.

ص: 247

بالفعل، واختار أخاه المغيرة ليخلفه من بعده، ولكن المغيرة تنازل فيما بعد عن حقه في ولاية العهد. وكان الحكم أول أمير من أمراء بني أمية بالأندلس أخذ البيعة في حياته لولي عهده، وذلك خشية وقوع الخلاف بعد موته. ثم توفي الحكم في السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 206هـ (22 مايو سنة 822 م)، وقد بلغ الثانية والخمسين من عمره، ودفن مع آبائه في مقبرة القصر المعروفة بالروضة. وترك من الولد تسعة عشر من الذكور واثنين وثلاثين من الإناث.

وقيل إن الحكم أبدى حين مرض موته أسفه وندمه، لما أوقعه بأهل الربض من بالغ النكال والشدة، وصرح بأنه كان خيراً لو لم يفعل ما فعله (1).

ولما شعر الحكم بدنو أجله استدعى ولده عبد الرحمن، وألقى إليه وصيته، وفيها يقول:" إنى وطدت لك الدنيا، وذللت لك الأعداء، وأقمت أود الخلافة، وأمنت عليك الخلاف والمنازعة، فاجر على ما نهجت لك من الطريقة، واعلم أن أولى الأمور بك، وأوجبها عليك، حفظ أهلك، ثم عشيرتك، ثم الذين يلونهم من مواليك وشيعتك، فهم أنصارك وأهل دعوتك، ومشاركوك في حُلوِك ومرِّك، فبهم أنزل ثقتك، وإياهم واس من نعمتك، وعصابتهم استشعر دون المتوثبين إلى مراتبهم من عوام رعيتك، الذين لا يزالون ناقمين على الملوك أفعالهم، مستثقلين لأعبائهم، فاحسم عللهم ببسط العدل لكافتهم، واحسام أولى الفضل والسداد لأحكامهم وعمالاتهم، دون أن ترفع عنهم ثقل الهيبة، وإن رأيت فيمن يرتقي من صنائعك رجلا لم تنهض به سابقة، ويشف بخصلة، وتطمح نفسه وهمته، فأعنه واختبره، وقدمه واصطنعه، ولا يريبنك خمول أوله، فان أول كل شرف خارجيته، ولا تَدَعن مجازاة المحسن بإحسانه، ومعاقبة المسىء بإساءته، فإن عند التزامك لهذين، ووضعك لهما مواضعهما، يرغب فيك، ويرهب منك. وملاك أمرك كله بالمال، وحفظه، بأخذه من حله، وصرفه في حقه، فإنه روح الملك المدبر بجثمانه، فلا تجعل بينك وبينه أحداً، في الإشراف على اجتنائه وادخاره، والتثقيف لإنفاقه وعطائه. وختام وصيتي إياك بإحكامك في أحكامك، فاتق الله ما استطعت، وإلى الله أكلك، وإياه استحفظك، فقد هان على الموت إذ خلفني مثلك "(2).

(1) ابن القوطية ص 55.

(2)

نقلنا نص هذه الوصية عن مخطوط ابن حيان. وقد وردت فيه برواية الرازي ومعاوية هشام الشبينسي في نصين مختلفين حاولنا أن ننسق بينهما.

ص: 248

وكان الحكم أميراً قوي النفس، وافر العزم، فطناً، حسن التدبير، واسع الحيلة، نافذ الرأي والحزم، صارماً يؤثر وسائل الطغيان المطلق، شديد الاستئثار بسلطانه، حريصاً على حمايته من كل تدخل أو نفوذ. وكان مثل جده عبد الرحمن الداخل يلتمس الغاية بأي الوسائل، ويذهب في صرامته وطغيانه إلى حد القسوة والقمع الذريع، ولم يكن يحجم مثله عن الالتجاء إلى وسائل لا تقرها المبادئ الأخلاقية القويمة. وكان شغوفاً بأبهة الملك، مسرفاً في مظاهر البذخ الطائل، كثير الترفع عن العامة، ولم يكن كأبيه وجده محبباً إلى الشعب، بل كان بالعكس مكروهاً من الكافة، وكان الفقهاء يبثون هذا البغض في نفوسهم بوسائلهم الخاصة، لما عمد إليه الحكم من سحق سلطانهم ونفوذهم. ومع ذلك فقد كان الحكم بالرغم من عسفه وطغيانه، أميراً مستنيراً، يؤثر العدل، ويحرص على إقامته، ويختار لقضائه أفضل الناس، وأكثرهم نزاهة وورعاً، وكان يسلط قضاته على نفسه، وعلى ولده وخاصته. وكان قاضيه محمد بن بشير من أعظم القضاة نزاهة واستقلالا في الرأي والحكم (1).

وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن الحكم كان أول من أظهر فخامة الملك بالأندلس، والواقع أنه أول من أنشأ بالأندلس بلاطاً إسلامياً ملوكياً بكل معاني الكلمة، ورتب نظمه ورسومه، وأقام له بطانة ملوكية فخمة، فاستكثر من الموالي والحشم، وأنشأ الحرس الخاص، وفي عهده ظهر الصقالبة لأول مرة في البلاط بكثرة، وكان جده عبد الرحمن الداخل أول من وضع سياسة اصطفاء الموالي لاسترابته بالعرب كما قدمنا، وتوسع حفيده الحكم في تطبيق هذه السياسة، فاستكثر من الموالي والصقالبة، وعهد إليهم بمعظم شئون القصر والخاص. وكان هؤلاء الصقالبة (2) على الأغلب من الرقيق والخصيان، الذين يؤتى بهم بالأخص من بلاد الفرنج وحوض الدانوب وبلاد اللونبارد ومختلف ثغور البحر الأبيض النصرانية، وكان يؤتى بهم أطفالا من الجنسين ويربون تربية إسلامية، ثم يدربون على أعمال البطانة وشئون القصر، وقد سما شأنهم فيما بعد، وتولوا مناصب الرياسة والقيادة،

(1) أخبار مجموعة ص 124؛ والبيان المغرب ج 2 ص 80؛ والمعجب ص 11.

(2)

يرى البعض أن كلمة صقالبة قد اشتقت في الأصل من كلمة Esclave الإفرنجية.

ومعناها الرقيق أو الأسير. راجع Reinaud: ibid ، p. 237

ص: 249

وبلغ عددهم في عهد الحكم زهاء خمسة آلاف (1). وكان للحكم فرقة من الحرس الخاص معظمهم من فيء أربونة ورثهم عن والده هشام، وقد أبلوا في الدفاع عنه يوم الربض أحسن البلاء، فأعتقهم جميعاً، وأغدق عليهم صلاته (2). وكان الحكم فارساً مجيداً، يعشق الفروسية والصيد، وكانت له ألفا فرس من الجياد الصافنات مرتبطة على شاطىء النهر تجاه القصر، يشرف عليها جماعة من العرفاء البارعين (3). وكانت له شرطة قوية منظمة، وله عيون يطالعونه بأحوال الناس.

وعلى الجملة فقد كان الحكم أميراً عظيم السلطان والهيبة، يسطع بلاطه، كما تسطع خلاله، ويثير من حوله بهاء الملك وروعته، وقد شبهه بعضهم بأبى جعفر المنصور في قوة الملك، وتوطيد الدولة، وقمع الأعداء (4).

وكان الحكم فوق ذلك خطيباً مفوهاً، وشاعراً مجيداً، نظم الشعر في مختلف المناسبات، من أحداث الحرب والسياسة، والفخر والغزل وغيرها. وقد أوردنا فيما تقدم شيئاً من نظمه في واقعة الربض، ومن قوله في الفخر:

غناء صليل البيض أشهى إلى الأذن

من اللحن في الأوتار واللهو والردن

إذا اختلفت زرق الأسنة والقنا

أرتك نجوماً يطلعن من الطعن

بها يهتدي الساري وينكشف الدجى

وتستشعر الدنيا لباساً من الأمن

وإن تجد الأبطال حصناً ومعقلا

فما لي غير السيف في الأرض من حصن

قذفت بهم في فضا الأرض فانزوت

له الأرض واستولى على السهل والحزن

ومن قوله في الغزل:

قضب من البان ماست فوق كثبان

ولَّيْن عني وقد أزمعن هجراني

ناشدتهن بحقي فاعتزمن على الـ

ـعصيان لما خلا منهن عصياني

ملكنني ملكاً ذلت عزائمه

للحب ذل أثير موثق عاني

من لي بمغتصبات الروح من بدني

يغصبنني في الهوى عزِّي وسلطاني

(1) المسالك والممالك لابن حوقل ص 75؛ ونفح الطيب ج 1 ص 159 و160؛ وابن الأثير ج 6 ص 128.

(2)

مخطوط ابن حيان المشار إليه (ص 106).

(3)

أخبار مجموعة ص 129، والبيان المغرب ج 2 ص 81.

(4)

ابن خلدون ج 4 ص 127؛ وابن الأثير ج 6 ص 128؛ ونفح الطيب ج 1 ص 159.

ص: 250

على أن هذه الخلال الباهرة التي كان يتمتع بها الحكم، لم تكن دون نواح قاتمة هي دائماً مما يغلب لدى الطغاة الأقوياء، وقد ذكر لنا ابن حزم أنه كان من المجاهرين بالمعاصي السفاكين للدماء. ويزيد ابن حزم على ذلك أن الحكم كان يخصي من اشتهر بالجمال من أبناء رعيته، ليدخلهم إلى قصره ويصيرهم من خدمه، ومن هؤلاء طرفة بن لقيط، وهو من أسرة نابهة تصرف أبناؤها في الولايات الرفيعة، ومنهم نصر صاحب منية نصر، وهو الذي غدا في عهد ولده عبد الرحمن من أعظم رجالات الدولة مكانة ونفوذاً (1).

وكان الحكم مديد القامة، أسمر، نحيفاً، وكان يلقب بالحكم المنتصر، وبالحكم الربضي، نسبة إلى ما حدث منه في واقعة الربض.

* * *

وكانت حكومة الحكم تضم طائفة من الشخصيات البارزة في تاريخ الأندلس في ذلك العصر، فتولى حجابته (رياسة الوزارة) عبد الكريم بن عبد الواحد ابن مغيث قائد أبيه من قبل، وكان جندياً عظيماً، قاد عدة غزوات مظفرة إلى بلاد النصارى، وكان أيضاً كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً (2). وخلفه في الحجابة عبد العزيز بن أبي عبْدَة، وكان قائداً كبيراً وسياسياً بارعاً. وكان بين قواده ووزرائه أيضا، اسحاق بن المنذر، والعبّاس بن عبد الله. وفي عهد الحكم أنشئ بالدولة منصب خاص لإدارة شئون أهل الذمة (النصارى واليهود) ينعت صاحبه بالقومس (3)، وعين فيه ربيع بن تدلف القومس، قائد الغلمان الخاصة ومتولي قهرمة الأمير الحكم وشئونه الخاصة، وكان طاغية ظلوماً يبغضه الجميع، وقد أمر الحكم بقتله قبيل وفاته، فنفذ فيه الحكم ولي العهد عبد الرحمن، وتم إعدامه وسط الاغتباط العام. وذكر البعض أن هذا المنصب أنشئ في عهد

(1) مخطوط ابن حيان السالف الذكر ص 128. وراجع رسالة ابن حزم المسماة " نقط العروس " المنشورة بعناية الدكتور شوقي ضيف في مجلة كلية الآداب (ديسمبر سنة 1951)، ص 73. وكذلك نفح الطيب ج 1 ص 160.

(2)

ابن الأبار في الحلة السيراء ص 72.

(3)

مخطوط ابن حيان. والقومس تعريب للكلمة اللاتينية Comes، وتعرب أحياناً بكلمة " قمط "، أعني " الكونت " Comte باللغة الحديثة.

ص: 251

عبد الرحمن الداخل (1). ولكن الظاهر أنه لم يرتب بصورة ثابتة وتحدد اختصاصاته إلا في عهد الحكم.

وكان عصر الحكم، بالرغم مما غشيه من الاضطرابات والفتن، عصراً ازدهرت فيه الآداب والعلوم، وظهر فيه عدد جم من أكابر الكتاب والشعراء والعلماء. وكان في مقدمتهم شاعر الحكم الأثير لديه، وقطب الشعر في عصره، عباس بن ناصح الثقفي الجزيري، وكان فضلا عن براعته في الشعر والأدب، بارعاً في علوم اللغة، وفي الهندسة والفلسفة والفلك، وكانت له منزلة خاصة عند الحكم، وله في مديحه أشعار كثيرة. وقد ولاه الحكم قضاء الجزيره بلده ومسقط رأسه، ثم وليه من بعده ولده عبد الوهاب بن عباس، وكان مثله شإعراً نابهاً، وتوفي أواخر عهد الحكم (2).

وكان من أعلام عصر الحكم أبو القاسم عباس بن فرناس، وهو فيلسوف وعلامة رياضي من نوع فذ، وقد ولد في مقاطعة تاكرنا من أصل بربري، وبرع منذ فتوته في الفلسفة والفلك والكيمياء الصناعية، وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وبرع أيضاً في الموسيقى، وصنع آلة فلكية تعرف " بالميقاتة " لتعريف الوقت، وله مخترعات كثيرة أخرى. وروى بعضهم أنه حاول أن يخترع أداة للطيران، فصنع لنفسه جناحين بهيئة مخصوصة، وحاول الطيران من ناحية الرُّصافة، فحلق في الهواء، ثم وقع في مكان طيرانه على مسافة بعيدة، واشتهر أمره بذلك حتى قال فيه مؤمن بن سعيد الشاعر:

يطم على العنقاء في طيرانها

إذا ما كسى جثمانه ريش قشعم

وذكر عبد الحميد بن بسيل الوزير، قال:" أبدع عباس بن فرناس طول أمده إبداعات لطيفة واختراعات عجيبه، وضرب بالعود، وصاغ الألحان الحسنة، وكان مع ذلك مجيداً للشعر، حسن التصرف في طريقته، كثير المحاسن جم الفوائد ". وأثار ابن فرناس باختراعاته المدهشة ريب الجهلاء، فكثر الطعن في عقيدته، واتهم بالزندقة، ولكن القضاء لم يجد سبيلا إلى إدانته، وعاش طويلا وعاصر من بعد الحكم، ولده عبد الرحمن، وتوفي في عهد حفيده الأمير محمد بن

(1) ابن القوطية ص 38. ويقول إن أول من تولى " القماسة " هو ارطباس ابن وتيزا.

(2)

مخطوط ابن حيان ص 128 و129. وراجع تاريخ العلماء والرواة لابن الفرضي رقم 881 (طبع مصر ص 340).

ص: 252

عبد الرحمن (1) ونظم كثيراً من مختار الشعر في العهود الثلاثة. وسوف نعود إلى ذكره.

ومن أعلام عصر الحكم أيضاً، يحيى الغزال الجياني، وهو أبو زكريا يحيى ابن الحكم البكري، نسبة إلى بكر بن وائل، وأصله من مدينة جيان، ولقب بالغزال لجماله وظرفه وتأنقه، وكان شاعراً جزلا مطبوعاً، وبرع بالأخص في الغزل، وله في النسائيات كثير من رقيق النظم، وكان فوق ذلك عالماً بالفلك والفلسفة، وله أرجوزة طويلة في أبواب العلوم لم تصل الينا، وكان كثير التعريض بالفقهاء والحملة عليهم، حتى سخطوا عليه، ورموه بالزندقة، لصراحته وحر تفكيره. وهو القائل فيهم:

لست تلقى الفقيه إلا غنيّا

ليت شعري من أين يستغنونا

تقطع البر والبحار طلاب الـ

ـرزق والقوم ها هنا قاعدونا

إن للقوم مضرباً غاب عنا

لم يصب قصد وجهه الراكبونا

وله في ذكر النفس والروح قصيدة، أثارت حول عقيدته شبها وريباً، يقول فيها:

يا ليت شعري أى شىء محصل

يرى شخص من قد مات وهو دفين

أهو هو أم خلق شبيه بما رأ

ى فقل للقلوب النائمات عيون

وكيف يرى والعين قد مات نورها

وواقعه شبه الوقار سكون

لئن كانت الأرواح من بعد بيتها

بهن إلى ما خلفهن حنين

وقال يمدح الحكم في قصيدة مطلعها:

كأن الملوك الغُلَّب عندك خُضَّعاً

خواضع طير يتقي الصقر لُبّد

تقلب فيهم مفلة حكمية

فتخفض أقواماً وقوماً تُسوِّد

واشتهر الغزال فوق ذلك بأصالة الرأي، وحسن التدبير، واللباقة، والدهاء وقد رشحته هذه الصفات فيما بعد، في عصر عبد الرحمن بن الحكم للقيام ببعض المهام الدبلوماسية الخطيرة، وهو ما سوف نعود إليه في موضعه.

(1) المخطوط السابق الذكر ص 131؛ 132.

ص: 253