المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأولنظم الحكم - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الأولنظم الحكم

‌الفصل الأول

نظم الحكم

والأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية في عصري الإمارة والخلافة

- 1 -

تعاقبت خلال هذه الفترة الطويلة التي سردناها من تاريخ الأندلس، على الأمة الأندلسية، أنواع من نظم الحكم، ومن الأوضاع السياسية والإدارية، كانت تسير طوراً بعد طور مع مختلف الحوادث، والحروب والانقلابات المتوالية. وبالرغم من أنه لم يفتنا أن نشير في مختلف المواطن إلى تلك التغييرات المتوالية، التي شهدتها الأمة الأندلسية، فإنه يجدر بنا أن نتحدث عنها حديثاً خاصاً، وأن نقدم منها إلى القارىء صورة مجتمعة متماسكة.

كانت الأندلس عقب الفتح ولاية تتبع إفريقية، ويقوم باختيار حاكمها والي إفريقية. وقد أستمر هذا الوضع نحو ثمانية أعوام فقط، تعاقب فيها على ولاية الأندلس ثلاثة من الولاة هم عبد العزيز بن موسى، وأيوب بن حبيب اللخمي، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي. غير أنه كان من الواضح أن هذا النظام لم يكن يلائم قطراً ضخماً كالقطر الأندلسي، وخصوصاً بعدما بدأت الغزوات الإسلامية لغاليس (جنوب فرنسا)، وبدأت الأندلس تخوض الصراع مع مملكة الفرنج فيما وراء البرنيه، ومع نصارى الشمال. ومن ثم فقد رأت خلافة دمشق أن تكون الأندلس ولاية مستقلة تتبع الخلافة مباشرة، ويقوم الخليفة بتعيين واليها. وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز هو الذي أصدر هذا القرار شعوراً منه بأهمية الأندلس السياسية والعسكرية والاجتماعية.

وكان أول ولاة الأندلس من قبل الخلافة، هو السمح بن مالك الخولاني، وقد ندبه عمر بن عبد العزيز لولايتها في سنة مائة من الهجرة (719 م). بيد أنه

ص: 680

لما توفي عمر بن عبد العزيز (101 هـ) عاد الأمر في تعيين ولاة الأندلس إلى ولاة إفريقية، ولكن بمصادقة الخليفة. وكان الوالي عادة هو قائد الجيش العام، وإليه يرجع أمر الغزو في الشمال. ولما وقعت نكبة بلاط الشهداء في سنة 114 هـ (732 م)، أخذت الخلافة مرة أخرى بيدها تعيين والي الأندلس، واختار الخليفة هشام بن عبد الملك لولايتها عبد الملك بن قطن. واستمر الأمر بعد ذلك حيناً يرجع إلى والي إفريقية، وأحياناً إلى اختيار الجماعة، أعني جماعة الزعماء والقادة في شبه الجزيرة، وكان ذلك يحدث بالأخص حين تضطرب الأمور، ويقع الخلاف بين مختلف القبائل والزعامات. ولما اضطرمت الفتنة بين الشاميين والبلديين، وأخذ الفريقان يتبادلان الرياسة، ضعف أمر السلطة المركزية، ولم تهدأ الأمور حتى عين أبو الخطار الكلبي والياً للأندلس (125 هـ). ولكن أبا الخطار كان يمنياً فمال إلى اليمنية، واضطرمت الفتنة بين اليمنية والمضرية، ولما تفافم الأمر، وخشي الزعماء عاقبة الفتنة والحرب الأهلية، اتفقوا على تعيين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من المضرية للولاية، وذلك دون موافقة أو مصادقة لا من والي إفريقية ولا من الخلافة، وكان ذلك في سنة 129 هـ (747 م).

واستمر يوسف بن عبد الرحمن الفهري والياً للأندلس زهاء عشرة أعوام، وهو يزاول سلطة شبه مطلقة. وقد استطاع بعزمه وحزمه، أن يعيد إلى الأندلس نوعاً من الاستقرار والسكينة. ولكن القدر كان يدخر للأندلس مصيراً آخر، في ظل سلطة أخرى، لم تكن تخطر ليوسف أو غيره من الزعماء المتطلعين إلى الرياسة. وذلك أن عبد الرحمن الأموي عبر إلى الأندلس في ربيع الآخر سنة 138 هـ (سبتمبر سنة 755 م)، وهرع في الحال إلى لوائه جمع من الصحب والأنصار، ووقع الحدث الحسم في موقعة المسارة في العاشر من ذي الحجة سنة 138 هـ (13 مايو سنة 756 م) فهزم يوسف الفهري وصحبه، وانتهت رياسته للسلطة، وكتب النصر لسليل بني أمية، فبويع عبد الرحمن الأموي في الحال بالإمارة، وبعثت من ذلك التاريخ دولة بني أمية بالأندلس، بعد أن سقطت بالمشرق قبل ذلك ببضعة أعوام.

ومن ذلك التاريخ تقوم الدولة الأموية في الأندلس، وتستقر قواعدها تباعاً، بعد معارك طويلة متعددة، بينها وبين الزعامات المحلية والعناصر الثائرة. وقد

ص: 681

بقيت الدولة الأموية عصراً تتشح بثوب الإمارة، وذلك وفقاً لما قرره مؤسسها عبد الرحمن الداخل. وبالرغم من أن بلاط قرطبة، بلغ في عصر أمراء مثل الحكم ابن هشام، وولده عبد الرحمن، مبلغاً عظيماً من القوة والبهاء، وأضحى ينافس بلاط بني العباس في الأخذ بزعامة الإسلام، فإن أمراء بني أمية لبثوا على مبدئهم من الاكتفاء بلقب الإمارة، إلى أن كان عهد عبد الرحمن الثالث (الناصر) فعندئذ تغيرت أوضاع الغرب الإسلامي بقيام الخلافة الفاطمية في الضفة الأخرى من البحر، على مقربة من الأندلس. وكان هذا الحادث الخطير في ذاته أول حافز للناصر على اتخاذ سمة الخلافة، وصدر مرسومه بذلك في اليوم الثاني من شهر ذي الحجة سنة 316 هـ (يناير 929 م) وبذا تحولت الدولة الأموية من إمارة إلى خلافة، وكان عبد الرحمن الناصر أول من تلقب من أمرائها " بأمير المؤمنين ".

وقد تميزت الخلافة الأموية بعدة خصائص، أولها الاعتماد في توطيد سلطانها على الموالي والصقالبة، وهي سياسة بدأت في عهد الإمارة منذ عبد الرحمن الداخل، ووصلت إلى ذروتها في عهد الناصر، وذلك حسبما فصلناه في موضعه، وثانيها الاسترابة بالقبائل والزعامات العربية، والعمل المستمر على إخضاعها، والقضاء على سلطانها ونفوذها، وذلك لما لقيه بنو أمية منذ البداية من معارضة هذه القبائل والزعامات، وانتقاضها المتوالي، وثوراتها المتعددة، وثالثاً عطفها الواضح على أهل الذمة وهم النصارى واليهود، وكفالة حرياتهم الدينية والاجتماعية، وهذه السياسة أيضاً ترجع إلى عصر الإمارة، حيث أنشىء منذ عهد الحكم بن هشام أو قبله بقرطبة، منصب خاص لإدارة شئون أهل الذمة يعرف صاحبه " بالقومس "، وقد كان للنصارى المعاهدين، فوق ذلك قاض خاص، وقد يكون أسقفهم في نفس الوقت؛ وعين بعد ذلك للنصارى مطران خاص، مركزه بمدينة إشبيلية. وقد استمر هذا التسامح نحو النصارى المعاهدين عصوراً، وذلك بالرغم مما كانوا يدبرونه في بعض الأحيان ضد الحكومة المسلمة من الدسائس والمؤامرات ويعقدون من الصلات المريبة مع نصارى الشمال.

وبلغت الخلافة الأموية بالأندلس ذروة قوتها ونفوذها السياسي والأدبي في عهد الناصر وولده الحكم المستنصر. بيد أنه بوفاة المستنصر (366 - 976 م) وولاية ولده الحدث الضعيف هشام المؤيد، تبدو طلائع ذلك الانقلاب الحاسم

ص: 682

الذي كان يدخره القدر لمصير الخلافة الأموية. ذلك أن محمد بن أبي عامر، الذي أخذ يبزغ نجمه منذ أواخر أيام الحكم، ما كاد يلي منصب الوزارة، حتى أخذ يستجمع أزمة السلطة في يده تباعاً، ويحطم كل معارضة لسلطانه، وانتهى الأمر بأن فرض ابن أبي عامر نفسه حاكماً مطلقاً للأندلس، وأنشأ مدينة الزاهرة، لتكون له قاعدة جديدة للحكم، واتخذ سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور (371 هـ - 981 م)، وبالرغم من أنه لم يتعرض بشىء للخلافة الأموية أو رسومها، فإن الخلافة لم تكن في ظل حكمه سوى شبح باهت، واسم بلا مسمى. وهكذا قامت الدولة العامرية واستمرت في ظل المنصور، ثم ولده عبد الملك المظفر، فأخيه عبد الرحمن زهاء ثلاثين عاماً، ثم انتهت بمصرع عبد الرحمن المنصور في رجب سنة 399 هـ (1009 م).

وهنا استعادت الخلافة الأموية سلطانها بقيام محمد بن هشام الملقب بالمهدي، وتربعه في كرسي الخلافة مكان الخليفة هشام المؤيد، وانتهى بذلك عهد السلطة الثنائية، سلطة الخلافة الأموية الإسمية، وسلطة بني عامر الفعلية، ولكن عودة الخلافة الأموية على هذا النحو لم يكن سوى بداية مأساة مروعة، استمرت زهاء أربعين عاماً، اضطرمت الأندلس فيها بالفتن المدمرة، وغدت الخلافة الإسمية، والسلطة الفعلية، غنماً متداولا، بين بني أمية، والفتيان العامريين، والبربر، وبني حمود، وانتحل بنو حمود ألقاب الخلافة، وقامت في وقت واحد بالأندلس أكثر من خلافة في قرطبة، ومالقة، وإشبيلية، وغدت قرطبة والأندلس كلها مسرحاً لمعارك وحروب أهلية متوالية، ودمرت خلال ذلك مدينة الزهراء الخلافية، وعدة من أحياء قرطبة، وسادت الفوضى كل جنبات الأندلس، واستمرت هذه المحنة زهاء أربعين عاماً، ثم تمخضت في النهاية عن مأساة جديدة.

وهي تمزق الأندلس إلى ولايات ومدن عديدة مستقلة، يحكم كل منها زعيم أو أمير مستقل، وبدأ بذلك عهد الطوائف.

تلك خلاصة وجيزة للأوضاع النظامية، وأنواع الحكم المتوالية، التي عاشت في ظلها الأمة الأندلسية زهاء ثلاثة قرون منذ فتح الأندلس في سنة 92 هـ (711 م) حتى قيام دول الطوائف، في الربع الثاني من القرن الخامس الهجري.

ص: 683

- 2 -

الحجابة والوزارة

كانت حكومة الأندلس في عصر الولاة، هيئة إدارية محلية قوامها الحاكم (الوالي) وقادة الجيش. ولم تك ثمة مناصب وزارية بالمعنى المعروف، إذ لم يكن الوالي سوى رئيس مؤقت لإدارة الإقليم، وقد كان الوالي في معظم الأحيان هو قائد الجيش العام. ولم تظهر المناصب الوزارية إلا في بداية عصر الإمارة مذ قامت الدولة الأموية بالأندلس، على يد مؤسسها عبد الرحمن الداخل. وقد اقتبس الداخل لنظام حكومته، من أنظمة الحكومة الأموية بالمشرق، وأنشأ منصب الحجابة، ولكنه لم ينشىء مناصب الوزارة، بل اكتفى بتعيين نفر من أخلص أنصاره كمعاونين ومستشارين، يعاونونه في القيام بأعباء الحكم، ويبذلون له النصح في مهام الأمور. وعين للجيش أيضاً قائده العام. بيد أنه كان يقود الجيش بنفسه مواطن كثيرة. وقد امتازت حكومة الداخل بالاعتماد على الموالي والاسترابة بالعرب، لما لقيه الداخل من خصومتهم ومناوأتهم. وقد غدت هذه الظاهرة فيما بعد، ظاهرة الاسترابة بالعرب، من مميزات الحكومة الأموية بالأندلس، سواء في عهد الإمارة أو عهد الخلافة، واتخذت أسطع مظاهرها في عهد عبد الرحمن الناصر.

واتجهت الحكومة الأموية، إلى جانب الاعتماد على الموالي، إلى اصطناع الصقالبة، واتخذ هذا الاتجاه طابعه القوي منذ عهد الحكم بن هشام، وظهر الصقالبة لأول مرة بكثرة في البلاط الأموي، واحتلوا معظم مناصب القصر والخاص. غير أن الاعتماد على الصقالبة لم يمنع قيام الحجابة والوزارات القوية.

فكان منصب الحجابة في الواقع هو أهم المناصب التنفيذية، وكان يليه في معظم الأحيان رجال من الطراز الأول، أحياناً من رجال السيف، مثل عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث وعبد العزيز بن أبي عبدة حاجبا الحكم، وأحياناً من رجال القلم مثل عيسى بن شهيد حاجب عبد الرحمن بن الحكم، والحاجب جعفر المصحفي، حاجب الحكم المستنصر، وأحياناً يجمع الحاجب بين السيف والقلم مثل الحاجب عبد الكريم، وهاشم بن عبد العزيز حاجب الأمير محمد بن عبد الرحمن.

ص: 684

وكان يعاون الحاجب، وهو بمثابة رئيس الوزارة، عدة من الوزراء، يتولون مختلف المناصب الوزارية. وقد بلغت الوزارة في ظل الحكومة الأموية الأندلسية شأواً بعيداً، وتعاقب في ولايتها جمهرة من أعظم الرجال، وألمعهم خلالا، وكانت تضم عدة من أخطر مناصب الدولة، مثل منصب كبير الخاص.

وكان يشغله على الأغلب فتيان الصقالبة. وخطة الخيل. وخطة الكتابة أو الكتابة العليا، وكان يتولاها وزير من الكتاب النابهين. وخطة صاحب المدينة أو حاكم قرطبة، وصاحب المدينة الزهراء، وكانتا من أهم المناصب الوزارية. وخطة المظالم، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم. ولكنها في عهد الناصر، قسمت إلى خطتين (325 هـ)، وجعل العرض خطة مستقلة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة، وكان أول من وليها مستقلة محمد بن قاسم بن طملس، وكان يتولى المظالم وزير، وقد وليها قبله أيام الناصر جماعة من الوزراء النابهين مثل أحمد بن حدير. وعبد الملك بن جهور. وخطة الشئون المالية. وخطة الشرطة، وكانت من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة 317 هـ في عهد الناصر لدين الله، قسمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى؛ وقد رتب رزق الشرطة الوسطى، وسطاً بين رزقي العليا والصغرى، وكان أول من تقلدها سعيد بن سعيد بن حدير. وخطة القضاء، وتتبعها خطة المواريث، وكذلك خطة السوق أو الحسبة. وخطة الشورى، وكانت من الخطط العارضة، ومن المناصب ذات النفوذ العلمي والأدبي قبل كل شيء، وتسند عادة إلى من يعتبر في وقته عميد العلماء وشيخهم، وكان أشهر من وليها رجال مثل بقي بن مخلد. وفي أيام المنصور بن أبي عامر، كان ثمة ديوان يسمى ديوان الندماء، كان يلحق به كل أديب وشاعر ممن يؤثرهم الأمير بصحبته ومجالسته. وفي أواخر الدولة العامرية، غلب الصقالبة في تولي الخطط الكبرى من حجابة ووزارة، وبدأ ذلك بنوع خاص في عهد عبد الملك بن المنصور.

ولما انهارت الدولة العامرية استمرت هذه الظاهرة حيناً، وتولى أولئك الفتيان الحجابة للخلفاء الأخيرين من بني أمية، وغلبوهم على أمرهم، ثم استبدوا فيما

ص: 685

بعد، عند انهيار الدولة، برياسة طائفة من المدن والولايات، وكان من هؤلاء أمراء الطوائف، مثل مجاهد العامري صاحب دانية، وخيران العامري صاحب ألمرية.

وظهرت في الدولة العامرية بدعة أخرى، هي إسناد منصب الحجابة إلى الأطفال.

فقد استصدر عبد الملك بن المنصور من الخليفة المحجور هشام المؤيد، مرسوماً بتعيين ولده الطفل محمد في منصب الحجابة، ولقب بذي الوزارتين، وعين عبد الرحمن المنصور ولده الطفل عبد العزيز في منصب الحجابة، وأسبغ عليه لقب سيف الدولة. وكانت هذه المهازل وأمثالها دليلا على تصدع ذلك الصرح الإدارى المحكم الذي شاده الأمراء والخلفاء من بني أمية، خلال قرنين من الجهود المتوالية. وفي أيام الخليفة المستظهر العابرة (رمضان - ذو القعدة 414 هـ) استحدث بالوزارة عدة خطط جديدة مثل: خطة خدمة المدينتين الزهراء والزاهرة، وخدمة كتابة التعقب والمحاسبة، وخدمة الحشم، وخدمة مواريث الخاصة، وخدمة الطراز، وخدمة المعالي، وخدمة الأسلحة، وخدمة الخزانة، وخدمة الوثائق، ورفع كتب المظالم، وخدمة خزانة الطب والحكمة، وخدمة أحكام السوق، وهي خطط يصفها ابن حيان بأنها عبث وزخرف من التسطير وضع على غير حاصل، ومراتب نصبت لغير طائل.

- 3 -

الجيش، نظامه وتكوينه

كان أول جيش إسلامي عبر إلى شبه الجزيرة لفتح الأندلس، مكوناً من العرب والبربر، وكان قائد الجيش الفاتح، طارق بن زياد، فيما يرجح بربرياً من قبيلة نفزة. وقد لعب البربر منذ البداية في تكوين قوى الأندلس الغازية والدفاعية أعظم دور، وكان تدفقهم من الضفة الأخرى من البحر - من المغرب - على شبه الجزيرة أسرع وأغزر من تدفق المتطوعة العرب، وكانوا يؤلفون الكثرة في جيش الغزو. ولما نظم عبد الرحمن الغافقي جيشه الضخم لغزو بلاد الفرنج، كان البربر من عناصره المختارة الغالبة، وكانت القيادة دائماً بيد الضباط العرب، وكان الخلاف الذي اضطرم منذ بداية الفتح بين العرب والبربر، يعمل عمله المقوض بين صفوف الجيش، وقد بدأ تكوين الجيوش الغازية الضخمة، منذ عهد السمح بن مالك الخولاني والي الأندلس، وكان أعظم هذه

ص: 686

الجيوش، الجيش الضخم الذي حشده عبد الرحمن الغافقي لغزو مملكة الفرنج. وبالرغم من أن البربر كان لهم في إنجاح معظم الغزوات الشمالية أثر فعال، فإنهم كانوا أيضاً في بعض الأحيان عنصراً خطراً على سلامة الجيش، لما كان يسودهم في بعض الأحيان من البغض وعدم التعاون لقادتهم العرب. وكان أسطع مثل لذلك الخلاف المدمر، ما حدث في موقعة بلاط الشهداء (114 هـ - 732 م) من تخاذل البربر وتخلفهم عن القتال أمام الفرنج، وإرغامهم هيئة الجيش على الانسحاب بعد مقتل قائده البطل عبد الرحمن الغافقي. ولما قامت ثورة البربر في المغرب، وهزم العرب في منطقة طنجة، وعبرت فلول الجيش المنهزم وهم من الشاميين بقيادة بلج بن بشر القشيري إلى الأندلس، وذلك بدعوة الوالي ابن قطن، ليستعين بهم على مغالبة البربر في الأندلس، رجحت كفة العناصر العربية في الجيش مدى حين. ولكن جيش الأندلس ما لبث أن انقسم إلى قسمين، معسكر الشاميين وهم أنصار بلج، ومعسكر العرب والبربر المحليين. ولبثت الحرب الأهلية تضطرم حيناً، حتى قام يوسف بن عبد الرحمن الفهري فاستقر في ولاية الأندلس، وقام بإصلاح الجيش وتنظيمه، ليعود كما كان جيشاً أندلسياً، يضطلع بالغزو ورد هجمات نصارى الشمال.

وعنى عبد الرحمن الداخل بتنظيم الجيش أشد عناية، وحشد له المتطوعة والمرتزقة من سائر الطوائف. وبلغت قواته يومئذ نحو مائة ألف مقاتل. وهذا عدا الحرس الخاص، الذي يتكون من الموالي والبربر والرقيق، وقد بلغت قواته نحو أربعين ألفاً. ووضع عبد الرحمن الداخل أيضاً نواة الأسطول الأندلسي بما أنشأ من قواعد لبناء السفن في بعض الثغور النهرية والبحرية. ولكن بداية قيام الأسطول الأندلسي الفعلية ترجع إلى ما بعد ذلك بنحو نصف قرن، حينما فاجأ النورمانيون الأندلس بغزو الثغور الغربية، ثم بغزو إشبيلية، والفتك بأهلها.

وكان ذلك في سنة 230 هـ (843 م) في عهد عبد الرحمن بن الحكم، فعندئذ أدركت الحكومة الأندلسية وجوب العناية بأمر الأسطول والتحصينات البحرية وبدىء بإنشاء السفن الحربية. وكانت أكبر دور الصناعة لإنشاء السفن في مياه الوادي الكبير تجاه إشبيلية. ومن ذلك الحين يقوم الأسطول الأندلسي بدوره في شئون

ص: 687

الغزو والدفاع، وقد بلغت وحداته في عهد عبد الرحمن الناصر زهاء مائتي سفينة.

ومما تجدر ملاحظته أن الجيش الأندلسي، فد تلقى خلال عهد الفتنة الكبرى التي شملت سائر نواحي الأندلس، ولاسيما المنطقة الجنوبية، واستمرت تضطرم زهاء ستين عاماً، منذ عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ) كثيراً من الدربة والتجارب المريرة في معاركه المستمرة مع جيوش الثوار، وأضحى في أواخر هذه الحقبة في عهد عبد الرحمن الناصر، من حيث العدد والكفاية قوة لها خطرها. وقد بذل الناصر جهوداً عظيمة لإصلاح الجيش وتقويته، ومده بالأسلحة والعتاد الوفير. وعنى في الوقت نفسه بأمر الأسطول، فأنشأ له وحدات جديدة، وجعل مركزه الرئيسي ثغر ألمرية، وأنشأ بها أعظم دار للصناعة، وبلغ الأسطول الأندلسي في عهد الناصر، حسبما تقدم، زهاء مائتي سفينة مختلفة الأنواع والأحجام، وهذا عدا أسطول آخر خصص لشئون المغرب البحرية، وكان الأسطول الأندلسي يومئذ من أقوى الأساطيل، وكان يسيطر على مياه إسبانيا الشرقية والجنوبية.

وفي عهد المنصور بن أبي عامر، بلغ الجيش الأندلسي المرابط ذروة القوة والضخامة، وقد رأى المنصور أن يعتمد بالأخص في تكوين الجيش على حشود البربر، فاستقدمهم من العدوة، وبذل لهم الأعطية السخية، وكذلك حشد في جيشه كثيراً من المرتزقة النصارى، ومعظمهم من المستعربين رعايا الحكومة الأندلسية، واستطاع المنصور، بما بذله من جهود عنيفة متوالية، ومن أموال وفيرة، أن ينشىء للأندلس قوة عسكرية هائلة لم تعرفها الأندلس في أى عصر سابق، أو لاحق. وقد نقلت إلينا الرواية بعض أرقام عن الجيش الأندلسي المرابط في عهد المنصور، من ذلك أن الفرسان بلغ عددهم إثنتي عشر ألف ومائة فارس من سائر الطبقات، تصرف لهم النفقة والسلاح والعلافة، وبلغ عدد الرجالة (المشاة) في الجيش المرابط ستة وعشرين ألف مقاتل. وكان عدد الجيش المرابط، يتضاعف وقت الصوائف مراراً بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة، وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف، ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف أيضاً، وقد يعدو المائة ألف أو تزيد.

ص: 688

- 4 -

الموارد الاقتصادية وصنوف الجباية

لما افتتح المسلمون الأندلس، كان الشعب الإسباني المغلوب، ما يزال يعيش في ظل بقايا النظم الرومانية، التي اتخذها القوط أساساً لتشريعاتهم ونظمهم الإدارية. وكان عبء الضرائب يقع معظمه على طبقات الشعب الدنيا، ولا يكاد يقع شىء منه على عاتق الأشراف ورجال الدين، ومن إليهم من الطبقات الممتازة. فلما افتتح المسلمون شبه الجزيرة، فرضت الضرائب على قاعدة المساواة دون تمييز بين طبقة وأخرى، وفرضت الجزية على من لم يعتنق الإسلام من أبناء الشعب المغلوب. وفي خلال الحقبة الأولى، التي تميزت باستمرار الغزوات الإسلامية، وما تقتضيه من حشد الجيوش المستمرة، لم تكن موارد القطر المفتوح قد حققت كلها واستغلت. وقد كان من الواضح منذ البداية أن القطر المفتوح قطر زراعي قبل كل شىء. وكان خراج الأرض الزراعية، والجزية، وأخماس الغنائم، هي المصادر الرئيسية للدخل، وقد ازدهرت الزراعة بالأخص عقب الفتح لما حدث من توزيع أفضل للأرض، وتحسين أحوال العاملين فيها، وكان يوسف الفهري آخر الولاة، أول من عدل نظام الضرائب القديم، ففرض على كل ولاية، أن تقدم ثلث الدخل، ورفع الجزية عمن توفوا من النصارى، وقسم الأندلس من الناحية الإدارية إلى خمس ولايات حسبما أسلفنا ذلك في موضعه. وكانت حكومة قرطبة الإسلامية تسيطر على أخصب وأغنى وديان شبه الجزيرة الإسبانية، وكان أهم المحاصيل الزراعية هي القمح والزيتون والفاكهة وغابات الأشجار الخشبية، وما تزال هذه المحاصيل إلى اليوم هي أهم موارد اسبانيا الزراعية. وكذا كان تربية الماشية مورداً من أهم موارد الدخل القومي.

ولما استقرت الأمور، واستطاع الفاتحون أن يضعوا أيديهم على موارد البلاد وثرواتها الطبيعية، وأن يستغلوها بمقدرة وذكاء، لم تبق الزراعة هي المورد الوحيد، وإن لبثت دائماً هي المورد الرئيسي. ذلك أن شبه الجزيرة الإسبانية، تضم ثروات متنوعة من المعادن، كانت تستغل منذ أيام الرومان، فكان يستخرج

ص: 689

بها الفضة والرصاص والحديد والذهب والزئبق، والقصدير من أنحاء مختلفة، في الشمال والجنوب، فكانت الفضة والنحاس تستخرج في الشمال، وفي جهة قرطبة، وكورة تدمير، وكان الزئبق يستخرج من جبال البرانس، والقصدير بجهة أكشونبة من ولاية الغرب، وكان البللور يستخرج في منطقة لورقة، والرخام من جبل قرطبة وباغة ومن جبال سيرّا مورينا. وكانت تقوم إلى جانب الزراعة صناعات هامة، مثل صناعة النسيج والملابس والأثاث والفخار والزجاج والورق (1)، وكانت التجارة تزدهر في نفس الوقت داخل شبه الجزيرة، وخلال موانيها الشرقية والجنوبية ولاسيما مالقة وألمرية، وتجبي الدولة من المكوس التجارية، سواء على التجارة الداخلية أو الخارجية أو على السفن الصادرة والواردة مقادير عظيمة.

ولم تأت أوائل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، في عصر عبد الرحمن ابن الحكم، حتى كانت إسبانيا المسلمة، قد بلغت مبلغاً عظيماً من الرخاء، وتضاعفت مواردها من الدخل القومي، وبلغت حصيلة الجباية من المكوس وحدها زهاء ألف ألف دينار في السنة، وبلغت في عهد عبد الرحمن الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار. وبلغت من المستخلص (وهي الأملاك السلطانية) سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، وقد ذكرنا فيما تقدم، في موضعه، أن الناصر خلف عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب، هذا عدا ما أنفقه من الأموال الطائلة في مختلف الغزوات، وفي مختلف المنشآت الباذخة التي أقامها، وفي مقدمتها مدينة الزهراء الملوكية، وهي مما يدل على ضخامة الموارد المالية للأندلس في عصر الخلافة.

وفي أيام المنصور بن أبي عامر، في أواخر عصر الخلافة، حققت موارد الدخل زيادة عظيمة، ووصل محصل الجباية وحده إلى أربعة آلاف ألف دينار (أربعة ملايين)، سوى رسوم المواريث وسوى مال السبي والغنائم، واستمرت هذه الزيادة في عهد ولده عبد الملك. ثم كان انهيار الدولة العامرية، وانهيار الخلافة الأموية، واضطرام الفتنة في كل مكان، فتحطمت موارد الدخل، وكسدت التجارة والصناعة، وغاضت أسباب الرخاء.

(1) راجع كتاب الأستاذ ليفي بروفنسال L'Espagne Musulmane aux Xème Siècle; p. 176، 183 & 184.، وكذلك نفح الطيب ج 1 ص 78 و93.

ص: 690