الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
ولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن
1 -
ثورة المولدين والعرب
عبد الله يلي العرش في ظروف صعبة. استفحال الثورة وامتدادها إلى زعماء العرب والبربر. ابن حفصون يحاول التفاهم مع الأمير. نكثه ومسير عبد الله إلى قتاله. الثورة في جيان. عيث ابن حفصون واشتداد غاراته. مسير عبد الله إلى قتاله. موقعة بلاي. هزيمة ابن حفصون وفراره. أهمية موقعة بلاي وأثرها الحاسم. أقوال الشعر فيها. ثورة القبائل العربية بعد المولدين. الثورة في كورة ريه واستفحالها. سوار بن حمدون القيسي. استيلاؤه على إلبيرة وغرناطة. مصرعه. قيام سعيد بن جودى مكانه. الحرب بين العرب والمولدين. تفاهم سعيد مع الأمير. مصرعه وشاعريته. محمد بن أضحى. تفاقم الثورة بين القبائل العربية. الثورة في جيان وتدمير. امتداد الفتنة إلى إشبيلية. بنو عبدة وبنو حجاج وبنو خلدون. رياسة بني عبدة. ثورة كريب بن خلدون وعيثه في أحواز إشبيلية. ثورة بني حجاج. مصرع أمية والى إشبيلية. الإضطراب والفوضى. مسير المطرف بن عبد الله إلى إشبيلية وهزيمته للثوار. حكم إبراهيم بن حجاج وكريب بن خلدون المدينة. مصرع كريب وانفراد إبراهيم بالحكم. خروجه على الأمير وعوده إلى الطاعة. دولة بني حجاج في إشبيلية وقرمونة. وفاة إبراهيم وخلاله.
خلف المنذر على العرش، أخوه عبد الله بن محمد، وبويع في نفس اليوم الذي توفي فيه أخوه، في محلة الجيش تحت أسوار بُبشتر، في منتصف صفر سنة 275 هـ (يونيه 888 م). وكان مولده بقرطبة في نفس العام الذي ولد فيه أخوه المنذر، أعني في سنة 229 هـ (844) وأمه أم ولد تدعى بهار، وكان حينما تولى الملك في السادسة والأربعين من عمره.
وعلى أثر البيعة ارتد عبد الله مع جيشه عائداً إلى قرطبة، ومعه جثمان أخيه المنذر، فدفن بمقبرة القصر، واستتم عبد الله البيعة دون أن يعارضه أحد من أخوته العديدين.
وبدأ عبد الله حكمه الطويل المضني في ظروف قاتمة، والخلاف يمزق أوصال المملكة، وعرش بني أمية يهتز تحت ضربات الخوارج والمتغلبين. ويصف لنا ابن الأثير عهد الأمير عبد الله في هذه العبارة الجامعة: " وفي أيامه امتلأت الأندلس
بالفتن، وصار في كل جهة متغلب، ولم تزل كذلك طول ولايته " (1).
والحقيقة أن الثورة كانت قد استفحلت، واندلع لهيبها في كل ناحية، ولم تبق قاصرة على المناطق الجبلية، بل تجاوزتها إلى القواعد والمدن الكبيرة، مثل إشبيلية وبطليوس وجيان ولورقة ومرسية وغيرها؛ ولم تبق كذلك قاصرة على زعماء المولدين الذين تحدوهم نحو حكومة قرطبة عاطفة بغض طبيعي، ولكنها امتدت الى زعماء القبائل العربية أنفسهم، إذ رأوا الفرصة سانحة لاستقلالهم، وتدعيم سلطانهم؛ وظهر البربر في الوقت نفسه في الميدان، فاستعصم كثير من زعمائهم بالحصون النائية، ونشبت المعارك العنصرية القديمة بين العرب والمولدين حيثما التقت حشودهم، كما حدث في كورة ريُّه وإشبيلية؛ ونشبت مثل هذه الخصومات بين العرب والبربر، وفيما بين العرب أنفسهم، واستقل زعماء العرب بإلبيرة وجيان ومنتيشة ولورقة ومدينة سالم، واستقل زعماء المولدين بالثغر الأعلى وبطليوس وباجة وجيان ومرسية، وغدت إشبيلية مسرحاً للتنافس الدموي بين العرب والبربر، وبسط ابن حفصون سلطانه على معظم الأنحاء الجنوبية الغربية فيما بين البحر ووادي شَنيل؛ وهكذ عمت الثورة معظم جنبات الأندلس، ولم يبق لحكومة قرطبة سلطان حقيقي إلا في منطقة العاصمة وأحوازها.
- 1 -
كان عبد الله يواجه هذه الخطوب كلها. وكان يرى إخماد الفتنة مسألة حياة أو موت بالنسبة لسلطان العرش، وكانت هذه مهمته الشاقة التي كرس لها كل جهوده. وكان يرى أن الثورة في الجنوب هي أخطر ما يواجه العرش، وأن ابن حفصون قد غدا قوة يخشى بأسها، وأنه يجب أن تكرس الجهود لتحطيم ثورته وسحق قواه. وكان ابن حفصون يشعر من جانبه، بأنه يواجه قوة العرش كلها، ومن ثم فقد حاول عقب ارتقاء الأمير عبد الله أن يحصل على هدنة يستطيع خلالها أن ينظم شئونه ويوطد سلطانه؛ فبعث إلى قرطبة ابنه حفصاً مع جماعة من أصحابه ليعقدوا السلم باسمه مع عبد الله، على أن يستقر في منطقة ببشتر في طاعة الأمير، فاستجاب عبد الله إلى طلبه، ورد ابنه وصحبه رداً جميلا وأجزل لهم الصلات، وبعث معهم عبد الوهاب بن عبد الرؤوف والياً من قبله على كورة ريُّه ليكون مع
(1) ابن الأثير ج 7 ص 145.
ابن حفصون شريكاً في حكمها، ولكن لم تمض بضعة أشهر، حتى نكث ابن حفصون العهد وطرد عامل الأمير، وأغار على البلاد المجاورة، واستولى على أرشدونة، وعاث فساداً في تلك المنطقة، فسار إليه الأمير عبد الله في سنة 276 هـ (889 م) واجتاح منطقة ببشتر وخربها، ولكنه لم ينل من الثائر مأرباً؛ ولما ارتد إلى قرطبة خرج ابن حفصون في أثره، وتوغل حتى إستجة واستولى عليها، فبعث إليه عبد الله الجند فردته عنها.
ولبثت الثورة على اضطرامها في الجنوب. وخرج خير بن شاكر في جيّان، وطرد منها عامل الأمير واستولى عليها، فسارت إليه جند الأندلس بقيادة أحمد ابن محمد بن أبي عبدة، وحاصرته وقتلت كثيراً من أصحابه، وخربت معظم دور جيان، ثم عادت دون إخضاعه. وهنا بعث ابن حفصون جماعة من أصحابه إلى جيان بحجة معاونة ابن شاكر، ولكنهم فتكوا به وحملوا رأسه إلى ابن حفصون، فبعث بها إلى الأمير عبد الله سعياً إلى مصانعته ومطاولته (1). ولكن الأمير لم يخدع بسعيه. وسار ابن حفصون إلى جيان فعاث فيها وانتهب أموالها، وأذل أهلها، وساد الذعر والفوضى في تلك الأنحاء.
ودفع ابن حفصون غاراته شمالا حتى أحواز قرطبة، وبلغ من جرأته أن حاول إحراق مخيم الأمير في ضاحية شَقُندة على مقربة من العاصمة. فعندئذ عول الأمير عبد الله على أن يخرج لقتاله مرة أخرى، فحشد ما استطاع من قواته، واتجه نحو الجنوب إلى ناحية قبرة Cabra حيث حشد الثائر قواته في معقل بلاي أو " بَلِيّ "(بولي)(2)، وكان حصن بلاي من أمنع حصون قبرة الواقعة على مقربة من جنوب شرقي قرطبة. وقد افتن ابن حفصون في تقويته وتحصينه، وجعله مركزاً للسيطرة على كورة قبرة كلها، والإغارة على المدن والحصون القريبة من قرطبة، وتهديد أطراف العاصمة ذاتها. وكانت قوات الثوار تبلغ زهاء ثلاثين ألفاً، ولا تعدو قوات الأندلس ثمانية عشر ألفاً، بل أربعة عشر ألفاً على قول
(1) ابن حيان في المقتبس ص 92 و93.
(2)
هي بالإسبانية Poley أو Polei، وما يزال موقعها قائما معروفاً إلى اليوم تحتله قرية أجيلار Aguilar الحديثة الواقعة جنوبي قرطبة.
ابن حيان (1). ووقع اللقاء بين الفريقين على ضفاف نهير الفوشكة أحد فروع نهر الوادي الكبير (2) على قيد مسافة قصيرة من بلاي، في الثاني من صفر سنة 278 هـ (16 مايو سنة 891 م). وقاد جند الأندلس القائد عبيد الله بن محمد ابن أبي عبدة. وتولى ابن حفصون قيادة جنده بنفسه. ونجح فرسان الأندلس في هزيمة الجناح الأيمن للثوار وتمزيقه، فدب الذعر إلى باقي القوات الثائرة، وركنت إلى الفرار، وهرعت الخيل في آثارهم فقتلت كثيراً منهم، وفر ابن حفصون في بعض قواته إلى حصن بلاي معولا على الامتناع به، ولكن هجره معظم جنده، مؤثرين الفرار على حصار غير مأمون العاقبة؛ فلما رأى ابن حفصون عبث المقاومة ارتد في نفر من صحبه إلى شعب الجبال الجنوبية، بعد أن فقد معظم قواته، وقتل من الثوار أثناء الموقعة وخلال المطاردة ألوف عدة، واحتل عبد الله حصن بلاي وقتل من جنده زهاء ألف، واستولت جند الأمير على محتوياته. وكانت موقعة بلاي موقعة فاصلة في معنى من المعاني، وفيها أصيب ابن حفصون بضربة أليمة لم يصب بمثلها من قبل. ولم ير الأمير مطاردة الثائر جنوباً، ولكنه آثر أن يزحف غرباً إلى إستجة التي كانت تدين بطاعته، فحاصرها أياماً حتى سلمت والتمس أهلها العفو والأمان (3).
وسار الأمير بعد ذلك في أثر ابن حفصون إلى ببشتر قاعدته الرئيسية، وكان الثائر قد التجأ إليها عقب الهزيمة، واجتمع إليه كثير من أنصاره من أهل الجزيرة.
وعاث الأمير في تلك المنطقة، ولم يخرج ابن حفصون إلى لقائه، ولكنه حينما ارتد جيش الأندلس أدراجه، حاول مطاردته، واشتبك مع مؤخرته في معركة هزم فيها ورد على أعقابه (ربيع الأول سنة 278 هـ). وعلى أثر هذه الغزوة الموفقة،
(1) ابن حيان في المقتبس ص 104. ويقول ابن عبد ربه وهو معاصر للمعركة، وربما شهدها بنفسه مع الأمير، إن قوات الأندلس كانت ثمانية عشر ألف منهم أربعة عشر ألفاً من أهل قرطبة وأربعة آلاف من حشم الأمير ومواليه (راجع العقد الفريد، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ج 4 ص 498).
(2)
ويسمى بالإسبانية Las Carchenas ( لاس كارشيناس).
(3)
يورد لنا ابن حيان رواية ضافية وتفاصيل كثيرة عن موقعة بلاي (المقتبس ص 94 - 105). وراجع البيان المغرب ج 2 ص 126 و127، وابن خلدون ج 4 ص 135. ويضع دوزي تاريخ الموقعة في 15 إبريل سنة 891 م. ولكن إبريل يوافق شهر المحرم سنة 278 هـ. وقد حدثت الموقعة في بداية صفر. راجع: Dozy: Hist ; V.II.p. 68-73.
اختار الأمير عبد الله قائده البطل عبيد الله بن محمد بن أبي عبدة للوزارة، إثابة له وتكريماً، وعرفاناً لما أسداه إلى العرش وإلى الدولة ببراعته وبطولته (1).
وقد أشاد الشعراء بذكر موقعة بلاي وإستجة، وما أحرزه الأمير فيها من النصر الباهر، فمن ذلك قصيدة طويلة لابن عبد ربه يقول فيها:
نجا مستكناً تحت جنح من الدجى
…
وليس يودي شكرنا أنعم الجنح
يودون أن الصبح ليل عليهم
…
ونحن نود الليل لو أنه صبح
أقادح نار كان طعم وقودها
…
بعينك فانظر ما أضاء لك القدح
محا السيف ما زخرفت أول وهلة
…
ودونك فانظر بعد ذلك ما يمح
فكم شارب منكم صحى بعد سكرة
…
وما كان لولا السيف من سكره يصح
كأن " بلايا " والخنازير حولها
…
مقطعة الأوصال أنيابها كلح
ديار الذين كذبوا رسل ربهم
…
فلاقوا عذاباً كان موعده الصبح
فيا وقعة أنست وقيعة راهط
…
ويا عزمة من دونها البطن والنطح
ويا ليلة أبقت لنا العز دهرنا
…
وذلا على الأعداء صل به الترح
بدولة عبد الله ذى العز والتقى ..
. يخبر في أدنى مقاماته المدح (2)
ولابن عبد ربه قصيدة أخرى يهنىء فيها الأمير بفتح بلاي هذا مطلعها:
الحق أبلج واضح المنهاج
…
والبدر يشرق في الظلام الدّاج
والسيف يعدل ميل كل مخالف
…
عميت بصيرته عن المنهاج
ومنها:
لما حفلن إلى " بلاي " عشية
…
أقوت معاهدها من الأعلاج
فكأنما جاشت خلال ديارهم
…
أسد العرين خلت بسرب نعاج
ونحى ابن حفصون ومن يكن الردى
…
والسيف طالبه فليس بناج
في ليلة أسرت به فكأنما
…
خيلت لديه ليلة المعراج
هذي الفتوحات التي أذكت لنا
…
في ظلمة الآفاق نور سراج
(1) راجع المقتبس ص 100.
(2)
راجع هذه القصيدة بأكملها في المقتبس ص 97 - 99.
خريطة:
موقعة بلاي ومنطقة ثورة ابن حفصون.
- 2 -
وهنا نقف قليلا في تتبع ثورة المولدين وزعيمهم ابن حفصون، لنعطف على أخبار الثورات التي قام بها الزعماء العرب في الوقت نفسه، في مختلف القواعد والثغور.
كانت المناطق الجنوبية في الوقت الذي تجيش فيه بثورة المولدين في الغرب، تجيش في الشرق بثورة أخرى عمادها القبائل العربية. وكانت سياسة اصطفاء الموالي التي جرى عليها بنو أمية في الأندلس منذ بداية أمرهم، قد أخذت تحدث أثرها في نفوس القبائل العربية، وأضحت هذه القبائل ترى في سياسة حكومة قرطبة نوعاً من الطغيان والمهانة. ولما ثار ضرام الفتنة على يد المولدين في الثغر الأعلى وفي المناطق الجنوبية، ألفت القبائل العربية الفرصة سانحة للقيام بدورها، والانتصاف لعصبيتها وكرامتها. وكانت كورة إلبيرة مركز نشاطهم في الجنوب؛ ففي سنة 275 هـ (889 م) ثار في ناحية البراجلة من كورة إلبيرة يحيى بن صقالة القيسي، وكان ذا وجاهة ومال، والتفت حوله البيوتات العربية، واشتد في مطاردة المولدين والنصارى (1)، فثاروا به ولم يلبث أن قتل في بعض المواقع التي نشبت بينه وبينهم؛ فتصدر لزعامة العرب عندئذ سوّار بن حمدون القيسى، وكان سوار زعيماً مجرباً. وافر الشجاعة والبأس، فهرعت العرب إلى لوائه، وأغار على حصون المولدين والنصارى في تلك المنطقة، فانتزع معظمها، وامتدت رياسته حتى قلعة رباح، وجعل مركزه في حصن منت شقند (2) على مقربة من إلبيرة ثم زحف على إلبيرة وفيها جعد بن عبد الغافر واليها من قبل الأمير، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة، فهزم جعد وأسر، وقتل كثير من أصحابه (276 هـ)، وتعرف هذه الموقعة بواقعة المدينة (3). ثم أطلق سوار جعداً فتحالف مع ابن حفصون على قتاله. وقوى أمر سوار واشتد ساعده وكثر أنصاره، فسار إلى غرناطة واستولى عليها واتخذها قاعدة له، ونشبت بينه وبين المولدين وزعيمهم ابن حفصون عدة معارك، هزم فيها ابن حفصون وقتل بعض قواده. وكان سوار
(1) ابن حيان في المقتبس ص 55.
(2)
ويسميها ابن حيان منت شاقر (المقتبس ص 55).
(3)
المقتبس ص 55 و57.
فوق فروسيته شاعراً جزلاً فصيحاً يأسر الجموع بذلاقته. ولكن رياسته لم تطل سوى نحو عام، إذ قتل في كمين دبره له خصمه القديم جعد والي إلبيرة، وحفص بن المرة قائد ابن حفصون. فقد خرج سوار ذات يوم من غرناطة إلى بعض غاراته في نفر قليل من أصحابه، وكان حفص قد رتب قواته في أماكن مستورة على مقربة من المدينة، فانقضت على سوار وفتكت به وبأصحابه ومثل بجثته. فخلفه في رياسة العرب سعيد بن سليمان بن جودى السعدى زعيم قبيلة هوازن، وكان مثل صديقه سوار بطلاً شجاعاً وفارساً مجرباً، وشاعراً أديباً، وخطيباً مفوهاً، قد تفقه مع فروسيته في فنون العلم والأدب (1)، فالتفت حوله القبائل، واشتدت وطأته على المولدين وزعيمهم ابن حفصون وهزمه مراراً، وأسره ابن حفصون في بعض الوقائع ثم أطلقه لقاء فدية كبيرة. ولما رأى الأمير عبد الله غلبة العرب على كورة إلبيرة، أقر سعيداً على ولايتها فحكمها باسم الأمير، واستمرت زعامته بضعة أعوام حتى قتل غيلة في دار عشيقته اليهودية، وذلك في أواخر سنة 284 هـ (897 م)، ويقال إنه قتل بتدبير الأمير عبد الله، وكان من أهم أسباب قتله أبيات من الشعر قالها في ذم بني أمية جاء فيها:
يا بني مروان جدوا في الهرب
…
نجم الثائر من وادي القصب
يا بني مروان خلوا ملكنا
…
إنما الملك لأبناء العرب
ولسعيد بن جودى شعر كثير، وقد أورد لنا ابن الأبار بعض قصائده، وهي تنم عن مقدرته وقوة شاعريته (2).
ولما قتل سعيد بن جودى، قام بأمر العرب من بعده في كورة إلبيرة، محمد ابن أضحى الهمذاني صاحب حصن الحامّة (الحمة)، وأقره الأمير عبد الله على رياسته، ونشبت بينه وبين ابن حفصون وقائع عديدة كانت سجالاً بينهما؛ ولبث سعيد على رياسته لتلك المنطقة، حتى قضى عليها الناصر في بداية عهده، واستولى على الحامة وغيرها من النواحي الثائرة في تلك المنطقة (3).
(1) المقتبس ص 60 و61.
(2)
راجع في أخبار سوار بن حمدون وسعيد بن جودى، ابن الأبار في " الحلة السيراء "(ليدن) ص 80 - 87؛ والبيان المغرب ج 2 ص 138 و139 و141، والمقتبس ص 29 و30.
(3)
الحلة السيراء ص 85، والبيان المغرب ج 2 ص 139.
واتسع نطاق الثورة بين القبائل والبطون العربية والمولدين، فخرج في مدينة ابن السليم (شذونة)(1) منذر بن ابراهيم، واستقل برياستها إلى أن قتله بعض أتباعه؛ وخرج آخرون من الزعماء في كورة جيان، وكان أشدهم مراساً عبيد الله ابن أمية بن الشالية، وهو من زعماء المولدين. وقد خرج في منطقة جبل شمنتان وما يليها، وامتد سلطانه حتى حصن قسطلونة (2)، وقوى أمره وأنشأ له بلاطاً وجيشاً، وحالف ابن حفصون وصاهره بأن زوج ابنته من جعفر ولد ابن حفصون.
واستمر ابن الشالية ممتنعاً بمعاقله، طوال أيام الأمير عبد الله، ولم تنته ثورته إلا في أوائل عهد الناصر حيث عاد إلى الطاعة، وعينه الناصر والياً لمنطقة شمنتان.
وثار سعيد بن مستنه في باغة، وقوى أمره، فسار إليه الأمير عبد الله في سنة 279 هـ (892 م) عقب موقعة بلاي، وغزا حصن كركبوليه، الواقع بين قرطبة وجيان، وهو معقله وأمنع حصونه، واشتد في حصاره حتى اضطر إلى التسليم، وهدم الأمير جميع حصونه (3). وثار بغربي الأندلس اثنان من زعماء المولدين أيضاً هما بكر بن يحيى بن بكر، ثار بشنتمرية الغرب وحصنها واستقل بها، وبسط سلطانه على ما حولها، وتشبه بالأمراء، فأنشأ له بلاطاً وحكومة، وكان جواداً يأوى أبناء السبيل ويحفظ الطرق، وفي أواخر عهد الأمير عبد الله عاد إلى الطاعة.
وعبد الملك بن أبي الجواد، وقد ثار في باجة وميرتلة وكان كلاهما من أتباع عبد الرحمن الجليقي وأنصاره. وثار في لَبْلة عثمان بن عمرون وأخرج منها عامل الأمير، وامتدت الفتنة إلى المنطقة كلها. وغلب إسحاق بن إبراهيم العقيلي المعروف بابن عطاف على حصن منتيشة من أعمال جيان وامتنع به، مستظلا مع ذلك بطاعة الأمير. وفي شرقي الأندلس خرج ديسم بن إسحاق في كورة تدمير وغلب على مدينتي مرسية ولورقة، واستفحل أمره، وكان أديباً يصل الأدباء والشعراء. وسير إليه الأمير عبد الله في سنة 283 هـ (896 م) حملة بقيادة عمه هشام بن عبد الرحمن بن الحكم، فاخترقت ولاية تدمير وعاثت فيها وهاجمت مرسية وأرغمتها على دفع الخراج، ونشبت بينهم وبين قوات ديسم في ظاهر لورَقة،
(1) Medina Sidonia. وهذه تسمية ابن الأثير (ج 4 ص 215).
(2)
جبل شمنتان هو بالإسبانية Somontin، وهو يقع شمالي جيان بين مدينة لينارس الحديثة ونهر الوادي الكبير؛ وحصن قسطلونة هو بالإسبانية Castalona.
(3)
المقتبس ص 106.
معركة هزم فيها الثوار، بيد أنها لم تكن معركة حاسمة (1). وقامت ثورات محلية أخرى في بعض القواعد والحصون، بيد أنها كانت على الأغلب ثورات قليلة الخطورة، محدودة الأثر، وكانت حكومة قرطبة تراها في المحل الثاني، ولم تكن ثورة القبائل العربية تصطبغ بتلك المرارة التي كانت تطبع ثورات المولدين والبربر. ولبث كثير من أولئك الزعماء الخوارج على رياستهم واستقلالهم حتى بداية عصر الناصر (2).
- 3 -
وكانت إشبيلية، أعظم القواعد الأندلسية بعد قرطبة، في أثناء ذلك، مسرحاً لفتنة دموية استطال أمدها. وكان سكان إشبيلية مزيجاً من العرب والمولدين والنصارى، وكانت منزل عدد كبير من البيوتات العربية العريقة التي تمتاز بالثراء والعصبية. وبالرغم مما كان يسود بين هذه العناصر في معظم الأحيان من عوامل الجفاء والشقاق، فقد استطاعت إشبيلية أن تحافظ على سكينتها وولائها مدى حين.
فلما أخذت القبائل العربية في ولاية الأمير عبد الله تجيش بعوامل الخروج والثورة، هبت ريح الاضطراب على إشبيلية وسرت إليها عوامل الفتنة، وظهر الزعماء المتطلعون إلى الرياسة على مسرح الحوادث. وكان بنو أبي عبدة، وبنو حجاج، وبنو خلدون، يومئذ أعظم البيوتات العربية في إشبيلية. فأما بنو أبي عبدة فكان منهم كثير من رجال الدولة والقادة، وكان زعيمهم يومئذ أمية بن عبد الغافر بن أبى عبدة، وكان من وجوه القوم المقربين لدى حكومة قرطبة. وأما بنو حجاج فإنهم يرجعون بنسبتهم إلى لخم، ويتصلون في الوقت نفسه من ناحية الأمومة بملوك القوط، وذلك عن طريق سارة القوطية حفيدة وتيزا ملك القوط (3)، وكان زعيم بيتهم يومئذ عبد الله بن حجاج وأخوه إبراهيم. وأما بنو خلدون فإنهم ينتسبون إلى العرب اليمانية في حضرموت، وإليهم ينتسب المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون، وكان زعيم بيتهم يومئذ كريب بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد (4).
(1) المقتبس ص 118.
(2)
راجع في تفاصيل هذه الثورات، المقتبس ص 9 - 11 و16، وكذلك البيان المغرب ج 2 ص 139 - 141.
(3)
راجع " دولة الاسلام في الأندلس " ص 60 و61.
(4)
راجع كتاب العبر ج 7 ص 380 و381، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 96.
وكان هنالك إلى جانب هذه الأسر العربية الصميمة، عدد من الأسر المولدة القوية الغنية. وكان التنافس بين العرب والمولدين في النفوذ والرياسة، من أهم أسباب الاضطراب في المجتمع الأندلسي يومئذ.
وكانت الرياسة في إشبيلية قديمة في بيت أبي عبدة، حيث كان جدهم أبو عبدة واليها من قبل عبد الرحمن الداخل، وكان حفيده أمية بن عبد الغافر واليها في الوقت الذي نتحدث عنه، وكان الأمير عبد الله قد أرسل إلى جانب أمية ولده محمداً، ليكون عضداً أدبياً له في حكم المدينة. وفي سنة 276 هـ (889 م) كان بنو خلدون أول من رفع لواء الثورة في إشبيلية، وخرج زعيمهم كريب بن عثمان ابن خلدون في أنصاره وحلفائه من المولدين والبربر، الذين رأوا أن يعملوا على إذكاء المعركة بين الأسر العربية، وتحالف مع ابن مروان الجليقي الثائر ببطليوس.
وعاث كريب وأصحابه في أحواز إشبيلية وقطعوا السبل، ولكنه لم ينل من المدينة مأرباً. ثم ثار المولدون ضد العرب اليمانية لمقتل واحد من كبرائهم، وتحرك بنو حجاج في نفس الوقت. وخشى أمية العاقبة فدس على زعيمهم عبد الله ابن حجاج من قتله، فحل في الحال مكانه أخوه إبراهيم، وحمى وطيس الفتنة، واشتد بنو حجاج وأنصارهم من العرب في قتال أمية، وقتل أمية في النهاية مدافعاً عن نفسه. فأرسل الأمير عبد الله إلى إشبيلية حاكماً جديداً من قبله، هو عمه هشام ابن عبد الرحمن، ولكنه لم ينجح في تهدئة المدينة الثائرة، وقتل الثوار ولده، وسادت الفوضى، واضطرب حبل الأمن في إشبيلية وما جاورها؛ فعندئذ أرسل عبد الله ولده المطرِّف، ومعه الوزير عبد الملك بن عبد الله بن أمية على رأس حملة قوية إلى إشبيلية (282 هـ - 895 م). فلما أشرف المطرف على إشبيلية وثب بالقائد عبد الملك فقتله، وندب للقيادة مكانه أحمد بن هاشم بن عبد العزيز، وأرسل إلى والده الأمير عبد الله محضراً يبرر فيه تصرفه، ونشبت الموقعة بين المطرف وبين الثوار خارج المدينة، فهزمهم وردهم إلى سور المدينة، وقتل منهم عدد كبير، وأسر إبراهيم بن حجاج وخالد بن خلدون وغيرهما من زعماء الفتنة، ولم يطلق سراحهم حتى أذعنت المدينة الثائرة لمطالبه، وسلمت الخراج المطلوب، وقدم زعماء الفتنة رهائن من الولد والأهل، واتُفق على أن يشترك
في حكم المدينة إبراهيم بن حجاج وكريب بن خلدون باسم الأمير وفي طاعته (1).
وكان كريب طاغية شديد الوطأة فنفر منه الشعب. أما إبراهيم فكان رفيقاً دمث الخلق فكثر أنصاره، ورجحت كفته، واستطاع في الوقت نفسه أن يحصل من الأمير عبد الله سراً على عهد بولاية المدينة. ثم اعتزم أمره ودبر مقتل كريب ابن خلدون وأخيه خالد، وانفرد بحكم إشبيلية (282 هـ)(2)، وأقره عبد الله على ولاية إشبيلية وقرمونة. وسطع نجم بني الحجاج وقوى أمرهم، وطالب إبراهيم الأمير بالإفراج عن ولده عبد الرحمن، المعتقل رهينة في قرطبة، فلما تباطأ الأمير في إجابته خلع الطاعة وتحالف مع ابن حفصون (3)، وسار معه في قواته لمقاتلة قوات الأندلس (289 هـ) حسبما نفصل بعد. وقدر الأمير عبد الله خطورة هذا التحالف وتوجس من عواقبه، وعاد فأجاب رغبة إبراهيم، وأفرج عن ولده عبد الرحمن ورده إليه مكرماً (289 هـ)، فجنح إبرهيم إلى الطاعة مرة أخرى، وارتضى أداء الجزية للأمير، ونبذ حلف ابن حفصون، وقنع الأمير من جانبه بهذا المظهر من الخضوع والطاعة، واستقرت الأمور في إشبيلية (4).
وأبدى إبراهيم بن حجاج في إدارة ولايته همة وبراعة، واتخذ سمة الملوك وأنشأ له بلاطاً، وحرساً خاصاً قوامه خمسمائة فارس غير المشاة، وحصن مدينة قرمونة، وجعل بها مرابط خيله (5)، وفرض الضرائب وأصلح نظم الحكم والقضاء، وعمل على توثيق أواصر المودة بينه وبين حكومة قرطبة. وكان يبعث بالأموال والهدايا إلى الأمير عبد الله، ويمده بجنده في بعض غزواته. وكان إبراهيم فوق ذلك رضى الخلق، محبوباً من الشعب، جواداً يقصده الشعراء وينشدونه مدائحهم
(1) يقول ابن خلدون إن كريباً انفرد أولا بحكم إشبيلية، وسعى ابن حجاج إلى انتزاعها منه، فتحالف مع ابن حفصون، ثم جنح إلى مصانعة كريب فأشركه معه في حكم المدينة (كتاب العبر ج 7 ص 381). وراجع المقتبس ص 111.
(2)
أو في أوائل سنة 286 هـ، على رواية ابن حيان (المقتبس ص 84).
(3)
البيان المغرب ج 2 ص 129.
(4)
المقتبس ص 131.
(5)
وما تزال مدينة قرمونة تحتفظ حتى اليوم ببعض الأبواب والأطلال الأندلسية القديمة التي تدل على حصانتها أيام المسلمين، وما زالت بالأخص تحتفظ بباب " إشبيلية " الشهير كاملا بعقده العظيم وشرفته العربية الرائعة.
فيجزل صلاتهم؛ وكان ممن مدحه شاعر العصر أبو عمر بن عبد ربه صاحب العقد الفريد، ومما قاله في مديحه:
ألا أن إبراهيم لجة ساحل
…
من الجود أرست فوق لجة ساحل
فإشبيلية الزهراء تزهو بوجهه
…
وقرمونة الغراء ذات الفضائل
إذا ما تحلت تلك من نور وجهه
…
غدت هذه للناس في زي عاطل
واستمر إبراهيم بن حجاج في حكم إشبيلية وقرمونة، حتى توفي سنة 298 هـ (910 م)(1) في سن الثالثة والستين، فخلفه في حكم إشبيلية ولده عبد الرحمن، وفي حكم قرمونة ولده محمد حتى انتهت دولتهم في بداية عهد الناصر (2).
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 97. ويضع ابن عذارى وفاته في سنة 288 هـ (البيان المغرب ج 2 ص 132) والرواية الأولى أرجح. وراجع أخبار ابن حجاج في المقتبس ص 11 - 14.
(2)
راجع في تفاصيل ثورة بني حجاج، ابن خلدون في كتاب العبر ج 4 ص 135 وج 7 ص 380، 381؛ والبيان المغرب ج 2 ص 128 - 135؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 96 و97.