المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

‌الفصل الرابع

موقعة رونسفال أو باب شزروا

الثورة في الشمال. تحالف ابن يقظان والي برشلونة والحسين الأنصاري والي سرقسطة. هزيمة جيش عبد الرحمن وأسر قائده. سعي ابن يقظان لدى ملك الفرنج واستدعاؤه لغزو اسبانيا. تلبية شارلمان للدعوة. اتصال الزعماء الخوارج بالفرنج. سياسة الفرنج في تشجيع الثورة في الأندلس. صلة الخلافة العباسية بهذه السياسة. الصراع بين الأندلس والفرنج. اللون الديني لهذا الصراع. أقوال الروايات اللاتينية في تأييد هذه الخاصة. مسير شارلمان إلى اسبانيا. اختراقه لنافار وحصاره لبنبلونة. مقاومة البشكنس. سقوط المدينة في يد الفرنج. مقدم سليمان وتسليمه للرهائن. زحف شارلمان على سرقسطة. مقدم بقية الجيش الفرنجي. تطور الحوادث. تحول الحسين وامتناعه بسرقسطة. فشل شارلمان في أخذها. اعتقاله لسليمان وارتداده. بواعث هذا الارتداد الفجائى. عود شارلمان إلى مهاجمة بنبلونة وتخريبها. بدء المسير للعود. عيشون ومطروح ولدا سليمان. تحالفهما مع الحسين الأنصاري. سيرهما في قواتهما في أثر الفرنج. مسير شارلمان إلى البرنيه. أبواب البرنيه. رونسفال أو باب شزروا. مفاجأة الجيش الفرنجي وفصل مؤخرته. من هم الذين هاجموه. المسلمون أم البشكنس. المسلمون هم الذين دبروا الهجوم. معاونة البشكنس. وصف الرواية اللاتينية للهجوم. تمزيق مؤخرة الجيش الفرنجي. مصرع الفرسان والسادة الفرنج. أنشودة رولان وبعدها عن التاريخ الحق. مكانتها في أدب الفروسة. لماذا لم ينتقم شارلمان لهزيمته. مقارنة بين الروايتين العربية واللاتينية.

في ذلك الحين كانت ثمة حوادث هامة أخرى تقع في شمال الأندلس. وقد تتبعنا ثورة الفاطمي والبربر إلى نهايتها حرصا على صلة الحديث. ونعود الآن بضع سنين إلى الوراء. ففي سنة 157 هـ (774 م) ثار سليمان بن يقظان الكلبي (أو الأعرابي) والي برشلونة (أو برشنونة)(1) وجيرونة (جيرندة)، والحسين ابن يحيى الأنصاري والي سرقسطة، وهو من ولد سعد بن عبادة، وتحالفا على قتال عبد الرحمن وخلعه. وكان استمرار الثورة في الجنوب، وانشغال عبد الرحمن الدائم بقمعها، وطبيعة الشمال الجبلية ومنعته، مما يذكي عوامل الثورة في الولايات الشمالية، ويشجع مشاريع الزعماء الخوارج. وكان عبد الرحمن يشتغل يومئذ بمقاتلة الفاطمي، فأرسل إلى الشمال جيشاً بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي، فهزمه

(1) وهو تعريب مطابق لأصلها اللاتيني Barcenona

ص: 168

سليمان وأسره وتفرق جيشه (158هـ - 775 م)(1). واستفحل أمر الثورة في الشمال، ولكن زعماء الثورة وعلى رأسهم سليمان بن يقظان لم يطمئنوا إلى ذلك النصر المؤقت لما يعلمونه من عزم عبد الرحمن وبأسه وروعة انتقامه، ففكروا في الاستنصار بملك الفرنج. وسار سليمان (وتسميه الرواية اللاتينية ابن الأعرابي) مع نفر من صحبه الخوارج، إلى لقاء شارلمان أو كارل الأكبر في ربيع سنة 777 م (160هـ)؛ وكان يومئذ يقيم بلاطه في مدينة بادربورن من أعمال وستفاليا (شمال غربي ألمانيا)، ويعقد الجمعية الكبرى، حيث كانت جموع السكسونيين المغلوبة تعمّد للنصرانية، بعد أن شتت شارلمان شملهم وفر زعيمهم فيدوكنت؛ فهنا وفد عليه سليمان وصحبه، وعرض عليه المحالفة على قتال عبد الرحمن، واقترح عليه غزو الولايات الأندلسية الشمالية، وتعهد بمعاونته، وبأن يسلمه المدن التي يحكمها هو وصحبه من قبل أمير قرطبة ولاسيما سرقسطة، وأخيراً بأن يسلمه أسيره القائد ثعلبة بن عبيد. وتضيف الرواية اللاتينية إلى ذلك أنه كان مع ابن الأعرابي ولد ليوسف الفهري حاكم الأندلس السابق جاء ومعه صهره ليسعيا كذلك إلى خلع عبد الرحمن، وتقول الرواية الإسبانية النصرانية، إن الذي دعا شارلمان إلى غزو اسبانيا هو ألفونسو أمير إمارة ليون النصرانية (جليقية). ولكن الروايتين العربية والفرنجية (اللاتينية) كلتاهما صريحة في أن الدعوة جاءت من سليمان بن يقظان (الأعرابي) وحلفائه. والرواية العربية تقول لنا بمنتهى الوضوح، إن سليمان استدعى قارله (كارل أو شارلمان) ملك الفرنج إلى بلاد المسلمين، ووعده بتسليم برشلونة أوسرقسطة (2). وتوافق الرواية اللاتينية على ذلك، وتزيد أن سليمان

(1) ويقدم إلينا الرازي بعض تفاصيل عن ذلك. فيقول لنا إن سليمان بن يقظان الكلبي (وهو الأعرابي) كان من زعماء سرقسطة، فلما ولى الثغر بدر مولى عبد الرحمن الداخل نقله إلى قرطبة، فحرضه البعض عل القيام بثأر قومه اليمانية فخرج من قرطبة إلى سرقسطة ودخلها. وخرج لمحاربة ثعلبة بن عبيد سنة أربع وستين ومائة، ونزل مدينة طرسونة، ووالى حربه، واضطرب على باب سرقسطة بمعسكره، فافترس سليمان بن يقظان غفلته، وافتراق أهل الجيش، فهجم عليه وأسر ثعلبة بن عبيد، وبعث به إلى ملك الفرنج. وأهم مفارقة في رواية الرازي هو التاريخ المتأخر الذي يقدمه إلينا عن هذه الموقعة، وذلك حسبما يتضح بعد من سير الحوادث (وقد نقل إلينا هذه الرواية العذري في كتابه ترصيع الأخبار الذي سبقت الإشارة إليه ص 125).

(2)

أخبار مجموعة ص 112 و113، وابن الأثير ج 6 ص 5 و21، وابن خلدون ج 4 ص 124.

ص: 169

وحلفاءه أعلنوا خضوعهم لملك الفرنج وانضواءهم تحت حمايته (1).

ولبى ملك الفرنج دعوة الثوار المسلمين ووافق على عروضهم. وبعث إليه سليمان بأسيره ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن، عنواناً للثقة والتحالف، فسجن في إحدى القلاع الفرنسية. وفي رواية أخرى أنه سلمه إليه عقب مقدمه إلى اسبانيا. وعلى أى حال فقد كان حصول هذا الأسير، وهو من خاصة عبد الرحمن وأكابر وزرائه في يد ملك الفرنج، ضربة لعبد الرحمن، ورهينة قيمة يمكن استغلالها. وكان سليمان زعيم أولئك الخوارج يعمل مستقلا لنفسه، ويرمي قبل كل شىء إلى تحطيم سيادة قرطبة، وإلى الاستقلال بما في يده تحت حماية ملك الفرنج. ولكن ملك الفرنج كانت له مشاريع أخرى. وكانت السياسة الفرنجية ترمي إلى تعضيد روح الثورة والخلاف في إسبانيا المسلمة، ولاسيما منذ انهارت سيادة الإسلام في جنوبي فرنسا وارتد المسلمون إلى ما وراء البرنيه. وبدأ تطبيق هذه السياسة منذ عهد ببين أبى شارلمان. وكان سليمان بن يقظان زعيم الثورة في الشمال يتصل بملك الفرنج منذ سنة 760 م، أعني منذ استيلائه على أربونة واتصال الحدود الفرنجية بحدود اسبانيا المسلمة، ويسعى بهذا التحالف إلى تأييد استقلاله. وهكذا بدأت العلاثق تنتظم بين الزعماء المسلمين، الخوارج على حكومة قرطبة، وبين الفرنج المتربصين بدولة الإسلام في الأندلس، فكان الزعماء الخوارج كلما حاولوا الثورة والاستقلال بحكم مدينة أو ولاية، اتجهوا إلى الفرنج يستمدون عونهم ومناصرتهم، وكان الفرنج يسارعون إلى تلبية هذه الدعوات، ويتخذونها ذريعة للتدخل في شئون اسبانيا المسلمة، وإذكاء روح التفرق فيها، وسنرى كيف استطاع ملوك الفرنج تنفيذ هذه السياسة في فرص عديدة متعاقبة. والظاهر أن الخلافة العباسية في المشرق لم تكن بعيدة عن تأييد هذه السياسة في المغرب، والتوصل بذلك إلى مناوأة بني أمية الذين استطاعوا أن ينتزعوا هذا القطر النائي من أقطار الخلافة، ويقيموا فيه دولتهم الذاهبة على دعائم جديدة، فإن الرواية الفرنجية تحدثنا عن

(1) تراجع أقوال الرواية اللاتينية في مؤلف العلامة الأستاذ بيدال: Ramon Menendez Pidal: La Chanson de Roland y el Neotradicionalismo (Espana - Calpe، Madrid 1959) p. 179-180. وهو مؤلف ضخم جامع، وأحدث ما أخرجه العلامة الإسباني، وهو يتناول حوادث موقعة باب الشزري بإفاضة شافية وتحليل ممتع. وراجع أيضا موسوعة بوكيه Bouquet. Vol.V.p. 14، 40 & 142 وكذلك Reinaud: Invasions des Sarrazins، en France، p. 94

ص: 170

علائق المنصور وببين وتقول لنا، إن ببين بعث في سنة 765 م سفارة إلى بغداد، ورد المنصور بإرسال سفراء إلى ملك الفرنج وفدوا عليه بعد ذلك بثلاثة أعوام، وقضوا حينا في البلاط الفرنجي في مدينة متز (1). وسار شارلمان ولد ببين على سياسة أبيه، فكان بينه وبين الرشيد فيما بعد تلك المكاتبات والسفارات الشهيرة التي فصلتها الرواية الفرنجية أيضاً، والتي نعود إليها في مقامها المناسب. وسنرى فيما بعد، أنه في الوقت الذي كان فيه يعقد هذا التحالف بين ثوار الشمال وبين ملك الفرنج، كانت ثمة محاولات تبذل لنشر الدعوة العباسية في الأندلس حيث نزل عبد الرحمن بن حبيب الفهري المعروف بالصقلبي في تدمير يدعو للخلافة العباسية على نحو ما نفصل بعد.

وكانت إسبانيا المسلمة تجوز إزاء هذا الخطر الأجنبي الذي يتربص بها ظرفا من أدق ظروفها، فقد كانت مصايرها تهتز في يد القدر، وكان الإسلام يجوز فيها معركة الحياة والموت، بعد أن كان قبل ذلك بحقبة يسيرة يتدفق إلى ما وراء البرنيه بقوة، ويسود معظم أنحاء فرنسا الجنوبية. وكانت مملكة الفرنج بالعكس قد توطدت دعائمها، وانتزعت من الإسلام كل معاقله في فرنسا، بعد أن لبث مدى حين يزعجها ويهدد وجودها. وبينما اجتمعت كلمة الفرنج بزعامة الأسرة القارلية القوية، إذا بالإسلام في اسبانيا تعصف به ريح التفرق من كل صوب وتمزقه شر ممزق، وإذا بالأندلس تغدو بركانا من القلاقل والحروب الأهلية. وكان كارل الأكبر (شارلمان) مذ ولي العرش (سنة 768 م) يشغل عن التدخل في اسبانيا المسلمة، بمحاربة القبائل الوثنية السكسونية فيما وراء الرين ليرد خطر اعتدائها على مملكته، وليخضعها إلى سلطانه. وكانت غزوات الأسرة القارلية تتخذ فيما وراء الرّين منذ عهد كارل مارتل، جد كارل الأكبر، لوناً دينياً عميقاً كالذي تتخذه حروب الفرنج مع العرب في غاليس. ذلك أن حروب الفرنج فيما وراء الرين كانت تتخذ مظهر حماية النصرانية، من خطر الوثنية المتدفق من المشرق، وكانت حروبهم في غاليس تتخذ مظهر حماية النصرانية، من وثبات الإسلام المتدفق من الجنوب. وكانت الكنيسة روح هذه المعارك توحي بها وتذكيها، إلى جانب شهوة الظفر والفتح. فلما ظفر الفرنج برد تيار الإسلام إلى ما وراء البرنيه، واستولوا

(1) Reinaud: ibid.p. 89 & 92.

ص: 171

على جميع ثغوره ومعاقله في فرنسا، وفترت تلك النزعة الدينية العميقة، التي جعلت غاليس مدى نصف قرن مسرحا لصراع العرب والفرنج، بقيت الأطماع والبواعث السياسية، تحفز الفرنج إلى قتال الإسلام ومطاردته، وانتزاع اسبانيا أو على الأقل ولاياتها وثغورها الشمالية من قبضته، لتكون معقلا لدرء فورانه ووثباته من الجنوب.

وتشير الروايات اللاتينية إلى غايات السياسة الفرنجية من التدخل في شئون اسبانيا المسلمة، وتحدثنا عن هذا المزج بين الغايات الدينية والدنيوية. فأما عن الناحية السياسية فإن إجنهارت مؤرخ شارلمان يقول لنا إن الحملة التي نظمها الملك الفرنجي إلى اسبانيا كان يقصد بها مهاجمة قرطبة. وإنه ليبدو من ضخامة الجيش الذي حشده شارلمان، أن الأمر لم يكن متعلقا فقط بالاستيلاء على المدن التي وعد سليمان بن يقظان بتسليمها، وأن شارلمان كان يرمي بالعكس إلى السيطرة على اسبانيا كلها، أو على الأقل نصفها الشمالي. ويقول لنا "أبَدَال " وهو مؤرخ حملة شارلمان الإسبانية، إن الأمر لم يكن متعلقا بغاية دينية قوامها تحطيم دولة " كافرة " ولكن الحملة كانت ترمي إلى غاية سياسية قوامها أن يوضع حد لأخطار الغزوات الإسلامية لفرنسا. ويرى الأستاذ بيدال أن شارلمان لم تكن له غاية دينية خالصة في أية حملة من حملاته، وأن الباعث كان دائماً سياسياً، ولكنه يبطن في ثنيته الغاية الدينية. ذلك لأن المشكل الوحيد لإخضاع شعب " كافر " هو حمله على اعتناق النصرانية، وهذا ما وقع بالنسبة لحملات شارلمان ضد " الأفار "(1)، وضد " السكسونيين ".

ومن ثم فقد كان مسير شارلمان إلى اسبانيا يبطن الغاية الدينية إلى جانب الغاية السياسية، وهذا ما تؤيده الرواية اللاتينية Anales Mettenses، التي كتبت في حياة شارلمان، وفيها "أن كارلوس قد هزته شكاوى النصارى الإسبان الذين نكل بهم المسلمون فسار بجيشه إلى هنالك ". ويضيف الأستاذ بيدال إلى ذلك " انه وإن كان الإسلام يتسم حقا بالتسامح، إلا أن النصارى واليهود في اسبانيا كانوا يعانون ضغطا وإرهاقا في ظل الحكومة الإسلامية، ومن ثم فقد كان للنصارى المستعربين

(1) الأفار أو الأفاريين Avars هم مجموعة من القبائل القوية كانت تسكن حوض نهر الدانوب الأوسط. وقد حطمهم شارلمان وانتهى الأمر بتنصيرهم (791 - 795 م).

ص: 172

أن يستقبلوا شارلمان كمحرر لهم ". وتؤيد هذه النزعة الدينية للحملة، روايات لاتينية كثيرة أخرى معاصرة ولاحقة. بيد أن أقطع دليل على روح الحملة الدينية هو أن شارلمان قد أبلغ البابا هادريان بأمرها قبل أن يضطلع بها، وأن البابا بارك عزيمته ووعده بإقامة الصلوات، لكى يعود ظافرا إلى مملكته (1).

وكان كارل حينما استدعاه الخوارج المسلمون لغزو اسبانيا، قد انتهى من الحرب في سكسونية، وهزم القبائل الوثنية الجرمانية، وأخضع زعيمها القوي " فيدوكنت " وألجأه إلى الفرار، فجاءت الدعوة إليه في وقت ملائم. وانتظر كارل حتى مضى الشتاء، ثم سار إلى الجنوب وقت أعياد الفصح في أكوتين على مقربة من بوردو. وفي فاتحة ربيع سنة 778 م، جمع قواته المؤلفة من فرنج نوستريا ومن الجرمان واللونبارد وفرق من بريتانيا وأكوتين، واخترق ولاية أكوتين، وقرر أن يفتتح الغزوة الإسبانية توا حتى لا يفاجئه الشتاء، وقسم جيشه الضخم إلى قسمين، عبر أحدهما جبال البرنيه من الناحية الشرقية، وعبرها القسم الثاني بقيادة كارل نفسه من الناحية الغربية، من الطريق الروماني القديم فوق آكام "جان دى لابور" الشاهقة التي تشرف على مفاوز رونسفال الوعرة، على أن يجتمع الجيشان على ضفاف نهر الإيبرو أمام سرقسطة حيث يلتقي شارلمان بحلفائه المسلمين. وكان عبوره لجبال البرنيه من " باب الشزرى " في شهر أبريل على الأرجح. واخترق شارلمان بلاد البشكنس أو نافار الحديثة، وحاصر عاصمتها بنبلونة، وهي قلعة النافاريين، واستولى عليها بعد قليل. وقد كان أولئك النافاريون دائماً شعبة خاصة من " البشكنس "، وكانت بنبلونة دائما مدينة البشكنس منذ أيام سترابون (2). وقد كان البشكنس دائما يحاولون الاحتفاظ باستقلالهم منذ أيام القوط، وكثيراً ما لجأوا في سبيل ذلك إلى الخروج والعصيان، والامتناع بهضابهم وجبالهم الشاهقة. وكان هذا شأنهم حينما وفد شارلمان بقواته الضخمة، فقد كانوا يحرصون على هذا الاستقلال، ولا يودون الخضوع لأية جهة، لا إلى الفرنج، ولا إلى مملكة (جليقية)، ولا إلى إمارة قرطبة الإسلامية. ومن ثم فقد اضطر شارلمان إلى محاصرة بنبلونة وأخذها بالعنف. وهنا تبرز هذه الحقيقة، وهي

(1) راجع: R.M.Pidal: ibid، p. 181، 182، 183، 184

(2)

R.M.Pidal: ibid، p. 186

ص: 173

أن شارلمان بغزو بلاد البشكنس، كان يحارب أمة من النصارى، وهو في ذلك لم تكن تحدوه سوى بواعث السياسة والفتح. ولم تكن النزعة الدينية خاصة بارزة في تلك الغزوة. أما الجيش الفرنجي الذي اخترق شرقي البرنيه، فقد كان يسير في منطقة يسيطر عليها الفرنج، مذ تقلص عنها سلطان المسلمين، منذ أيام ببين والد شارلمان، ومن ثم فقد كان يخترق بلادا صديقة، يرحب أهلها بمقدمه، أملا في عونه وحمايته.

وتقول لنا بعض الروايات اللاتينية (1) إن سليمان بن يقظان (ابن الأعرابي)، كان يتردد عندئذ بانتظام على بنبلونة، وإنه وفقا لتعهداته سلم الرهائن إلى شارلمان، وإنه قد وفد كذلك على بنبلونة أبو ثور بن قسي حاكم وشقه، وقدم أخاه وولده رهينة، وقد بقيت هذه الرهائن في معسكر شارلمان حتى وقعت النكبة. بيد أنه توجد روايات أخرى مفادها أن الرهائن سلمت فيما بعد، حين وفود شارلمان على سرقسطة. وعلى أى حال، فقد سار شارلمان بعد استيلائه على بنبلونة ومعه سليمان إلى سرقسطة (2)، وهي معقد المشروع كله حسبما اتفق عليه في بادربورن؛ وكان القسم الآخر من الجيش، قد اخترق في تلك الآونة منطقة جيرندة (جيرونة) وبرشلونة، واتجه غربا إلى سرقسطة حيث انضم إلى القوات التي يقودها شارلمان، وكان شارلمان، يعتقد حينما سار إلى سرقسطة أنه سيلقى هناك حلفاءه المسلمين على أهبة لمعاونته وتحقيق رغباته في الاستيلاء على المدينة الكبرى. ولكن الحوادث كانت تطورت عندئذ، ودب الخلاف بين الخوارج المسلمين. وكان الحسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة حليف سليمان منذ البداية، وكان عضده في مشروعه لاستدعاء الفرنج، وبالرغم من أنه لم يذهب إلى بادربورن، ولا إلى بنبلونة، فقد كان موافقاً على الحلف الذي عقده سليمان مع شارلمان، وعلى العهود التي قطعها له. والظاهر أن الحسين نقم على سليمان موقف الصدارة والزعامة الذي اتشح به إزاء الفرنج، فنشبت بينهما الخصومة، أو أنه خشي عاقبة التورط في حلف الفرنج. فعدل موقفه في آخر لحظة حينما شعر بمسير الفرنج إلى مدينته والظاهر أيضاً أنه لم يكن في سرقسطة حينما أقبل إليها الجيش الفرنجي؛ إذ تقول

(1) R.M. Pidal: ibid، cit. Anales Breves.p. 187

(2)

ابن الأثير ج 6 ص 5.

ص: 174

لنا الرواية الإسلامية، إنه سبق إليها سليمان، وتحصن بها، فلما أشرف شارلمان مع حليفه سليمان على سرقسطة، رفض الحسين أن يستقبله، وألفى المدينة محصنة متأهبة للدفاع والمقاومة، فعبر نهر الإيبرو إلى الضفة الأخرى، وقدم إليه سليمان رهائن عدة من الأعيان والأكابر، وفي مقدمتهم ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن وكان أسيرا لديه حسبما تقدم. ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا لإقناع الحسين بفتح أبواب سرقسطة، ولم يستطع شارلمان من جهة أخرى الاستيلاء عليها، وردت المدينة المحصورة كل هجماته بشدة (1)، وعجز سليمان أن يحقق شيئا من وعوده في تسليم المدن والحصون الواقعة في تلك المنطقة. ولم يشأ ملك الفرنج أن يخوض في تلك الوهاد والهضاب الصعبة معارك لم يتأهب لخوضها، وارتاب من جهة أخرى في نية سليمان وموقفه، فقبض عليه (2)، وارتد بجيشه نحو الشمال الشرقي في طريق العودة. وكان ذلك في شهر يوليه سنة 778 م (شوال سنة 161هـ).

بيد أن هذه الوقائع ينقصها شىء من الوضوح. ذلك أنه لم تقع بين الفريقين معارك ذات شأن. فهل ارتد ملك الفرنج من تلقاء نفسه، أم اضطر مرغماً إلى الارتداد لبواعث وأسباب لا نعلمها؟.

يقول الأستاذ بيدال " إن الانسحاب لا شك فيه. ولكن فشل حملة الملك الفرنجي لا تفسرها لنا هجمات المحصورين. إذ كيف يرتد هذان الجيشان الفرنجيان اللذان يضمان هذه الجموع من جند بريتانيا ونوستريا وبافاريا ولومبارديا؟ وكيف يرتد كارل وهو في عنفوان قوته بهذه السهولة؟ كيف يرتد هذا العاهل القوي وجيشه العظيم ما يزال سليما لم يمس، دون أن يخضع الحسين، ودون أن يفتتح أواسط إسبانيا؟ "(3).

إن الروايات اللاتينية تحاول أن تلقى الضوء على ذلك الغموض؛ فيقول لنا " أبدال " السالف الذكر، إن شارلمان قدر أنه قد يجد نفسه وحيدا في قلب شعب معاد، مع صعوبة التموين لجيشه العظيم. بيد أنه يوجد تعليل آخر أقوى وأوضح، تقدمه إلينا رواية لاتينية أخرى في نصها الآتي: " إن السكسون المارقين حينما

(1) أخبار مجموعة ص 113.

(2)

ابن الأثير ج 6 ص 5.

(3)

R.M.Pidal: ibid.; p 188

ص: 175

علموا أن الملك كارلوس في منطقة سرقسطة، قد شقوا الطاعة، وخربوا وأحرقوا الأراضي حتى ضفاف الرين. ونمى ذلك إلى كارلوس وهو في اسبانيا، فلما وقف عليه عاد مسرعاً إلى فرنسا " (1). وربما كان في ذلك خير تفسير لانسحاب شارلمان، وتركه سرقسطة لمصيرها.

ارتد شارلمان على رأس قواته المجتمعة وفي ركابه سليمان أسيره وعدد من الرهائن وسار شمالا نحو بلاد البشكنس. وكان النافاريون في تلك الأثناء قد جمعوا فلولهم، واعتزموا الدفاع عن حاضرتهم بنبلونة وعن حرياتهم التالدة، خصوصا وقد شجعتهم وقفة سرقسطة وصاحبها الحسين ضد الملك الفرنجي، وانضم إليهم كثير من المسلمين من أبناء الأنحاء المجاورة، للتعاون في دفع العدو المشترك؛ ولكن شارلمان هاجم بنبلونة بعنف، ولم تجد بسالة النافاريين وحلفائهم المسلمين شيئا، فتركوا المدينة، وتفرقوا في مختلف الأنحاء؛ واستولى شارلمان على بنبلونة للمرة الثانية، وهدم حصونها وأسوارها حتى لا تعود إلى المقاومة إذا عاد إلى تلك الأنحاء، ولكي يمهد لجيشه طريق العود المأمون إلى فرنسا.

وغادر شارلمان بنبلونة متجهاً إلى جبال البرنيه من طريق هضاب رونسفال المؤدية إلى باب الشزري. فما الذي حدث عندئذ؟ تقول الرواية العربية إن شارلمان " لما أبعد من بلاد المسلمين واطمأن، هجم مطروح وعيشون إبنا سليمان في أصحابهما، فاستنقذا أباهما ورجعا به إلى سرقسطة "(2). وفي هذه الكلمات القليلة تشير الرواية العربية إلى النكبة الهائلة التي أصابت الجيش الفرنجي أمام باب الشزري والتي تقدم إلينا الروايات اللاتينية اللاحقة تفاصيلها.

والظاهر أيضا من الرواية العربية أن ولدي سليمان، حينما قبض شارلمان على أبيهما، عادا إلى الاتفاق مع الحسين بن يحيى على مقاومة الفرنج، وجمعا في الحال قوات أبيهما وأتباعه، وسارا بجيشهما في أثر ملك الفرنج يحاولان مهاجمته وإنقاذ أبيهما من أسره. وكان شارلمان في ذلك الحين قد غادر بنبلونة بعد تخريبها متجهاً صوب جبال البرنيه، ليعبرها كرة أخرى إلى فرنسا، وكان عبوره من نفس الطريق التي أتى منها، أعني من مفاوز رونسفال. ويقع ممر رونسفال Roncesvalles،

(1) R.M.Pidal: ibid ; cit. Chronicon Moissiocense ; p. 189

(2)

ابن الأثير ج 6 ص 5.

ص: 176

الذي يسمى بالعربية " باب شيزروا "(1)، أو باب الشزري، في طرف البرنيه الغربي شمال شرقي بنبلونة، وعلى قيد عشرين كيلومتر منها، وهو أحد ممرات عدة كانت تستعمل منذ عهد الرومان لاختراق البرنيه من الشمال أو الجنوب. وهي نفس الممرات أو الأبواب التي كان يستعملها العرب للعبور إلى غاليس (2). وقد لبثت هذه الجبال الوعرة الشاهقة على ممر القرون حاجزا منيعا يفصل بين شبه الجزيرة الإسبانية وبين غاليس، ولا يتأتى للغزاة، عبوره إلا خلال هذه الممرات الشهيرة. ففي مفاوز رونسفال الوعرة، وتجاه ممر البرنيه المسمى بهذا الاسم أعني باب شيزروا، وقعت المفاجأة الهائلة. ذلك أن الجيش الفرنجي ما كاد يبدأ عبور الجبال، حتى أشرف المسلمون بقيادة عيشون ومطروح على مؤخرته، وهاجموه بشدة رائعة، وفصلوا عنه مؤخرته، وانتزعوا منها الأسلاب والأسرى، وفيهم سليمان بن يقظان. والرواية العربية صريحة في أن المسلمين هم الذين دبروا هذا الهجوم الفجائي، على مؤخرة الجيش الفرنسي، ولكن بعض الروايات اللاتينية التي تتحدث عن الموقعة، تقول لنا إن الذين

(1) هذه هي تسمية الشريف الإدريسي، وهي مشتقة من الاسم الروماني القديم Portus Ciserei أو Portus Sizarae

(2)

يقدم لنا الشريف الإدريسي وصفا دقيقا لجبال البرنيه التي تسمى في الجغرافية العربية بجبال البرت أو البرتات كما قدمنا، وللأبواب الرومانية التي كانت بها فيقول:" وطول هذا الجبل من الشمال إلى الجنوب مع سير تقويس سبعة أيام، وهو جبل عال جدا صعب الصعود، وفيه أربعة أبواب فيها مضايق يدخلها الفارس بعد الفارس. وهذه الأبواب عراض لها مسافات وهي منحرفة الطرق. وأحد هذه الأبواب الباب الذي في ناحية برشلونة ويسمى " برت جاقة " (جاكا)؛ والباب الثاني الذي يليه يسمى " برت أشبرة "؛ والباب الثالث منها يسمى " برت شيزروا " Roncesvalles وطوله في عرض الجبل خمسة وثلاثون ميلا؛ والباب الرابع منها يسمى " برت بيونة ". ويتصل بكل برت منها مدن في الجهتين، فما يلي برت شيزروا مدينة بنبلونة؛ والباب المسمى جاقة عليه مدينة جاقة. (راجع نزهة المشتاق للشريف الإدريسي؛ وكذا وصف الإدريسي لجغرافية الأندلس ص 65 من طبعة Saavedra) وظاهر أن كلمة برت تعنى الباب أو الممر، وأصلها من الإسبانية Puerta وقد سميت جبال البرنيه بالعربية البرتات نسبة إلى الأبواب والممرات المذكورة. والجغرافية الحديثة لا تختلف كثيرا عما تقدم، وفيها أن هذه الأبواب والممرات خمسة:(1) ممر بربنيان، بين برشلونة وأربونة (2) ممر بوكيردا الموصل إلى شرطانية (3) الممر بين بنبلونة وسان جان دى بييدبور (ويسميها الإدريسي شنت جوان) وهو باب شيزروا (4) ممر تولوز (طلوشة) إلى بيونة (5) ممر جاكا. وكانت هذه الأبواب أو الممرات تستعمل لاختراق الجبال حين الغزو إلى فرنسا ومنها في طريق العودة.

ص: 177

هاجموا مؤخرة شارلمان حين ارتداده، هم البشكنس النصارى انتقاما لما أنزله الفرنج ببلادهم وعاصمتهم بنبلونة من العيث والتخريب. وإليك ما تقوله هذه الرواية:" إن شارلمان عاد من سرقسطة إلى بنبلونة، وهدم أسوار هذه المدينة من أساسها لكي لا تستطيع الثورة عليه وقرر العودة، وبدأ يجوز شعب البرنيه. وهنا، وفي أرفع نقطة هجم البشكنس، وقد كانوا يكمنون في المؤخرة، وأوقعوا الخلل في الجيش كله، فساده أيما اضطراب وجلبة، وبالرغم من أن الفرنج أبدوا تفوقهم على البشكنس، سواء في السلاح أو الروح المعنوية، فقد بقوا هم الأضعف بسبب رداءة الموقع وعدم التكافؤ في وضع المعركة "(1).

وهنا يحق لنا أن نتساءل إزاء هذا التناقض بين الروايتين، من هم الذين دبروا هذا الهجوم على مؤخرة الجيش الفرنجي؛ أهم المسلمون وحدهم حسبما تقرر الرواية العربية، أم هم البشكنس وحدهم حسبما تقرر الرواية الفرنجية؟ يقول الأستاذ بيدال، إنه لمن غير المعقول، بل ومن المستحيل أن يقوم البشكنس وحدهم بمهاجمة مؤخرة جيش عظيم كجيش شارلمان، والأكثر احتمالا هو أنهم يبحثون عن العون ضد المعتدي الخارجي، وإنه لكذلك من غير المعقول أن يستطيع إبنا سليمان وحدهما انتزاع الأسرى من الجيش الفرنجي، وذلك في الأرض المكشوفة ما بين سرقسطة وبنبلونة، وإنه لا يمكن الاعتقاد بأي حال بأن يسمح جيش شارلمان لنفسه أن يُفاجأ مرتين في أيام قليلة، وإذا فلا بد أن البشكنس والمسلمين معاً قد فاجأوه في شعب البرنيه: البشكنس الذين أثارهم تخريب بنبلونة، والمسلمون الذين يحاولون استنقاذ ابن الأعرابي والرهائن (2).

ثم يقول العلامة الإسباني " إنه باستعراض سائر الروايات يبدو أن هناك حقيقة تاريخية، وهي أن المسلمين تعاونوا مع البشكنس في موقعة باب الشزري؛ وأن أنشودة رولان، وهي مستمدة من أناشيد معاصرة للنكبة، هي أصح من الرواية اللاتينية Anales Regios". ونقول نحن إن هذا الاستعراض لمختلف الروايات يدلي بأن المسلمين هم الذين دبروا الهجوم على مؤخرة الجيش الفرنجي، وإنه

(1) Anales Regios hssta 829; cit.por R.M. Pidal: ibid ; p. 191 & 192

(2)

R.M.Pidal: ibid ; p. 193 & 194 وراجع أيضا Conde: ibid، V.I. P.201 و Dozy: Hist.V.I.p. 243 & notes وهل أدل على أن العرب هم الذين مزقوا مؤخرة الفرنج من أنشودة رولان الشهيرة، التي نتحدث عنها بعد.

ص: 178

خريطة:

مواقع غزوة شارلمان لسرقسطة ومعركة باب الشزري.

ص: 179

فيما يرجح قد اشتركت معهم جموع كبيرة من البشكنس في هذا الهجوم، وإن مضمون أنشودة رولان حسبما نقدمه بعد، يؤكد هذا الاستنتاج في إسناد الدور الرئيسي في الموقعة إلى المسلمين.

وقد وصفت لنا إحدى هذه الروايات اللاتينية، تعاون المسلمين والبشكنس في الهجوم، وفيها " أن جيش شارلمان كان يتكون من خمسة آلاف فارس من ذوي الأسلحة الثقيلة وعدد مماثل من المشاة، وأن المؤخرة كانت تتكون من ألف فارس ومعها دواب الحمل، وأن الكمين وقع في الأماكن الصاعدة من الطريق المعبد. وقد تعاون بشكنس بنبلونة والمسلمون ولاسيما مطروح وعيشون ولدي ابن الأعرابي، وكان هذا التحالف ضرورياً، لأن المسلمين كانوا في حاجة إلى المعرفة الدقيقة لهذه الوهاد وهو ما يتقنه البشكنس، وكان البشكنس بحاجة إلى مقدرة المسلمين في التنظيم العسكري، وهما معاً قد استطاعا أن يسحقا مؤخرة هذه الصفوف التي ارتجت لها سائر إسبانيا "(1).

وقع هذا الهجوم الفجائي من المسلمين على مؤخرة الجيش الفرنجي بمعاونة ْالبشكنس، فأسفر عن أروع نتيجة يمكن تصورها. ذلك أن الفرنج لم يحسنوا الدفاع عن أنفسهم في تلك الشعاب الضيقة المنحدرة. وقد فصلت مؤخرة الجيش الفرنجي، وانتزعت منها الأسلاب والأمتعة وفي مقدمتها الخزانة الملكية، وكذلك الرهائن، وفي مقدمتهم سليمان، ومزقت المؤخرة نفسها شر ممزق، وهلك خلال المعمعة الهائلة عدد عظيم من سادة الجيش الفرنجي وفرسانه، ولم تسمح المفاجأة المذهلة بأى عمل أو محاولة منظمة لإنقاذ الفرق المنكوبة. وكانت نكبة مروعة لبث صداها يتردد مدى عصور في أمم الغرب والنصرانية.

وتضع الرواية الفرنجية تاريخ الموقعة في 18 أغسطس سنة 778 (ذى القعدة سنة 161هـ)(2). وقد رأينا فيما تقدم كيف تقنع الرواية العربية بالإشارة إليها في

(1) Anales Regios، cit. por R.M. Pidal: ibid. p. 197

(2)

ولكن الرواية العربية تقدم تاريخها عن ذلك فتضعها في سنة 157هـ (774 م) وهي رواية ابن الأثير (ج 6 ص 5) والمقري في نفح الطيب (ج 2 ص 73). والظاهر من نص الرواية العربية أنها تنصرف هنا إلى بداية الحوادث لا إلى الموقعة ذاتها، وقد وقعت فيما بعد، وهو ما يفسر التباين بين التاريخين. ولا ريب أن الرواية الفرنجية أقرب إلى الصحة والتحقيق لأنها معاصرة قريبة من الحوادث.

ص: 180

عبارات موجزة، وإن كانت مع إيجازها في منتهى الدقة، وكيف أن الرواية اللاتينية الفرنجية والكنسية تفيض بالعكس في تفاصيلها إفاضة واضحة، وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعض هذه الروايات التي اقتبسنا بعض نصوصها، وربما كانت رواية إجنهارت (أينهارت) مؤرخ شارلمان، عن الموقعة، هي أدق هذه الروايات وأوثقها، فقد كتبت في سنة 829 م بعد وفاة شارلمان بقليل، واعتمد فيها على كثير من أقوال المعاصرين وشهود العيان. وهو يفصل لنا حوادثها ويذكر من هلك فيها من الأمراء والسادة، ومنهم إيجهارد رئيس الخاص، وأنسلم محافظ القصر، وهردولاند حاكم القصر البريتاني، وكثير من الرؤساء ورجال الخاص والحاشية. وهردولاند، هو رولان Roland بطل الأنشودة الشهيرة، التي نظمت فيها بعد عن هذه الموقعة، واستمدت من أناشيد معاصرة لها، والتي ما زالت أثراً خالداً لقريض الفروسية في العصور الوسطى. بيد أن أنشودة رولان تنحرف في كثير من مناحيها إلى الأسطورة. وقد اتخذت الأسطورة من حوادث الموقعة موضوعا لقصة حربية حماسية حرفت فيها الوقائع الأصلية أيما تحريف، ولكنها تستبقي مكان الموقعة، وبعض أشخاص التاريخ. وقد رأينا أن نورد فيما يلي خلاصة هذه القصة أو الأنشودة الشهيرة:

" غزا شارلمان إسبانيا، ولبث يحارب فيها سبعة أعوام، حتى افتتح ثغورها ومدنها، ما عدا سرقسطة، وهي معقل الملك العربي مارسيل. وكان يعسكر بجيشه بجوار قرطبة، حين جاءته رسل مارسيل يعرض عليه الطاعة، بشرط أن يجلو الفرنج عن إسبانيا، فعقد شارلمان مجلسا من البارونات ومنهم رولان ابن أخيه. وكان رولان يرى أن تستمر الحرب، ولكن فريقاً آخر من السادة برآسة جانلون كونت مايانس، كان يرى الصلح والمهادنة، فغلب رأي هذا الفريق، لأن الفرنج سئموا الحرب والقتال، وأرسل جانلون إلى الملك مارسيل ليعقد معه شروط الهدنة. فأغراه مارسيل واستماله بالتحف والذخائر، واتفق معه على الغدر برولان وفريقه. ثم عاد إلى شارلمان وزعم أن مارسيل قبل شروط الفرنج، وبذا قرر شارلمان الإنسحاب. وتولى رولان قيادة المؤخرة. وكان معه الأمراء الإثنا عشر، وزهرة الفروسية الفرنجية. ولما وصل الجيش إلى قمة الممرات الجبلية رأى أوليفر أحد الأمراء، جيشاً من العرب، يبلغ أربعمائة ألف مقاتل.

ص: 181

فتضرع إلى رولان أن ينفخ في بوقه ليدعو شارلمان إلى نجدته، فأبى رولان، وانقض الجيش المهاجم على مؤخرة الفرنج، ونشبت بينهما عدة معارك هائلة. واستمر رولان يأبى طلب النجدة حتى مزق جيشه ولم يبق منه سوى ستين رجلا، وعندئذ نفخ في بوقه يدعو شارلمان: ثم قتل بقية أصحابه، ولم يبق سوى رولان وأوليفر واثنين آخرين. ولما شعر العرب أن شارلمان سيرتد بجيشه لقتالهم، قرروا الانسحاب. وكان زملاء رولان الثلاثة قد قتلوا، وأثخن رولان نفسه جراحا حتى أشرف على الموت. ولكنه استطاع أن ينفخ في بوقه مرة أخرى قبل أن يموت، وأن يسمع صرخة شارلمان الحربية، وسمع شارلمان صوت البوق على بعد مراحل عديدة. فعاد مسرعا وطارد جيش العدو وسحقه. ودفن الفرنج قتلاهم، وعوقب جانلون الخائن أروع عقاب. وتوفيت ألده، خطيبة رولان حينما علمت بموته ".

هذه هي خلاصة القصة التي ترددها أنشودة رولان الشهيرة. وهي أبعد ما يكون عن وقائع التاريخ الحق. بيد أنها تتخذ مادتها من بعض هذه الوقائع، ومن الذكريات والروايات الشفوية المتناقلة، والأناشيد الحربية المعاصرة. وهي نورمانية الأصل، ظهرت لأول مرة في القرن الحادي عشر، أعني بعد الموقعة بنحو ثلاثة قرون، ودونت أولا في بعض القصص اللاتينية، ثم دونت بالنظم في ملحمة طويلة تبلغ أربعة آلاف بيت بعنوان " أنشودة رولان " Chanson de Roland ولبثت تعتبر مدى عصور من أعظم الآثار الأدبية، ومن روائع القريض الحربي.

وكانت حوادث هذه الموقعة الشهيرة مستقى خصبا لكثير من الكتاب والشعراء، وكانت بالأخص مستقى لقصص الفروسية والملاحم الحماسية المغرقة، التي تملأ فراغا كبيرا في الأدب الفرنجي في العصور الوسطى (1).

ومما يلفت النظر في حوادث الموقعة أن شارلمان، لم يحاول بعد أن أفاق من الصدمة الأولى، أن يعجل بالانتقام لنكبة جيشه ومقتل فرسانه، وأن يعود فيطارد تلك العصابات التي تحدته واجترأت عليه سواء من المسلمين أو البشكنس.

(1) راجع حوادث هذه الموقعة الشهيرة في أخبار مجموعة ص 112 و113، وابن الأثير ج 6 ص 5 و21، وابن خلدون ج 4 ص 124، وراجع أيضا Bouquet ; Vol.V.R.M. Pidal: La Chanson de Roland.Cap. VI.p. 171 - 215;p. 14،26،42. & 208 و Reinaud: ibid: p. 95،96 و Hodgkin: Charles the Great p. 141-152.

ص: 182

وتعليل ذلك هو أن شارلمان شغل قبل كل شىء بخطورة الأنباء التي وصلته عن تحرك السكسونين، وهم ألد أعداء الفرنج وأخطرهم، فارتد أدراجه مسرعا ليخوض معهم حرباً جديدة استطالت زهاء سبع سنين، حتى تمت هزيمة زعيمهم فتكنت (أو فيدوكنت) نهائيا، وأرغم على التنصير في سنة 785 م (1).

ولم يبق بيد شارلمان، بعد استنقاذ المسلمين للرهائن، سوى ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن، وقد لبث فترة أخرى معتقلا بفرنسا، حتى تمت المفاوضة بشأنه، وأطلق سراحه لقاء فدية كبيرة.

وهكذا اختتمت محاولة شارلمان غزو اسبانيا المسلمة والتدخل في شئونها، بنكبته والقضاء على زهرة جنده، وقد أسبلت هذه النكبة مدى حين سحابة على مجده الحربي. بيد أنها لم تكن كما سنرى آخر محاولة من نوعها لعاهل الفرنج، فإن السياسة الفرنجية لبثت بالرغم من هذه الصدمة المؤلمة، ترقب سير الحوادث في الأندلس لتجد فيها ثغرة تتخذها وسيلة لتحقيق غاياتها.

* * *

ونستطيع بعد أن استعرضنا أدوار هذه الموقعة الشهيرة التي تركت في عصرها أعظم صدى في الروايات الفرنجية (اللاتينية) والكنسية المعاصرة واللاحقة، وبعد أن سجلنا ممهداتها وحوادثها تفصيلا. أن نعود فنلقى نظرة مقارنة على موقف الروايات العربية واللاتينية إزاء الموقعة، وكيف تعاملها كل منها.

وأول ما يلفت النظر هو حسبما قدمنا، إيجاز الروايات العربية، في الوقت الذي تميل فيه الروايات اللاتينية إلى الإفاضة الواضحة. وقد كان خليقا بالرواية العربية أن تبسط القول في حوادث موقعة لها من الخطورة البالغة ما لموقعة " باب الشزري " خصوصاً وقد كان التفوق فيها للجانب الإسلامي. ولكن الرواية العربية لم تنظر إلى الموقعة إلا من حيث ارتباطها بحوادث الأندلس، ومن جهة أخرى فإنها لم تكن على علم تام بما يدور في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، في مملكة الفرنج الشاسعة، ولم تقف على آثار الصدى الهائل الذي أحدثه تمزيق جيش شارلمان داخل مملكة الفرنج، وفي سائر الأمم المتصلة بها، ولاسيما القبائل السكسونية ألد أعداء الفرنج يومئذ.

(1) R.M. Pidal: ibid، p. 199

ص: 183

وثمة فرق واضح آخر بين الروايتين العربية واللاتينية، هو أن الأولى تنوه بأن شارلمان قاد حملته إلى اسبانيا استجابة لدعوة الخوارج المسلمين ليعمل معهم ضد إمارة قرطبة، وأن الثانية تنوه بأن حملة شارلمان إنما كانت موجهة إلى إخضاع البشكنس.

ومع ذلك فإن الرواية العربية على إيجازها تقدم إلينا ممهدات الموقعة وعناصرها الأساسية بمنتهي الدقة، بل إن العلامة المؤرخ الأستاذ بيدال، وهو آخر من تناول حوادث هذه الموقعة من النقدة المحدثين بإفاضة، وبأسلوبه النقدي الرائع، يقرر لنا أن الرواية العربية هنا، هي أرقى بكثير من الرواية اللاتينية، وأنها فيما يتعلق بغزوة شارلمان لإسبانيا، أبعد من أن تنحدر إلى الغموض والتناقض، وأنها بالعكس تقدم إلينا بعض أنباء في منتهى الأهمية والجدارة.

ويدفع الأستاذ بيدال ما يرمي به بعض الباحثين مثل باسيه وغيره، الرواية العربية من أخطاء وسابقات تاريخية، ويؤكد بالعكس أنه لا تناقض بين النصوص العربية واللاتينية، وكل ما هنالك أن كلا منهما يركز اهتمامه في نقط معينة، وكلتاهما تتفق مع الأخرى في الحوادث الرئيسية (1).

(1) R.M.Pidal: ibid، p. 177،178

ص: 184