المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية - دولة الإسلام في الأندلس - جـ ١

[محمد عبد الله عنان]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الكتاب الأولفتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس

- ‌الفصل الأولفتوح العرب في إفريقية

- ‌الفصل الثانيإسبانيا قبل الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الثالثفتح أسبانيا

- ‌الفصل الرابعإسبانيا بعد الفتح الإسلامي

- ‌الفصل الخامسغاليس بين العرب والفرنج

- ‌الفصل السادسبلاط الشهداء

- ‌الفصل السابعالأندلس بين المد والجزر

- ‌الفصل الثامِنُالحرب الأهلية

- ‌الفصل التاسعخاتمة عصر الولاة

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم

- ‌الفصل الأولمصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

- ‌الفصل الثانيبعث الدولة الأموية في الأندلس

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل الرابعموقعة رونسفال أو باب شزروا

- ‌الفصل الخامسولاية عبد الرحمن الداخل

- ‌الفصل السادسخلال عبد الرحمن ومآثره

- ‌الفصل السابعالمملكة النصرانية الشمالية

- ‌الفصل الثامنهشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

- ‌الفصل السادسعبد الرحمن بن الحكم

- ‌الكتابُ الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى

- ‌الفصل الأوّلولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

- ‌الفصل الثانيولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الثالثولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الرابعولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

- ‌الفصل الخامسالمملكة الإسبانية النصرانية

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْالقسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

- ‌الفصل الأولولاية عبد الرحمن الناصر

- ‌الفصل الثانيخلال الناصر ومآثره

- ‌الفصل الثالثغزوات المسلمين

- ‌الكتاب الثانيالدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْالقسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة

- ‌الفصل الأوّلالحكم المستنصر بالله

- ‌الفصل الثانيهشام المؤيد بالله

- ‌الكِتابُ الثالِثالدّولة العامِريّة

- ‌الفصل الأوّلالحاجب المنصور

- ‌الفصل الثانيخلال المنصور ومآثره

- ‌الفصل الثالثالممالك النصرانية الإسبانية

- ‌الفصل الرابععبد الملك المظفر بالله

- ‌الكتابُ الرابعسُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود

- ‌الفصل الأوّلالخلافة في معترك الفتنة والفوضى

- ‌الفصل الثانيدولة بني حمُّود

- ‌الكتابُ الخامسالنظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

- ‌الفصل الأولنظم الحكم

- ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

- ‌ثبت المراجع

الفصل: ‌الفصل الثانيالحركة الفكرية الأندلسية

‌الفصل الثاني

الحركة الفكرية الأندلسية

في عصري الإمارة والخلافة

- 1 -

لبثت الأندلس عقب الفتح، ردحاً من الزمن، بعيدة عن أن تكون مهداً لنشوء الحركة الفكرية. ذلك أنه خلال عصر الولاية، لم تكن الأمور قد استقرت بعد، ولم تترك مشاغل الغزو، والخلافات الحزبية، والانقلابات المتوالية في الرياسة، كبير مجال لاتجاه الأذهان إلى التفكير والأدب، ومن ثم فإنا لا نجد في هذا العصر كتاباً أوشعراء أو مفكرين ذوي خطر، وإن كنا نجد بعض الآثار الشعرية القليلة، التي ترد على ألسنة بعض الولاة أو الزعماء.

ويمكننا أن نرجع الحركة الفكرية الأندلسية، إلى عصر عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة 172 هـ. ذلك أن هذا الأمير القوي اللامع، منشىء الدولة الأموية بالأندلس، كان أول شخصية بارزة ظهرت في ميدان التفكير والأدب والشعر، ويمكن أن نعتبره بحق رائد النهضة الأدبية النثرية والشعرية، التي تفتحت فيما بعد، وازدهرت في عهد خلفائه، ولنا فيما أوردناه من نماذج قليلة، من نثره، ومن نظمه، ما يدل على براعته وتفوقه في هذا الميدان.

ومن بين أمراء بني أمية بالأندلس، كان الرواد الأوائل في الحديث والفقه، فقد كان الداخل، فوق براعته الأدبية عالماً بالشريعة، وكان ولده هشام بن عبد الرحمن المتوفى سنة 180 هـ (796 م) مبرزاً في الحديث والفقه. وفي عصر هذا الأمير ظهرت، طلائع النهضة الأولى في ميدان التفكير والأدب، وكان يغلب على هذه النهضة في البداية، الطابع الديني قبل كل شىء، وكان قد رحل في عصر الداخل جماعة من فقهاء الأندلس إلى المشرق، ودرسوا بالمدينة على الإمام مالك وغيره من أقطاب المشرق، واستقوا من علم مالك واجتهاده، ونقلوا عنه كتابه (الموطأ)، وكان في مقدمة هؤلاء فقهاء مبرزون، مثل زياد بن عبد الرحمن،

ص: 691

وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى الليثي، وكان زياد بن عبد الرحمن عميد فقهاء الأندلس في وقته، وكان الأمير هشام بن عبد الرحمن يوقره ويجله لعلمه وورعه وزهده، وتوفي في سنة 204 هـ (1). وكذا كان عيسى بن دينار، وأصله من طليطلة، وسكن قرطبة، عالماً راسخاً، وكان أستاذ الفتيا في وقته لا يتقدمه فيها أحد، وكان ممن اتجهت إليهم الريبة في ثورة الربض فهرب واستخفى حيناً، ثم عفا عنه الأمير الحكم وأمّنه، فعاد إلى قرطبة وتوفي سنة 212 هـ (2). وأما يحيى بن يحيى الليثي فقد رحل كزميله إلى المشرق، وسمع من مالك، والليث ابن سعد، وعبد الله بن وهب وغيرهم، وعاد إلى الأندلس ليشغل بين فقهائها مركز الصدارة، وكان ذهناً حراً يعتز بحريته واستقلاله، فلم يل قضاءً، ورفض كل دعوة إلى توليه، وتوفي في سنة 234 هـ (3). وعلى يد أولئك الفقهاء والرواد، ذاع مذهب مالك بالأندلس منذ عصر هشام. وكان هشام نفسه كثير الإجلال لمالك ومذهبه، فزاد ذلك في ذيوع المذهب، وفي تمكين مكانته بالأندلس. وكان هذا بداية لنفوذ الفقهاء في شئون الدولة، وهو نفوذ اشتد فيما بعد، وكان له أثر عميق في تحريك القوى المعارضة، التي انتهت باضطرام ثورة الربض ضد الحكم بن هشام، في سنة 202 هـ (818 م)، وذلك حسبما أوضحنا في موضعه.

وفي عصر الحكم بالذات، تتخذ الحركة الفكرية طابعاً أوسع أفقاً، وتظهر طوالع النزعة الأدبية إلى جانب العلوم الدينية، ويظهر الأدباء والشعراء إلى جانب الفقهاء والمحدثين. وكان في مقدمة من ظهروا في تلك الفترة عبد الملك ابن حبيب بن سليمان السلمي، وأصله من إلبيرة وسكن قرطبة، ثم رحل إلى المشرق وسمع الكثير من علمائه. ولما عاد إلى الأندلس عمل مشاوراً مع يحيى ابن يحيى، وسعيد بن حسان، وكان حافظاً للفقه على مذهب المدنيين، بيد أنه كان إلى جانب الفقه، بارعاً في النحو والعروض والشعر، حافظاً للأخبار والأنساب والأشعار، متصرفاً في عدة فنون. وكتب عدة مؤلفات في الفقه والتاريخ منها " الواضحة " و" الجوامع " وكتاب في " فضائل الصحابة "، وكتاب في " غريب الحديث "، وكتاب " حروب الإسلام "، وكتاب " طبقات

(1) راجع علماء الأندلس لابن الفرضي (مصر) رقم 458.

(2)

راجع علماء الأندلس رقم 975.

(3)

جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 908.

ص: 692

الفقهاء والتابعين " و" مصابيح الهدى " وغيرها، وكان محمد بن عمر بن لُبابة يقول فيه: عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس، ويحيى بن يحيى عاقلها، وعيسى ابن دينار فقيهها. وتوفي عبد الملك بن حبيب في سنة 238 هـ (1).

وفي عصر الحكم بن هشام تتخذ الحركة الفكرية، التي غلب عليها الطابع الديني، حتى ذلك الوقت، طابعاً أدبياً واضحاً، ويبدأ ظهور الكتاب والشعراء المبرزين، وكان الحكم نفسه في مقدمة شعراء عصره وأدبائه، وكان له نظم بارع أوردنا فيما قدم طرفاً منه. ومن شعراء هذا العصر، عباس بن ناصح الجزيري المصمودي، وهو من أهل الجزيرة، وقد رحل إلى مصر والحجاز والعراق، وتلقى على علمائها، ودرس الفقه، ولقي الأصمعي وغيره ببغداد، ثم عاد إلى الأندلس، ومدح الأمير الحكم فندبه لقضاء الجزيرة، وكان بارعاً في اللغة وشاعراً جزلا، يسلك في شعره مسلك العرب القديمة، وكان له أيضاً حظ من الفقه (2). وكان ولده عبد الوهاب بن عباس بن ناصح أيضاً، فقيهاً وشاعراً محسناً (3)، وكان من الكتاب والشعراء أيضاً حاجب الحكم وقائده عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث، ومؤمن بن سعيد. وكان مؤمن شاعراً مبرزاً كثير الشعر. وكان حاد النكتة والنادرة، ومن شعره قوله:

حرمتك ما عدا نظراً مضراً

بقلب بين أضلاعي مقيم

فعيني منك في جنات عدن

مخلدة وقلبي في الجحيم (4)

وبلغ الشعر في عصر الحكم ذروته، على يد شاعرين كبيرين، هما العلامة عباس ين فرناس ويحيى الغزال الجيّاني. وكان أولهما عالماً بالفلسفة والفلك والكيمياء الصناعية والموسيقى. وقد أشرنا فيما تقدم إلى مخترعاته العلمية، وإلى محاولته اختراع طريقة لطيران الإنسان. وكان ثانيهما كذلك عالماً بالفلسفة والفلك، وقد عاش كلاهما طويلا بعد عصر الحكم، وفيما أوردناه فيما تقدم من شعرهما دليل على براعتهما في هذا الميدان.

(1) راجع ابن الفرضي، علماء الأندلس، رقم 816.

(2)

راجع ابن الفرضي رقم 881.

(3)

ابن الفرضي رقم 881.

(4)

راجع جذوة المقتبس للحميدي رقم 826، وقضاة قرطبة للخشني (مصر) ص 103 و105.

ص: 693

وفي عصر عبد الرحمن بن الحكم، بلغت الحركة الفكرية الأندلسية الأولى ذروتها، ففي ميدان الكتابة احتشد في بلاط الحكم عدة من أكابر الكتاب المبرزين، وفي مقدمتهم الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، ومحمد ابن سليمان الزجّالي، وفي ميدان العلوم الدينية ظهر في عهد عبد الرحمن، جمهرة من أكابر الفقهاء، مثل محمد بن يوسف بن مطروح، ومحمد بن حارث، وعبد الأعلى بن وهب، وبقيّ بن مخلد، ومحمد بن وضاح، وغيرهم، وكان عميد هذه الجمهرة من الفقهاء بقي بن مخلد، وهو من أهل قرطبة، ودرس على علماء الأندلس وإفريقية، وبرع في الحديث والرواية، ويمكننا أن نعتبره رائد علم الحديث في الأندلس. وقد أنكر عليه بعض خصومه ما أدخله من كتب الاختلاف وغريب الحديث بالأندلس، ووشوا به للأمير محمد بن عبد الرحمن. وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما كان من مناظرته لخصومه، وإلزامهم الحجة، وإلى ما حباه به الأمير من عطفه وحمايته، وقد كان ذلك من أسباب انتشار الحديث بالأندلس.

ولبقي بن مخلد عدة مؤلفات فقهية. وله تفسير للقرآن ومسند للنبي، وينوه العلامة ابن حزم في رسالته بعلم بقي وأهمية كتبه، ويقول لنا إن تفسيره للقرآن لم يؤلف في الإسلام مثله (1). وسمع على بقي جمهرة من فقهاء الأندلس، وكان ورعاً زاهداً، وتوفي سنة 276 هـ (2).

وكان من أعلام الفقهاء في هذا العصر، محمد بن عبد السلام الخشني وهو من أهل قرطبة، ورحل إلى المشرق وسمع، في البصرة وبغداد ومصر، وكان فصيحاً جزل البيان، بارعاً في اللغة، ورواية الحديث، وكان أنوفاً منقبضاً عن السلطان، وقد رفض أن يتولى القضاء للأمير محمد بن عبد الرحمن، وتوفي في سنة 286 هـ (3).

وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتمتع به الأمير عبد الرحمن بن الحكم من المواهب الأدبية والشعرية، وأوردنا فيما تقدم طرفاً من شعره. وكان من ألمع شعراء عصره، صديقه وشاعره عبد الله بن الشمر بن نمير، وهو من أهل وشقة، وكان

(1) راجع رسالة ابن حزم عن علماء الأندلس في نفح الطيب ج 2 ص 131.

(2)

راجع ابن الفرضي رقم 283.

(3)

ترجمته في ابن الفرضي رقم 1134. وهو غير محمد بن حارث الخشني صاحب " قضاة قرطبة " المتوفى سنة 361 هـ.

ص: 694

عالماً متمكناً وشاعراً محسناً. وله شعر جيد كثير وقد أخذ الناس من شعره (1).

وكان من أبرز الظواهر الأدبية في هذا العصر، انتشار اللغة العربية وآدابها بين طائفة المستعربين أو النصارى المعاهدين، ونبوغ الكثير منهم فيها، وبلوغهم مرتبة البراعة في كتابتها، ويمكننا أن نذكر من كتابهم المبرزين في هذا العصر، الأسقف جومث بن أنتنيان، قومس أهل الذمة، وكان أديباً بارعاً، وكاتباً مقتدراً، ومن كتاب الأمير عبد الرحمن.

وكانت الفتنة الكبرى في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ) وولده الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) عاملا هاماً في اضطرام النهضة الأدبية، والشعرية بنوع خاص. وكان من أبرز شعراء عهد الفتنة الأول عباس ابن فرناس، وقد أوردنا قصيدته في موقعة طليطلة، التي سحق فيها الثوار. وفي أواسط عهد الفتنة ظهر شاعر من أعظم شعراء الأندلس، وأديب من أعظم أدبائها، هو الفقيه أبو عمر أحمد بن عبد ربه (246 - 328 هـ) صاحب كتاب " العقد الفريد " الذي يعتبر من أعظم آثار الأدب الأندلسي. ويمكننا أن نعتبر ابن عبد ربه شاعر الدولة المروانية، منذ عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن حتى عهد عبد الرحمن الناصر، وقد ظهر بشعره في موقعة إستجة التي سحق فيها الثائر عمر بن حفصون، وذلك في سنة 278 هـ (891 م)، وظهر بمدائحه للأمير عبد الله، ثم حفيده عبد الرحمن الناصر، وقد كان معلمه في صباه، وبأرجوزته في غزوات الناصر ومآثره. وقد أوردنا من نظمه فيما تقدم عدة من قصائده. وأما كتابه " العقد الفريد " فإنه يعتبر بمحتوياته وتنوعه، من أمتع الكتب في الأدب العربي، وبالرغم من أن موضوعاته، يغلب عليها طابع الأدب المشرقي، فإنه يعتبر عنواناً بارزاً للأدب الأندلسي في مرحلته الأولى. وقد انتقد بعضهم العقد الفريد لأنه " لم يجعل فضائل بلده، واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة ملكه "(2) ويعتبر العقد الفريد بطابعه المشرقي، على النقيض من كتاب " الذخيرة " لابن بسام الشنتريني، المتوفى سنة 542 هـ، والذي يعتبر بمحتوياته وروحه، مثلا ساطعاً للأدب الأندلسي.

(1) ابن الفرضي رقم 691.

(2)

راجع نفح الطيب ج 3 ص 126.

ص: 695

ومن شعراء عهد الفتنة وأدبائها البارزين سوّار بن حمدون القيسي، وسعيد ابن سليمان بن جودي، وهما من زعماء الفتنة العرب، وكان كلاهما إلى جانب فروسيته من أعلام البيان والنظم في وقته، وقد نقل إلينا ابن الأبار نماذج من نظمهما (1).

وكان من أعلام الأدب في تلك الفترة أيضاً محمد بن أضحى الهمداني، وهو من زعماء العرب بكورة إلبيرة. وكان بارعاً في الأدب، خطيباً مفوهاً، يخطب بين يدي الأمراء في المحافل، وكان خلال الفتنة قد انضوى تحت لواء الأمير عبد الله، ثم انضوى بعد ذلك تحت طاعة الناصر فيمن خضع من ثوار النواحي (2).

وكان الأمير عبد الله نفسه من ألمع شعراء عصره. وكان بارعاً في العربية، حافظاً للغريب من الأخبار، وقد نوه المؤرخ ابن حيان بشاعريته، ورفيع أدبه، وأوردنا نحن فيما تقدم نماذج رقيقة من شعره.

- 2 -

وكان عصر عبد الرحمن الناصر، من ألمع عصور الدولة الأموية بالأندلس، وفيه زهت العلوم والآداب، وظهرت جمهرة من أكابر الشعراء والعلماء. وكان من أعلام تلك الفترة، إلى جانب عميدهم ابن عبد ربه، صاحب العقد الفريد، محمد بن عمر بن لبُابة، وهو من أهل قرطبة. وكان إماماً في الفقه، متمكناً من حفظ الرأي، والبصر بالفتيا، وكان مشاوراً أيام الأمير عبد الله، ثم انفرد بالفتيا أيام الناصر، فلم يكن يشاركه أحد في الرياسة والقيام بالشورى، وكان حافظاً لأخبار الأندلس، وله حظ من النحو والشعر. وقد وُلي الصلاة بالمسجد الجامع، وتوفي في سنة 314 هـ. ومن مؤلفاته كتاب المنتخب في روايات مذهب مالك (3).

وقد حدثنا ابن حيان في المقتبس عن شعراء عصر الناصر الذين التفوا حول بلاطه، وأشادوا بمديحه، فقال: إن " في مقدمتهم معلمه في الصبا أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، ويليه من نمطه عبيد الله بن يحيى بن إدريس، وعبد الملك بن سعيد المرادي، وإسمعيل بن بدر، وأغلب بن شعيب، وحسان بن

(1) راجع الحلة السيراء (طبعة دوزي) ص 80 - 87.

(2)

الحلة السيراء ص 98.

(3)

ابن الفرضي رقم 1189.

ص: 696

حسان [السناط] وغيره، ومن كبار الطارئين عليه من المشرق، طاهر بن محمد المهند البغدادي، ومحمد بن حسين الطبني الإفريقي، وغيرهما، أسلفوا في الناصر لدين الله إحساناً كثيراً.

فمن قول أبي عثمان عبيد الله يحيى بن إدريس في الناصر لدين الله، وقد غزا الروم في شهر رمضان، وأدركه الفطر في بلاد العدو، فلم يتورع، وصمد إلى لقياهم، وقد اجتمعوا:

يهني الخلافة سعي خير إمام

لله مسعاه وللإسلام

ملك تمكن في المكارم والعلى

كتمكن الأرواح في الأجسام

عزم الرحيل مصمماً في عيده

لشفاء غلة سيفه الصمصام

يصل الترحل بالترحل دائبا

في الحل يحكمه وفي الإبرام

ليعز دين الله في كنف العلى

ويذب عن حرم الهدى ويحام

مستنجزاً وعد الإله بنصره

في شيعة الإشراك والإحرام

وقوله حينما نزل الناصر بجيوشه طليطلة، وارتياع الجلالقة لمقدمه، من قصيدة:

على أي فتح تقدما أتتـ

ـك فتوح الثغر فذاً وتوءما

تباشر تترى من فتوح تواتـ

ـرت كما تابع النثر الجمان المنظما

ومن نظم أبى الحسن جعفر بن عثمان المعروف بالمصحفي كاتب ولي العهد ْالحكم بن الناصر لدين الله، السامي المحل في الاشتمال على متن البلاغة، من النثر والنظم بالتبريز، ما نظمه وقت انتقال الناصر إلى دين الله عن سرقسطة:

على أيمن الأوقات كان ارتحالك

وفي أيمن الساعات كان احتلالكا

تنقلت عن دار الشقاق مظفراً

وقد صال بالمخذول فيها صيالكا

وحاربت ذا السيف العريض بميتة

أرت مستجيش الشرك كيف اغتيالكا

وأقفلت عنهم والمنايا صوايب

تسيل بها في ساحتيهم سجالكا

إذا ما القرى رام اغتلاق جفونهم

فخطفه بالخوف عنها خيالكا

وإن ذهبوا للسير في الأرض مذهبا

تراءى لهم في كل أفق مثالكا

هل الأجل المرهوب إلا صيالكا

أم الأمل المرغوب إلا نوالكا

بقيت أمير المؤمنين مملكاً

فما الروضة الزهراء إلا جلالكا

ص: 697

وقال إسمعيل بن بدر في مديح الناصر وذكر غزوته للجزيرة الخضراء:

تطوى المراحل إدلاجاً وتنحيرا

مشمراً في رضى الرحمن شميرا

وبدر الملوك الذي إشراق سنته

تجلو عن الدين والدنيا الدياجيرا

من قد قضى الله في ماضى شبيبته

لا يزال على الأعداء منصورا

قال ابن حيان: " والشعر في الناصر لدين الله رحمة الله عليه، كثير جداً، محمول عن فحول يقدمهم ابن عبد ربه، وابن إدريس، ومهند والطبني ونمطهم

في تجويد صناعتهم بفضل ما ألفوا لديه من التوسعة عليهم، والإحسان إليهم، فكل منهم كمل فيما صاغه فيه ديواناً بذاته، عفى رسومها، وغيض معينها من الليالي وانصرام الدولة، وتسلط الفتن البربرية، والمطاولة على التواريخ الملوكية، التي كانت له قاصمة وجامعة، حتى مزقت كل ممزق بأيدي الجهال، فهل من باقية " (1).

وكان بين وزراء الناصر وحجابه، عدة من أكابر الكتاب والأدباء، مثل الحاجب موسى بن محمد بن حدير، وقد كان من أهل الأدب والشعر، فضلا عن كونه من بيت رياسة وجلالة (2) وعبد الملك بن جهور، وقد كان وزيراً جليلا، وأديباً وشاعراً محسناً، ومن شعره:

إن كانت الأبدان نائمة

فنفوس أهل الظرف تأتلف

يارب مفترقين قد جمعت

قلبيهما الأقلام والصحف (3)

وكان من أعلام تلك الفترة أيضاً القاضي منذر بن سعيد البلوطي (265 - 355 هـ)، وكان بارعاً في علوم القرآن والسنة، وظهر فوق ذلك بفصاحته وجزالة شعره. وقد أشرنا فيما تقدم إلى موقفه الخطابي الرائع، في حفل استقبال سفارة قيصر الروم، وما حباه به الناصر من أجل ذلك، من عطف، وتقدير، وتوليه للخطابة والقضاء. ومن مؤلفاته " كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة ".

وفي عصر الناصر ظهرت حركة دينية، على رأسها أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرّة الجبلي من أهل قرطبة. وكان مولده بها في سنة 269 هـ. وقد

(1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحات 27 و31.

(2)

جذوة المقتبس رقم 787.

(3)

جذوة المقتبس رقم 626.

ص: 698

برع ابن مسرة في العلوم الدينية، ولكنه جاهر ببعض الآراء المغرقة، في التأويل والقدر وغيرها، فاتهم بالزندقة وغادر الأندلس. فاراً إلى المشرق وذلك في سنة 298 هـ، ودرس هنالك على أيدي المعتزلة، والكلاميين وأهل الجدل. ثم عاد إلى الأندلس وهو يخفي نحلته وآراءه الحقيقية، تحت ستار من النسك والزهد. وكان يتخذ لنفسه غاراً يتعبد فيه على مقربة من جبل قرطبة، حتى سمي بالجبلي.

واختلف إليه الطلاب من كل صوب. وكان يستهويهم بغزير علمه وجزالة بيانه، حتى ذاعت شهرته، وتبعه الكثيرون من الصحب والتلاميذ. وقد اختلف في أمر ابن مسرة، فبعضهم يسمو به إلى مرتبة الإمامة في العلم والزهد والورع، ومنهم من كان يرميه بالزندقة وترويج البدع. وتوفي ابن مسرة بقرطبة سنة 319 هـ (931 م)(1). على أن تعاليم ابن مسرة لبثت بعد ذلك حية ذائعة، طوال عهد الناصر، وقام جمهرة من أهل السنة، بمعارضة تعاليمه وإنكارها، ووصل صوتهم في ذلك إلى الخلافة، واضطر الناصر إلى أن يصدر باسمه بياناً في سنة 340 هـ، يستنكر فيه تعاليم ابن مسرة وتلاميذه، ويرميهم بالمروق، والخروج عن تعاليم السنة الحقيقية، وقد أورد لنا ابن حيان هذا البيان الفريد في المقتبس (2)، وقد تحدثنا فيما تقدم عن ابن مسرة وحركته، ولخصنا كتاب الناصر في شأنها.

وفي عصر الناصر بالذات ظهر شاعر من أعظم شعراء الأندلس، هو أبو القاسم محمد بن هانىء الأزدي الإشبيلي، وقد ولد بإشبيلية في سنة 326 هـ، وظهر منذ حداثته ببراعة شعره وروعة افتنانه، ولكنه اتهم بالكفر والزندقة.

فغادر الأندلس، ولحق بالبلاط الفاطمي بالمهدية، والخليفة المعز لدين الله يتأهب عندئذ لفتح مصر، فأغدق عليه المعز عطفه ورعايته. ولما سار المعز إلى مصر، سار ابن هانىء للحاق به، ولكنه توفي في طريقه في سنة 362 هـ. وقد ُشُبه ابن هانىء بالمتنبي في رصانة شعره، وروعة افتنائه، ومن أشهر قصائده قصيدته التي يصف فيها جيش المعز الذاهب إلى فتح مصر، بقيادة جوهر الصقلي، والتي يقول فيها:

(1) ابن الفرضي رقم 652.

(2)

وذلك في النسخة الخطية من السفر الخامس من المقتبس المحفوظة بخزانة القصر الملكي بالرباط بالمغرب وقد نقلناه منه، ونشرناه في آخر الكتاب.

ص: 699

رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع

وقد راعني يوم من الحشر أروع

غداة كان الأفق سد بمثله

فعاد غروب الشمس من حيث تطلع

فلم أدر إذ ودعت كيف أودع

ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع

ألا إن هذا حشد من لم يذق له

غرار الكرى جفن ولا بات يهجع

إذا حل في أرض بناها مدائنا

وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع

تحل بيوت المال حيث محله

وجم العطايا والرواق المرفع

رحلت إلى الفسطاط أول رحلة

بأيمن فأل في الذي أنت تجمع

فإن يك في مصر ظمأ لمورد

فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع

ويمنهم من لا بغار بنعمة

فيسلبهم لكن يزيد فيوسع

وكان من أعلام الشعر في عصر الناصر أيضاً الوزير جعفر بن عثمان المصحفي، الذي تولى الحجابة فيما بعد لولده الحكم المستنصر، وتوفي في سنة 372 هـ في سجن الزهراء، ضحية لمنافسه القوى محمد بن أبي عامر المنصور. وقد أوردنا من شعره فيما تقدم في غير موطن.

وظهر في عصر الناصر عدد من أكابر الكتاب البلغاء، في مقدمتهم كاتب الناصر الأثير عبد الله بن محمد الزجّالي، وهو الذي أنشأ عن لسانه البيان الخاص بمروق ابن مسرة الذي سبقت الإشارة إليه.

وكان الناصر نفسه عالماً أديباً، يهوى الشعر وينظمه، ويقرب الأدباء والشعراء. وكان في مقدمة شعراء دولته وآثرهم لديه الفقيه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وذلك حسبما أشرنا في موضعه.

وظهر في عهد الناصر عدة من أعلام المؤرخين الذين وضعوا أسس الرواية الأندلسية. أولهم أحمد بن محمد بن موسى الرازي، وقد ولد الرازي سنة 274 هـ وتوفي سنة 344 هـ. ومن تصانيفه " أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم "، وكتاب " الإستيعاب في أنساب أهل الأندلس "، وكتاب في " صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها ". وقد كانت رواية الرازي مستقى خصباً لمؤرخي الأندلس، وفي مقدمتهم عميدهم ابن حيان.

وظهر قرينه ومعاصره ابن القوطية، وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عيسى بن مزاحم؛ ويعرف بابن القوطية لانتسابه بطريق النسب إلى

ص: 700

سارة القوطية إبنة وتيزا ملك القوط. وقد ولد بقرطبة وتوفي بها سنة 367 هـ (977 م)، وكان راوية متمكناً حافظاً لأخبار الأندلس. وسير أمرائها وأخبار علمائها وفقهائها وشعرائها. وقد كتب تاريخه المسمى " تاريخ افتتاح الأندلس ".

وكان فوق ذلك من أئمة عصره في اللغة والنحو، وله في ذلك مؤلفات قيمة، وكانت كتب اللغة أكثر ما تقرأ عليه، وتؤخذ عنه.

ومن أعلام المؤرخين في ذلك العصر أيضاً أحمد بن موسى العروي المتوفى سنة 388 هـ، وقد ألف كتاباً عنوانه " تاريخ الأندلس ".

واستمرت النهضة الفكرية، التي ازدهرت في عصر الناصر، وفي عهد ولده الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) وازدادت قوة وازدهاراً. وكان الحكم، وهو الخليفة الأديب العالم، رائد هذه الحركة الفكرية العظيمة. وكان من ظواهرها قيام جامعة قرطبة العظيمة، واحتشاد أكابر الأساتذة بين عقودها، وإنشاء المكتبة الأموية الكبرى، التي بذل الحكم في إنشائها من الجهود العظيمة والأموال الزاخرة ما لم يسمع بمثله، حتى بلغت محتويات هذه المكتبة الفريدة زهاء أربعمائة ألف مجلد، من مختلف أصناف العلوم والفنون. وكثرت المكتبات العامة والخاصة، وبلغ شغف اقتناء الكتب أشده في ذلك العصر، واحتشد حول بلاط الحكم، جمهرة من أكابر العلماء، في مقدمتهم الحافظ أبو بكر بن معاوية القرشي، وأبو علي القالي ضيف الأندلس يومئذ، والأديب المؤرخ محمد بن يوسف الحجاري، وإمام النحو والرواية ابن القوطية، وربيع بن زيد الفيلسوف والعلامة الفلكي النصراني، وغيرهم.

وظهر في تلك الفترة جمهرة من الشعراء المبرزين، وكان في مقدمتهم طاهر ابن محمد البغدادي، الوافد من المشرق إلى الأندلس، وكان يعرف بالمهند. وكان شاعراً محسناً، مدح الحكم المستنصر، ثم مدح المنصور بن أبي عامر بعد ذلك، وحظى لديه، وقد اتهم بالغلو في بعض الآراء الدينية. ومن شعره قوله:

متى أشكر النُّعمى التي هي جنتي

ففي ظلها أمسي وفي ضوئها أضحى

إذا قلت قد جازيت بالشكر نعمة

شفعت بأخرى منك دائمة السفح

فحمدي لا ينأى وفضلك لاينى

وأرضي لا تصدى وأفقك لا يضحى (1)

ومنهم محمد بن مطرف بن شخيص، وكان من أهل الأدب البارع، ومن

(1) راجع جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 515، وبغية الملتمس رقم 859.

ص: 701

أعيان الشعراء المجيدين، كان متصرفاً في القول، متقناً لأساليب الجد والهزل، وكان من أخص شعراء بلاط الحكم، وله شعر كثير، ومن شعره في تهنئة الحكم بوفود جعفر ويحيى ابنى حمدون، وتقديم طاعتهم إليه، قصيدة طويلة، هذا مطلعها:

بأيمن إقبال وأسعد طائر

تباشير محتوم من الأمر واقع

توافت بملك من معدِّ مقوض

لملك إلى مهدي مروان راجع

فيا لك من بشرى سرور تضمنت

بلوغ الأماني عن سعود الطوالع

ومن قوله في الغزل:

فهل من شفيع عند ليلى إلى الكرى

لعلي إذا ما نمت ألقى خيالها

يقولون لى صبراً على مطل وعدها

وما عدت ليلى فأشكو مطالها

وما كان ذنبي غير حفظ عهودها

وطي هواها واحتمالي دلالها (1)

ومنهم محمد بن الحسين التميمي الطبني، أصله من طبنة، بلد بأرض الزاب بالمغرب، وكان شاعراً محسناً، وأديباً بارعاً من بيت أدب وجلالة ورياسة، وكان من شعراء الحكم الأثيرين. ومن شعره يهنىء الحكم بحلول عيد الأضحى:

بخلت بجوهر لفظها أن يلقطا

لما رأته من الجواهر أبسطا

يا أيها الملك المتوج بالهدى

نوراً على غسق الظلام مسلطا

صل عيدك البهيج السنا في غبطة

وازدد من الأعياد ألفا مغبطا (2)

ومنهم يحيى بن هذيل، وكان من أهل العلم والأدب والشعر الجيد؛ وتوفي سنة 386 هـ، ومن شعره:

لم يرحلوا إلا وفوق رحالهم

غيم حكى غبش الظلام المقبل

وعلت مطارفهم مجاجت الندى

فكأنما مطرت بدرٍّ مرسل

لما تحركت الحمول تناثرت من

فوقهم في الأرض تحت الأرجل

فبكيت لو عرفوا دموعى بينها

لكنها اختلطت بشكل مشكل (3)

ومنهم، ومن أشهرهم يوسف بن هارون الرمادي القرطبي المعروف بأبى جنيش، كان من أشهر شعراء الأندلس في وقته، واشتهر بالأخص بشعره

(1) جذوة المقتبس رقم 144. وبغية الملتمس رقم 276، والمقتبس، قطعة أكاديمية التاريخ ص 54 و60.

(2)

جذوة المقتبس رقم 38، والمقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 94.

(3)

جذوة المقتبس رقم 907، وبغية الملتمس رقم 1494.

ص: 702

الهجائي، وكان سريع البديهة مشهوراً عند العامة والخاصة، لسلوكه في فنون مختلفة من المنظوم. ومدح الرمادي الحكم المستنصر، ولكنه وقع تحت طائلة غضبه لما صدر منه من شعر قاذف في حقه، وأمر باعتقاله مع باقي الشعراء الهجائيين، حماية للناس من ألسنتهم، وزج الرمادي إلى السجن مدة، وكتب خلال اعتقاله كتاباً سماه " كتاب الطير " وصف فيه كل طائر معروف. ثم عفا عنه الحكم وأطلقه مع باقي إخوانه. وتوفي الرمادي فقيراً معدماً أيام الفتنة في سنة 403 هـ.

ومن شعره قوله:

لا تنكروا غرر الدموع فكل ما

ينحل من جسمي يصير دموعا

والعبد قد يعصى وأحلف أنني

ما كنت إلا سامعاً ومطيعا

قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلماً

يمنن علي برده مصدوعا (1)

ونبغ في تلك الفترة عالم من أعظم علماء اللغة في الأندلس، هو أبو بكر محمد ابن الحسن الزبيدي النحوي الإشبيلي. وقد وضع في اللغة والنحو عدة كتب مشهورة منها " الواضح " و" لحن العامة "" وأخبار النحويين "، كما وضع مختصراً لكتاب " العين "، إلى غير ذلك. وكان في نفس الوقت أديباً بارعاً، وشاعراً محسناً، وقد أورد لنا الحميدي شيئاً من نظمه، وندبه الخليفة الحكم، حسبما أسلفنا في موضعه لتدريس اللغة لولده هشام، وألزمه بالبقاء في قرطبة، ولم يأذن له بالرجوع إلى وطنه إشبيلية. وتوفي الزبيدي قرابة سنة 380 هـ (2).

وكان الخليفة الحكم المستنصر نفسه، فوق تمكنه من العلوم الشرعية وتحقيق الأنساب، أديباً ينظم الشعر الرائق. وقد أوردنا من قبل في موضعه شيئاً من نظمه.

ثم كان الانقلاب العظيم، في مصاير الخلافة الأموية، وتغلب محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور على الدولة، وكان من حسن الطالع أن المنصور بنشأته وخلاله العلمية اللامعة، كان من أعظم رواد الحركة الفكرية، وكان المنصور عالماً متمكناً من الشريعة والأدب، بارعاً في النثر والنظم، وقد ذكرنا فيما تقدم شيئاً من نثره ونظمه. وكان يعشق مجالس العلماء والأدباء، حتى أنه كان خلال الغزو، يصطحب معه طائفة من الكتاب والشعراء، ينتظمون في مجلسه خلال

(1) الصلة لابن بشكوال رقم 1491، وجذوة المقتبس رقم 878.

(2)

جذوة المقتبس رقم 34.

ص: 703

السير، وكان شاعره الأثير أبو العلاء صاعد بن حسن البغدادي المتوفى سنة 417 هـ، وكان قد وفد من المشرق على الأندلس، في أوائل عهد المنصور، وكان عالماً باللغة والأدب والتواريخ، فقربه المنصور، وأغدق عليه عطفه، وجمع له صاعد كتاباً سماه " بالفصوص في الآداب والأشعار والأخبار " فأثابه عنه المنصور بخمسة آلاف دينار، وأمر أن يقرأه على الناس بمسجد الزاهرة (1).

بيد أن المنصور، بالرغم من شغفه بالعلم والأدب، لم يبد تسامحاً إزاء الفلسفة والفلاسفة، أو بعبارة أخرى إزاء الأفكار الحرة. وقد كانت هذه النزعة الضيقة الأفق، تمثل نفس التيار الذي يندفع فيه كل حاكم مطلق. وقد رأينا فيما تقدم كيف طورد عباس بن فرناس، في عهد عبد الرحمن بن الحكم، واتهم بالزندقة لما أبداه من براعة علمية وفنية خارقة، وكيف طورد تلاميذ ابن مسرة وطوردت تعاليمه في عهد الناصر، وأصدر الناصر منشوره بتكفيره وتكفير تلاميذه، وقد استمر هذا التيار الرجعي فيما بعد في عهد الطوائف، حيث أحرقت كتب حزم، وفيما تلا بعد ذلك من عهود، وذلك حسبما نذكره في موضعه.

وكان من أعظم شعراء الأندلس في عصر المنصور أبو عمر أحمد بن محمد ابن درّاج القسطلي. وكان كاتباً بليغاً من كتاب ديوان الإنشاء، وشاعراً لامعاً في نفس الوقت. وقد نبغ في ميدان الشعر نبوغاً جعله عمدة شعراء عصره. وكان من شعراء المنصور المقربين، وله فيه مدائح رائعة، نقلنا بعضها فيما تقدم، ولما توفي المنصور في سنة 392 هـ، تجول ابن دراج في أنحاء الأندلس، ومدح بعض أمراء الطوائف، مثل خيران العامري صاحب ألمرية، ومبارك ومظفر صاحبا بلنسية، والمنذر بن هود صاحب سرقسطة. وقد قال العلامة ابن حزم في حقه، إنه لم يكن بالأندلس أشعر من ابن دراج، وتوفي ابن دراج في سنة 420 هـ (1029 م)(2).

وكان من أكابر الفقهاء والحفاظ في عصر المنصور، عبد الرحمن بن فطيس قاضي الجماعة بقرطبة، وكان من أئمة المحدثين وكبار العلماء، حافظاً متمكناً من الحديث، عارفاً بأسماء الرجال، وله مشاركة في مختلف العلوم، وتقدم في

(1) كتاب الصلة لابن بشكوال (مصر) رقم 540.

(2)

راجع جذوة المقتبس للحميدي رقم 186، وبغية الملتمس للضبي رقم 342.

ص: 704

معرفة الآثار والسير والأخبار، وكان جمّاعة للكتب، وقد جمع منها ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس. تقلد قضاء الجماعة بقرطبة سنة 394 هـ، مقروناً بولاية الصلاة والخطبة، وذلك إلى جانب عمله في الوزارة، وذلك أيام المظفر عبد الملك المنصور، وكان مشهوراً في أحكامه بالنزاهة والصلابة في الحق، ونصرة المظلوم، وله مؤلفات كثيرة منها كتاب " أسباب نزول القرآن " و" كتاب في فضائل الصحابة " و" أعلام النبوة ودلالات الرسالة " و" مسند حديث محمد بن فطيس " وغيرها، وتوفي ابن فطيس أثناء الفتنة البربرية في سنة 402 هـ (1).

* * *

ولما انقضى عهد الدولة العامرية، وانهارت الخلافة الأموية، واضطرمت الفتنة بالأندلس، انكمشت الحركة الفكرية، وشغلت الأمة الأندلسية بما دهاها من أمر الفتن المتوالية، وتعاقب الرياسات، ومع ذلك ففي غضون الفتنة، نجد من الخلفاء من يتذوق الشعر وينظمه. فقد كان الخليفة سليمان المستعين، أديباً متمكناً، وشاعراً مطبوعاً، أشاد ابن بسام بأدبه وشاعريته. وقد أوردنا له فيما تقدم قصيدته الرائعة التي يعارض فيها شعر الخليفة الرشيد. وكذلك كان الخليفة المستظهر أديباً شاعراً من الطراز الأول، وقد نوه ابن بسام بمواهبه الأدبية، وأورد له طائفة من القصائد الجيدة.

وحتى في ظل الخلافة الحمودية البربرية، كان للأدب والشعر دولة ومكانة، وكان الخليفة العالي خليفة مالقة أديباً ينظم الشعر. وكان من شعراء دولته الشاعر الكبير، عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني، وكان أديباً بارعاً، وشاعراً متقناً، وهو الذي مدح العالي بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:

البرق لائح من أندرين

ذرفت عيناك بالماء المعين

ونكتفي بتلك الصورة الموجزة، عن سير الحركة الفكرية الأندلسية، في عهد الإمارة، وعهد الخلافة. وقد ذكرنا فيما تقدم أثناء استعراضنا لتاريخ هذين العهدين كثيراً من تفاصيلها، وأشرنا إلى كثير من أعلام الفكر والأدب، ممن لم نر أن نعود إلى ذكره في هذا الفصل.

(1) الصلة لابن بشكوال رقم 682.

ص: 705

الوثائق والملحقات

ص: 707

وثائق تاريخية

- 1 -

كتاب الخليفة الناصر لدين الله بشأن حركة ابن مسرة

(منقول عن السفر الخامس من كتاب " المقتبس " لابن حيان، وهو المخطوط المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط لوحات 13 و14 و15).

" وأنفذ الخليفة الناصر لدين الله إلى آفاق مملكته، شأن هؤلاء المبتدعة (يعني تلاميذ ابن مسرة) كتاباً طويلا قرىء عليهم بأمصارهم، من إنشاء الوزير الكاتب عبد الرحمن بن عبد الله الزجّالي، نسخته:

" بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تعالى جده، وعز ذكره، جعل دين الإسلام أفضل الأديان، فأظهره وأعلاه، ولم يقبل من عباده غيره، ولا رضى منهم سواه، فقال في محكم تنزيله: " ومن يتبع غير الإسلام دينا، فلن يقبل منه

" الآية، وقضى في محتوم أمره، ونفاذ حكمه، أن تنسخ به الديانات، ويختتم برسالته الرسالات، فبعث محمداً خاتم النبيين، وأكرم الأكرمين، وأعز الخلايق على رب العالمين، بأن كتب الصلاة والسلام عليه في عرشه قبل أن يخلقه، واصطفاه لأمانته قبل أن يكونه، وأرسله بأفضل دين سماه حنيفاً إلى خير أمة اختارها

كما قال عز من قائل، إذ عرّفنا فضل ما هدانا إليه من الدين، وكرمنا به على سائر الأمم: " كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر

" الآية. فله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، الشكر على خصايص هذه الفضيلة، والحمد بالمنة الجليلة، فقد استنقذ من الغواية وهدى، فأحسن الهداية، وأبان الحجة، وكفانا بواضح المناهج مؤنة الفكرة، ونظم زمام الأمة، وجمع وجوه السعادة العاجلة، النجاة الآجلة في تأليف الجماعة، واجتبا فيهم رعاية الفرقة، حيث يقول عز وجهه، لنبيه صلى الله عليه وسلم .. به وبعباده المخصوص بهداه، ورأفة بسطها على خير .. وإعلاما لهم

بتواصل الدين من قبله لأنبيائه

وكراهته لاختلافهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا

ص: 708

إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه

" الآية. فخوف وحذر، ونهى عن افتراق الكلمة، ونبه على البعد، ونفى الله الخبيث عنها، وفضلها على ساير البلدان، واستقر فيها الدين، كهيئته يوم أكمله الله لعباده. ولما استوسقت الطاعة، وشملت النعمة، وعم الأقطار، بعدل أمير المؤمنين، السكون والدعة، طلعت فرقة لا تبتغي خيراً، ولا تأتمر رشداً، من طغام السواد، ومن ضعف آرايهم، ومن خشونة الأوغاد، كتباً لم يعرفوها، ضلت فيها حلومهم، وقصرت عنها عقولهم، وظنوا أنهم فهموا ما جهلوا، وتفقهوا فيما لم يدركوا، واستولى عليهم الخذلان، وأحال عليهم بخيله ورجله الشيطان، فزينوا لمن لا تحصيل لهم، ولقوم آمنين لا علم عندهم، فقالوا بخلق القرآن، واستيئسوا، وآيسوا من روح الله، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وأكثروا الجدل في آيات الله، وحرموا التأويل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبريت منهم الذمة بقوله تقدست أسماؤه: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون، الذين كذبوا بالكتاب، وما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الجحيم ثم في النار يُسجرون. فهذا أبلغ الوعيد، وأفضع النكال، لمن جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه: ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق

" ثم تجاوزوا في البهتان، وسدوا على أنفسهم ألوان الغفران، فأكذبوا التوبة، وأبطلوا الشفاعة، ونالوا محكم التنزيل، وغامض متن التأويل، بتقدير عقولهم: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم، يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب. فصاروا بجهل الآثار، وسوء حمل الأخبار إلى القدح في الحديث، وترك نجح السبيل، فأساءوا الفهم عن العوام، وأقدموا بمكروه القول في السلف الصالح، واستبدلوا على نقلة الحديث، ووضعوا من الكتب لوضعها، وتابعوا شهواتهم فيها، وتتابعوا فيما

وورطهم، ورأوا لتخضع وحشة بحثها لازم الضلالة، وداعية الهلكة، والشذوذ عن مذهب الجماعة، من غير نظر نافذ في دين، ولا رسوخ في علم، حتى تركوا رد السلام على المسلمين، وهي التحية التي نسخت تحية الجاهلين. خلافاً على أدب الله تعالى، وقوله جل جلاله: وإذا حييتم

ص: 709

بتحية، فحيوا بأحسن منها أو ردوها، وقالوا بالاعتزال عن العامة وشدوا

وكشفوا بتكررهم الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، فلجوا في جهالتهم، وتاهوا في غيهم، ونكسوا على رؤوسم، حقداً على الأمة الحنيفة، واعتقاداً لبغضتها، واستحلالا لدمايها، وزرعاً إلى انتهاك حرمها، وسبي ذراريها، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، لولا أن سيف أمير المؤمنين من ورائهم، ونظره محيط. ولما صار غيهم فاشياً، وجهلهم شايعاً، واتصل بأمير المؤمنين من قدحهم في الديانة، وخروجهم عن الجادة، فأشغل نفسه، وأقض مضجعه، وأسهد ليله، أغلظ أمير المؤمنين في الأخذ فوق أيديهم، وأوعز إيعازاً شديداً، وأنذر إنذاراً فظيعاً، وعهد عهداً مؤكداً شافياً كافياً، نظر به لوجهه تبارك اسمه، وقدم فيه بين يدى العقاب الشديد، وأمر بقراءة كتابه هذا على المنبر الأعظم بحضرته، ليفزع قلب الجاهل، ويفت كبد المستهتر الحاير، وينقض عزم العاند المعاجل، ويضطر الغواة إلى الإثابة الصحيحة، التي يتقبلها الله منهم، أو يكشف عن الأذهان سراريهم فيكون عليهم شهيداً، ويأتيهم عذاب غير مردود. ورأى أمير المؤمنين أن يشمل بنظره أقطار كوره، ويرسله في بدوه وحضره، وأن ينفذ عهوده إليك، وإلى ساير قواده، وجميع عماله بها، يقرأ على منابر المسلمين، ولا يحرم القاصي ما عم الداني من تطهير هذا الرجز وتمحيصه، وكفاية المسلمين شبهته وفتنته، فلم يحل الديار، ولا تعقب الآثار، ولا استحق البلا على قوم، ولا أهلك الله أمة من الأمم، إلا بمثل ما تكشف هذه الطغمة الخبيثة، من التبديل للسنة، والاعتداء في القرآن العظيم، وأحاديث الرسول الأمين، صلوات الله عليه وسلم، هذا عند وروده عليك في قبلك، ونشره في سماع رعيتك، وتتبع هذه الطايفة بجميع أعمالك، وابثث فيهم عيونك، وطالب فيهم غورهم جهدك، فمن تحلى منهم بما انتسب إليهم، وقامت عليه البينات بذلك عندك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم ومواضعهم، وأسماء الشهود عليهم، ونصوص شهاداتهم، لنعهد باستجلابهم إلى باب سدته، لينكلوا بحضرته، فيذهب غيظ نفسه، ويشفي حنين صدره، وإياك أن تهون من أهل الريبة، وتتخطاهم إلى ذوي السلامة والأحوال الصالحة، فإن فرطت في أحد الأمرين أو كليهما. فقد برىء الله منك، وأحل دمك، ومالك، فاعلمه، واعتد به إن شاء الله تعالى ".

ص: 710

- 2 -

كتاب الخليفة الناصر لدين الله عن غزوة الخندق

(منقول من السفر الخامس من كتاب " المقتبس " لابن حيان، وهو المخطوط المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط، في حوادث سنة 327 هـ).

قال ابن حيان: وأما لفظ كتاب الفتح الوارد من قبل الناصر لدين الله إلى الحضرة بخبر هذه الغزوة من إنشاء عيسى بن فطيس الكاتب، فإن الفصل الذي رفع فيه خبر هذه الوقعة، وقع كما أثبته هاهنا:

" واستعزم الله أمير المؤمنين ليلته، واستخاره عن رحمته في النهوض إلى مدينة شنت مانكش دار الكفرة ومجمع النصرانية، التي إليها استركن عدو الله، وضاقت الحيل عليهم، ووثقوا بحصانته، ليعلمهم أن كلمة الله هي إظهار دينه، ونصر أوليائه، وإعزاز خلفائه، في مشارق الأرض ومغاربها، ولو كره المشركون، فضم صاحب المقدمة عمال الثغور عندهم وفرسانهم وخيلهم، واكتنف الجمع في مجنبتي العسكر مع من والاهم، وجرد الرجالة من الخيول بأسلحتهم، وصمد لجمع المشركين، فاستقبلهم بنية صادقة، ونفس صابرة، وجموع كثيفة، وكتايب تملأ الفضا، ومغانب تضيق عنها الشعاب، ويصير في سهل الأرض كالآكام، تتألق عليهم سوابغ الدروع، فإذا تداعوا، قلت موج تراكم، وإذا وقفوا فكأنما النقع عليهم ليل مظلم. فلما قربت العساكر من محل الخنازير، ثابوا فيما بينهم، وثاروا إلى خيولهم، وعلوا الشراقين، ينظرون إلى كتايب دين الله، بقلوب قد خلعها الذعر، وقبضهم عن التقدم الوجل، وجعلوا بينهم وبين المسلمين وادي بشررقه، ثقة بوعورته، وقلة مخاوضه، فلم ترعهم إلا مقدمة الجيش وراءه، قد سهل الله عليهم جوازه، وتبعتهم الأثقال، وتحيز أمير المؤمنين كدية سامية، يتطلع منها على عسكر المسلمين، فأمر بالاضطراب فيها للعسكر، وتقدمت الخيول بين يديه، وقد تلاحقت جموع الكفرة، وقدموا صلبانهم، ووثقوا بشيطانهم الذي غرهم. وكان المسلمون على نشطة إلى لقايهم، فلم ينتظر أولهم إلى أن توافي آخرهم، ولا فارسهم أن يقتعد براجلهم، وتخطوا

ص: 711

الرماح إلى السيوف، والطعن إلى الضرب، وكروا في حومة المنايا، كرّ من يحمي حليله، ويخشى بعد ساعة أن تسبى ذريته، فلم ير المسلمون حرباً مثلها، ولا شهدوا يوم وغى أطول من يومهم ذاك. ونصر الله تعالى يهون عليهم ما هم فيه، حتى فضوا جموع المشركين (لوحة 143 أ)، وزلزلوا ردؤهم التي كانت أكاليل الجبال، وردم الشعاب، وضمهم إلى معسكرهم، وأثارت سنابك الخيل من القتام، ما غيب من كان في القلب عمن يليه من يمين الحرب ويسارها.

وكان محمد بن هاشم في وقدتها حاثاً سعيره قد طال به مدامها، واستدارت حوله رحامها، فكبا به فرسه، ولم يعلم أحد بمصرعه، فصار في أيدي الخنازير أسيراً، فاستشفوا به الحياة. بعد اليأس منها، فجالدوا بنفوس قد عاودتها رمقها، وانحاز المسلمون إلى معسكرهم، قد قتلوا من أعلام المشركين وقوامسهم وأهل البأس من فرسان الحرب، ومن صبر لوقع السيف، فكانت مصيبتهم بمن قتل منهم عظيمة، فلما أصبح أمير المؤمنين لمحلته، أمر بحمل من عقر فرسه، وصلة من أغنى في حربه، وتعرض المشركون للحرب تعرض من قد تنخل لعدو قد أصابهم، ونكايته قد فلقت قلوبهم. فلما كان في اليوم الثالث من احتلاله، عهد أمير المؤمنين إلى صاحب العسكر بمصاحبتهم بالحرب، وقد تلاحقت بهم المدود من أقصى بنبلونة وألبة والقلاع، وأهل قشتيلة، إلى مشركي قلمرية، وكل صنف من أصناف العجم معهم، وهتف على المسلمين بالخروج تحت راياتهم، والتأهب للقاء عدوهم، وأغدوا في نهوضهم، ونزل صاحب العسكر، فرتب تعيينهم، فكثف الردوء، وضم إليها الرجال، وألزم القلب بنفسه، وميز فيه خيل الميمنة والميسرة، وقدم إليهم المقاتلة، وأقام بين يديه جملة الخيل عدة، فإذا رأى في جهة من جهات الحرب خللا سده واستدركه، أو فتقاً رتقه، حتى كانت أيدي المسلمين في الماقط عالية، فتلظت الحرب واحتدمت، وكأن المنايا إنما قصدت فيها أعلام الكفرة وقوامسهم، فصرع قومس غرماج، وابن أخي الخنزير ابن فرذلند، وشيخ النصرانية وعميدها ابن دخبر، إلى العدد الجم من فرسانهم، وأهل الصبر منهم، وانجلت الحرب عن هزيمتهم، وانكشاف أجبل قد كانوا علوها، وسدوا بالخيل والرجال ما بينها، وظنوا أن لا غالب لهم، فزلزلوا زلزالا شديداً، وانصرف المسلمون بعد الظفر والسلامة في المنقلب،

ص: 712

فباتوا بأنعم بال، وأسكن حال. فلما ظن أعداء الله أن قد ملوا حربهم، وتجددت لهم مدودهم، رفعوا معسكرهم، وقدموا صلبانهم، وخرجوا بفارسهم وراجلهم فألقوا إلى ما يلي منهم العسكر، سراع خيولهم، فبادر المسلمون إليهم تبادر الأسود الضارة، فغادرو موقفهم، وجالدوا بسيوفهم، حتى انفرج الموقف عن قتل عظيم من عظمائهم، وأعولوا عليه، واستداروا حواليه، وانصرفوا قد أذلهم الله، ووهنهم، وهون عليهم جمعهم، ووفور مددهم، في ضبط المعيشة، وقلة التبسط، ومصابحة الحرب ومماساتها، حتى كأنهم أهل حصن حوصروا فيه، أو فل جيش لا يستطيعون الرجوع إليه. وأقام أمير المؤمنين ومن معه من جيوشه وحشده، وأهل البصاير والحفايظ، وبلغ أمير المؤمنين أقصى أمل من إذلال جميع المشركين، والاحتلال بساحتهم، وانحياز طاغيتهم في أعلى شاهق، يرجو النجاة بنفسه، فأمر بالرحيل وقد ضاعف النظر، والعدو في ضبط ساقة جيشه لما توقع خروج الكفرة في أثره. وأصبح منتقلا، فما أقدم أعداء الله أن ينظروا من الجيش إلا من بعد على رأس جبل، ونهض يطأ بلادهم وطأة متثاقل، حتى انصرف إلى نهر دويرة، واستقبل عمارته من حصن مانكش التي اتصلت بنكاية أهله، فلم يدع في جليقية حصناً إلا هدمه، ولا معاشاً إلا انتسفه، حتى انتهى إلى مدينة روضة، وهي خالية على عروشها، فأقام على هدمها، وهدم حصن دبيلش معها، يومين كانا أطول على أعداء الله من عامين، لما غير فيهما من نعمهم، وهدم من مساكنهم، وقطع من شجرهم. وكان أمير المؤمنين يَرَ التقدم على نهر دويرة إلى شنت إشتيبن وغرماج لنقص الزروع لديه وضيق (143 ب) العلف بإفساده. فرفع إليه من حضره من أهل مدينة الفرج وحصونها، يشكون ما يلقونه من مشركي وادي أبينه، ومعاقلها، وترددوا عليه ضارعين إليه، أن يجعل ممر الجيش المؤيد على حصونهم وعمارتهم، وذكروا أن ذلك أنفع لهم ولأهل الثغور معهم، من الإيغال في بلد المشركين، ونكاية من لا ينالهم بغارة، ولا ينهض إليهم بقوة، فصرف الجيوش عند ذلك إلى وادي أبينه، فلم يدع فيها حصناً إلا هدم، ولا قرية إلا هدمت، ولا معاشاً إلا استقصى جميعه. فلما صار في آخره ولم يبق موضع يقوم الجيش بالتردد عليه، أمر الأدلاء بالكشف عن أفضل الطرق إلى حصن أنتيشه، وأرفقها بالمسلمين في منصرفهم برازح ظهرهم، وأحوط عليهم في

ص: 713

طريقهم، وأجمعوا على قصد حصن قشترب، وأيأسوا من الخروج على غيره، فلما استقبل أمير المؤمنين لامه، وقطع بعض محلته، استقبل شَعْراء لا يتخللها المتفرد بحمده، ولا يتخلص منها المخف، لو لم يكن أحد يعترضه. ثم أشرف على خنادق قفرة ومهاو تتقاذفه، وأجراف منقطعة قد عرفها المشركون وقدموا إليها، وألقوا إلى ساقة الجيش فرسانهم، فدارت عليهم الحرب، وصرع فيها من جلة فرسانهم، ومتقدمي رجالهم جملة، لو أصيبت بحيث يتراء الجمعان لكانت سبب هزيمتهم، ولكنهم وثقوا بالوعد، وانتظروا تقدم الحماة وترادف الأثقال، فحامى أمير المؤمنين برجاله وخاصته عن المسلمين ساعات من النهار، حتى تقدم أكثرهم، وجازت الخندق لقتالهم، إلا من ضعفت دابته، ْأو ضعفت تعبئته عن استنفارها. فلما رأوا الخلل تصايحوا من قنن الجبال، وانحطوا من أعاليها انحطاط الأوعال، فأصابوا من الأمتعة والدواب المثقلة، ما لو أصاروا مثله في مجال حرب أو سهل من الأرض، لما أنكر مثله عند مقارعة الرجال، وتصرف الأحوال. وحامى صاحب العسكر عن كل من أجاز الخندق وخلص من مضايقه، حتى أسهلوا، واجتمع لأمير المؤمنين جيوشه وانتظمت جموعه، وسلم الله رجاله، فلم يصب منهم أحد. وفي ذلك دليل للسامع عن الموقعة أنها لم تدر بغلبة، ولا ظفر المشركون أظفروا به فيها عن مساواة ولا كثرة، ولكن ضيق المسالك، ووعر الطريق، وسوء فهم الدليل، خلى لما جلبه إلى أقدار الله تعالى التي لا تصرف، ومحنه التي لم يزل يمتحن بها أولياءه، ليعظهم، ويبتلي عبيده ليرهبهم، وأمير المؤمنين، شاكر لله تعالى على عظيم نعمه، وواقف على تصرف محنته، مستسهل ما اختص به في حب طاعته، ضارع إلى الله في التقبل لقوله وفعله. وكتابه إليك، وهو قافل بالمسلمين على أحسن أحوالهم، وأسهل طريقهم، وأجمعه بمعايشهم، إن شاء الله. فأمر بقراءة كتاب أمير المؤمنين على الناس قبلك أثر صلاة الجمعة ليشكرو الله على ما أنعم به من نصر إمامهم، وسلامة إخوانهم، والصنيع الذي عمهم، فإنه يحب الشاكرين، ويزيد الحامدين. واعهد نسخه إلى عمال الكور حولك إن شاء الله تعالى، والله المستعان. وكتب يوم الإثنين لثمان خلون من ذي القعدة سنة سبع وعشرين وثلاث ماية ".

ص: 714