الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الْحَجْرِ
هُوَ نَوْعَانِ. حَجْرٌ شُرِعَ لِغَيْرِهِ، وَحَجْرٌ لِمَصْلَحَةِ نَفْسِهِ.
الْأَوَّلُ: خَمْسَةُ أَضْرُبٍ. حَجْرُ الرَّاهِنِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَحَجْرُ الْمُفْلِسِ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَحَجْرُ الْمَرِيضِ لِلْوَرَثَةِ، وَحَجْرُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ، وَكَذَا الْمُكَاتَبُ لِسَيِّدِهِ وَلِلَّهِ تَعَالَى. وَخَامِسُهَا: حَجْرُ الْمُرْتَدِّ لِحَقِّ الْمُسْلِمِينَ.
وَهَذِهِ الْأَضْرُبُ خَاصَّةٌ لَا تَعُمُّ التَّصَرُّفَاتِ، بَلْ يَصِحُّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَحْجُورِينَ، الْإِقْرَارُ بِالْعُقُوبَاتِ، وَكَثِيرٌ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي أَبْوَابِهَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ. أَحُدُهَا: حَجْرُ الْمَجْنُونِ، وَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْجُنُونِ، وَيَرْتَفِعُ بِالْإِفَاقَةِ، وَتَنْسَلِبُ بِهِ الْوِلَايَاتُ وَاعْتِبَارُ الْأَقْوَالِ كُلِّهَا. وَمَنْ عَامَلَهُ، أَوْ أَقْرَضَهُ، فَتَلِفَ الْمَالُ عِنْدَهُ، أَوْ أَتْلَفَهُ، فَمَالِكُهُ هُوَ الْمُضَيِّعُ. وَمَا دَامَ بَاقِيًا يَجُوزُ اسْتِرْدَادُهُ. وَالثَّانِي: حَجْرُ الصَّبِيِّ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : وَمَنْ لَهُ أَدْنَى تَمْيِيزٍ، وَلَمْ يَكْمُلْ عَقْلُهُ، فَهُوَ كَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ. وَتَدْبِيرُهُ وَوَصِيَّتُهُ، يَأْتِي بَيَانُهُمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ سَبَقَ إِذْنُهُ فِي الدُّخُولِ وَحَمْلُهُ الْهَدِيَّةَ. وَالثَّالِثُ: حَجْرُ السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ، وَالضَّرْبُ الْأَوَّلُ أَعَمُّ مِنَ الثَّانِي. وَالثَّانِي أَعَمُّ مِنَ الثَّالِثِ. وَمَقْصُودُ الْكِتَابِ هَذِهِ الْأَضْرُبُ، وَالثَّالِثُ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ.
فَصْلٌ
فِيمَا يَزُولُ بِهِ حَجْرُ الصَّبِيِّ
قَالَ جَمَاعَةٌ: يَنْقَطِعُ حَجْرُ الصَّبِيِّ بِالْبُلُوغِ رَشِيدًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حَجْرُ الصَّبِيِّ
يَنْقَطِعُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ، وَلَيْسَ هَذَا اخْتِلَافًا مُحَقَّقًا، بَلْ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ، أَرَادَ الْإِطْلَاقَ الْكُلِّيَّ، وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي، بِالْحَجَرِ أَرَادَ الْحَجْرَ الْمَخْصُوصَ بِالصَّبِيِّ، وَهَذَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ سَبَبٌ مُسْتَقِلٌّ بِالْحَجْرِ، وَكَذَلِكَ التَّبْذِيرُ. وَأَحْكَامُهُمَا مُتَغَايِرَةٌ. وَمَنْ بَلَغَ مُبَذِّرًا، فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ حُكْمُ تَصَرُّفِ السَّفِيهِ، لَا حُكْمُ تَصَرُّفِ الصَّبِيِّ.
فَرْعٌ
لِلْبُلُوغِ أَسَبَابٌ. مِنْهَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَمُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ. أَمَّا الْمُشْتَرَكُ، فَمِنْهُ السِّنُّ. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ الْمَوْلُودُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً قَمَرِيَّةً، فَقَدْ بَلَغَ. وَفِي وَجْهٍ: يَبْلُغُ بِالطَّعْنِ فِي الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ، وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
السَّبَبُ الثَّانِي: خُرُوجُ الْمَنِيِّ وَيَدْخُلُ وَقْتُ إِمْكَانِهِ بِاسْتِكْمَالِ تِسْعِ سِنِينَ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا يَنْفَصِلُ قَبْلَهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ. وَفِي وَجْهٍ: إِنَّمَا يَدْخُلُ بِمُضِيِّ نِصْفِ السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ. وَفِي وَجْهٍ: بِاسْتِكْمَالِ الْعَاشِرَةِ. وَلَنَا وَجْهٌ: أَنَّ الْمَنِيَّ لَا يَكُونُ بُلُوغًا فِي النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُ نَادِرٌ فِيهِنَّ. وَعَلَى هَذَا، قَالَ الْإِمَامُ: الَّذِي يَتَّجِهُ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا الْغُسْلُ. وَهَذَا الْوَجْهُ شَاذٌّ، وَفِيمَا قَالَهُ الْإِمَامُ نَظَرٌ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: إِنْبَاتُ الْعَانَةِ يَقْتَضِي الْحُكْمَ بِالْبُلُوغِ فِي الْكُفَّارِ. وَهَلْ هُوَ حَقِيقَةُ الْبُلُوغِ، أَمْ دَلِيلُهُ؟ قَوْلَانِ. أَظْهَرُهُمَا: الثَّانِي. فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ، فَهُوَ بُلُوغٌ فِي الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا. وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ بِبُلُوغٍ.
قُلْتُ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا يُفْتَى بِهِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، وَاخْتَارَ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» أَنَّهُ لَا يَكُونُ بُلُوغًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ شَعْرٌ خَشِنٌ يُحْتَاجُ فِي إِزَالَتِهِ إِلَى حَلْقٍ، فَأَمَّا الزَّغَبُ وَالشَّعْرُ الضَّعِيفُ الَّذِي قَدْ يُوجَدُ فِي الصِّغَرِ، فَلَا أَثَرَ لَهُ. وَأَمَّا شَعْرُ الْإِبِطِ، وَاللِّحْيَةِ، وَالشَّارِبِ، فَقِيلَ: كَالْعَانَةِ. وَقِيلَ: لَا أَثَرَ لَهَا قَطْعًا. وَأَلْحَقَ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» الْإِبِطَ بِالْعَانَةِ دُونَ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ.
قُلْتُ: وَيَجُوزُ النَّظَرُ إِلَى مَنْبَتِ عَانَةِ مَنِ احْتَجْنَا إِلَى مَعْرِفَةِ بُلُوغِهِ بِهَا لِلضَّرُورَةِ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: تُمَسُّ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ. يُلْصَقُ بِهَا شَمْعٌ وَنَحْوُهُ لِيُعْتَبَرَ بِلُصُوقِهِ بِهِ وَكِلَاهُمَا خَطَأٌ، إِذْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَلَقَهُ، أَوْ نَبَتَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -
وَأَمَّا ثِقَلُ الصَّوْتِ، وَنُهُودُ الثَّدْيِ، وَنُتُوءُ طَرَفِ الْحُلْقُومِ، وَانْفِرَاقُ الْأَرْنَبَةِ، فَلَا أَثَرَ لَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَطَرَدَ فِي «التَّتِمَّةِ» فِيهَا الْخِلَافَ. وَأَمَّا مَا يُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، فَاثْنَانِ. أَحَدُهُمَا: الْحَيْضُ فَهُوَ لِوَقْتِ الْإِمْكَانِ، بُلُوغٌ. وَالثَّانِي: الْحَبَلُ، فَإِنَّهُ مَسْبُوقٌ بِالْإِنْزَالِ، لَكِنْ لَا نَسْتَيْقِنُ الْوَلَدَ إِلَّا بِالْوَضْعِ. فَإِذَا وَضَعَتْ، حَكَمْنَا بِحُصُولِ الْبُلُوغِ قَبْلَ الْوَضْعِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً، وَأَتَتْ بِوَلَدٍ يَلْحَقُ الزَّوْجَ، حَكَمْنَا بِبُلُوغِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ.
فَرْعٌ
الْخُنْثَى الْمُشْكَلُ، إِذَا خَرَجَ مِنْ ذَكَرِهِ مَا هُوَ بِصِفَةِ الْمَنِيِّ، وَمِنْ فَرْجِهِ مَا هُوَ بِصِفَةِ الْحَيْضِ، حُكِمَ بِبُلُوغِهِ عَلَى الْأَصَحِّ. لِأَنَّهُ ذَكَرٌ أَمْنَى، أَوْ أُنْثَى حَاضَتْ. وَالثَّانِي: لَا لِلتَّعَارُضِ. وَإِنْ وُجِدَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَقَطْ، أَوْ أَمْنَى وَحَاضَ بِالْفَرْجِ، فَقَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِبُلُوغٍ، لِجَوَازِ أَنْ يَظْهَرَ مِنَ الْفَرْجِ الْآخَرِ مَا يُعَارِضُهُ. وَالْحَقُّ، مَا قَالَهُ
الْإِمَامُ، أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَمَ بِبُلُوغِهِ بِأَحَدِهِمَا، كَمَا يُحْكَمُ بِذُكُورَتِهِ وَأُنُوثَتِهِ. إِنْ ظَهَرَ خِلَافُهُ، غَيَّرْنَا الْحُكْمَ.
قُلْتُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» إِذَا أَنْزَلَ الْخُنْثَى مِنْ ذَكَرِهِ أَوْ خَرَجَ الدَّمُ مِنْ فَرْجِهِ مَرَّةً، لَمْ يُحْكَمْ بِبُلُوغِهِ. فَإِنْ تَكَرَّرَ، حُكِمَ بِهِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.
فَرْعٌ
وَأَمَّا الرُّشْدُ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: هُوَ إِصْلَاحُ الدِّينِ وَالْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ فِي الدِّينِ: أَنْ لَا يَرْتَكِبَ مُحَرَّمًا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ، وَفِي الْمَالِ: أَنْ لَا يُبَذِّرَ. فَمِنَ التَّبْذِيرِ تَضْيِيعُ الْمَالِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْبَحْرِ، أَوِ احْتِمَالِ الْغَبْنِ الْفَاحِشِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَنَحْوِهَا، وَكَذَا الْإِنْفَاقُ فِي الْمُحَرَّمَاتِ. وَأَمَّا الصَّرْفُ فِي الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الَّتِي لَا تَلِيقُ بِحَالِهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ، وَالْغَزَّالِيُّ: هُوَ تَبْذِيرٌ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: لَا؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُتَّخَذُ لِيُنْتَفَعَ فِيهِ وَيُلْتَذَّ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي التَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ، وَالْإِكْثَارِ مِنْ شِرَاءِ الْجَوَارِي، وَالِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَأَمَّا الصَّرْفُ إِلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ، كَالصَّدَقَاتِ، وَفَكِّ الرِّقَابِ، وَبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، فَلَيْسَ بِتَبْذِيرٍ، فَلَا سَرَفَ فِي الْخَيْرِ، كَمَا لَا خَيْرَ فِي السَّرَفِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: إِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ وَهُوَ مُفْرِطٌ بِالْإِنْفَاقِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَهُوَ مُبَذِّرٌ. وَإِنْ عَرَضَ ذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهِ مُقْتَصِدًا، لَمْ يَصِرْ مُبَذِّرًا، وَالْمَعْرُوفُ لِلْأَصْحَابِ مَا سَبَقَ. وَبِالْجُمْلَةِ التَّبْذِيرُ عَلَى مَا نَقَلَهُ مُعْظَمُ الْأَصْحَابِ مَحْصُورٌ فِي التَّضْيِيعَاتِ وَصَرْفِهِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ.