المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كِتَابُ الصُّلْحِ فَسَّرَهُ الْأَئِمَّةُ بِالْعَقْدِ الَّذِي تَنْقَطِعُ بِهِ خُصُومَةُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلَيْسَ - روضة الطالبين وعمدة المفتين - جـ ٤

[النووي]

فهرس الكتاب

- ‌كِتَابُ السَّلَمِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌بَابُ الْقَرْضِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الرَّهْنِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ التَّفْلِيسِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْحَجْرِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الصُّلْحِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْحَوَالَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الضَّمَانِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الشَّرِكَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْوَكَالَةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْإِقْرَارِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌كِتَابُ الْعَارِيَّةِ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

- ‌فَصْلٌ

الفصل: ‌ ‌كِتَابُ الصُّلْحِ فَسَّرَهُ الْأَئِمَّةُ بِالْعَقْدِ الَّذِي تَنْقَطِعُ بِهِ خُصُومَةُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلَيْسَ

‌كِتَابُ الصُّلْحِ

فَسَّرَهُ الْأَئِمَّةُ بِالْعَقْدِ الَّذِي تَنْقَطِعُ بِهِ خُصُومَةُ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْحَدِّ، بَلْ أَرَادُوا ضَرْبًا مِنَ التَّعْرِيفِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ سَبْقِ الْمُخَاصَمَةِ غَالِبًا، ثُمَّ أَدْخَلَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رضي الله عنهم فِي الْبَابِ، التَّزَاحُمَ فِي الْمُشْتَرَكِ كَالشَّوَارِعِ وَنَحْوِهَا. وَفِي الْكِتَابِ ثَلَاثَةُ أَبْوَابٍ:

الْأَوَّلُ: فِي أَحْكَامِ الصُّلْحِ. وَقَدْ يَجْرِي بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، وَبَيْنَ الْمُدَّعِي وَأَجْنَبِيٍّ. وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَا يَجْرِي عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: الصُّلْحُ عَنِ الْعَيْنِ. وَهُوَ صِنْفَانِ:

أَحَدُهُمَا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَجْرِي عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، بِأَنِ ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا، وَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ، فَهَذَا الصِّنْفُ حُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ، وَإِنْ عُقِدَ بِلَفْظِ الصُّلْحِ. وَتَتَعَلَّقُ بِهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ كَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَالشُّفْعَةِ، وَالْمَنْعِ مِنَ التَّصَرُّفِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ إِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ مُتَّفِقَيْنِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، وَاشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ إِنْ كَانَ جِنْسًا رِبَوِيًّا، وَجَرَيَانِ التَّحَالُفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ، وَيَفْسُدُ بِالْغَرَرِ وَالْجَهْلِ، وَالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَفَسَادِ الْبَيْعِ. وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مَنْفَعَةِ دَارٍ، أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ، وَيَكُونُ هَذَا الصُّلْحُ إِجَارَةً، فَتَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْإِجَارَةِ.

الصِّنْفُ الثَّانِي: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ، كَمَنْ صَالَحَ مِنَ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى نِصْفِهَا أَوْ ثُلُثِهَا، أَوْ مِنَ الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَهَذَا هِبَةُ بَعْضِ الْمُدَّعَى لِمَنْ فِي يَدِهِ، فَيُشْتَرَطُ لِصِحَّتِهِ الْقَبُولُ وَمُضِيُّ مُدَّةِ إِمْكَانِ الْقَبْضِ. وَفِي اشْتِرَاطِ إِذْنٍ جَدِيدٍ فِي قَبْضِهِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ. وَيَصِحُّ بِلَفْظِ

ص: 193

الْهِبَةِ، وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا. وَفِي صِحَّتِهِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ يَتَضَمَّنُ الْمُعَاوَضَةَ. وَمُحَالٌ أَنْ يُقَابِلَ مِلْكَهُ بِبَعْضِهِ. وَأَصَحُّهُمَا: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ الْخَاصِّيَّةَ الَّتِي يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا لَفْظُ الصُّلْحِ، هِيَ سَبْقُ الْخُصُومَةِ، وَقَدْ حَصَلَتْ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الصِّنْفُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ.

فَرْعٌ

الصُّلْحُ يُخَالِفُ الْبَيْعَ فِي صُوَرٍ:

إِحْدَاهَا: الْمَسْأَلَةُ السَّابِقَةُ، وَهِيَ إِذَا صَالَحَ صُلْحَ الْحَطِيطَةِ بِلَفْظِ الصُّلْحِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، لَمْ يَصِحَّ قَطْعًا.

الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ خُصُومَةٍ: بِعْنِي دَارَكَ بِكَذَا فَبَاعَ صَحَّ. وَلَوْ قَالَ وَالْحَالَةُ هَذِهِ: صَالِحْنِي عَنْ دَارِكَ هَذِهِ بِأَلْفٍ، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الصُّلْحِ لَا يُطْلَقُ إِلَّا إِذَا سَبَقَتْ خُصُومَةٌ، وَكَأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِيمَا لَوِ اسْتَعْمَلَا لَفْظَ الصُّلْحِ بِلَا نِيَّةٍ. فَلَوِ اسْتَعْمَلَاهُ وَنَوَيَا الْبَيْعَ، كَانَ كِنَايَةً بِلَا شَكٍّ، وَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ بِالْكِنَايَةِ.

الثَّالِثَةُ: لَوْ صَالَحَ عَنِ الْقِصَاصِ، صَحَّ وَلَا مَدْخَلَ لِلَفْظِ الْبَيْعِ فِيهِ.

الرَّابِعَةُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» لَوْ صَالَحْنَا أَهْلَ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى شَيْءٍ نَأْخُذُهُ مِنْهُمْ، جَازَ وَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ الْبَيْعُ، وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَفَّالُ، بِأَنَّ تِلْكَ الْمُصَالَحَةَ لَيْسَتْ مُصَالَحَةً عَنْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنَّمَا نُصَالِحُهُمْ وَنَأْخُذُ مِنْهُمْ لِلْكَفِّ عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ مُخَالَفَةَ اللَّفْظَيْنِ، فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ لَا يَجْرِي فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْمُصَالَحَاتِ.

الْخَامِسَةُ: قَالَ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» لَوْ صَالَحَ مِنْ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَى شَيْءٍ

ص: 194

مَعْلُومٍ، جَازَ إِذَا عَلِمَا قَدْرَ أَرْشِهَا. وَلَوْ بَاعَ لَمْ يَجُزْ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ فِي افْتِرَاقِ اللَّفْظَيْنِ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ الْأَرْشُ مَجْهُولًا كَالْحُكُومَةِ الَّتِي لَمْ تُقَدَّرْ وَلَمْ تُضْبَطْ، لَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ عَنْهُ وَلَا بَيْعُهُ. وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ كَالدَّرَاهِمِ إِذَا ضُبِطَتْ، صَحَّ الصُّلْحُ عَنْهَا، وَصَحَّ بَيْعُهَا مِمَّنْ هِيَ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ، عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَبَرِ فِي السَّلَمِ، كَالْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ فِي الدِّيَةِ، فَفِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهَا بِلَفْظِ الصُّلْحِ وَبِلَفْظِ الْبَيْعِ جَمِيعًا وَجْهَانِ. وَيُقَالُ: قَوْلَانِ. أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ كَمَنِ اشْتَرَى عَيْنًا لَمْ يَعْرِفْ صِفَتَهَا. وَأَصَحُّهُمَا: الْمَنْعُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ لَمْ يَصِفْهُ، هَذَا فِي الْجِرَاحَةِ الَّتِي لَا تُوجِبُ الْقَوَدَ، فَإِنْ أَوْجَبَتْهُ فِي النَّفْسِ، أَوْ فِيمَا دُونَهَا، فَالصُّلْحُ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ مَاذَا؟ وَسَيَأْتِي فِي بَابِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الضَّرْبُ الثَّانِي: الصُّلْحُ عَنِ الدَّيْنِ، وَهُوَ صِنْفَانِ:

أَحَدُهُمَا: صُلْحُ الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى عَيْنِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى. فَيَنْظُرُ، إِنْ صَالَحَ عَنْ بَعْضِ أَمْوَالِ الرِّبَا عَلَى مَا يُوَافِقُهُ فِي الْعِلَّةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبْضِ الْعِوَضِ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ فِي نَفْسِ الصُّلْحِ عَلَى الْأَصَحِّ. فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْعِوَضَانِ رِبَوِيَّيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ عَيْنًا صَحَّ الصُّلْحُ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الْأَصَحِّ. وَإِنْ كَانَ دَيْنًا صَحَّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ بَعْدَ التَّعْيِينِ عَلَى الْأَصَحِّ.

الصِّنْفُ الثَّانِي: صُلْحُ الْحَطِيطَةِ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى بَعْضِ الدَّيْنِ الْمُدَّعَى، فَهُوَ إِبْرَاءٌ عَنْ بَعْضِ الدَّيْنِ، فَإِنَّ اسْتِعْمَالَ لَفْظِ الْإِبْرَاءِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، بِأَنْ قَالَ: أَبْرَأْتُكَ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ مِنَ الْأَلْفِ الَّذِي عَلَيْكَ، أَوْ صَالَحْتُكَ عَلَى الْبَاقِي، بَرِئَ مِمَّا أَبْرَأَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ بَعِيدٍ: يُشْتَرَطُ فِيهِ، وَفِي كُلِّ إِبْرَاءٍ

ص: 195

وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْبَاقِي فِي الْمَجْلِسِ. وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ الصُّلْحِ فَقَالَ: صَالَحْتُكَ عَلَى الْأَلْفِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ، فَوَجْهَانِ كَنَظِيرِهِ فِي صُلْحِ الْحَطِيطَةِ فِي الْعَيْنِ، وَالْأَصَحُّ الصِّحَّةُ. وَفِي اشْتِرَاطِ الْقَبُولِ وَجْهَانِ، كَالْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ: وَهَبْتُهُ لَكَ. وَالْأَصَحُّ، الِاشْتِرَاطُ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُعَيَّنَةٍ جَرَى الْوَجْهَانِ. وَرَأْيُ الْإِمَامِ الْفَسَادَ هُنَا أَظْهَرُ. وَلَا يَصِحُّ هَذَا الصِّنْفُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، كَنَظِيرِهِ فِي الصُّلْحِ عَنِ الْعَيْنِ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى أَلْفٍ حَالٍّ أَوْ عَكْسُهُ فَبَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ لَا يَسْقُطُ وَلَا يُلْحَقُ. فَلَوْ عَجَّلَ مَنْ عَلَيْهِ الْمُؤَجَّلُ وَقَبِلَهُ الْمُسْتَحِقُّ، سَقَطَ الْأَجَلُ بِالِاسْتِيفَاءِ، وَكَذَا الْحُكْمُ فِي الصَّحِيحِ وَالْمُكَسَّرِ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ مُؤَجَّلٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ حَالَّةٍ فَبَاطِلٌ. وَلَوْ صَالَحَ مِنْ أَلْفٍ حَالٍّ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مُؤَجَّلَةٍ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الْمُعَاوَضَةِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هُوَ مُسَامَحَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَطُّ خَمْسِمِائَةٍ. وَالثَّانِي: إِلْحَاقُ أَجَلٍ بِالْبَاقِي. وَالْأَوَّلُ شَائِعٌ، فَيَبْرَأُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ. وَالثَّانِي: وَعْدٌ لَا يَلْزَمُ، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْبَاقِي فِي الْحَالِ.

فَرْعٌ

قَالَ أَحَدُ الْوَارِثِينَ لِصَاحِبِهِ: تَرَكْتُ حَقِّي مِنَ التَّرِكَةِ لَكَ، فَقَالَ قَبِلْتُ، لَمْ يَصِحَّ وَيَبْقَى حَقُّهُ كَمَا كَانَ. وَلَوْ قَالَ صَالَحْتُكَ مِنْ نَصِيبِي عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، فَإِنْ كَانَتِ التَّرِكَةُ أَعْيَانًا، فَهُوَ صُلْحٌ عَنِ الْعَيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ دُيُونًا عَلَيْهِ، فَهُوَ صُلْحٌ عَنِ الدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ، وَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. وَإِنْ كَانَ فِيهَا عَيْنٌ وَدَيْنٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَلَمْ نُجَوِّزْ بَيْعَ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي الدَّيْنِ. وَفِي الْعَيْنِ قَوْلَا تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

ص: 196

فَرْعٌ

لَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَخَمْسُونَ دِينَارًا، فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، لَا يَجُوزُ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ عَنِ ابْنَيْنِ وَالتَّرِكَةُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ دِينَارٍ، وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا، فَصَالَحَهُ الْآخَرُ مِنْ نَصِيبِهِ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، لَمْ يَجُزْ. وَلَوْ كَانَ الْمَبْلَغُ الْمَذْكُورُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ، فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ جَازَ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَا ضَرُورَةَ إِلَى تَقْدِيرِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهِ، فَيُجْعَلُ مُسْتَوْفِيًا لِأَحَدِ الْأَلْفَيْنِ، وَمُعْتَاضًا عَنِ الدَّنَانِيرِ الْأَلْفَ الْآخَرَ. وَإِذَا كَانَ مُعَيَّنًا، كَانَ الصُّلْحُ عَنْهُ اعْتِيَاضًا، فَكَأَنَّهُ بَاعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسِينَ دِينَارًا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ. وَهُوَ مِنْ صُوَرِ مُدِّ عَجْوَةٍ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنِ الْقَاضِي حُسَيْنٍ وَجْهًا فِي صُورَةِ الدَّيْنِ بِالْمَنْعِ، تَنْزِيلًا عَلَى الْمُعَاوَضَةِ.

فَرْعٌ

صَالَحَهُ عَنِ الدَّارِ الْمُدَّعَاةِ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا سَنَةً، فَهُوَ إِعَادَةٌ لِلدَّارِ يَرْجِعُ فِيهَا مَتَى شَاءَ. وَإِذَا رَجَعَ، لَمْ يَسْتَحِقَّ أُجْرَةً لِلْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهَا عَارِيَةٌ. وَفِي وَجْهٍ: يَسْتَحِقُّ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ بِهِ رَفْعَ الْيَدِ عَنْهَا، وَهُوَ عِوَضٌ فَاسِدٌ، فَيَرْجِعُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا بِمَنْفَعَةِ عَبْدِهِ سَنَةً، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَجَّرَ دَارًا بِمَنْفَعَةِ عَبْدٍ سَنَةً.

فَرْعٌ

صَالَحَهُ عَنِ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ، جَازَ. وَدُونَ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ كَانَتِ الْمُصَالَحَةُ عَنِ الزَّرْعِ مَعَ الْأَرْضِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى شَرْطِ الْقَطْعِ عَلَى الْأَصَحِّ.

ص: 197

وَلَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي نِصْفِ الزَّرْعِ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَتَصَالَحَا عَنْهُ عَلَى شَيْءٍ، لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ شَرَطَا الْقَطْعَ، كَمَا لَوْ بَاعَ نِصْفَ الزَّرْعِ مَشَاعًا لَا يَصِحُّ، سَوَاءٌ شَرَطَ أَمْ لَا.

النَّوْعُ الثَّانِي: الصُّلْحُ عَنِ الْإِنْكَارِ، فَيَنْظُرُ، إِنْ جَرَى عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى، فَهُوَ بَاطِلٌ. وَصُورَةُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ، أَنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِ دَارًا مَثَلًا، فَيُنْكِرُ، ثُمَّ يَتَصَالَحَا عَلَى ثَوْبٍ أَوْ دَيْنٍ، وَلَا يَكُونُ طَلَبُ الصُّلْحِ مِنْهُ إِقْرَارًا؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُرِيدُ قَطْعَ الْخُصُومَةِ، هَذَا إِذَا قَالَ: صَالِحْنِي مُطْلَقًا، أَوْ صَالِحْنِي عَنْ دَعْوَاكَ. بَلِ الصُّلْحُ عَنِ الدَّعْوَى لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِقْرَارِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَا يُعْتَاضُ عَنْهُ. وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الْإِنْكَارِ: صَالِحْنِي عَنِ الدَّارِ الَّتِي ادَّعَيْتُهَا، فَهَلْ يَكُونُ إِقْرَارًا، كَمَا لَوْ قَالَ: مَلِّكْنِي، أَمْ لَا، لِاحْتِمَالِ قَطْعِ الْخُصُومَةِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الثَّانِي. فَعَلَى هَذَا، يَكُونُ الصُّلْحُ بَعْدَ هَذَا الِالْتِمَاسِ صُلْحَ إِنْكَارٍ. وَلَوْ قَالَ: بِعْنِيهَا، أَوْ هَبْهَا لِي، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إِقْرَارٌ. لِأَنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْتِمَاسِ التَّمْلِيكِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: هُوَ كَقَوْلِهِ: صَالِحْنِي. وَمِثْلُهُ: لَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي جَارِيَةٍ، فَقَالَ: زَوِّجْنِيهَا. وَلَوْ قَالَ: أَعِرْنِي أَوْ أَجِرْنِي فَأَوْلَى بِأَنْ لَا يَكُونَ إِقْرَارًا. وَلَوْ كَانَ النِّزَاعُ فِي دَيْنٍ، فَقَالَ: أَبْرِئْنِي، فَهُوَ إِقْرَارٌ. وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُدَّعِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ، وَقُلْنَا: لَا يَفْتَقِرُ الْإِبْرَاءُ إِلَى الْقَبُولِ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ بِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَصْدِيقِ الْغَرِيمِ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ. وَلِهَذَا لَوْ أَبْرَأَهُ بَعْدَ التَّحْلِيفِ صَحَّ، وَلَوْ تَصَالَحَا بَعْدَ التَّحْلِيفِ لَمْ يَصِحَّ.

فَرْعٌ

لَوْ جَرَى الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى بَعْضِ الْعَيْنِ الْمُدَّعَاةِ وَهُوَ صُلْحُ الْحَطِيطَةِ فِي الْعَيْنِ، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْقَفَّالُ: يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْتَحِقُّ النِّصْفَ،

ص: 198

لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ اسْتِحْقَاقَ الْجَمِيعِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُسَلِّمُ النِّصْفَ لَهُ بِحُكْمِ هِبَتِهِ لَهُ، وَتَسْلِيمِهِ إِلَيْهِ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَاطِلٌ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعِي. قَالُوا: وَمَتَى اخْتَلَفَ الْقَابِضُ وَالدَّافِعُ فِي الْجِهَةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ كَمَا سَبَقَ فِي الرَّهْنِ. وَالدَّافِعُ هُنَا يَقُولُ: إِنَّمَا بَذَلْتُ النِّصْفَ لِدَفْعِ الْأَذَى، حَتَّى لَا يَرْفَعَنِي إِلَى الْقَاضِي، وَلَا يُقِيمَ عَلَيَّ بَيِّنَةَ زُورٍ. وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، وَتَصَالَحَا عَلَى بَعْضِهِ عَلَى الْإِنْكَارِ نُظِرَ، إِنْ صَالَحَهُ عَنْ أَلْفٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ مَثَلًا فِي الذِّمَّةِ لَمْ يَصِحَّ. وَلَوْ أَحْضَرَ خَمْسَمِائَةٍ وَتَصَالَحَا مِنَ الْأَلْفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهَا، فَهُوَ مُرَتَّبٌ عَلَى صُلْحِ الْحَطِيطَةِ فِي الْعَيْنِ. فَإِنْ لَمْ يَصِحَّ، فَهُنَا أَوْلَى. وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. وَالْأَصَحُّ: الْبُطْلَانُ بِاتِّفَاقِهِمْ. وَالْفَرْقُ أَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ، لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْمُحْضَرَ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَيْهِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ مُعَاوَضَةً مَعَ الْإِنْكَارِ. وَلَوْ تَصَالَحَا، ثُمَّ اخْتَلَفَا هَلْ تَصَالَحَا عَلَى الْإِنْكَارِ، أَمْ عَلَى الِاعْتِرَافِ؟ قَالَ ابْنُ كَجٍّ: الْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الْإِنْكَارِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا عَقْدَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرُجَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا لَوْ تَنَازَعَ الْمُتَبَايِعَانِ، هَلْ عَقَدَا صَحِيحًا أَمْ فَاسِدًا.

قُلْتُ: الصَّوَابُ، مَا قَالَهُ ابْنُ كَجٍّ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ أَيْضًا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَصَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَغَيْرُهُمَا. وَالْفَرْقُ أَنَّ الظَّاهِرَ وَالْغَالِبَ جَرَيَانُ الْبَيْعِ عَلَى الصِّحَّةِ، وَالْغَالِبُ وُقُوعُ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْبَابِ: فِي الصُّلْحِ الْجَارِي بَيْنَ الْمُدِّعِي وَأَجْنَبِيٍّ، وَلَهُ حَالَانِ:

الْأَوَّلُ: مَعَ إِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، وَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ: إِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ عَلَى نِصْفِ الْمُدَّعَى، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ مِنْ مَالِهِ، فَتَصَالَحَا عَلَيْهِ، صَحَّ. وَكَذَا لَوْ قَالَ: وَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ عَنْهُ عَلَى عَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِهِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِي الْوَكَالَةِ، صَارَ الْمُدَّعَى مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ شِرَاءُ

ص: 199

الْفُضُولِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ وَتَفْرِيعُهُ. وَإِنْ قَالَ: أَمَرَنِي بِالْمُصَالَحَةِ عَنْهُ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ مِنْ مَالِي، فَصَالَحَهُ عَلَيْهِ، فَهُوَ كَمَا لَوِ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ بِمَالِ نَفْسِهِ بِإِذْنِ ذَلِكَ الْغَيْرِ، وَقَدْ سَبَقَ خِلَافٌ فِي صِحَّتِهِ، وَأَنَّهُ إِذَا صَحَّ، هَلْ هُوَ هِبَةٌ، أَوْ قَرْضٌ؟ وَلَوْ صَالَحَ الْأَجْنَبِيُّ لِنَفْسِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ، أَوْ بِدَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، صَحَّ لَهُ، كَمَا لَوِ اشْتَرَاهُ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ دَعْوَى: صَالِحْنِي مِنْ دَارِكَ عَلَى أَلْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجْرِ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ خُصُومَةً. وَالْمَذْهَبُ: الصِّحَّةُ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ تَرَتَّبَ عَلَى دَعْوَى وَجَوَابٍ. أَمَّا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، وَقَالَ: وَكَّلَنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُصَالَحَتِكَ عَلَى نِصْفِهِ، أَوْ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ مِنْ مَالِهِ، فَصَالَحَهُ، صَحَّ. وَلَوْ قَالَ: عَلَى هَذَا الثَّوْبِ، وَهُوَ مِلْكِي، فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ بَدَيْنِ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَصِحُّ، وَيَسْقُطُ الدَّيْنُ كَمَنْ ضَمِنَ دَيْنًا وَأَدَّاهُ.

قُلْتُ: الْأَوَّلُ: أَصَحُّ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ صَالَحَ لِنَفْسِهِ عَلَى عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فِي ذِمَّتِهِ، فَهُوَ ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ.

قُلْتُ: لَوْ قَالَ: صَالِحْنِي عَنِ الْأَلْفِ الَّذِي لَكَ عَلَى فُلَانٍ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ صَحَّ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ قَضَاءَ دَيْنِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ جَائِزٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا ظَاهِرًا، فَجَاءَ أَجْنَبِيٌّ فَقَالَ: أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عِنْدِي، وَوَكَّلَنِي فِي مُصَالَحَتِكَ لَهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُظْهِرُ إِقْرَارَهُ لِئَلَّا تَنْزِعَهُ مِنْهُ، فَصَالَحَهُ صَحَّ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِنْسَانَ الْوَكَالَةَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ مَقْبُولَةٌ. فَإِنْ قَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ، وَلَكِنَّهُ مُبْطِلٌ، فَصَالِحْنِي لَهُ عَلَى عَبْدِي هَذَا، لِتَنْقَطِعَ الْخُصُومَةُ بَيْنَكُمَا، فَوَجْهَانِ. قَالَ الْإِمَامُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ صُلْحُ إِنْكَارٍ. وَالثَّانِي:

ص: 200

يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي شُرُوطِ الْعَقْدِ بِمَنْ يُبَاشِرُهُ وَهُمَا مُتَّفِقَانِ. هَذَا إِذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا، فَإِنْ كَانَ دَيْنًا، فَقِيلَ: عَلَى الْوَجْهَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِالصِّحَّةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُ الْغَيْرِ عَيْنَ مَالِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَيُمْكِنُ قَضَاءُ دَيْنِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ، وَأَنَا أَيْضًا لَا أَعْلَمُ صِدْقَكَ، وَصَالَحَهُ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ لَهُ، أَوْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ صَالَحَهُ الْمُدَّعِي وَهُوَ مُنْكِرٌ. وَإِنْ قَالَ: هُوَ مُنْكِرٌ وَمُبْطِلٌ فِي إِنْكَارِهِ، فَصَالِحْنِي لِنَفْسِي بِعَبْدِي هَذَا، أَوْ بِعَشَرَةٍ فِي ذِمَّتِي لِآخُذَهُ مِنْهُ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى دَيْنًا، فَهُوَ ابْتِيَاعُ دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ عَيْنًا، فَهُوَ شِرَاءُ مَغْصُوبٍ، فَيَنْظُرُ فِي قُدْرَتِهِ عَلَى انْتِزَاعِهِ وَعَجْزِهِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْحَالَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ. وَلَوْ صَالَحَ وَقَالَ: أَنَا قَادِرٌ عَلَى انْتِزَاعِهِ، صَحَّ الْعَقْدُ عَلَى الْأَصَحِّ، اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الظَّاهِرِ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنِ انْتِزَاعِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَالْوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ كَاذِبًا، فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ بَاطِنًا، وَفِي مُؤَاخَذَتِهِ فِي الظَّاهِرِ لِالْتِزَامِهِ الْوَجْهَانِ. وَإِنْ كَانَ صَادِقًا، حَكَمَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَاطِنًا، وَقَطَعْنَا بِمُؤَاخَذَتِهِ، لَكِنْ لَا تُزَالُ يَدُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ.

فَرْعٌ

كَالْمِثَالِ لِمَا ذَكَرْنَا، ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ دَارًا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَقَالَ: غَصَبَنِيهَا، فَأَقَرُّوا لَهُ، جَازَ لَهُمْ مُصَالَحَتُهُ. فَإِنْ دَفَعُوا إِلَى بَعْضِهِمْ ثَوْبًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمْ لِيُصَالِحَ عَلَيْهِ جَازَ، وَكَانَ عَاقِدًا عَنْ نَفْسِهِ وَوَكِيلًا عَنِ الْبَاقِينَ. وَلَوْ قَالُوا لِوَاحِدٍ: صَالِحْهُ عَنَّا عَلَى ثَوْبِكَ، فَصَالَحَهُ عَنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِمْ فِي الصُّلْحِ، وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُ. وَإِنْ سَمَّاهُمْ، فَهَلْ تُلْغَى التَّسْمِيَةُ؟ وَجْهَانِ. فَإِنْ لَمْ نُلْغِهَا، وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْهُمْ. وَهَلِ الثَّوْبُ هِبَةٌ لَهُمْ، أَوْ قَرْضٌ عَلَيْهِمْ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ أَلْغَيْنَاهَا، فَهَلْ يَصِحُّ الصُّلْحُ كُلُّهُ لِلْعَاقِدِ، أَمْ

ص: 201

يَبْطُلُ فِي نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ وَيَخْرُجُ نَصِيبُهُ عَلَى قَوْلَيْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ؟ وَجْهَانِ. وَإِنْ صَالَحَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَالٍ لَهُ دُونَ إِذْنِ الْبَاقِينَ لِيَتَمَلَّكَ جَمِيعَ الدَّارِ، جَازَ. وَإِنْ صَالَحَ لِتَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَلَهُمْ جَمِيعًا، لَغَا ذِكْرَهُمْ، وَعَادَ الْوَجْهَانِ فِي أَنَّ الْجَمِيعَ يَقَعُ لَهُ، أَمْ يَبْطُلُ فِي نَصِيبِهِمْ. وَيَخْرُجُ نَصِيبُهُ عَلَى قَوْلَيِ الصَّفْقَةِ.

فَرْعٌ

أَسْلَمَ كَافِرٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَمَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ وَالتَّعْيِينِ، وَقَفَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ. فَإِنِ اصْطَلَحْنَ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى تَفَاوُتٍ أَوْ تَسَاوٍ جَازَ لِلضَّرُورَةِ. وَلَوِ اصْطَلَحْنَ عَلَى أَنْ تَأْخُذَ ثَلَاثٌ مِنْهُمْ أَوْ أَرْبَعٌ الْمَالَ الْمَوْقُوفَ، وَيَبْذُلْنَ لِلْبَاقِيَاتِ عِوَضًا مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ، لَمْ يَصِحَّ. وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ، مَا لَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ، وَوَقَفَ لَهُمَا نَصِيبَ زَوْجَةٍ فَاصْطَلَحَتَا، وَمَا إِذَا ادَّعَى اثْنَانِ وَدِيعَةً فِي يَدِ رَجُلٍ، فَقَالَ: لَا أَعْلَمُ لِأَيِّكُمَا هِيَ، وَمَا إِذَا تَدَاعَيَا دَارًا فِي يَدِهِمَا، وَأَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً. ثُمَّ اصْطَلَحَا. وَكَذَا لَوْ كَانَتْ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَقُلْنَا بِاسْتِعْمَالِ الْبَيِّنَتَيْنِ.

قُلْتُ: وَهَذِهِ مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالْبَابِ.

إِحْدَاهَا: ادَّعَى دَارًا، فَأَقَرَّ، فَصَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ، فَخَرَجَ مُسْتَحِقًّا، أَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ، أَوْ هَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، رَجَعَتِ الدَّارُ إِلَى الْأَوَّلِ. وَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا بَعْدَمَا هَلَكَ، أَوْ تَعَيَّبَ فِي يَدِهِ، أَخَذَ مِنَ الدَّارَ بِقَدْرِ مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ، كَمَا لَوْ بَاعَهَا بِعَبْدٍ.

الثَّانِيَةُ: ادَّعَى عَلَيْهِ دَارًا، فَأَنْكَرَهُ، فَقَالَ الْمُدَّعِي: أُعْطِيكَ أَلْفًا وَتُقِرُّ لِي بِهَا، فَفَعَلَ، فَلَيْسَ بِصُلْحٍ، وَلَا يَلْزَمُ الْأَلْفُ، بَلْ بَذْلُهُ وَأَخْذُهُ حَرَامٌ. وَهَلْ يَكُونُ هَذَا إِقْرَارًا؟ وَجْهَانِ فِي «الْعُدَّةِ» وَ «الْبَيَانِ» .

الثَّالِثَةُ: صَالَحَ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِعِوَضٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجَدَهُ الْمُدَّعِي مَعِيبًا، فَلَهُ

ص: 202

رَدُّهُ، وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ بَلْ يَنْفَسِخُ الصُّلْحُ وَيَرْجِعُ إِلَى خُصُومَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ خَرَجَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا. وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ، فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ، فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً وَرَدَّهَا، أَوْ خَرَجَتْ مُسْتَحَقَّةً، فَلَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهَا.

الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ أَرْضًا وَبَنَاهَا مَسْجِدًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهَا، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي، لَزِمَهُ قِيمَتُهَا. وَإِنْ كَذَّبَهُ، فَصَالَحَهُ رَجُلٌ آخَرُ، صَحَّ الصُّلْحُ؛ لِأَنَّهُ بَذْلُ مَالٍ عَلَى جِهَةِ الْقُرْبَةِ، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ وَقْفُهُ. وَالصُّلْحُ عَمَّا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، جَائِزٌ.

الْخَامِسَةُ: لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ شَيْئًا قِيمَتُهُ دِينَارٌ، فَأَقَرَّ بِهِ، وَصَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ دِينَارٍ، لَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِيمَةُ الْمُتْلَفِ، فَلَمْ يَصِحَّ الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ، كَمَنْ غَصَبَ دِينَارًا، فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ بِعِوَضٍ مُؤَجَّلٍ، لَمْ يَصِحَّ.

السَّادِسَةُ: سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ الصُّلْحَ عَنِ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: لَوِ ادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا مُجْمَلًا، فَأَقَرَّ لَهُ بِهِ وَصَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى عِوَضٍ، صَحَّ الصُّلْحُ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا إِذَا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا لَهُمَا، فَيَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَاهُ، كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْتُكَ الشَّيْءَ الَّذِي نَعْرِفُهُ أَنَا وَأَنْتَ بِكَذَا، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ، صَحَّ.

السَّابِعَةُ: إِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَوَكَّلَ أَجْنَبِيًّا لِيُصَالِحَ كَمَا سَبَقَ، فَهَلْ يَحِلُّ لَهُ التَّوْكِيلُ؟ وَجْهَانِ. قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِنْكَارُ. وَلَوْ فَعَلَهُ فَلَهُ التَّوْكِيلُ فِي الْمُصَالَحَةِ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ: يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَيْضًا التَّوْكِيلُ. وَلَوْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ وَخَلَّفَ عَيْنًا فَادَّعَاهَا رَجُلٌ فَأَنْكَرَهُ وَلَا يَعْلَمُ صِدْقَهُ، وَخَافَ مِنَ الْيَمِينِ، جَازَ أَنْ يُوَكِّلَ أَجْنَبِيًّا فِي الصُّلْحِ، لِتَزُولَ الشُّبْهَةُ، حَكَاهُ فِي «الْبَيَانِ» . - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ص: 203

الْبَابُ الثَّانِي

فِي التَّزَاحُمِ عَلَى الْحُقُوقِ

وَفِيهِ فُصُولٌ.

الْأَوَّلُ: فِي الطَّرِيقِ، وَهُوَ قِسْمَانِ: نَافِذٌ، وَغَيْرُهُ. أَمَّا النَّافِذُ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمُرُورَ فِيهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِمَا يُبْطِلُ الْمُرُورَ، وَلَا أَنْ يَشْرَعَ فِيهِ جَنَاحًا، أَوْ يَتَّخِذَ عَلَى جُدْرَانِهِ سَابَاطًا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ. فَإِنْ لَمْ يَضُرَّ، فَلَا مَنْعَ مِنْهُمَا. وَيُرْجَعُ فِي مَعْرِفَةِ الضَّرَرِ وَعَدَمِهِ إِلَى حَالِ الطَّرِيقِ. فَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا لَا تَمُرُّ فِيهِ الْقَوَافِلُ وَالْفَوَارِسُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْتَفِعَ بِحَيْثُ يَمُرُّ الْمَارُّ تَحْتَهُ مُنْتَصِبًا. وَإِنْ كَانُوا يَمُرُّونَ فِيهِ، فَلْيَكُنِ ارْتِفَاعُهُ إِلَى حَدٍّ يَمُرُّ فِيهِ الْمَحْمَلُ مَعَ الْكَنِيسَةِ فَوْقَهُ عَلَى الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا، فَإِنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ. وَلَا تُشْتَرَطُ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا، عَلَى الصَّحِيحِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدِ بْنُ حَرْبَوَيْهِ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَمُرُّ الرَّاكِبُ تَحْتَهُ مَنْصُوبَ الرُّمْحِ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى تَضْعِيفِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الرُّمْحِ عَلَى الْكَتِفِ، لَيْسَ بِعَسِيرٍ. وَيَجُوزُ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ الْأَبْوَابَ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى الشَّارِعِ كَيْفَ شَاءَ. وَأَمَّا نَصْبُ الدِّكَّةِ وَغَرْسُ الشَّجَرَةِ، فَإِنْ كَانَ يُضَيِّقُ الطَّرِيقَ وَيَضُرُّ بِالْمَارَّةِ، مُنِعَ، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْجَوَازُ، كَالْجَنَاحِ الَّذِي لَا يَضُرُّ بِهِمْ. وَأَصَحُّهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ: الْمَنْعُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ إِشْرَاعِ الْجَنَاحِ عَلَى شَيْءٍ، سَوَاءٌ صَالَحَ الْإِمَامَ أَوْ غَيْرَهُ، وَسَوَاءٌ ضَرَّ بِالْمَارَّةِ أَمْ لَا. وَلَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا لَا ضَرَرَ فِيهِ، فَانْهَدَمَ، أَوْ هَدَمَهُ، فَأَشْرَعَ رَجُلٌ آخَرُ جَنَاحًا فِي مُحَاذَاتِهِ لَا تُمْكِنُ مَعَهُ إِعَادَةُ الْأَوَّلِ، جَازَ، كَمَا لَوْ قَعَدَ فِي طَرِيقٍ وَاسِعٍ ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهُ، يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الِارْتِفَاقُ بِهِ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ. وَلَكَ أَنْ تَقُولَ: الْمُرْتَفَقُ بِالْقُعُودِ لِلْمُعَامَلَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِمُجَرَّدِ الزَّوَالِ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ بِالسَّفَرِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْحِرْفَةِ.

ص: 204

فَقِيَاسُهُ أَنْ لَا يَبْطُلَ هُنَا بِمُجَرَّدِ الْهَدْمِ وَالِانْهِدَامِ، بَلْ يُعْتَبَرُ إِعْرَاضُهُ عَنْ إِعَادَتِهِ.

قُلْتُ: إِنَّ مَا قَاسَهُ كَثِيرُونَ عَلَى مَا إِذَا وَقَفَ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ فَارَقَ مُوْقِفَهُ، أَوْ قَعَدَ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَرِدُ اعْتِرَاضُ الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ رحمه الله. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَخْرَجَ جَنَاحًا تَحْتَ جَنَاحِ مَنْ يُحَاذِيهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ مَنْعُهُ، إِذْ لَا ضَرَرَ. وَلَوْ أَخْرَجَ فَوْقَ جَنَاحِ الْأَوَّلِ، قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ: إِنْ كَانَ الثَّانِي عَالِيًا لَا يَضُرُّ بِالْمَارِّ فَوْقَ الْجَنَاحِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُمْنَعْ، وَإِلَّا فَلَهُ مَنْعُهُ. وَلَوْ أَخْرَجَ مُقَابِلًا لَهُ، لَمْ يُمْنَعْ، إِلَّا أَنْ يُعَطِّلَ انْتِفَاعَ الْأَوَّلِ. وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ أَخَذَ أَكْثَرَ هَوَاءِ الطَّرِيقِ، لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ مُطَالَبَتُهُ بِتَقْصِيرِ جَنَاحِهِ وَرَدِّهِ إِلَى نِصْفِ الطَّرِيقِ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ سَبَقَ إِلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ، لَمْ يَتَعَرَّضُوا فِي الْإِضْرَارِ الْمَمْنُوعِ إِلَّا لِلِارْتِفَاعِ وَالِانْخِفَاضِ. وَأَمَّا إِظْلَامُ الْمَوْضِعِ، فَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَطَائِفَةٌ: لَا يُؤَثِّرُ، وَمُقْتَضَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَلَفْظِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَأَكْثَرِ الْأَصْحَابِ تَأْثِيرُهُ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ مَنْصُورٌ التَّمِيمِيُّ. وَفِي «التَّتِمَّةِ» : إِنِ انْقَطَعَ الضَّوْءُ كُلُّهُ، أَثَّرَ، وَإِنْ نَقَصَ فَلَا.

فَرْعٌ

الشَّوَارِعُ الَّتِي فِي الْبِلَادِ، وَالْجَوَادُّ الْمُمْتَدَّةُ فِي الصَّحَارِي سَوَاءٌ، فِي أَنَّهَا مُنْفَكَّةٌ عَنِ الْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ. وَالْأَصْلُ فِيهَا، الْإِبَاحَةُ وَجَوَازُ الِانْتِفَاعِ، إِلَّا فِيمَا يَقْدَحُ فِي مَقْصُودِهَا وَهُوَ الِاسْتِطْرَاقُ. قَالَ الْإِمَامُ: وَمَصِيرُ الْمَوْضِعِ شَارِعًا، لَهُ صُورَتَانِ، إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ مِلْكَهُ شَارِعًا وَسَبِيلًا مُسَبَّلًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَجِيءَ جَمَاعَةُ بَلْدَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ، وَيَتْرُكُوا مَسْلَكًا نَافِذًا بَيْنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ، وَيَفْتَحُوا إِلَيْهِ الْأَبْوَابَ.

ص: 205

ثُمَّ حَكَى عَنْ شَيْخِهِ، مَا يَقْتَضِي صُورَةً ثَالِثَةً، وَهُوَ أَنْ يَصِيرَ مَوْضِعٌ مِنَ الْمَوَاتِ جَادَّةً يَسْتَطْرِقُهَا الرِّفَاقُ، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهُ. وَإِنَّهُ كَانَ يَتَرَدَّدُ فِي بِنْيَاتِ الطُّرُقِ الَّتِي يَعْرِفُهَا الْخَوَاصُّ وَيَسْلُكُونَهَا. وَكُلُّ مَوَاتٍ يَجُوزُ اسْتِطْرَاقُهُ، لَكِنْ لَا يُمْنَعُ أَحَدٌ مِنْ إِحْيَائِهِ وَصَرْفِ الْمَمَرِّ عَنْهُ، بِخِلَافِ الشَّوَارِعِ.

قُلْتُ: قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا حَاجَةَ إِلَى لَفْظٍ فِي مَصِيرِ مَا يُجْعَلُ شَارِعًا. قَالَ: وَإِذَا وَجَدْنَا جَادَّةً مُسْتَطْرَقَةً، وَمَسْلَكًا مَشْرُوعًا نَافِذًا، حَكَمْنَا بِاسْتِحْقَاقِ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهِ بِظَاهِرِ الْحَالِ، وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى مَبْدَإِ مَصِيرِهِ شَارِعًا. وَأَمَّا قَدْرُ الطَّرِيقِ، فَقَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لِضَبْطِهِ، وَهُوَ مُهِمٌّ جِدًّا، وَحُكْمُهُ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ الطَّرِيقُ مِنْ أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ يُسَبِّلُهَا صَاحِبُهَا، فَهُوَ إِلَى خَيْرَتِهِ، وَالْأَفْضَلُ تَوْسِيعُهَا. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَرَاضٍ يُرِيدُ أَصْحَابُهَا إِحْيَاءَهَا، فَإِنِ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ، فَذَاكَ. وَإِنِ اخْتَلَفُوا، فَقَدْرُهُ سَبْعُ أَذْرُعٍ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ثَبَتَ فِي «صَحِيحَيِ» الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الطَّرِيقِ، أَنْ يُجْعَلَ عَرْضُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ. وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا، لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَإِنْ قَلَّ، يَجُوزُ عِمَارَةُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَوَاتِ، وَيَمْلِكُهُ بِالْإِحْيَاءِ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ. وَمِنَ الْمُهِمَّاتِ الْمُسْتَفَادَةِ، أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يُمْنَعُونَ مِنْ إِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ إِلَى شَوَارِعِ الْمُسْلِمِينَ النَّافِذَةِ. وَإِنْ جَازَ لَهُمُ اسْتِطْرَاقُهَا؛ لِأَنَّهُ كَإِعْلَائِهِمُ الْبِنَاءَ عَلَى بِنَاءِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَبْلَغُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَذَكَرَ الشَّاشِيُّ فِي جَوَازِهِ وَجْهَيْنِ. وَمَنْ أَخْرَجَ جَنَاحًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ، هُدِمَ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّرِيقُ الَّذِي لَا يُنْفِذُ، كَالسِّكَّةِ الْمَسْدُودَةِ الْأَسْفَلِ، وَالْكَلَامُ فِيهَا فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: إِشْرَاعُ الْجَنَاحِ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَهْلِ السِّكَّةِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا لَهُمْ

ص: 206

عَلَى الْأَصَحِّ الَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُونَ إِلَّا بِرِضَاهُمْ، سَوَاءٌ تَضَرَّرُوا، أَمْ لَا. وَالثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَمَنْ تَابَعَهُ: يَجُوزُ إِذَا لَمْ يَضُرَّ الْبَاقِينَ، فَإِنْ أَضَرَّ وَرَضِيَ أَهْلُ السِّكَّةِ جَازَ. وَلَوْ صَالَحُوهُ عَلَى شَيْءٍ، لَمْ يَصِحَّ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْهَوَاءَ تَابِعٌ، فَلَا يُفْرَدُ بِالْمَالِ صُلْحًا، كَمَا لَا يُفْرَدُ بِهِ بَيْعًا. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي صُلْحِ صَاحِبِ الدَّارِ عَنِ الْجَنَاحِ الْمُشْرَعِ إِلَيْهَا، وَنَعْنِي بِأَهْلِ السِّكَّةِ كُلُّ مَنْ لَهُ بَابٌ نَافِذٌ إِلَيْهَا دُونَ مَنْ يُلَاصِقُ جِدَارَ دَارِ السِّكَّةِ مِنْ غَيْرِ نُفُوذِ بَابٍ. ثُمَّ هَلِ الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِهَا لِجَمِيعِهِمْ، أَمْ شَرِكَةُ كُلِّ وَاحِدٍ تَخْتَصُّ بِمَا بَيْنَ رَأْسِ السِّكَّةِ وَبَابِ دَارِهِ؟ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: الِاخْتِصَاصُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَحَلُّ تَرَدُّدِهِ، وَمَا عَدَاهُ، فَهُوَ فِيهِ كَغَيْرِ أَهْلِ السِّكَّةِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ فِي مَنْعِ إِشْرَاعِ الْجَنَاحِ إِلَّا بِرِضَاهُمْ. فَإِنْ شَرَّكْنَا الْكُلَّ فِي الْكُلِّ، جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ السِّكَّةِ الْمَنْعُ. وَإِنْ خَصَّصْنَا، فَإِنَّمَا يَجُوزُ الْمَنْعُ لِمَنْ مَوْضِعُ الْجَنَاحِ بَيْنَ بَابِهِ وَرَأْسِ الدَّرْبِ. وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ عَلَى قَوْلِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، فِي أَنَّ مُسْتَحِقَّ الْمَنْعِ إِذَا أَضَرَّ الْجَنَاحُ: مَنْ هُوَ؟ لَكِنَّهُمْ لَمْ يَذْكُرُوهُ. قَوْلُ الرَّافِعِيِّ: لَمْ يَذْكُرُوهُ، مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ، فَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» ، مَعَ أَنَّ مُعْظَمَ نَقْلِ الرَّافِعِيِّ مِنْهُ وَمِنَ النِّهَايَةِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوِ اجْتَمَعَ الْمُسْتَحِقُّونَ فَسَدُّوا رَأْسَ السِّكَّةِ، لَمْ يُمْنَعُوا مِنْهُ، كَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْعَبَّادِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُمْنَعُوا؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّارِعِ يَفْزَعُونَ إِلَيْهِ إِذَا عَرَضَتْ زَحْمَةٌ. وَلَوِ امْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَاقِينَ السَّدُّ قَطْعًا. وَلَوْ سَدُّوا بِاتِّفَاقِهِمْ، لَمْ يَسْتَقِلَّ بَعْضُهُمْ بِالْفَتْحِ. وَلَوِ اتَّفَقُوا عَلَى قِسْمَةِ صَحْنِ السِّكَّةِ بَيْنَهُمْ، جَازَ. وَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ رَأْسِ السِّكَّةِ قِسْمَةَ رَأْسِهَا بَيْنَهُمْ، مُنِعُوا لِحَقِّ مَنْ يَلِيهِمْ. وَلَوْ أَرَادَ الْأَسْفَلُ قِسْمَتَهُ فَوَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِيهِ، ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَدِّ الْبَابِ وَقِسْمَةِ الصَّحْنِ، مَفْرُوضٌ فِيمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِي السِّكَّةِ مَسْجِدٌ. فَإِنْ كَانَ فِيهَا مَسْجِدٌ عَتِيقٌ، أَوْ جَدِيدٌ،

ص: 207

مُنِعُوا مِنَ السَّدِّ وَالْقِسْمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلُّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الِاسْتِطْرَاقَ إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ كَجٍّ. وَعَلَى قِيَاسِهِ، لَا يَجُوزُ الْإِشْرَاعُ عِنْدَ الْإِضْرَارِ وَإِنْ رَضِيَ أَهْلُ السِّكَّةِ، لَحِقَ سَائِرَ الْمُسْلِمِينَ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: فَتْحُ الْبَابِ، فَلَيْسَ لِمَنْ لَا بَابَ لَهُ فِي السِّكَّةِ إِحْدَاثُ بَابٍ إِلَّا بِرِضَى أَهْلِهَا كُلِّهِمْ. فَلَوْ قَالَ: أَفْتَحُ إِلَيْهَا بَابًا لِلِاسْتِضَاءَةِ دُونَ الِاسْتِطْرَاقِ، أَوْ أَفْتَحُهُ وَأُسَمِّرُهُ، فَوَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ أَبِي الْقَاسِمِ الْكَرْخِيِّ: يُمْنَعُ.

قُلْتُ: قَلَّ مَنْ بَيَّنَ الْأَصَحَّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، وَلِهَذَا، اقْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ عَلَى نِسْبَةِ التَّصْحِيحِ إِلَى الْكَرْخِيِّ. وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ صَاحِبُ «الْبَيَانِ» وَالرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» وَخَالَفَهُمُ الْجُرْجَانِيُّ، وَالشَّاشِيُّ، فَصَحَّحَا الْمَنْعَ، وَهُوَ أَفْقَهُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِي السِّكَّةِ، وَأَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ غَيْرَهُ، فَإِنْ كَانَ مَا يَفْتَحُهُ أَبْعَدَ مِنْ رَأْسِ السِّكَّةِ، فَلِمَنِ الْبَابُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَ دَارِهِ وَرَأْسِ السِّكَّةِ مَنْعُهُ، وَفِيمَنْ دَارُهُ بَيْنَ الْبَابِ وَرَأْسِ السِّكَّةِ وَجْهَانِ، بِنَاءً عَلَى كَيْفِيَّةِ الشَّرِكَةِ كَمَا سَبَقَ فِي الْجَنَاحِ. وَإِنْ كَانَ مَا يَفْتَحُهُ أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، فَإِنْ سَدَّ الْأَوَّلَ جَازَ، وَإِلَّا فَكَمَا إِذَا كَانَ أَبْعَدَ؛ لِأَنَّ الْبَابَ الثَّانِيَ إِذَا انْضَمَّ إِلَى الْأَوَّلِ أَوْرَثَ زِيَادَةَ زَحْمَةِ النَّاسِ وَوُقُوفِ الدَّوَابِّ، فَيَتَضَرَّرُونَ بِهِ. وَحَكَى فِي النِّهَايَةِ طَرِيقَةً جَازِمَةً، بِأَنْ لَا مَنْعَ لِمَنْ يَقَعُ الْمَفْتُوحُ بَيْنَ دَارِهِ وَرَأْسِ السِّكَّةِ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَ لَا يَمُرُّ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَّرِدَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَفْتُوحُ أَبْعَدَ مِنْ رَأْسِ السِّكَّةِ.

قُلْتُ: جَزَمَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» بِأَنَّهُ إِذَا فَتَحَ بَابًا آخَرَ أَقْرَبَ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، وَلَمْ يَسُدَّ الْأَوَّلَ جَازَ، وَلَا مَنْعَ لِأَحَدٍ. وَهَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، فَمَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ أَقْوَى. وَلَمْ يَذْكُرِ الرَّافِعِيُّ - فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَفْتُوحُ أَبْعَدَ - حُكِمَ مِنْ بَابِهِ مُقَابِلَ الْمَفْتُوحِ،

ص: 208

لَا فَوْقَهُ وَلَا تَحْتَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ، أَنَّهُ كَمَنْ هُوَ أَقْرَبُ إِلَى رَأْسِ السِّكَّةِ، فَفِيهِ الْوَجْهَانِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَتَحْوِيلُ الْمِيزَابِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ، كَفَتْحِ بَابٍ وَسَدِّ بَابٍ.

فَرْعٌ

لَوْ كَانَ لَهُ دَارَانِ، يَنْفُذُ بَابُ إِحْدَاهُمَا إِلَى الشَّارِعِ، وَالْأُخْرَى إِلَى سِكَّةٍ مُنْسَدَّةٍ، فَأَرَادَ فَتْحَ بَابٍ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ السِّكَّةِ مَنْعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ. وَلَوْ كَانَ بَابُ كُلِّ وَاحِدَةٍ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، فَفَتَحَ مِنْ إِحْدَاهَا إِلَى الْأُخْرَى، فَفِي ثُبُوتِ الْمَنْعِ لِأَهْلِ السِّكَّتَيْنِ، الْوَجْهَانِ، قَالَهُ الْإِمَامُ. وَمَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ، مَا إِذَا سَدَّ بَابَ إِحْدَاهُمَا، وَفَتَحَ الْبَابَ لِغَرَضِ الِاسْتِطْرَاقِ. أَمَّا إِذَا قَصَدَ اتِّسَاعَ مِلْكِهِ وَنَحْوَهُ، فَلَا مَنْعَ قَطْعًا.

قُلْتُ: هَذِهِ الْعِبَارَةُ فَاسِدَةٌ، فَإِنَّهَا تُوهِمُ اخْتِصَاصَ الْخِلَافِ، بِمَا إِذَا سَدَّ بَابَ إِحْدَاهُمَا، وَذَلِكَ خَطَأٌ، بَلِ الصَّوَابُ، جَرَيَانُ الْوَجْهَيْنِ إِذَا بَقِيَ الْبَابَانِ نَافِذَيْنِ، وَكُلُّ الْأَصْحَابِ مُصَرِّحُونَ بِهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أَرَادَ رَفْعَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا وَجَعْلَهُمَا دَارًا وَاحِدَةً، وَيَتْرُكُ بَابَيْهِمَا عَلَى حَالِهِمَا، جَازَ قَطْعًا. وَمِمَّنْ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا، الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ. فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: مَوْضِعُ الْوَجْهَيْنِ، إِذَا لَمْ يَقْصِدِ اتِّسَاعَ مِلْكِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: كَذَا نَقَلَهُ الْإِمَامُ، فَإِنَّ الْوَجْهَيْنِ مَشْهُورَانِ جِدًّا. وَقَوْلُهُ الْأَصَحُّ: الْجَوَازُ، تَابَعَ فِيهِ صَاحِبُ «التَّهْذِيبِ» ، وَخَالَفَهُ أَصْحَابُنَا الْعِرَاقِيُّونَ، فَنَقَلُوا عَنِ الْجُمْهُورِ، الْمَنْعَ. بَلْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى الْمَنْعِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ص: 209

فَرْعٌ

حَيْثُ مَنَعْنَا فَتْحَ الْبَابِ إِلَى السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ، فَصَالَحَهُ أَهْلُ السِّكَّةِ بِمَالٍ جَازَ، بِخِلَافِ الْجَنَاحِ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ بَذْلُ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ الْهَوَاءِ. قَالَ فِي «التَّتِمَّةِ» : ثُمَّ إِنْ قَدَّرُوا مُدَّةً، فَهُوَ إِجَارَةٌ. وَإِنْ أَطْلَقُوا، أَوْ شَرَطُوا التَّأْبِيدَ، فَهُوَ بَيْعُ جُزْءٍ شَائِعٍ مِنَ السِّكَّةِ، وَتَنْزِيلٌ لَهُ مَنْزِلَةَ أَحَدِهِمْ. كَمَا لَوْ صَالَحَ رَجُلًا عَلَى مَالٍ لِيُجْرِيَ فِي أَرْضِهِ نَهْرًا، كَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا لِلنَّهْرِ. وَلَوْ صَالَحَهُ بِمَالٍ عَلَى فَتْحِ بَابٍ مِنْ دَارِهِ إِلَى دَارِهِ، صَحَّ، وَيَكُونُ كَالصُّلْحِ عَنْ إِجْرَاءِ الْمَاءِ عَلَى سَطْحِهِ، وَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الدَّارِ وَالسَّطْحِ؛ لِأَنَّ السِّكَّةَ لَا تُرَادُ إِلَّا لِلِاسْتِطْرَاقِ، فَإِثْبَاتُ الِاسْتِطْرَاقِ فِيهَا يَكُونُ نَقْلًا لِلْمِلْكِ.

وَأَمَّا الدَّارُ وَالسَّطْحُ، فَلَا يُقْصَدُ بِهِمَا الِاسْتِطْرَاقُ وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ.

قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ كَانَتْ دَارُهُ فِي آخِرِ السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ، فَأَرَادَ نَقْلَ بَابِهَا إِلَى الْوَسَطِ، وَيَجْعَلُ مَا بَيْنَ الْبَابِ وَأَسْفَلِ السِّكَّةِ دِهْلِيزًا، فَإِنْ شَرَّكْنَا الْجَمِيعَ فِي جَمِيعِ السِّكَّةِ، كَانَ لِلْبَاقِينَ مَنْعُهُ، وَإِلَّا فَلَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ: فَتْحُ الْمَنَافِذِ وَالْكُوَّاتِ لِلِاسْتِضَاءَةِ، وَلَا مَنْعَ مِنْهُ بِحَالٍ، لِمُصَادَفَتِهِ الْمِلْكَ، بَلْ لَهُ إِزَالَةُ رَفْعِ الْجِدَارِ، وَجَعْلِ شُبَّاكٍ مَكَانَهُ.

فَرْعٌ

قَالَ الْإِمَامُ: لَوْ فَتَحَ مَنْ لَا بَابَ لَهُ فِي السِّكَّةِ الْمُنْسَدَّةِ بَابًا بِرِضَى أَهْلِهَا، كَانَ لِأَهْلِهَا الرُّجُوعُ مَتَى شَاءُوا، وَلَا يَلْزَمُهُمْ بِالرُّجُوعِ شَيْءٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعَارَ الْأَرْضَ لِلْبِنَاءِ وَالْغِرَاسِ ثُمَّ رَجَعَ، فَإِنَّهُ لَا يَقْلَعُهُ مَجَّانًا. وَهَذَا لَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ. وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا فَرْقَ.

ص: 210

فَرْعٌ

قَالَ الرُّويَانِيُّ: إِذَا كَانَ بَيْنَ دَارَيْهِ طَرِيقٌ نَافِذٌ، فَحَفَرَ تَحْتَهُ سِرْدَابًا مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، وَأَحْكَمَهُ بِالْأَزَجِ لَمْ يُمْنَعْ. قَالَ: وَبِمِثْلِهَا أَجَابَ الْأَصْحَابُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنْ نَافِذًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ دُخُولُ هَذَا الزُّقَاقِ، كَاسْتِطْرَاقِ الدَّرْبِ النَّافِذِ. قَالَ: وَغَلِطَ مَنْ قَالَ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِكَوْنِهَا فِي مَعْنَى الشَّارِعِ، وَالظَّاهِرُ خِلَافُهُ. وَاعْتَذَرَ الْإِمَامُ عَنْ جَوَازِ دُخُولِهَا بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ الْإِبَاحَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ.

قُلْتُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ - فِيمَا كَانَ الطَّرِيقُ نَافِذًا - صَحِيحٌ. وَكَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ.

وَأَمَّا تَجْوِيزُهُ ذَلِكَ - فِيمَا إِذَا لَمْ يَكُنِ الطَّرِيقُ نَافِذًا - وَنَقْلُهُ ذَلِكَ عَنِ الْأَصْحَابِ، فَضَعِيفٌ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ مُعْظَمِ الْأَصْحَابِ، وَلَعَلَّهُ وَجَدَهُ فِي كِتَابٍ أَوْ كِتَابَيْنِ، فَإِنِّي رَأَيْتُ لَهُ مِثْلَ هَذَا كَثِيرًا. وَكَيْفَ كَانَ، فَهَذَا الْحُكْمُ ضَعِيفٌ، فَإِنَّ الْأَصْحَابَ مُصَرِّحُونَ بِأَنَّ الطَّرِيقَ فِي السِّكَّةِ الْمَسْدُودَةِ مِلْكٌ لِأَصْحَابِ السِّكَّةِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا سَدَّهَا وَجَعْلَهَا مَسَاكِنَ، جَازَ، وَنَقَلَ الْإِمَامُ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى هَذَا. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مِلْكُهُمْ، فَالْقَرَارُ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ كَمَا يَتْبَعُهَا الْهَوَاءُ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْجَنَاحِ فَوْقَ أَرْضِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ، كَذَا السِّرْدَابُ تَحْتَهَا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

الْفَصْلُ الثَّانِي

فِي الْجِدَارِ

الْجِدَارُ بَيْنَ الْمَالِكَيْنِ قِسْمَانِ.

ص: 211

الْأَوَّلُ: الْمُخْتَصُّ. فَهَلْ لِلْجَارِ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إِذْنِ مَالِكِهِ؟ قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: نَعَمْ. وَيُجْبَرُ الْمَالِكُ إِنِ امْتَنَعَ، وَالْجَدِيدُ: لَا، وَلَا يُجْبَرُ.

قُلْتُ: الْأَظْهَرُ: هُوَ الْجَدِيدُ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى تَصْحِيحِهِ، صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» ، وَالْجُرْجَانِيُّ، وَالشَّاشِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

فَعَلَى الْقَدِيمِ: إِنَّمَا يُجْبَرُ بِشُرُوطٍ.

أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَحْتَاجَ مَالِكُ الْجِدَارِ إِلَى وَضْعِ جُذُوعٍ عَلَيْهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَزِيدَ الْجَارُ فِي ارْتِفَاعِ الْجِدَارِ، وَلَا يَبْنِي عَلَيْهِ أَزَجًا، وَلَا يَضَعُ عَلَيْهِ مَا يَضُرُّ الْجِدَارَ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَمْلِكَ شَيْئًا مِنْ جُدْرَانِ الْبُقْعَةِ الَّتِي يُرِيدُ تَسْقِيفَهَا، أَوْ لَا يَمْلِكُ إِلَّا جِدَارًا، فَإِنْ مَلَكَ جِدَارَيْنِ، فَلْيَسْقُفْ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ صَاحِبِ الْجِدَارِ، وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْإِمَامُ هَذَا الشَّرْطَ هَكَذَا. بَلْ قَالَ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْجَوَانِبِ الثَّلَاثَةِ مِنَ الْبَيْتِ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ، وَيَحْتَاجُ رَابِعًا. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْكُلُّ لِلْغَيْرِ، فَلَا يَضَعُ قَوْلًا وَاحِدًا. قَالَ: وَلَمْ يَعْتَبِرْ بَعْضُ الْأَصْحَابِ هَذَا الشَّرْطَ، وَاعْتُبِرَ فِي «التَّتِمَّةِ» مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ، وَحَكَى الْوَجْهَيْنِ فِيمَا إِذَا لَمْ يَمْلِكْ إِلَّا جَانِبًا أَوْ جَانِبَيْنِ. وَالْمَذْهَبُ: مَا قَدَّمْنَاهُ. وَإِنْ قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَى الْمَالِكِ. فَإِنْ رَضِيَ بِلَا عِوَضٍ، فَهُوَ عَارِيَةٌ، يَرْجِعُ فِيهَا قَبْلَ وَضْعِ الْجُذُوعِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهَا قَطْعًا، وَبَعْدَهُ، عَلَى الْأَصَحِّ كَسَائِرِ الْعَوَارِي. وَإِذَا رَجَعَ، لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْعِهِ مَجَّانًا. وَفِي فَائِدَةِ رُجُوعِهِ وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَبْقَى بِأَجْرِهِ، وَبَيْنَ أَنْ يُقْلَعَ، وَيَضْمَنُ أَرْشَ النَّقْصِ، كَمَا لَوْ أَعَارَ أَرْضًا لِلْبِنَاءِ. لَكِنْ فِي إِعَارَةِ الْأَرْضِ خَصْلَةٌ ثَالِثَةٌ، وَهِيَ تَمَلُّكُ الْبِنَاءِ بِقِيمَتِهِ، وَلَيْسَ لِمَالِكِ الْجِدَارِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ، فَجَازَ أَنْ يَسْتَتْبِعَ الْبِنَاءَ، وَالْجِدَارُ تَابِعٌ فَيُسْتَتْبَعُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْأُجْرَةُ، وَلَا يَمْلِكُ الْقَلْعَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْقَلْعِ يَصِلُ إِلَى مَا هُوَ خَالِصُ مِلْكِ الْمُسْتَعِيرِ،

ص: 212

لِأَنَّ الْجُذُوعَ إِذَا رُفِعَتْ أَطْرَافُهَا، لَمْ تَسْتَمْسِكْ عَلَى الْجِدَارِ الْبَاقِي. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ أَصْلًا، وَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْقَلْعُ، وَلَا طَلَبُ الْأُجْرَةِ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْإِعَارَةِ، يُرَادُ بِهَا التَّأْبِيدُ، فَأَشْبَهَ الْإِعَارَةَ لِدَفْنِ مَيِّتٍ، فَإِنَّهُ لَا يُنْبَشُ وَلَا أُجْرَةَ. فَعَلَى هَذَا، لَوْ رَفَعَ الْجُذُوعَ صَاحِبُهَا، أَوْ سَقَطَتْ بِنَفْسِهَا، لَمْ يَمْلِكْ إِعَادَتَهَا بِغَيْرِ إِذْنٍ جَدِيدٍ عَلَى الْأَصَحِّ. وَكَذَا لَوْ سَقَطَ الْجِدَارُ فَبَنَاهُ مَالِكُهُ بِتِلْكَ الْآلَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ تَنَاوَلُ مَرَّةٍ. فَإِنْ بَنَاهُ بِغَيْرِ تِلْكَ الْآلَةِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ إِلَّا بِإِذْنٍ جَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ جِدَارٌ آخَرُ.

قُلْتُ: الْخِلَافُ فِي جَوَازِ الْإِعَادَةِ بِلَا إِذْنٍ. فَلَوْ مَنَعَهُ الْمَالِكُ، لَمْ يُعِدْ بِلَا خِلَافٍ، إِذْ لَا ضَرَرَ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ «التَّتِمَّةِ» . وَأَشَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ أَوْ صَرَّحَ بِجَرَيَانِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ مَنْعِهِ، فَقَالَ فِي وَجْهٍ: لَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ لِأَنَّهُ صَارَ لَهُ حَقٌّ لَازِمٌ، هَذَا كُلُّهُ إِذَا وُضِعَ أَوَّلًا بِإِذْنٍ. فَلَوْ مُلِّكَا دَارَيْنِ، وَرَأَيَا خَشَبًا عَلَى الْجِدَارِ، وَلَا يُعْلَمُ كَيْفَ وُضِعَ، فَإِذَا سَقَطَ الْحَائِطُ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهُ، مِنْ إِعَادَةِ الْجُذُوعِ بِلَا خِلَافٍ، كَذَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَ «الشَّامِلِ» وَآخَرُونَ، لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّهُ وُضِعَ بِحَقٍّ، وَشَكَكْنَا فِي الْمُجَوِّزِ لِلرُّجُوعِ. وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ نَقْضَهُ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَهْدَمًا، جَازَ، وَحُكْمُ إِعَادَةِ الْجُذُوعِ مَا سَبَقَ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَهْدَمًا، لَمْ يُمَكَّنْ مِنْ نَقْضِهِ قَطْعًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

أَمَّا إِذَا رَضِيَ بِعِوَضٍ، فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ أَوِ الْإِجَارَةِ، وَسَنَتَكَلَّمُ فِيهِمَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى الْمَالِ، لَمْ يَجُزْ عَلَى قَوْلِ الْإِجْبَارِ؛ لِأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقٌّ، لَا يَجُوزُ أَخْذُ عِوَضٍ مِنْهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا لَا، جَازَ، بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَنِ الْجَنَاحِ؛ لِأَنَّهُ هَوَاءٌ مُجَرَّدٌ.

الْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُشْتَرَكُ، وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ.

الْأَوَّلُ: الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَتِدَ فِيهِ وَتِدًا، أَوْ يَفْتَحَ

ص: 213

فِيهِ كُوَّةً، أَوْ يُتَرِّبَ الْكِتَابَ بِتُرَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ، لَا يَسْتَقِلُّ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِالِانْتِفَاعِ، وَيُسْتَثْنَى مِنَ الِانْتِفَاعِ، ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: لَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا وَضْعَ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ، فَفِي إِجْبَارِ شَرِيكِهِ، الْقَوْلَانِ، كَالْجَارِ وَأَوْلَى.

وَالثَّانِي: مَا لَا تَقَعُ فِيهِ الْمُضَايَقَةُ مِنَ الِانْتِفَاعَاتِ، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِقْلَالُ بِهِ، كَالِاسْتِنَادِ وَإِسْنَادِ الْمَتَاعِ إِلَيْهِ، وَيَجُوزُ فِي الْجِدَارِ الْخَالِصِ لِلْجَارِ مِثْلُهُ، وَهُوَ كَالِاسْتِضَاءَةِ بِسِرَاجِ الْغَيْرِ، وَالِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِهِ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ. وَلَوْ مَنَعَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ مِنَ الِاسْتِنَادِ، فَهَلْ يَمْتَنِعُ؟ وَجْهَانِ؛ لِأَنَّهُ عِنَادٌ مَحْضٌ.

قُلْتُ: أَصَحُّهُمَا: لَا يَمْتَنِعُ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَمِنَ الضَّرْبِ الثَّانِي، مَا إِذَا بَنَى فِي مِلْكِهِ جِدَارًا مُتَّصِلًا بِالْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ، بِحَيْثُ لَا يَقَعُ ثِقَلُهُ عَلَيْهِ.

الْأَمْرُ الثَّانِي: قِسْمَتُهُ، إِمَّا فِي كُلِّ الطُّولِ وَنِصْفِ الْعَرْضِ، وَإِمَّا فِي نِصْفِ الطُّولِ وَكُلِّ الْعَرْضِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالطُّولِ: ارْتِفَاعُهُ عَنِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ سُمْكٌ، وَإِنَّمَا طُولُ الْجِدَارِ: امْتِدَادُهُ مِنْ زَاوِيَةِ الْبَيْتِ إِلَى زَاوِيَتِهِ الْأُخْرَى مَثَلًا، وَالْعَرْضُ: هُوَ الْبُعْدُ الثَّالِثُ، فَإِذَا كَانَ طُولُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، وَعَرْضُهُ ذِرَاعًا، فَقِسْمَتُهُ فِي كُلِّ الطُّولِ وَنِصْفِ الْعَرْضِ: أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ نِصْفَ ذِرَاعٍ مِنَ الْعَرْضِ فِي طُولِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ. وَقِسْمَتُهُ بِالْعَكْسِ: أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَرْضِ ذِرَاعٍ، أَوْ أَيِّ وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ جَازَ. لَكِنْ كَيْفَ يُقَسَّمُ؟ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: يُعَلَّمُ بِعَلَامَةٍ وَخَطٍّ يُرْسَمُ. وَالثَّانِي: يُشَقُّ وَيُنْشَرُ بِالْمِنْشَارِ. وَيَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا الثَّانِي مَا ذَكَرَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: أَنَّهُمَا لَوْ طَلَبَا مِنَ الْحَاكِمِ الْقِسْمَةَ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُجِبْهُمَا، لَأَنَّ شَقَّ الْجِدَارِ فِي الطُّولِ إِتْلَافٌ لَهُ، وَتَضْيِيعٌ،

ص: 214

وَلَكِنَّهُمَا يُبَاشِرَانِهَا بِأَنْفُسِهِمَا إِنْ شَاءَا، وَهُوَ كَمَا لَوْ هَدَمَاهُ، وَاقْتَسَمَا النَّقْضَ. وَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ، وَامْتَنَعَ الْآخَرُ، نُظِرَ إِنْ طَلَبَ النَّوْعَ الْأَوَّلَ، لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ عَلَى الصَّحِيحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ. وَقِيلَ: يُجَابُ وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ، لَكِنْ لَا يُقْسَمُ بِالْقُرْعَةِ، بَلْ يُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّا يَلِيهِ. وَإِنْ طَلَبَ النَّوْعَ الثَّانِيَ، لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ. أَمَّا إِذَا انْهَدَمَ الْجِدَارُ وَظَهَرَتِ الْعَرْصَةُ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَرْصَةُ جِدَارٍ لَمْ يُبْنَ عَلَيْهَا، فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَتَهَا بِالنَّوْعِ الثَّانِي، يُجَابُ قَطْعًا. وَإِنْ طَلَبَهَا بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ قُلْنَا فِي الْجِدَارِ: إِنَّ طَالِبَ مِثْلِ هَذِهِ الْقِسْمَةِ يُجَابُ، وَيُخَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِالشِّقِّ الَّذِي يَلِيهِ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، فَكَذَا هُنَا. وَإِنْ قُلْنَا هُنَاكَ: لَا يُجَابُ، فَهُنَا وَجْهَانِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ: الْإِجَابَةُ. وَإِذَا بَنَى الْجِدَارَ وَأَرَادَ تَعْرِيضَهُ، زَادَ فِيهِ مِنْ عَرْضِ بَيْتِهِ.

الْأَمْرُ الثَّالِثُ: الْعِمَارَةُ، فَإِذَا هَدَمَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجِدَارَ الْمُشْتَرَكِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ صَاحِبِهِ لِاسْتِهْدَامِهِ، أَوْ لِغَيْرِهِ، فَفِي «التَّهْذِيبِ» وَغَيْرِهِ: أَنَّ النَّصَّ إِجْبَارُ الْهَادِمِ عَلَى إِعَادَتِهِ، وَأَنَّ الْقِيَاسَ: أَنَّهُ يُغَرَّمُ نَقْضَهُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ؛ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَيْسَ مِثْلِيًّا.

قُلْتُ: قَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَسَائِرُ الْعِرَاقِيِّينَ وَطَائِفَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ، فِيمَا إِذَا اسْتَهْدَمَ، فَهَدَمَهُ أَحَدُهُمَا بِلَا إِذْنٍ، طَرِيقَيْنِ. أَصَحُّهُمَا: الْقَطْعُ بِإِجْبَارِهِ عَلَى إِعَادَةِ مِثْلِهِ. وَالثَّانِي: فِيهِ الْقَوْلَانِ السَّابِقَانِ فِي الِإِجْبَارِ ابْتِدَاءً، أَحَدُهُمَا عَلَيْهِ إِعَادَةُ مِثْلِهِ، وَالثَّانِي: لَا شَيْءَ. وَقَطَعَ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي أَوَاخِرِ بَابِ (ثَمَرَةِ الْحَائِطِ يُبَاعُ أَصْلُهُ) بِأَنَّ مَنْ هَدَمَ حَائِطَ غَيْرِهِ عُدْوَانًا، يَلْزَمُهُ أَرْشُ مَا نَقَصَ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِنَاؤُهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِثْلِيٍّ، وَالْمَذْهَبُ مَا نُصَّ عَلَيْهِ. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوِ انْهَدَمَ الْجِدَارُ بِنَفْسِهِ، أَوْ هَدَمَاهُ مَعًا لِاسْتِهْدَامِهِ أَوْ غَيَّرَهُ، وَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا

ص: 215

مِنَ الْعِمَارَةِ، فَقَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: إِجْبَارُهُ عَلَيْهَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَصِيَانَةً لِلْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنِ التَّعْطِيلِ. وَالْجَدِيدُ: لَا إِجْبَارَ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى زَرْعِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَكَةِ، وَلِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ يَتَضَرَّرُ أَيْضًا بِتَكْلِيفِهِ الْعِمَارَةَ. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ فِي النَّهْرِ، وَالْقَنَاةِ، وَالْبِئْرِ الْمُشْتَرَكَةِ، إِذَا امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنَ التَّنْقِيَةِ وَالْعِمَارَةِ.

قُلْتُ: لَمْ يُبَيِّنِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ الْأَظْهَرَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ مِنَ الْمُهِمَّاتِ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ، هُوَ جَدِيدٌ. مِمَّنْ صَرَّحَ بِتَصْحِيحِهِ: الْمَحَامِلِيُّ، وَالْجُرْجَانِيُّ، وَصَاحِبُ «التَّنْبِيهِ» وَغَيْرُهُمْ. وَصَحَّحَ صَاحِبُ «الشَّامِلِ» الْقَدِيمَ، وَأَفْتَى بِهِ الشَّاشِيُّ. وَقَالَ الْغَزَّالِيُّ فِي «الْفَتَاوَى» : الْأَقْيَسُ، أَنْ يُجْبَرَ. وَقَالَ: وَالِاخْتِيَارُ إِنْ ظَهَرَ لِلْقَاضِي أَنَّ امْتِنَاعَهُ مُضَارَّةً أَجْبَرَهُ، وَإِنْ كَانَ لِإِعْسَارٍ أَوْ غَرَضٍ صَحِيحٍ أَوْ شَكَّ فِيهِ لَمْ يُجْبَرْ. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي قَالَهُ، وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْإِجْبَارِ، فَالْمُخْتَارُ الْجَارِي عَلَى الْقَوَاعِدِ: أَنْ لَا إِجْبَارَ مُطْلَقًا. - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

وَلَوْ كَانَ عُلُوُّ الدَّارِ لِوَاحِدٍ، وَسُفْلُهَا لِآخَرَ، فَانْهَدَمَتْ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ إِجْبَارُ صَاحِبِ الْعُلُوِّ عَلَى مُعَاوَنَتِهِ فِي إِعَادَةِ السُّفْلِ وَهَلْ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إِجْبَارُ صَاحِبِ السُّفْلِ عَلَى إِعَادَتِهِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ. وَقِيلَ: الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا انْهَدَمَ، أَوْ هُدِمَا، فَلَا شَرْطَ. أَمَّا لَوِ اسْتَهْدَمَ، فَهَدَمَهُ صَاحِبُ السُّفْلِ بِشَرْطِ الْإِعَادَةِ، فَيُجْبَرُ قَطْعًا. وَيَجْرِي الْقَوْلَانِ، فِيمَا إِذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا اتِّخَاذَ سُتْرَةٍ بَيْنَ سَطْحَيْهِمَا، هَلْ يُجْبَرُ الْآخَرُ عَلَى مُسَاعَدَتِهِ؟

قُلْتُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُجْرِيَانِ فِيمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا دُولَابٌ وَتَشَعَّثَ وَاحْتَاجَ إِلَى إِصْلَاحِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

ص: 216

فَرْعٌ

إِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ، فَأَصَرَّ الْمُمْتَنِعُ، أَنْفَقَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، اقْتَرَضَ عَلَيْهِ، أَوْ أَذِنَ الشَّرِيكُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ، لِيَرْجِعَ عَلَى الْمُمْتَنِعِ. فَلَوِ اسْتَقَلَّ بِهِ لِلشَّرِيكِ، فَلَا رُجُوعَ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَقِيلَ: قَوْلَانِ. الْقَدِيمُ: نَعَمْ. وَالْجَدِيدُ: لَا. وَقِيلَ: يَرْجِعُ فِي الْقَدِيمِ. وَفِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ، وَقِيلَ: إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ عِنْدَ الْبِنَاءِ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ رَجَعَ، وَإِلَّا فَلَا. ثُمَّ إِذَا بَنَاهُ، إِنْ كَانَ بِالْآلَةِ الْقَدِيمَةِ، فَالْجِدَارُ بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَ. وَالسُّفْلُ فِي الصُّورَةِ الْأُخْرَى لِصَاحِبِهِ كَمَا كَانَ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ نَقْضُهُ وَلَا مَنْعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ. وَإِنْ بَنَاهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَالْمُعَادُ مِلْكُهُ، وَلَهُ نَقْضُهُ. فَلَوْ قَالَ الشَّرِيكُ: لَا تَنْقُضْ وَأَغْرَمُ لَكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّقْضُ، لِأَنَّا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ نُجْبِرُ الْمُمْتَنِعَ عَلَى ابْتِدَاءِ الْعِمَارَةِ، فَالِاسْتِدَامَةُ أَوْلَى.

فَرْعٌ

إِذَا قُلْنَا بِالْجَدِيدِ، فَأَرَادَ الطَّالِبُ الِانْفِرَادَ بِالْعِمَارَةِ، نُظِرَ، إِنْ أَرَادَهَا بِالنَّقْضِ الْمُشْتَرَكِ، أَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ إِعَادَةَ السُّفْلِ بِنَقْضِ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ، أَوْ بِآلَةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَلِلْآخَرِ مَنْعُهُ. وَإِنْ أَرَادَ بِنَاءَهُ بِآلَةٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَلَهُ ذَلِكَ لِيَصِلَ إِلَى حَقِّهِ. ثُمَّ الْمَعَادُ مِلْكُهُ، يَضَعُ عَلَيْهِ مَا شَاءَ، وَيَنْقُضُهُ إِذَا شَاءَ. فَلَوْ قَالَ شَرِيكُ الْجِدَارِ: لَا تَنْقُضْ لِأَغْرَمَ لَكَ نِصْفَ الْقِيمَةِ، أَوْ قَالَ صَاحِبُ السُّفْلِ: لَا تَنْقُضْ لِأَغْرَمَ لَكَ الْقِيمَةَ، لَمْ يَلْزَمْهُ إِجَابَتُهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَابْتِدَاءِ الْعِمَارَةِ. وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ السُّفْلِ: انْقُضْ مَا أَعَدْتَهُ لِابْنِيَهُ بِآلَةِ نَفْسِي. فَإِنْ كَانَ طَالَبَهُ بِالْبِنَاءِ، فَامْتَنَعَ، لَمْ يُجْبِرْهُ، وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْهُ وَقَدْ بَنَى عُلُوَّهُ، لَمْ يُجَبْ، لَكِنْ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ السُّفْلَ بِالْقِيمَةِ، ذَكَرَهُ فِي

ص: 217

«التَّهْذِيبِ» ، وَإِنْ لَمْ يَبْنِ عَلَيْهِ الْعُلُوَّ، أُجِيبَ صَاحِبُ السُّفْلِ، وَمَتَى بَنَى بِآلَةِ نَفْسِهِ، فَلَهُ مَنْعُ صَاحِبِهِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمُعَادِ، بِفَتْحِ كُوَّةٍ وَغَرْزِ وَتِدٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنَ السُّكُونِ عَلَى الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ مِلْكُهُ. وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَى الْبِئْرِ وَالنَّهْرِ، فَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الشَّرِيكِ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ وَغَيْرِهِ، وَلَهُ مَنْعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِالدُّولَابِ وَالْبَكَرَةِ الْمُحْدَثَيْنِ. وَلَوْ كَانَ لِلْمُمْتَنِعِ عَلَى الْجِدَارِ الْمُنْهَدِمِ جُذُوعٌ، فَأَرَادَ إِعَادَتَهَا بَعْدَ أَنْ بَنَاهُ الطَّالِبُ بِآلَةِ نَفْسِهِ، لَزِمَهُ تَمْكِينُهُ، أَوْ نَقَضَ مَا أَعَادَ لِيَبْنِيَ مَعَهُ الْمُمْتَنِعُ، وَيُعِيدُ جُذُوعَهُ.

فَرْعٌ

لَوْ تَعَاوَنَا عَلَى إِعَادَةِ الْجِدَارِ الْمُشْتَرَكِ بِنَقْضِهِ، بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ. فَلَوْ شَرَطَا زِيَادَةً لِأَحَدِهِمَا، لَمْ يَصِحَّ عَلَى الصَّحِيحِ. وَفِي وَجْهٍ: يَصِحُّ، لِتَرَاضِيهِمَا. فَلَوِ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْبِنَاءِ بِالنَّقْضِ الْمُشْتَرَكِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لَهُ الثُّلُثَانِ، جَازَ، وَيَكُونُ السُّدُسُ الزَّائِدُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَاسْتَدْرَكَ الْإِمَامُ فَقَالَ: هَذَا مُصَوَّرٌ فِيمَا إِذَا شَرَطَ لَهُ سُدُسَ النَّقْضِ فِي الْحَالِ، لِتَكُونَ الْأُجْرَةُ عَتِيدَةً. فَأَمَّا إِذَا شَرَطَ السُّدُسَ الزَّائِدَ لَهُ بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ لَا تُؤَجَّلُ. وَلَوْ بَنَاهُ أَحَدُهُمَا بِآلَةِ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْآخَرِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ثُلُثَا الْجِدَارِ لَهُ، فَقَدْ قَابَلَ ثُلُثَ الْآلَةِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَعَمَلُهُ فِيهِ بِسُدُسِ الْعَرْصَةِ الْمَبْنِيِّ عَلَيْهَا. وَفِي صِحَّةِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ قَوْلَانِ، لِجَمْعِهَا بَيْعًا وَإِجَارَةً. وَشَرْطُ صِحَّتِهَا: مَعْرِفَةُ الْآلَاتِ وَصِفَةِ الْجِدَارِ، وَيَعُودُ النَّظَرُ فِي شَرْطِ ثُلُثِ النَّقْضِ فِي الْحَالِ، أَوْ بَعْدَ الْبِنَاءِ. فَرْعٌ

إِذَا كَانَ لَهُ حَقُّ إِجْرَاءِ مَاءٍ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ، فَانْهَدَمَ، لَمْ يَجِبْ عَلَى مُسْتَحِقِّ الْإِجْرَاءِ

ص: 218

مُشَارَكَتُهُ فِي الْعِمَارَةِ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْآلَاتِ وَهِيَ لِمَالِكِهَا. وَإِنْ كَانَ الِانْهِدَامُ بِسَبَبِ الْمَاءِ، فَلَا عِمَارَةَ عَلَيْهِ أَيْضًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ، لَكِنَّ الظَّاهِرَ، أَنْ لَا عِمَارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْهِدَامَ تَوَلَّدَ مِنْ مُسْتَحِقٍّ.

الْفَصْلُ الثَّالِثُ

فِي السَّقْفِ

فَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ، وَالْعُلُوُّ لِرَجُلٍ، فَقَدْ يَكُونُ السَّقْفُ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا مُشْتَرَكًا، وَقَدْ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا. وَحُكْمُ الْقِسْمَيْنِ فِي الِانْتِفَاعِ، يُخَالِفُ حُكْمَهُمَا فِي الْجِدَارِ، فَيَجُوزُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ، الْجُلُوسُ وَوَضْعُ الْأَثْقَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْعَادَةِ، وَلِصَاحِبِ السُّفْلِ الِاسْتِكْنَانُ بِهِ، وَتَعْلِيقُ مَا لَيْسَ لَهُ ثِقَلٌ يَتَأَثَّرُ بِهِ السَّقْفُ، كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ قَطْعًا. وَفِي غَيْرِهِ، أَوْجُهٌ. أَحُدُهَا: لَا يَجُوزُ أَصْلًا. وَالثَّانِي: يَجُوزُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ وَتِدٍ فِي السَّقْفِ. وَأَصَحُّهَا: يَجُوزُ مُطْلَقًا عَلَى الْعَادَةِ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى وَتِدٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ إِثْبَاتُ الْوَتِدِ وَالتَّعْلِيقُ فِيهِ، فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ غَرْزُ الْوَتِدِ فِي الْوَجْهِ الَّذِي يَلِيهِ. وَإِنْ جَوَّزْنَاهُ لَهُ، فَفِي جَوَازِهِ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ وَجْهَانِ، لِنُدُورِ حَاجَتِهِ، بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ.

فَرْعٌ

إِذْنُ الْمَالِكِ لِغَيْرِهِ فِي الْبِنَاءِ عَلَى مِلْكِهِ، قَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ الْإِعَارَةُ، وَقَدْ يَكُونُ بِعِوَضٍ. فَمِنْ صُوَرِهِ، أَنْ يُكْرِيَ أَرْضَهُ، أَوْ رَأْسَ جِدَارِهِ، أَوْ سَقْفَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَيَجُوزُ، وَسَبِيلُهُ سَبِيلُ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ. وَمِنْهَا أَنْ يَأْذَنَ فِيهِ بِصِيغَةِ الْبَيْعِ، وَيُبَيِّنُ الثَّمَنَ، وَهُوَ صَحِيحٌ، خِلَافًا لِلْمُزَنِيِّ رحمه الله. ثُمَّ يُتَصَوَّرُ

ص: 219

ذَلِكَ بِعِبَارَتَيْنِ. إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَبِيعَ سَطْحَ الْبَيْتِ أَوْ عُلُوَّهُ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَ حَقَّ الْبِنَاءِ عَلَى مِلْكِهِ. وَالْأُولَى هِيَ عِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَجَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ. وَالثَّانِيَةُ: عِبَارَةُ الْإِمَامِ، وَالْغَزَّالِيِّ، - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تَعَالَى. وَالْأَشْبَهُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ. ثُمَّ فِي حَقِيقَةِ هَذَا الْعَقْدِ، أَوْجُهٌ. أَحَدُهَا أَنَّهُ بَيْعٌ وَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي بِهِ مَوَاضِعَ رُءُوسِ الْجُذُوعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِجَارَةٌ. وَإِنَّمَا لَمْ يُشْرَطْ تَقْدِيرُ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَارِدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ تُتْبَعُ فِيهِ الْحَاجَةُ. فَإِذَا اقْتَضَتِ التَّأْبِيدَ أُبِّدَ كَالنِّكَاحِ. وَأَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا وَلَا إِجَارَةً مَحْضَيْنِ، بَلْ فِيهِ شِبْهُهُمَا، لِكَوْنِهِ عَلَى مَنْفَعَةٍ، لَكِنَّهَا مُؤَبَّدَةٌ. فَإِذَا قُلْنَا: لَيْسَ بَيْعًا، فَعَقَدَهُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمُدَّةٍ، انْعَقَدَ أَيْضًا عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الصُّلْحِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُوَافِقُ الْبَيْعَ فِي التَّأْبِيدِ، يُوَافِقُهَا فِي الْمَنْفَعَةِ. وَإِذَا جَرَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ، وَبَنَى الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُكَلِّفَهُ النَّقْصَ لِيَغْرَمَ لَهُ أَرْشَ النَّقْضِ. وَلَوِ انْهَدَمَ الْجِدَارُ أَوِ السَّقْفُ بَعْدَ بِنَاءِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ وَإِعَادَةِ مَالِكِهِ، فَلِلْمُشْتَرِي إِعَادَةُ الْبِنَاءِ بِتِلْكَ الْآلَاتِ أَوْ بِمِثْلِهَا. وَلَوِ انْهَدَمَ قَبْلَ الْبِنَاءِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْبِنَاءُ عَلَيْهِ إِذَا أَعَادَهُ. وَهَلْ يُجْبِرُهُ عَلَى إِعَادَتِهِ؟ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. وَلَوْ هَدَمَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَوْ غَيْرُهُ السُّفْلَ قَبْلَ بِنَاءِ الْمُشْتَرِي، فَعَلَى الْهَادِمِ قِيمَةُ حَقِّ الْبِنَاءِ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ. فَلَوْ أُعِيدَ السُّفْلُ، اسْتَرَدَّ الْهَادِمُ الْقِيمَةَ لِزَوَالِ الْحَيْلُولَةِ. وَلَوْ كَانَ الْهَدْمُ بَعْدَ الْبِنَاءِ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: إِنْ قُلْنَا: إِنَّ مَنْ هَدَمَ جِدَارَ غَيْرِهِ، يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهُ، لَزِمَهُ إِعَادَةُ السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ. وَإِنْ قُلْنَا: عَلَيْهِ أَرْشُ النَّقْصِ، فَعَلَيْهِ أَرْشُ نَقْصِ الْآلَاتِ، وَقِيمَةُ حَقِّ الْبِنَاءِ لِلْحَيْلُولَةِ. وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَنْفَسِخُ هَذَا الْعَقْدُ بِعَارِضِ هَدْمٍ وَانْهِدَامٍ، لِالْتِحَاقِهِ بِالْبُيُوعِ.

فَرْعٌ

سَوَاءٌ جَرَى الْإِذْنُ فِي الْبِنَاءِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِهِ، يَجِبُ بَيَانُ قَدْرِ الْمَوْضِعِ الْمَبْنِيِّ

ص: 220