المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الطهارة قال القاضي الجليل أبو محمد عبد الوهاب بن علي - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ١

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌كتاب الطهارة قال القاضي الجليل أبو محمد عبد الوهاب بن علي

‌كتاب الطهارة

قال القاضي الجليل أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر المالكي: ((كتاب الطهارة: الطهارة من الحدث فريضة واجبة على كل من لزمته الصلاة)) إلى قوله: ((والغسل فيما (عداهما))).

شرح: الطهارة في اللغة هي النظافة والنزاهة، قال الله تعالى:{وثيابك فطر*} [المدثر: 4] والمراد تطهير القلب من دنس الشرك، والخطاب حينئذ للنبي- عليه السلام والمراد غيره، أو الثياب من النجاسات على اختلاف أهل التأويل فيه.

وهي في الشرع قسمان: عينية وحكمية.

ص: 149

ولما انقسم ظاهر الطهارة الشرعية إلى قسمين: طهارة حدث وهي الحكمية، وطهارة خبث وهي العينية، قيد عموم اللفظ وبين مقصوده، فخرجت طهارة الخبث بقوله:((من الحدث)): وبقى اللفظ شاملًا لطهارة الحدثين الأكبر والأصغر.

وقد طال كلام الشيوخ في قوله: ((فريضة واجبة)): وقد قصد به الترادف على معنى التوكيد، والتحرز من مذهب أبي حنيفة وأبي زيد،

ص: 150

حيث فرقا بين الواجب والفرض، فالفرض المقصود المدرك، والواجب ما كان مظنون المدرك، وهو اصطلاح محض إذ لا يلزم من اختلاف مدرك الشيء اختلاف الشيء في نفسه وعبر عنه بعض الحنفية فقال: الواجب مخصوص على ما أوجبته السنة، ولا يكفر المخالف فيه. والفرض هو الواجب بالكتاب الذي يكفر جاحده بغير ارتياب، فكل فرض عندهم واجب، وليس كل واجب فرضًا، والصحيح أنهما اشتركا في خصوصية الرجحان الذي هو فعل الواجب، فلا فرق. ونظير ذلك في الترادف أيضًا الفاسد والباطل وكلاهما بمعنى واحد في العبادات والمعاملات عندنا. وقد قال ابن فورك في تفسير القرآن: ((الفرض بجعل جاعل،

ص: 151

والواجب يطلق على الواجب بالأدلة لا بجعل جاعل)) فهذه مسألة أخرى في الفرق بينهما.

ولذلك لما كان من ضرورة الواجب تعلقه بالمكلف، قال:((على كل من لزمته الصلاة)): وهو المسلم البالغ العاقل، والتمكن من الأداء شرطه.

وقد تفرق العبادة على ضربين، منها ما هو مراد لنفسه، ومنها ما هو مراد لغيره كالطهارة فتجب بوجوب ما تراد له، فلذلك قال:((على كل من لزمته الصلاة))، ولم يقل:((على كل عاقل)) لأن الصلاة يسقط أداؤها عن العاقل لمانع كالحيض، وإذا سقط المشروط سقط شرطه، فإذا وجب عليها أداء الصلاة وجب حينئذ تحصيل شرطها فحينئذ يتناولها كلام القاضي، وتحقق عليها معنى التكليف، فهي داخلة تحت عموم لفظه خارجة عنه، باعتبار حالين.

وأيضًا هل يدخل تحت لفظه الصبي المأمور بالصلاة أم لا؟ لأن الصلاة وإن كانت غير لازمة، فشرطها عند فعلها واجب ضرورة فلا تقع شرعية إلا بتحصيل شرطها، فالشرط عليه واجب، وإن كان المشروط مندوبا.

وقد خالف في هذا بعض المذاكرين، ورأى أن الطهارة في حقه ندب كالصلاة إذ لو ثبت في حقه الوجوب لستحق العقاب بتركه، فيلزم القول (بتكليفه) وهو خلاف الإجماع لقوله- صلى الله عليه وسلم:(رفع القلم عن ثلاثة) فذكر

ص: 152

الصبي فيهم، فاعتبره بعضهم بحكم المشروط، وقال بالمثبوت فيهما في حقه، والامتناع عندنا أنه قد يجب الشرط، وإن كان المشروط غير واجب بدليل الطهارة لمس المصحف، والطواف على ما فيه من حق القائل أن يقول: إن الصبي مكلف بالصلاة بدليل لحوق العقاب الناجز له عند بلوغ العشر سيما أنه يوقعها بقصد العبادات، وصورة الطاعة لا على معنى العبث والعادة، وهو مقتضى الأمر، فإن قال: إنما الخطاب متوجه على الولي والحاكم، ولا يكون الأمر (امرًا) (قلنا): إن لم تكن الصلاة مطلوبة من الصبي فلا معنى لأمر الولي إياه بها. فإذا صح ما ذكرناه أنه مأمور بها ندبا، ثبت في حقه قسم من أقسام التكليف، إلا أن يدعي الخصم أن المندوب ليس من أقسام التكليف، فإن قيل: إنما أمر بالصلاة للتهديد والتأنيس، قلنا: وبه نقول. وغاية ذلك أبدًا العلة، وذلك يستلزم وجود المعلول.

وقد قال كثير من أهل العلم إنها واجبة (عليها) تعلقًا بلفظ الأمر، وبمقتضى الأمر الناجز الذي هو حاصله الإيجاب سيما أن التكليف حكم شرعي، وصاحب الشرع قد أمر بأمره، وصرح بتهديده وضربه. وكذلك

ص: 153

صلاة النافلة غير لازمة والطهارة لها عند فعلها لازمة، فقد تحقق وجوب الطهارة من الحدثين على من لم تلزمه الصلاة من المكلفين كالطائف وماس المصحف والتنفل، ومن غير المكلفين كالصبيان فيصدق حينئذ العموم والخصوص بالقضية القياسية، فيقال: كل من لزمته الصلاة لزمته الطهارة لها، وليس كل من لزمته الطهارة لزمته الصلاة كالمتنفل، وماس المصحف. والصبي، والطائف، اللهم إلا على القول بوجوبها على الصبي تعلقًا بمقتضى الأمر، فالقضية متعاكسة في حقه، والشرط والمشروط حينئذ واجبان.

وقد رأى بعض فقهاء الأصوليين (أن الوضوء للنافلة وأن الوجوب فيها لا يتحقق، بدليل أنه إن قام إلى النافلة فحينئذ يتحقق إيجاب الوضوء عليه)، عند الخصم إما أن يجيزوا له الترك مطلقًا أو لا؟ فإن كان الأول سقط الوجوب مطلقًا إلى غير بدل، وذلك إبطال للنفلية، وإن كان الثاني لزم انقلاب النفل واجبًا وهو باطل. فالوضوء للنافلة حينئذ على (الأصل) النفلية، فإذا كان فعلها بدون الوضوء محرمًا كان تركها حينئذ واجبًا، وبقي حكم النفلية على أصله.

والتزم بعض المتأخرين أنه واجب من حيث إنه إذا كان فعلها بغير طهارة محرمًا، كان فعل الطهارة لها واجبًا، وللقائل أن يقول: إذا كان فعلها بغير طهارة محرمًا، كان تركها حينئذ واجبًا، حملا للضد على ضده.

ومنهم من لزم الفرق بين الصبي والمتنفل، فأوجب الوضوء على المتنفل دون الصبي، اعتمادًا على أن الصبي غير مكلف بخلاف المتنفل، وهو

ص: 154

ضعيف، لاشتراكهما في نفي (التكليف في) صور الفرض، وافتراقهما في غير ذلك لا اعتبار له في هذا المحل.

وقسم بين أنواع الطهارة وحصرها- رحمه الله في ثلاثة، وقدم الصغرى إجمالًا وتفصيلًا على مقتضى الآية (وبينها) على مسيس الحاجة على (علمها) بتكررها كل يوم وليلة. قال الله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6]((الآية))، تسمليًا على أنه الأكثر الأغلب، فكان تقديم بيانه أهم.

قال إمام اللسان: ((كأنهم يقدمون الذي ما به أهم بهم، وهم ببيانه أعني، وإن كنا جميعًا يهمانهم ويعنيانهم)).

وسمى التيمم بدلًا، وقد اختلف الشيوخ في ذلك، فسماه بعضهم بدلًا لأنه يقوم مقام المبدل منه في الاستباحة به فقط أو مطلقًا على ما روى،

ص: 155

وأباه بعضهم نظرًا إلى أن البدلية تقتضي التساوي كخصال الكفارة (المخيرة) فيها، والترتيب بين هاتين الطهارتين قد أتى إجماعًا، وأباه بعضهم نظرًا إلى خصوص الأحكام المذهبية، وسماه بعضهم رخصة، وفيه نظر لفقدان السبب المحرم الذي يتوقف إطلاق اسم الرخصة على (قيامه) إلا أن يثبت أن استباحة الصلاة بغير الطهارة المائية محرم بالأصل، وقد (بقي) أهل الاصطلاح تسميته رخصة بوجوبه، ظنًا (منه) أن الرخصة تنافي الوجوب وفيه ضعف، إذ أن الرخصة قد تجب في بعض الأحوال.

وسماه المحققون فرضًا مستقلًا بنفسه في محله وهو الأصح عندنا، ثم لما كان من ضرورة الوضوء (محالة) تعرض لذكرها وهي أربعة إجمالًا،

ص: 156

وثمانية تفصيلًا، وهي ثمانية بالإجماع لا زائد عليها ومنها مفروض وما ليس بمفروض، ومنها مغسول بلا خلاف كالوجه واليدين، ومنها ممسوح بلا خلاف كالرأس، ومختلف (فيه) كالرجلين، ولم يذكر فيها غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، وهو ثابت فيها من جملة السنن، أو الفضائل على خلاف فيه.

وقد انعقد إجماع الأمة على أن الصلاة لا تستباح إلا بطهارة، استنادًا إلى نص الكتاب والسنة، قال الله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، والمعنى: إذا أردتم القيام. قال زيد بن أسلم: معناه من المضاجع، وقال غيره: المعنى إذا قمتم محدثين، و [قد] اضطر العلماء إلى تقدير هذا المحذوف ضرورة أن الوضوء لكل صلاة غير واجب، وهو مقتضى الظاهر، ولم يقل به إلا من شذ، ولم يصح عن أحد من السلف

ص: 157

القول به الآن، وفي الصحيح عن النبي- صلى الله عليه وسلم:(لا يقبل الله صلاة بغير طهور، ولا صدقة من غلول)، والأحاديث في ذلك كثيرة متظافرة على إيجاب الوضوء (كثير) الصلاة، ولذلك اتفق العلماء عليه، وإنما اختلفوا في وقت وجوبه، والصحيح أن الطهارة إنما تجب للصلاة، والصلاة لا تجب إلا بعد دخول الوقت، فالطهارة لا تجب إلا بعد دخوله. وقد قال بعض الفقهاء إن الطهارة تجب في وقت غير معين. وقال الشافعي- من شيوخ البغداديين-

ص: 158

الوضوء قبل الوقت نفل يسد مسد الفرض وهو أحد أقوال الحنفية في الصلاة المعجلة في أداء الوقت، والصحيح عندنا أن النفلية متعلقة بالتقديم لا بأصل (النفل) وهو اختيار المحققين.

قال القاضي- رحمه الله: ((وأحكامه ثلاثة أنواع: فرض، وسنة، وفضيلة)). إلى قوله: ((ونحن نبين تفصيله إن شاء الله)).

شرح: ذكر في هذه الجملة فرائض الوضوء وسننه وفضائله، وحصر الفرائض في ستة، والمتفق عليها الأعضاء الأربعة الثابتة بنص القرآن، وأما الماء المطلق فمتفق عليه في المذهب. وفي المذهب قولان في وجوب النية في الوضوء، والمشهور من المذهب أنها واجبة فيه، وفي جميع العبادات، بناء على أن جانب العبادات هو المقصود في الوضوء، والشاذ لا يفتقر إلى نية، بناء على أنه مفهوم المعنى المقصود منه النظافة وهو قول المخالف.

ص: 159

قال الإمام أبو عبد الله (والشيخ أبو الطاهر وعلى ذلك يتخرج الخلاف في الغسل، واحتج له الإمام أبو عبد الله) بقوله- عليه السلام: (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) وهو فيه نظر، لأن ذلك الوضوء عري عن النية لفظًا بما عري فيها وجودًا أو قصدًا، وإنما عولوا على تغليب الماء كما ذكروا.

ولما غلب العراقيون على الوضوء حكم النظافة، ورأوا أنه مفهوم المعنى، لم (يوجبوا) النية فيه، كما أنها في إزالة النجاسة غير (واجب)

ص: 160

وعلل ذلك أصحابنا بوجهين، فمنهم من قال: لأنها مفهومة المعنى، والمقصود منه الإزالة، فكيف حصلت حصل المقصود، وقال بعضهم إنما لم تفتقر إزالة النجاسة إلى النية لأنها من باب التروك، فأشبهت ترك الزنا واللواط وغير ذلك من المنهيات التي لا تفتقر إلى النية. وكذلك قال كثير من الأصوليين إن الكفار مخاطبون بالمنتهيات دون المأمورات، بناء على ما ذكرناه من المتروك لا يفتقر إلى نية، وهو خطأ، لأن كثيرًا من الأفعال أيضًا كذلك، كرد الودائع والمغصوب ونحوه. وألحق بعض أصحابنا بالفرائض الفور والترتيب وهو قول الشافعي، وألحق ابن

ص: 161

الماجشون نقل الماء إلى الأعضاء بالفرائض، والمشهور من المذهب أن ذلك لا يلتحق بالوجبات.

وحصر (السنن) في سبعة، والفضائل في ثلاثة جريًا على ما ارتضاه المذهب، وقد فصل ذلك (بعد هذا).

قال القاضي- رحمه الله: ((أما النية فقد بينا أنها من فروضه)) إلى قوله: ((كقصده استباحة جميعه)).

شرح: النية في كلام العرب عبارة عن القصد، ومن كلام العرب:((نواك الله بحفظه)) أي قصدك وقال الشاعر:

إلى الله أشكو نية شقت العصا

هي اليوم شتى وهي أمس جميع

وهي في الشريعة عبارة عن قصد تخليص أعمال الطاعة له سبحانه لتتبين أعمال العادات من أعمال العبادات، واختص القول في بعض أحكامه وصفاته،

ص: 162

ومحل القصد القلب عندنا، وعند بعض المتكلمين الدماغ وهذا لا قاطع عليه.

واختلف المذهب في محله من الطهارة، فقيل عند ابتدائه في العمل المشروع فيها، حكاه القاضي أبو محمد والقاضي أبو الوليد وغيرهما عن المذهب. قال القاضي في التلقين:((يبدأ المتوضئ بعد النية بغسل يديه))، وهذا نص على أن المراعى ابتداء العمل المشروع، وقد قيل عند ابتدائه بالعمل المفروض، وبه قال الشافعي وبعض المالكية.

ص: 163

قال الإمام أبو عبد الله: اختلف الناس في محلها الخفي، وفي محلها الشرعي، أما محلها الخفي فقيل القلب، وقيل الدماغ، وأما محلها الشرعي ففي المذهب قولان، فقيل المراعى أول العلم المشروع، وقيل المراعى أول العمل المفروض والأولى مراعاتها في أول العمل المشروع، واستصحابها إلى آخر العبادات وهو جمع بين القولين.

والدليل على وجوب النية الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} [البينة: 5] وقال تعالى: {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} [الشورى: 20] فبين سبحانه أنها لا تكون نصيبًا في الآخرة إلا لمن قصدها بالعمل، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إنما الأعمال بالنيات) والخبر متواتر في المعنى ولذلك قال جمهور الفقهاء بمقتضاه،

ص: 164

وأوجبوا النية في الوضوء، والصلاة والصوم، وغير ذلك من أعمال الطاعات التي ظهر قصد (التعبد)[بها].

واختلفوا في وجوب النية في مواضع، منها: غسل الجمعة، وظاهر المذهب افتقاره إلى النية، تغليبًا لحكم العبادات، والقول الثاني: أنه لا يفتقر إلى النية تغليبًا لحكم النظافة، وكذلك اختلفوا في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء، والذكر من المذي، فيه قولان في المذهب، وسنذكر ذلك في محله.

وإذا قلنا بوجوب النية -كما ذهب إليه الجمهور -فمن شرطها أن تكون مقارنة للفعل، فإن تأخرت عنه فهي مجزئة، فإن تقدمت بالزمان الطويل فكذلك، وإن تقدمت بالزمان اليسير. ففيه قولان مبنيان على ما قارب الشيء هل حكمه كحكم الشيء أم لا؟.

واختلف إذا عدمت النية عند شروعه في العمل، ففي المذهب قولان المشهور عدم الإجزاء، والشاذ الإجزاء، بناء على الاسترسال ونفيه، وقال (ابن الماجشون): يجزئه في البحر، لأنه لا يقصد غالبًا إلا لغسل الجنابة بخلاف الحمام، فإنه يقصد غالبًا للنظافة. وروى عن ابن القاسم أنه أجزأه

ص: 165

في البحر والحمام إذا ثبت قصده على غسل الجنابة، والذي اختاره الإمام أبو عبد الله وجوب استصحابها حكمًا لا ذكرًا، وذلك ما دام العمل متصلاً، فإن انفصل بعضه عن بعض لزم تجديد النية ذكرًا. واختلفوا هل تفرق النية على أعضاء الوضوء أم لا؟ وفيه قولان: المنصوص عدم التفريق نظرًا إلى أنها عبادة واحدة وقربة متشخصة، فكأن الأعضاء كلها عضو واحد (فاستحب) حكم النية على جميعها (استحبابه) على عضو واحد. والشاذ أنها تفرق على الأعضاء فاستقرأه القاضي أبو محمد عبد الوهاب من المدونة وفيه نظر، ومبناه على أن كل عضو مخصوص بحكمه متعبد بمسحه أو غسله، فلزم تخصيصه كسائر العبادات.

قوله: "والذي يلزمه أن ينوي بوضوئه رفع الحدث (أو استباحة) فعل معين يتضمن رفع الحدث": هو كما ذكره، وبين كل واحد من القسمين بالمثال، انظر: هل يكفي الإطلاق في اعتقاد رفع الحدث أو يفتقر إلى النية بالقيد الخاص، وتعيين الحدث الموجب للطهارة، فينوي الأصغر بعينه أو

ص: 166

الأكبر على حكم الوجوب، فيه تأويل، والذي يجب التعويل عليه أنه مأمور باستحضار كل واحد منهما بقيده الخاص، لقيام سببه عند الشروع فيه، فإن إطلاق اللفظ والقصد من غير تقييد لفظ ولا قصد، ولم يعين حدث، فظاهر المذهب أنه لا يجزئه، وقال الشيخ أبو إسحاق: من اغتسل ينوى التطهر ولم ينو الجنابة، قال مالك مرة لا يجزئه، وقال مرة يجزئه، وعلى ذلك أكثر أصحابنا.

قلت: الصحيح عندنا (لا يجمع داخل) تحت الإطلاق، لأنه أقل مسمياته، ولا يتحقق مدلول اللفظ، ومقتضى القصد دونه، ولا يدخل الأكبر مستخص قصدًا، ولا منصوصًا عليه لفظًا، ويحتمل أن يدخل لشمول اللفظ واسترسال القصد. ولو لزمه رفع الحدث الأكبر فنوى الأصغر. فلم يختلف العلماء المشترطون للنية أنه لا يجزئه في الطهارة المائية لاختلاف الموجب معًا، وأما في الطهارة الترابية ففيه قولان في المذهب الإجزاء لاتفاق الموجب ونفيه لاختلاف الموجب حكاهما القاضي أبو الوليد وغيره. انظر: لو لزمه رفع الحدث الأصغر فنوى الأكبر هل يجزئه الاندراج الجزئي تحت الكلي

ص: 167

أم لا؟ بخروجه عن (ميز) الشرع، وإفساده الأوضاع الشرعية بالقلب والتغير، فكأنه كالغاية، ولو قصد الطهارة المطلقة لم يرتفع عنه الحدث لصدق اللفظ على طهارة النجس فلا يدخل في ذلك رفع الحدث إلا بقصد معين، وأما المعين المتضمن لرفع الحدث فهو أن يتوضأ لاستباحة فعل معين لا يستباح إلا بعد التطهير من الحدث، وهذا الضابط يدخل تحته قسمان:

الأول: الصلوات على اختلاف أنواعها إلا ما لا يستباح إلا بالطهارة بالوضوء (يتوضأ) لها (فرضًا) كانت أم نفلاً)، فإذا توضأ لاستباحة الصلاة عم أثره، ونفد حكمه إلا أن يقتصر الوضوء على صلاة بعينها معينة مثل أن يقول: أتوضأ لصلاة الظهر فقط، فأجراه الشيخ أبو الحسن بن القصار على الخلاف في رفض الوضوء هل هو مؤثر أم لا؟ فيختلف في هذه الصورة فهل يستباح بهذا الوضوء كل الصلوات نظرًا إلى أن ذلك هو مقتضى الوضوء الشرعي، فالقصد فيه مخالف لقانون الشرع، فجرت صورة الوضوء على ظاهر حكمها، وعم أثرها، وانتفى القصد بخروجها عن وضع الشرع، أو لا يستباح به شيء من الصلوات، وهو قول بعض أصحاب الشافعي، وحكى

ص: 168

في المذهب. سمعناه في المذاكرة. نظرًا إلى أن قصد النية أخرجها عن حكم النية الشرعية المشترطة في العبادات، وخصوصًا في هذا الباب، فإذا خرجت عن سنتها، وغيرت عن وضعها وقعت فاسدة، فلم يترتب عنها (أثر) مطلقًا، أو يستباح به الصلاة المعينة وحدها لقوله عليه السلام:(وإنما لكل امرئ ما نوى)، ومن هذا النمط أن يبول ويتغوط، فيتوضأ قاصدًا لرفع حكم البول، قاصدًا أن لا يرفع حكم الغائط، فأجرى الإمام أبو عبد الله الثلاثة الأقاويل المذكورة فيه.

القسم الثاني: الطواف بالبيت، ومس المصحف، والمعول عليه من مذهبنا أنه كالصلاة، فإذا توضأ لذلك استباح (به) الصلاة، لأن الوضوء مشروط في ذلك اشتراطه في الصلاة، واختلف المذهب في مسائل:

الأولى: إذا نوى التبرد، ورفع الحدث معًا، ففيه قولان في المذهب، الإجزاء، ونفيه، وجعله الإمام أبو عبد الله من قسم النية المركبة، وفيه مجاز، إن النية لا تركيب فيها، وإنما التعدد في المتعلق فقط.

الثانية: إذا توضأ تعلما هل يستباح به الصلاة أم لا؟ فيه نظر، وتحصيل

ص: 169

الأمر أنه إن نوى التعليم فقط من غير استحضار قصد رفع حكم الحدث، لم تستبح به الصلاة، وإلا استباحها، إذ رفع حكم الحدث لا يناقض التعليم.

الثالثة: اختلفوا إذ توضأ لما شرعت له الطهارة استحبابًا، مثل أن يتوضأ لقراءة القرآن طاهرًا، أو للدخول على (السلطان) وللنوم ونحوه، فحكى أبو محمد أنه لا يجوز الصلاة من ذلك، وحكى ابن حبيب أنه اختلف أصحابنا في صحة الصلاة بالوضوء للنوم، ووقع في المختصر أنه يصلي بذلك، والخلاف فيه كله مشهور عندنا.

في المجموعة: من توضأ للدخول على السلطان فإنه يصلي به. قال القاضي أبو الوليد: الوضوء لدخول المسجد، ولدخول مكة، وللسعي بين الصفا والمروة، وللوقوف بعرفة مستحب بالوضوء للنوم، فيجري قول ابن حبيب. قال الإمام أبو عبد الله: المشهود إذا توضأ لما تستحب الطهارة له أن حدثه لا يرتفع.

ص: 170

الرابعة: إذا توضأ مجددًا، ثم ذكر أنه محدث، هل يجزئه ذلك عن وضوء حدث أم لا؟ فيه قولان، والمشهور عندنا أنه لا يجزئه. وكذلك وقع في كتاب ابن سحنون، وحكى الشيخ أبو محمد في النوادر عن أشهب أن ذلك يجزئه، ومبنى المسألة على الخلاف في نية النفل هل تنوب عن نية الفرض أم لا؟ ومن ذلك نشأ الخلاف فيما إذا اغتسل للجمعة ناسيًا للجنابة، والمشهور أنه لا يجزئه وقال ابن وهب وابن كنانة

ص: 171

ومطرف وابن الماجشون يجزئ غسل الجمعة عن غسل الجنابة، كمن توضأ للنافلة، فإنه يصلي به الفريضة.

الخامسة: إذا توضأ تبردًا هل تستباح به الصلاة أم لا؟ قولان المشهور لا تستباح بها، ويتخرج الإجزاء على القول بأن النية غير مشترطة في الوضوء وهو شاذ، حكاه ابن المنذر، ويلحق بذلك إن توضأ لما (لا) تشترط له الطهارة كالمس ونحوه.

فرع: لا يلزم في وضوء ولا غسل أن يعين بنيته الفعل المستباح، ويلزم ذلك في التيمم، وحكى ابن حبيب أن ذلك مشترط على (مستعمل)، والمشهور أن ذلك على معنى الاستحباب لا على معنى الإيجاب، فانظر الفرق.

قال القاضي رحمه الله: "وأما الوجه فالفرض إيعاب جميعه" إلى قوله: "وأما الرأس فهو ما صعد عن الجبهة".

شرح: ذكر في هذا الفصل حكم الوجه، وما يتصل به، وحكم اليدين،

ص: 172

وقد أجمع العلماء على أنها من الأعضاء المغسولة. أما الوجه فلا خلاف في المذهب في حده طولاً في حق الأمرد، بأنه من منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذقن. واحترز بالمعتاد من الأصلع والأقرع. وتعقب الإمام أبو عبد الله على القاضي إطلاق القول في ذلك، ورآى أن التقييد بالمعتاد واجب وهو صحيح كما ذكره، ولم يقصد القاضي غيره.

واختلف في حده طولاً في حق الملتحي، وفي حده عرضًا في حقه ففيه روايتان في المذهب أحدهما: من منابت الشعر المعتاد إلى آخر الذقن كالأمرد، وهو اختيار الشيخ أبي بكر الأبهري، وثانيهما: أنه إلى آخر اللحية، وهو قول الجمهور، واختاره القاضي أبو محمد رحمه الله، بناء على المتصل بالشيء له حكمه، والأول أصح، بناء على التسمية اللغوية التي نزل بها القرآن، والذي نرتضيه أن حده إلى آخر الذقن، وإيجاب إمرار اليد على اللحية، وينتفي دخول اللحية في حد الوجه، وإنما دخلت من باب إعطاء الشيء حكم ما اتصل به أو جاوره، وبهذا الطريق يقع (التوفيق) بين مقتضى

ص: 173

اللسان والشرع، لأن العرب (مجموعون) على أن الوجه قبل ظهور اللحية يسمى وجهًا، وعلى أنه لا يقال لمن سقطت لحيته أو بعضها قد ذهب وجهه أو بعض وجهه، فدل على أنها غير داخلة تحت مسماه، ولو دخلت تحت مسماه، لوجب غسلها، وامتنع الاكتفاء بالمسح، لأن فرض الوجه الغسل، لا المسح، ففي إدخال القاضي أجزاء اللحية في حد الوجه، تجوز ظاهر عندنا.

واختلف المذهب في حده عرضًا على أربعة أقوال، فقيل:(من الأذن إلى الأذن) وهو أحوط، وقيل: من العذار إلى العذار بناء على الاشتقاق، وقيل: بالتحديد الأول في حق الأمرد، وبالتحديد الثاني في حث الملتحي، وقيل: إن غسل البياض الذي بين الصدغ والأذن سنة وهو اختيار أبي محمد توسطًا بين القولين وفيه نظر، لأنه إن ثبت أنه من الوجه وجب غسله، وإن كان من الرأس وجب مسحه بناء على (وجود) التعميم،

ص: 174

والتفريق لا دليل عليه.

ثم الشعور على قسمين خفيفة وكثيفة، فالفرض مع الخفيفة باق على أصله، واختلف المذهب في الشعور الكثيفة هل الفرض الأصلي باق أو منتقل، وهو المشهور رفعًا للمشقة، وكذلك اختلفوا في تخليل الشعور في الوضوء، ومن العتبية عن مالك أنه عاب تخليل اللحية ورآه من التعمق، واستحبه ابن حبيب تحرزًا من الخلاف، وأوجب ابن عبد الحكم تخليلها في الوضوء وبه قال أبو ثور قياسًا على الغسل.

وأما اليدان فالفرض غسلهما إلى المرفقين، واختلف المذهب هل يلزم إدخال المرفقين في الغسل أم لا؟ وكذلك اختلفوا في وجوب إدخال الكعبين في الرجلين. والمعتمد عليه في مذهب مالك وجوب إدخالهما في الغسل وبه قال أبو حنيفة

ص: 175

والشافعي وروى ابن نافع عن مالك في المجموعة أنه يبلغ بالغسل إليهما، ولا يدخلان، وهو مقتضى الغاية وذكر الشيخ أبو محمد عبد الله بن أبي زيد اختلافًا في ذلك وأنكر الخلاف فيه القاضي أبو محمد، (وحكى) أنه لا قائل (في المذهب) يمنع إدخالهما، وإنما هو قول برأي، والخلاف في ذلك مشهور مبناه على اختلاف العلماء فيما بعد الغاية، هل يدخل فيما قبلها أم لا؟ فمنهم من قال يدخله مطلقًا لأنه أحوط، وعلى هذا القول يلزم أن يكون إدخالهما من باب الاحتياط، لا من باب الإيجاب، وهو اختيار الشيخ أبي الفرج وهو من باب لا يتم الواجب إلا به، ومنهم من قال لا تدخل

ص: 176

مطلقًا لأن مقتضى الغاية الفصل، والدخول ينافيه، وقيل إن كان من الجنس دخل وإلا فلا.

وروى جابر بن عبد الله أنه رأى الماء على مرفقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح عن أبي هريرة أنه لما توضأ أدار الماء عليهما، وقال عند تمام وضوئه: هكذا توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل).

وفي تخليل الأصابع ثلاثة أقوال: فقيل هو واجب في الوضوء

ص: 177

والغسل، وقيل ليس بواجب في الوضوء والغسل، وقال ابن وهب هو واجب في اليدين، ومستحب في الرجلين، لأن أصابعهما متصلة، بخلاف اليدين، والظاهر وجوبه مطلقًا، لأن ما بين الأصابع داخل تحت محل الغسل، ولا يتم الغسل حقيقة إلا به فكان واجبًا، إذ لا معنى للغسل إلا بإمرار الماء على جميع العضو المغسول. وقال عليه السلام:(خللوا بين أصابعكم لا يخللها الله بالنار) وفي حديث لقيط بن صبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأت فأسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع).

ص: 178

واختلف المذهب في تحريك الخاتم في الوضوء والغسل، فقيل يحركها فيهما لأن ذلك مظنة تكميل الواجب، وقيل يحركها مطلقًا، وقيل إن كان ضيقًا حركها وإلا فلا، وقيل يحركها في الوضوء دون الغسل ويحركه في التيمم.

وروى الدارقطني أن النبي عليه السلام: (إذا توضأ حرك خاتمه).

قال القاضي رحمه الله: "وأما الرأس فهو ما صعد عن الجبهة إلى آخر القفا طولاً وإلى الأذنين عرضًا".

شرح: وهذا كما ذكره، ولا خلاف في حد الرأس طولاً وعرضًا، وإنما اختلفوا في تعميمه، والشعر المتصل به هل يعطى حكمه أم لا؟ وفي الأذنين هل هما منه أم لا؟ كما ذكره القاضي.

أما وجوب تعميمه فيه، في المذهب خلاف، المشهور وجوبه، وأنه إن

ص: 179

اقتصر على بعضه لم يجزه بناء على أن الباء في قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6] للإلصاق أو زائدة لا للتبعيض، وقيل: إن مسح بعضه أجزأه، واختلفوا في تحديد ذلك، فمن المالكية من أوجب مسح ثلثه، وهو اختيار أبي الفرج، ومنهم من أوجب مسح ثلثيه، وهو قول ابن مسلمة، ومنهم من اعتبر الربع وهو مقدار الناصية. روى عن مالك أنه قال إذ اقتصر على مقدم رأسه أجزأه. واختلفت أقوال الشافعية في ذلك وقاعدة مذهبهم جواز التبعيض بناء على أنه مفهوم الباء، وقد ثبت التبعيض عن النبي صلى الله عليه وسلم -من طريق، والأشهر أنه

ص: 180

بدأ من المقدم ثم انتهى إلى المؤخر وذلك يقتضي التعميم، وهو أحوط، وداخل تحت مقتضى اللفظ، وقد قيل: إن الباء باء العلة كقول الشاعر:

ومسح باللثتين عصف الإثمد

والمعنى ومسحت بعصف الإثمد اللثتين، والتقدير في الآية على هذا التأويل: وامسحوا بالماء رؤوسكم. وبالتبعيض قال جماعة من أهل العلم اعتمادًا على ما ذكرنا أنه مفهوم الباء، وهم مع ذلك موقوفون على امتناعه في قوله:{فاسمحوا بوجوهكم} إذ لا قائل بالتبعيض فيه بل هي عندنا للإلصاق كقوله تعالى: {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29] والصحيح القول بالتعميم، وأما التحديد بالثلث أو بالثلثين أو بغير ذلك من التقديرات فلا دليل عليه، بل إن كان التبعيض جائزًا وقع الاكتفاء بأقل ما يسمى مسحًا عند العرب.

وأما الشعور المتصلة به فقيل يلزم إمرار اليد عليها إعطاء حكم ما اتصل به، وقيل لا يلزم إعطاء لها حكم نفسها وهو الأشهر في النظر، والأول أحق، وذكر الشيخ أبو محمد في النوادر أن شعر الصدغين من الرأس يدخل

ص: 181

في المسح. قال القاضي أبو الوليد: يريد ما فوق العظم.

وأما الأذنان فقد اختلف المذهب فيهما على أربعة أقوال: فقيل هما من الرأس وهو المشهور عن مالك، وقيل: من الوجه، وقيل: ظاهرهما من الوجه وباطنهما من الرأس، وقيل: هما عضوان قائمان بنفسهما. أما من قال إنها من الرأس فاحتج بقوله عليه السلام: (فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من أذنيه) الحديث، والاحتجاج به ظاهر.

وروي أنه عليه السلام -قال: (الأذنان من الرأس) والصحيح أنهما من قول

ص: 182

الراوي ابن عجلان لا من قول النبي عليه السلام، ووقع في الموطأ معين.

واحتج من قال إنهما من الوجه بقوله عليه السلام: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره). وأما من فرق بين ظاهرهما وباطنهما تحاكم إلى اللغة (وتوفيه) إلى الاشتقاق حقه.

وأجمع جمهور العلماء على أنهما ممسوحتان بخلاف ابن شهاب الزهري فإنه يرى أن فرضهما الغسل، وهو لازم على المذهب إن قلنا إنهما من الوجه. وقال الشافعي: يغسل باطنهما مع الوجه ويمسح ظاهرهما مع الرأس، وقد روي عن النبي عليه السلام -في وصف وضوئه عليه السلام: (ثم مسح

ص: 183

رأسه بالسبابتين وأذنيه ظاهرهما وباطنهما بإبهاميه)، وسيجيء الكلام على تجديد الماء لهما.

وأشار القاضي بقوله: "حقيقة أو حكمًا": إلى الإطلاق اللغوي والعرفي الشرعي.

قوله: "فمن أوجب مسحهما عدهما منه": وهذا فيه نظر، إذ لا يدل إيجاب مسحهما على أنهما من الرأس، لجواز أن يقول القائل يجب مسحهما مع أنهما عضوان قائمان بأنفسهما أو من الوجه إلا أنهما إن انفردا بحكم المسح باستفادة كونهما من إيجاب مسحهما غير محقق لاحتمال المعارضة بما ذكرناه، وظاهر كلام القاضي أن كونهما من الرأس غير مختلف فيه، وإنما مورد الخلاف هل هما منه حقيقة أو حكمًا؟ وذلك غير مسلم، بل الخلاف هل هما من الوجه أو من الرأس؟ قائم مشهور.

ثم اختار في مسح الرأس الهيئة التي ذكر، وقد ورد في صفة مسحه عن النبي صلى الله عليه وسلم -على هيئات مختلفة ذكرناها في شرح الأحكام.

واختار الشيخ أبو القاسم بن الجلاب الهيئة التي ذكرناها في أول

ص: 184

تفريعه، وأنكرها عليه الشيوخ إذ لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم -مع أنه وقع فيما حادوه من التكرار.

وأما الرجلان فأجمع جمهور أهل العلم على أن فرضهما الغسل لأنهما محل الأدران والغبار غالبًا، والمعول عليه في قراءة الخفض في قوله:{وأرجلكم} أنه خفض على الجوار، وخلاف العلماء في العكس مشهور.

وفرق القاضي بين أقطع اليدين والرجلين وفيه نظر، تحقيقه أنه إن بقي من مسماهما شرعًا شيء وجب غسله وإلا فلا، وصدق هذا القول إن كان شرعيًا، ووجب الرجوع إليه، وإلا فلا معنى له، إذ العلة تقتضي التسوية.

ثم تكلم على الموالاة، وقد اختلف المذهب في حكمها على أقوال، فقيل إنها واجبة مطلقًا، وقيل إنها ليست بواجبة، وقيل

ص: 185

واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان والعذر، وقيل: إنها واجبة في المغسولات دون الممسوحات مطلقًا، وقيل: إن الممسوح (أصلاً) كالمغسول بخلاف الممسوح بدلاً. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال): (هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به) وكان مسبوغًا متواليًا مرتبًا: فإن كانت الإشارة إلى الفعل وصفته، وجبت النية، والفور، والترتيب إلى غير ذلك من صفات ذلك الوضوء، وإن كانت الإشارة إلى أصل الفعل انتفى الوجوب، وأما التفرقة بين الذاكر والناسي فبناء على أن الناسي معذور بالنسيان كما (يعذرون) في عجز الماء، وأما التفرقة بين الممسوحات والمغسولات فينظر إلى أن مبنى المسح على التخفيف والرفق، وحقق بعضهم التخفيف في الممسوح (الأصلي) دون البدلي، وعكسه آخرون. وإذا بنينا على العذر بالنسيان، جاز له البناء مطلقًا، وقيل: ما لم يطل.

واختلف الشيوخ في حد الطول فقيل جفوف الأعضاء، وقيل: ما يعد

ص: 186

طولاً وهو أشبه فأما عجز (الماء) فيبنى معه ما لم يطل، فإذا طال ابتدأ الطهارة، هذا اختيار المحققين من أهل المذهب.

وذكر المتأخرون ثلاث صور:

فالصورة الأولى: أن يقطع بأن الماء يكفيه.

الصورة الثانية: أن يقطع بأن لا يكفيه.

الصورة الثالثة: أن يشك في ابتداء الوضوء هل يكفيه أم لا؟

ففي كل صورة قولان: الابتداء، والبناء، والمشهور في الأولى البناء، وفي الثانية، والثالثة الابتداء، ووجه ذلك ظاهر فتأمله.

واختار القاضي في المولاة مذهبًا انفرد به، وهو: أن التفريق إن كان قليلاً أو على وجه السهو لم يفسد الوضوء ويفسده إذا تعمد، أو التفريط، أو الطول المتفاحش.

قال القاضي رحمه الله: "فأما بيان سننه، فمنها غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء".

شرح: اختلف العلماء في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء في حق طاهر اليد، وفي مذهب مالك في ذلك قولان: فقيل: إنه سنة وهو مختار القاضي لما ثبت من مواظبته عليه السلام -على ذلك، وقيل: إنه مستحب، وهو

ص: 187

اختيار ابن الجلاب، وشذ قوم خارج المذهب فأوجبوه تمسكًا بلفظ الأمر. قال عليه السلام:(إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء) وفي ألفاظه اختلاف، ففي لفظ التحديد بالثلاثة، وفي لفظ آخر التعليل بالشك، ومحمله عندنا على الندب والاستحباب اعتمادًا على قوله عليه السلام:(فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده). فظاهر التعليل بالشك، وأن الأمر بالغسل إنما توجه لأجل الشك فينتفي الغسل حيث ينتفي الشك وهو ينفي الوجوب، وكذلك قال ابن الماجشون.

مريد الوضوء: لا يخلو من ثلاثة أقسام، إما أن يقطع بطهارة يديه، أو يقطع بنجاستهما أو يشك، فإن قطع بطهارتهما فهو مورد الخلاف الأول الذي حكيناه عن المذهب في كونه سنة أو مستحب، ويبقى أن ينفي ههنا إيجابًا على مقتضى التعليل المفهوم من سياق الحديث، وإن قطع بنجاستها وجب عليه غسلهما وهو متفق عليه، وإن شك ففيه قولان: الوجوب، ونفيه، فالوجوب اعتمادًا على صيغة الأمر ومقتضى التعليل، ونفيه اعتمادًا على حكم الأصل.

ص: 188

وقال الحسن (بن عيسى) في الجنب يدخل يديه في الإناء قبل أن يغسلهما أفسد الماء، ونفى بعض التأخرين الوجوب بالتحديد، ولا قاطع فيه وهل غسلهما للتعبد أو للنظافة، ففيه قولان في المذهب وكذلك اختلفوا هل يغسلان مجتمعين أو مفترقين، وهل يغسلان مرتين أو ثلاثًا، وقلنا قولان في المذهب مبنيان على اختلاف رواية عن ابن زيد، ففي بعضها أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم -قال:(فغسل يديه مرتين مرتين) وذلك يقتضي التفريق، وفي بعضها "مرتين"، وذلك يقتضي الجمع، وكذلك

ص: 189

اختلفوا إذا شك هل غسلهما ثلاثًا أو اثنين هل يأتي بالرابعة، بناء على الأقل المنفي، أو لا يأتي بها خوفًا من توقيع زيادة الرابعة، وهو مكروه فيه قولان بين الأشياخ.

قال القاضي رحمه الله: "بأي (وجه) كان انتقاض وضوئه" تنبيهًا على مذهب المخالف لأن من أهل العلم من قصره على النائم، والصحيح التساوي وسبب ذلك قاعدة قياسية، لأن مورد النص هو النائم، وألحق غيره من باب الجمع بالاشتراك بالعلة وهي مظنة النجاسة غالبًا.

قال ابن حبيب في الواضحة: إنما أمر النائم بغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء لأنه قد ينال يديه نجاسة أو قذر يخرج منه ولم يعلم به وقال العراقيون من المالكية إنما أمر بذلك لأنه لا يكاد يسلم من حك جسده، فأمر بذلك تنظفًا وتنزيهًا، وقيل:(لأنه لا يكون يستخرجون)، وقد تبقى في المخرج نجاسة يابسة يصلها اليد في حال النوم، وعموم هذه التعاليل

ص: 190

داخل تحت قولنا: مظنة النجاسة غالبًا، وذلك مستحق في غير النائم، فيتساوى الحكم فيه، ومخرج الحديث عندنا على الغالب، وقصر بعض المالكية الحديث على النائم فقط، والاشتراك في المعنى يقتضي التساوي كما ذكرنا من الأحداث وأسبابه، (واقتصره) أحمد بن حنبل على نوم الليل تعلقًا بلفظ البيات ولا يستعمل إلا ليلاً.

واختلف المذهب هل يفتقر غسلهما إلى النية أم لا؟ فابن القاسم اشترط في ذلك النية بناء على أنه عبادة، وروى أشهب ويحيى بن يحيى عن مالك أن ذلك نظافة فلا يفتقر إلى النية. وعلى ذلك الخلاف في غسل الجمعة أيضًا جمهور أصحابنا في أنه يفتقر إلى نية تعلقًا بحكم العبادات عليه. قال الشيخ أبو الوليد: ويجيء على قول أشهب، والشيخ أبي إسحاق أن ذلك لا يفتقر إلى

ص: 191

نية، ولذلك أجازه بماء الورد وماء الريحان والزعفران ونحوه، بناء على أنه نظافة.

وكذلك اختلفوا في غسل الذكر من الذمي هل يفتقر إلى نية أم لا؟ بناء على أنه عبادة ونظافة ونزاهة كما ذكرناه.

وقوله: " (في) ليل أو نهار"": تنبيهًا على ما حكيناه عن أحمد بن حنبل، لأنه أوجب غسلهما في المستيقظ من نوم الليل دون نوم النهار تعلقًا بلفظ البيات، ولا يستعمل غالبًا إلا ليلاً.

قال القاضي رحمه الله: "وأما تطهير داخل الفم فإنه سنة" إلى آخر الفصل.

شرح: تكلم في هذه الجملة على حكم المضمضة والاستنشاق وغسل البياض الذي بين الصدغ والأذن، وحكم مسح الأذنين والترتيب.

أما المضمضة فهي مشتقة من مضه الدهر إذا حركه، وسميت بذلك لأن المضمضة تخضخض الماء فيه وتحركه، والاستنشاق مأخوذ من الشاق وهو زمام يكون في أنف البعير.

وقد اختلف العلماء في حكمهما، واتفق مذهب مالك رحمه الله -على أنهما غير واجبتين في الوضوء والغسل، وقال أحمد وغيره؟ إنهما واجبتان، لأن

ص: 192

بهما تعرف رائحة الماء وطعمه. وأوجب قوم الاستنشاق دون المضمضة، وأوجبها ابن أبي ليلى في الوضوء (دون الغسل)، ومنشأ الخلاف هل يتناولهما لفظ الوجه أم لا؟ والتفاريق غير صحيحة في النظر، والصحيح أنهما لا يتناولهما لفظ، إذ الوجه مشتق من المواجهة، ولو وجب غسل العضو القاصي في أصل الخلقة، لوجب (غسل ذلك) العينين، مع أن الوضوء يتناولهما نصًا فسقط وجوبهما، وثبت استنانهما بفعله عليه السلام -الدائم الظاهر، ويجوز فيهما الجمع والتفريق على صفات شتى بحسب الإمكان، إذ ليس في ذلك حد محدود، ولا هيئة معلومة (لا تتعذر).

وروى النسائي عن لقيط بن صبرة قال: (قلت يا رسول الله أخبرني

ص: 193

عن الوضوء قال: أسبغ وبالغ في الاستنشاق إلا أن يكون صائمًا). وقد جاء ذلك في الآثار الثابتة، وتاركهما سهوًا إن تركهما قبل صلاته فعلهما ثم صلى، وإن ذكر بعد صلاته فعلهما لما يستقبل ولم يعد وضوءه ولا صلاته عندنا، وإن تركهما عمدًا ففي بطلان صلاته وإيجاب الإعادة عليه قولان جاريان على تارك السنة متعمدًا عليه، والخلاف في ذلك مشهور، واستحب المبالغة في الاستنشاق إلا في الصوم خشية الفطر، وكذلك حكم المضمضة، واستحب بعض العلماء أن تكون المضمضة ثلاثًا ثلاثًا والاستنشاق لأنهما عضوان، واستحب بعضهم أن تفعلا ثلاث مرات من غرفة واحدة، لأنهما كعضو واحد، وحكى عن بعض أهل العلم أنه رأى النبي عليه السلام -فسأله عن ذلك فقال: له لا بأس بالجمع والتفريق وقد جاء ذلك واختلف قول الصحابة فمنهم من عدهما فضيلتين، ومنهم من عدهما سنتين، وهو المشهور.

وقد تقدم الكلام في البياض الذي بين الصدغ والأذن، والصحيح أن

ص: 194

عرض الوجه في حق الأمرد، والملتحي سواء، وهو ما بين الأذنين، وهو قول أبي حنيفة والشافعي رواه ابن وهب في المبسوط عن مالك، وهو الجاري على مقتضى اللغة.

فأما مسح الأذنين فقد اختلف العلماء في حكمه، والجمهور على أنه غير واجب، ويلزم وجوبه على القول بأنهما من الرأس، كما يلزم وجوب غسلهما على القول بأنهما من الوجه.

وتحصيل المذهب في ذلك أن مسح داخلهما سنة أو فضيلة، واختلفوا في مسح ظاهرهما، فقيل: إنه سنة، وقيل: إنه واجب، والقولان في المذهب نصًا وإلزامًا. وحكى القاضي أبو الوليد عن محمد بن مسلمة والأبهري أن الأذنين يمسحان فرضًا [ولم يفرقا بين ظاهرهما وباطنهما] قال: وذهب سائر أصحابنا يمسحان (فرضًا) وهو ظاهر (مذهب) مالك، والأصل في (إسقاطه) الوجوب الاعتماد على أنه وضوء، وعلى قوله عليه السلام -للأعرابي:(أن توضأ كما أمرك الله).

واختلفوا في تجديد الماء لهما، وفي ظاهرهما ما هو، فقيل: الذي يلي الوجه، وقيل: الذي يلي الرأس القفا، والتحكم فيه إلى اللغة. وقد جاء

ص: 195

عن النبي عليه السلام: تجديد الماء لهما، وعليه العمل عند جمهور العلماء.

والصماخ: ثقبة الأذن. قال ابن حبيب: من لم يجدد الماء لهما فهو بمنزلة من لم يمسحهما، وقال محمد بن مسلمة: إن شاء جدد لهما الماء، وإن شاء لم يجدد، وقال أبو حنيفة:(لا) يستأنف الماء لهما.

قوله: "في صفة الترتيب أن يبتدئ بعد النية فيسمي الله عز وجل": يتعلق

ص: 196

به حكم النية والتسمية. أما النية فقد قدمنا الكلام فيها، وظاهر كلام القاضي أبي محمد أنه يعقد النية عند الشروع في طهارته، وأما التسمية فقد اختلف العلماء فيها، فقد رأى مالك إنكارها، وقال أيريد أن يذبح؟ إشارة إلى [أن] التسمية إنما شرعت عند الذكاة، وقيل: إنها فضيلة، وقيل: جائز ومخير فيها وأوجبها بعض أهل العلم لقوله عليه السلام: (لا وضوء لمن لم يسم الله عليه) وعن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا سمى الله وتوضأ تطهر بدنه كله، وإذا توضأ ولم يسم لم يطهر إلا أعضاء الوضوء خاصة). والأحاديث

ص: 197

في التسمية في الوضوء غير ثابتة عند أهل الإسناد.

قوله: في صفة غسل الوجه: "يبدأ من أعلاه": تنبيهًا على الأفضل حتى إنه لو بدأ في وسطه أو أسفله أجزأه. لأن ذلك غسل لا مسح، وصفة الغسل في الهيئة للأعضاء المغسولة أن يلقى العضو بالماء، والماء بالعضو مع إمرار اليد حينئذ، فإن تناول الماء بيده، ثم أرسله ثم أمر بيديه على العضو المغسول، فهذا مسح لا غسل، فلا يقع به الإجزاء عند الجمهور، وقال أبو يوسف: إن مسح وجهه وغيره كمسح الظاهر أجزأه. وقال النخعي: ما عهدناهم ينطحون وجوههم بالماء.

واختلف المذهب في كيفية رفع الماء للغسل، روى ابن القاسم عن مالك أنه يدخل الممسوح، فإن كان العضو ممسوحًا فغسله، فقال الشيخ أبو [إسحاق]: يجزئه، وقال ابن حبيب: في الخفين لأن الغسل مسح وزيادة.

ص: 198

وقد اختلف المذهب في حكم الترتيب على أربعة أقوال، فقيل إنه واجب، ولا تجزئ الطهارة إلا به. اقله الشافعي وهي رواية عن ابن زياد عن مالك، وقيل: إنه ليس بواجب، ولا يشترط في صحة الطهارة، وهو قول أبي حنيفة، فمنهم من قال: إنه سنة، ومنهم من قال: مستحب، وهو اختيار أبي القاسم بن الجلاب، وروى عن ابن القاسم أنه واجب مع الذكر ساقط مع النسيان (لأنها) وردت (فيهما) ولا أصل في الإطلاق والخفيف إلا أن يقول إن المجاز خير من الاشتراك، ولا يتجه على هذا إلا أن يكون حقيقة في الجمع في الترتيب.

واختلف المتأخرون هل حكم الترتيب في المسنونات كحكمه في المفروضات أم لا؟ والمشهور أن الترتيب إنما ورد في الفرائض. قال ابن حبيب: "من نكس وضوءه عامدًا أو جاهلاً يبتدئ، فإن فعل ذلك ناسيًا نظرت، فإن فعله في مسنون أو مفروض فلا شيء عليه، وإن كان بين مفروض أحدهما قدم وأتى بما بعده من مفروض، وهو قول مطرف، وابن الماجشون"، وروى ابن ابن مسلمة في المبسوط فيمن غسل رجليه قبل مسح رأسه وليس عليه أن يعيد غسل رجليه، لأن المسح خفيف.

ص: 199

قال القاضي رحمه الله: "وأما فضائله فالسواك بعود يابس أو رطب" إلى آخر الفصل.

شرح: اختلف العلماء في السواك، والجمهور على أنه ليس بواجب، خلافًا لأحمد وأصحابه، والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور قوله صلى الله عليه وسلم:(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) وقد روى: (عند كل وضوء)، واحتج أحمد بقوله عليه السلام:(ما لكم تدخلون قدحًا استاكوا) ومحمل ذلك عندنا على الندب والاستحباب.

ص: 200

وقد جاء في الحض عليه أخبار كثيرة، فقد جاء أنه عليه السلام (كان يستاك عند قيلته من النوم. قبل الوضوء، وبعد الوضوء قبل الصلاة، وعند القيام إلى الصلاة).

وأما تكرار المغسولات فثابتة، واتفق العلماء على أن الواجب الإسباغ، والزيادة عليه ليست واجبة، وقال عليه السلام:(لا يقبل الله الصلاة إلا به) قاله لما توضأ، وصح أنه توضأ مرتين وثلاثًا ثلاثًا، وفي الصحيح:(قام إلى شن معلقة (يتوضأ) وضوءًا بين الوضوءين) يريد -والله أعلم -مرتين لأنه بين الواجب ذلك بحسب الأحوال.

ص: 201

وقد اختلف العلماء في الثانية والثالثة فقيل: هما سنتان، وقيل: فضيلتان، وقيل: الأولى سنة، والثانية فضيلة. واختار الغزالي أن الثانية فضيلة، لقوله عليه السلام:(أتاه الله أجره مرتين)، وهذا يقتضي الفضيلة، والثالثة فضيلة، لقوله عليه السلام:(هذا وضوئي ووضوء النبيئين من قبلي) وهذا

ص: 202

يقتضي أنه سنة، وسنة مشهورة عن الأنبياء قبله. واختار أبو إسحاق والشيخ أبو محمد وغيرهما من شيوخنا أن ينوي بالثانية تكميل الفرض إن كان قد تخلى منه شيئًا لم يعلم به، وفيه نظر لأن النية المترددة لا تنوب عن النية العازمة على مشهور المذهب. قال ابن القاسم فيمن لم يذكر جنابة واغتسل على أنه إن كان عليه جنابة فهذا الغسل لرفع حكمها، ثم ذكر بعد ذلك جنابة قال: لا يجزئه رواه عيسى عنه، وقال عيسى: يجزئه.

وكذلك اختلف إن كرر الثانية بنية الفضيلة، ثم تبين له أنه أخل ببعض الفرض هل تجزئه نية الفضيلة عن نية الفريضة أم لا؟ فيه قولان، واحتج بقول ابن كنانة أن غسل الجمعة ينوب عن غسل الجنابة قال فكيف [بهذا] وفصل فيه القاضي أبو الوليد تفصيلاً انظره في المنتقى.

واختلف الأشياخ إذا شك في الثالثة، فكره بعضهم أن يعتقد في محله أن تكون رابعة فيقع في السرف الممنوع، وبعضهم أجاز ذلك، ورأى أنه فعل الثانية مع تجويز أن يكون بناء على أصل الشرع في البناء على الأقل، وإذا شك هل صلى ثلاثًا أم أربعًا، ومثله إذا شك في عرفة أن يكون يوم النحر فهل يكره صيامه مخافة الوقوع في المحظور أم لا يكره؟ بناء على الأقل فيه نظر

ص: 203

بين المتأخرين من الأشياخ.

واختلف العلماء في الممسوحات كالرأس هل تكرر أم لا؟ قاعدة المذهب نفي التكرار في الممسوحات وهو قول أبي حنيفة واستحب الشافعي فيه التكرار، وقد ثبت ذلك من حديث عثمان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الإمام أبو عبد الله: أحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه عليه السلام، مسح الرأس مرة واحدة، وقد روى ابن نافع عن مالك في صفة المسح في الرأس قال: يمسح مرة أو مرتين، فاستقرأ منه بعض شيوخنا تكرار الممسوحات، ورأى بعضهم أنه ليس من باب التكرار وإنما هو من باب استيفاء ما بقي منه في المسحة الأولى.

واتفقوا على نفي التكرار في التيمم، والمسح على الخفين، وهما يلحقان بالرأس على مشهور مذهب مالك. واختلف المذهب إذا مسح رأسه، ثم حلقه، فقال مالك: ليس عليه إعادة المسح، وقال عبد العزيز بن أبي سلمة عليه الإعادة، وفي المدونة عنه هذا من لحن

ص: 204

الفقه روايتان وتأويلان.

وقوله: "والثلاث أفضل من الاثنين": لأن لكل واحدة حظها من الإجزاء، وقد قال مالك: أكره الواحدة من غير العالم وفيه تأويلان: إما خشية الابتدائية، وإما لترك الفضل، وترك الفضائل مكروه، وقد روى عنه: لا أحب الواحدة إلا لعالم، يريد العالم بالوضوء، وأحكامه، لأنه يستوعب بها محل فرض بخلاف الجاهل فإنه عسى أن لا يكمل بها.

وقوله: "وما زاد على الثلاث (بعد إيعاب العضو المغسول) (فسرف) ممنوع": هو كما ذكره: سرف ممنوع مع الإسباغ، فإن بقي بعد الثلاثة لمعة غسل موضع اللمعة وحده دون العضو كله، وإعادته العضو كله خروجه إلى حد التجاوز والسرف.

ص: 205