المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الصيام قال القاضي رحمه الله: ((الصوم الشرعي هو إمساك جميع - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ١

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌كتاب الصيام قال القاضي رحمه الله: ((الصوم الشرعي هو إمساك جميع

‌كتاب الصيام

قال القاضي رحمه الله: ((الصوم الشرعي هو إمساك جميع أجزاء النهار بنية قبل الفجر، أو معه إن أمكن)).

شرح: الصيام في اللغة هو الإمساك. قال الله تعالى: {إني نذرت للرحمن صومُا} [مريم: 26] وقال الشاعر:

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وخيل تعلك اللجما

وقال امرؤ القيس:

ص: 499

فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة

ذمول إذا صام النها وهجرا

وهو في الشرع: إمساك مخصوص عن شيء مخصوص في وقت مخصوص بنية التقرب إلى الله عز وجل. وأدخل القاضي رحمه الله في حده مكروهة ومانعة ومصححة، وذلك كل تركيب في الحد. والمقصود في ظاهر الشريعة كسر النفس عن شهواتها ومنعها عن محبوباتها وملاهيها وفي باطنها التشبيه بالذوات المالكية الروحانية تتغذى غذاء خارجًا عن غذاء الأجسام (لكهفة) وذلك (لاقتصاص) المتجليات الإلهية الربانية (الواردات) بواسطة صفاء القلب وانفصل اللذة. والمقصود صوم رمضان، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} إلى قوله: {أيامًا معدودات} [البقرة: 183]. فاختلف في المراد بالأيام فقيل: أيام رمضان لقلة نسبته إلى جميع العام وقيل: إلى الأيام البيض، وقيل: ثلاثة أيام من كل شهر غير معينة، وقيل: المقصود به يوم عاشوراء

ص: 500

وتكرير مجيئه كتعديداته فلذلك جمعها، وثبت وجوبه قولًا وفعلًا وإجماعًا من كافة أهل الإسلام من جحد وجوبها فهو كافر، والمقر بذلك الممتنع من فعله غير كافر، ويجبر على الصوم بأن يتعلق عليه في بيته، ويحال بينه وبين المفطرات، فإن شهر هذا (فأكل) فهل يقتل أو (يعذر). اختلف العلماء فيه، والذي قدمناه في تارك الصلاة جار فيه، والمختار أنه يعذر ولا يقتل، وقد قيل: يقتل كفرًا كتارك الصلاة مقرًا بأصلها، وهو قول أحمد بن حنبل وأصحابه، ورواية ابن حبيب عن مالك وقيل: يقتل حدًا لا كفرًا. هكذا قدمناه تارك الصلاة.

ونص أشياخ المذهب على أن حكم ترك الصيام حكم ترك الصلاة. والأولى بنا أن نتبع مساق القاضي لأن ذلك أهم من التفريع بالتنبيه إلى مقصود الكتاب.

قوله: ((أو معه إن أمكن)): قيد بالشرط، لأن المقارنة قد تتعذر غالبًا.

قوله: ((فيما عدا (زمن) الحيض والنفاس وأيام الأعياد)): تعرض لذكر موانع الصوم من جهة الزمان والحال، وقسم علماؤنا الصوم على خمسة: واجب، ومحظور، ومكروه، ومندوب، ومباح.

فالواجب على قسمين: واجب بالسبب، وواجب بغير سبب، فالواجب بغير سبب صوم رمضان. والواجب بسبب خمسة أقسام: صيام كفارة قتل النفس، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين بالله، وقضاء رمضان، وصيام النذر وهو على قسمين: معين وغير معين.

والمحظور صوم يوم العيدين، والمكروه صوم أيام التشريق، وقد جعله بعض شيوخنا مختلف بين الحظر والكراهية، وكذلك صيام الدهر.

ص: 501

والمندوب صوم الأيام البيض ويوم الخميس ويوم الاثنين ويوم عرفة وعاشوراء وعشرة من ذي الحجة ونحو ذلك، والمباح ما عدا ذلك.

قال المصنف: إدخال الصوم في باب المباحات غير مستقيم عندي، لأن أصله مندوب إليه مثاب فيه مرغب إليه لقوله عليه السلام:(إن في الجنة بابًا يقال له: الريان لا يدخل منه إلا الصائمون) والأحاديث في تفضيل الصوم كثيرة.

قال القاضي رحمه الله: ((والذي يجب الإمساك عنه في الصوم)) إلى آخر الفصل.

شرح: تكلم في هذا الفصل على الممنوعات في الصوم وضبطها تحت داخل وخارج وجميع الأقسام التي قسمها داخلة تحت وجوب الإمساك عنه بمقتضى نصه، وفصل أحكام ذلك بعد، فنتتبع مساقة.

ومقتضى المذهب: أن هذه الممنوع التي ذكر منها ما يمتنع على جهة العزم والإيجاب، ومنها ما يمتنع منه على جهة الاستحباب كالحصا وما في معناه مما (لا يغذي) ولا يتطعم البتة. وذكر الكحل والدهن، والشموم في جهة الممنوعات التي يجب الإمساك عنها، وفيه روايتان بالشين المعجمة، ورواية فيه بالسين غير المعجمة، وكلامه حينئذ على ما إذا (عرضنا المتأول (بسين)) ومن رواه بالشين المراد ما يشمه من المشمومات، فإنها من جنس الممنوعات، وإنما يقع الإمساك العام بالامتناع من ذلك كله، وليست في وجوب الامتناع منها بأبعد من الحصا، والدرهم، والتراب، ونحوه، وسياق كلامه أن الضمير في مثله عائد على الدراهم والحصا وسائر

ص: 502

الجامدات. والأظهر من طريق المعنى أن الكحل والدهن والشموم راجع إلى قسم ما يتطعم، وكل ذلك سواء على مقتضى نصه في وجوب الامتناع منه ابتداء، وربما يقع الاختلاف في موجباتها، لأن منها ما يوجب القضاء والكفارة، ومنها ما يوجب القضاء فقط، ومنها ما يستحب فيه القضاء على ما سنذكره.

قوله لما ذكر الخارج من البدن: ((لا نحتاج أن نقول مما يمكن التحرز منه، لأن ما لا يمكن ذلك فيه لا يصح الإمساك عنه)): إشارة والله أعلم إلى الاحتلام في نهار رمضان، فإن ذلك لا يمكن التحرز منه، وإلى أصحاب السلس، فإن من استمر منيه أو مذيه لعلة معذور في باب الصيام والطهارة والصلاة رفعًا للحرج ونفيًا للمشقة، فلو قال:((إنزال الماء الدافق الذي يمكن التحرز منه))، لكان قيد الإمكان من حيث إنه ليس للكلام إلا فيما يمكن التحرز منه، إذ هو الذي يتعين الإمساك عنه، وما لا يتحرز منه لا يدخل تحت وجوب الإمساك عنه، فهو غير معتبر في الباب. وتكلم القاضي في أحكام هذه الممنوعات بعد ي حكم القضاء وما يتعلق بها ونتبع مساقه.

قال القاضي رحمه الله: ((وأما ما يفسد الصوم فثلاثة أنواع: أحدها إعراؤه مما اشترط فعله فيه)) إلى آخر الفصل.

شرح: بدأ في هذه الأنواع الثلاثة التي جعلها مفسدات الصوم بإعرائها مما اشترط فعله فيه من النية والإمساك، ولا شك أن هذا مفسد الصوم، فإنه إذا لم ينو الصوم البتات، أو نوى الصوم، ثم رفض النية، كان عملًا بغير نية، وقد قال عليه السلام:(الأعمال بالنيات) وتسميته مع الأمر المطلق، أو الرفض صومًا إنما هو إطلاق لغوي ولا شرعي، وسواء في ترك النية بالعمد، أو بالسهو، والتفريط، والعذر والتقصير في الاجتهاد، فصورة العمد ظاهرة، وذلك إذا كان ذاكرًا ممسكًا عابثًا لا متقربًا. والسهو أن يكون غير ذاكر للشهر

ص: 503

أو ذاكر غير مستحضر نية الصوم فيه لغفلة وردت عليه، والتفريط أن يكون ذاكرًا لشهر عازمًا على صومه، إلا أن يتشاغل بالأكل، والجماع، أو نحوه من المفسدات تاركًا النية تفريطًا، والعذر يتصور في مسائل منها: المرأة تظن اليوم يوم حيضها فتفطر، والمريض يظن أن الحمى تأتيه في ذلك اليوم فترك اعتقاد الصوم لذلك، فلا تأتيه فيتمادى على الإمساك غير قاصد النية عند الفجر. والتقصير في الاجتهاد أن يكون ذاكرًا، إلا أنه يتشاغل بنوع من المفطرات ظانًا أن الفجر لم يطلع. فسمى القاضي الصوم في هذا المحل كلها فاسدًا وفيه تجوز في اللفظ ومراده أنه لا يجزئ، ولا يسقط بها القضاء، والفساد إنما يتحقق مع العمد والتفريط، لا مع السهو، والعذر، والتأويل، وإن وجب القضاء فكل واحد من هؤلاء يؤمر بالإمساك بنية يومه، ويجب عليه القضاء بعد، لأن هذا الصوم قد عرى عن ركن من أركانه.

قوله: ((أو خرم الإمساك عن شيء مما ذكرناه)): قلت: بالخاء المعجمة ومعناه القطع، يريد قطع الإمساك بالفطر في بعض أجزاء النهار عمدًا أو سهوًا، أو مجتهدًا ظانًا دحول الليل كما ذكره، وحكم ذلك في وجوب الكفارة يختلف، (نذكره) بعده.

قوله: ((والنوع الثاني: ما يكون عن غلبة، وهو ينقسم (إلى) ضربين)): ذكر في هذين الضربين موانع الوجوب، وموانع الاستدامة. فالضرب الأول: الذي شابه مانع الوجوب إن كان مانعًا، وهو الذي لا يصح وجوده إلا مفسدًا للصوم، ولا يقع إلا عليه كما ذكره، ومثله بالحيض والنفاس، فإن وجودهما مانع من عقد الصوم ابتداء، وطروهما مانع من استدامة استصحابه، فكل مانع للعقد مانع للاستدامة بالأصل ولا ينعكس؟ وقولنا: بالأصل تحرزًا من يسير الجنون بعد انعقاد الصوم على الصحة، وكذلك الجنون والإغماء مانعان من العقد إذا سبق وقت الانعقاد واقترنا به، وأشار بقوله:((وقد يمنعان من استصحابه على وجه)) إلى من جن وأغمي

ص: 504

عليه بعد الفجر، واستمر ذلك عليه حتى مضى جل النهار، أو غربت الشمس فيجب عليه القضاء، فلا يجزئه استدامة صومه بقية النهار لأنه كان عامة النهار غير مخاطب، ولو أغمي يسيرًا من يومه أجزأه إن كان إغماؤه بعد الفجر، ويجعل ذلك كالنوم لسلامة وقت الانعقاد.

واختلف المذهب إذا أغمي عليه قبل الفجر فلم يفق حتى طلع الفجر، فقال ابن القاسم: لا يجزئه صومه، وعليه القضاء اعتمادًا (على أن) وقت الانعقاد أدركه هو بصفة غير المكلفين. وقال أشهب: يجزئه صومه لأنه استيقظ بقرب الفجر، ولو ارتفع الحيض والنفاس قبل الفجر فلا يخلو أن ينقطع قبل الفجر بزمان يمكنها فيه الاغتسال أم لا؟ فإن ارتفع قبل الفجر بزمان يمكنها فيه الاغتسال فاغتسلت ونوت الصيام قبل الفجر، فلا خلاف أن صومها صحيح، لأنه واقع على صفة الإجزاء فإن أمكنها الغسل قبل الفجر، وفرطت ولم تغتسل. ففي المذهب قولان: أحدهما: أن صومها صحيح قياسًا على حديث الجناية. وثانيهما: أن صومها لا ينعقد إلا بعد الاغتسال، فقيل: إنها تصوم في هذه الصورة، وتقضي قاله (ابن مسلمة) وقيل:(لا تصوم) وعليها القضاء، ولا معنى لصومها الآن وقضاؤها بعد.

وأما إن انقطع الدم عن الحائض والنفساء قبل الفجر بزمان لا يتسع للغسل فقال عبد الملك: لا يجزئها الصوم، لأن الصوم لا ينعقد إلا بعد المخاطبة بالصلاة، والمشهور من المذهب ان الصوم يصح بغير غسل

ص: 505

والمشهور صحة صومها قياسًا على حديث الجنابة كما ذكرناه.

تكميل: المشهور من المذهب ألا يراعى في الحائض فراغها من غسلها قبل الفجر بخلاف الصلاة فلذلك احتيج إلى تقدير الفراغ من الطهارة قبل مضي زمان الصلاة، فأقصى مراتب النفساء أو الحائض أن تكون كالجنب.

قوله: ((والضرب الآخر يتصور وقوعه عن غلبة، وعن اختيار)): وهذا كما ذكره، لأن المكلف إن ترك في ذلك ودام عليها لم يكن وقوع ذلك إلا اختيارًا، وإلا فإكراه، والمكره على نوعين: كما أشار إليه القاضي، مكره جعل كالأكل لم يبق له من الدواعي شيء كإيجاز الطعام والشراب في الحلق، ومكره بقي له من الاختيار ما يرجح الفعل على الترك كالمكره بالقتل (أو) الضرب على الأكل فإنه مختار، ومكره باعتبارين مختلفين، وكل ذلك سواء في إطلاق لفظ الإكراه، وإن اختلف بخصوصية معناه.

قوله: ((وكذرع القيء)): قد يظن أن في كلام القاضي تناقضًا من حيث جعل درع القيء ههنا ضمن المفسدات، وقال في فصل آخر بعد هذا، ((ولا يفسده ذرع القيء)) ولا تناقض في ذلك في المعنى، لأن الذي جعله مفسدًا للصوم ذرع القيء الذي يرجع منه إلى الخلق شيء يقدر على طرحه، فإن استرجاعه قد يفسد الصوم على نفسه. وجعله غير مفسد إذا لم يرجع منه إلى حلقه شيء إذا رجع، ما لم يقدر على طرحه، فهما صورتان مختلفتان فعليهما ينزل كلام القاضي.

قوله: ((ويقرب من الضربين سبق الماء إلى الحلق)): إشارة إلى ضربي الإكراه، ويحتمل أن يكون إشارة إلى الضربين الأوليين المقدم ذكرهما، وهما ما لا يصح وقوعه إلا عن غلبة، وما يتصور عن غلبة واختيار، فإن نظر إلى سبق الماء الحلق باعتبار (مباديه) فهو اختيار أولي فعلي.

ص: 506

وقوله: ((والنوع الثالث لا يتصور وقوعه إلا عن (اختيار) وقصد)): ومثل هذا النوع بالردة واعتقاد قصد النية. أما اعتقاد قطع النية فلا يكون إلا اختيارًا، لأنه عمد ذلك، ولا يتصور الإكراه على الأعمال القلبية، وكذلك الردة، لأنها عبارة عن اعتقاد الكفر، والأعمال تابعة للاعتقاد، فإن أكره على الكفر فذلك لا يسمى ردة في غالب اصطلاح الفقهاء وإن صدرت منه أعمال الكفار، فلذلك [أ] دخل الردة في قسم الاختيار، لأن الإكراه إنما يتعلق بالظاهر، وحكم الردة لا يثبت إلا باعتقاد الباطن القلبي، والله الموفق.

تكميل: أخذ المتأخرون الكلاف في رفض الوضوء هل يؤثر أم لا؟ والمشهور أنه لا يؤثر، وهل يجري حكم الصوم على ذلك أم لا؟ فيه أيضًا قولان، كما في الوضوء. والصحيح عندنا أن ذلك غير مؤثر لأن أصل الاعتقاد صحيح، ورفض الحاصل بعد حصوله له غير متصور.

قال القاضي رحمه الله: ((فأما ما يتعلق على ذلك من الأحكام فأربعة أضرب)).

قلت: قدم القضاء، لأنه أعم الكفارات لاختصاصها وعمومها. وجعل قطع التتابع، وقطع النية أحكامًا متعلقة على فساد الصوم في ذلك، فالكفارة والقضاء ظاهر، وأما قطع التتابع وقطع النية فليسا بحكم عندي بل هما من لوازم الحكم، فإذا أفسد الصائم الصوم بنوع من المفسدات التي نوعها القاضي صرف الشرع عليه حكمان: القضاء والكفارة في محلهما مشروعان للجبر والعقوبة، أو للجبر فقط إن انفرد القضاء، فإذا حكمنا بفساد الصوم، (ولزم) من ذلك انقطاع التتابع، فيقع النظر بعد، هل كان انقطاعه لعذر، أو لغير عذر. وتظهر ثمرة ذلك في جواز البناء أو عدمه كما بينه القاضي بعد. فانقطاع التتابع لازم للحكم بفساد الصوم لا نفس الحكم، وكذلك قطع النية

ص: 507

سبب للحكم بفساد الصوم الشرعي بدليل صحة قولنا حكم الشرع بفساد الصوم سبب قطع النية، وهذا بين لمتأمله إن شاء الله.

قال القاضي رحمه الله: ((والصوم ضربان واجب (ونفل))) إلى قوله: ((وصوم رمضان واجب مفروض (على الأعيان))).

شرح: قد تقدم الكلام في حكم الصوم وأنواعه، ومقصود هذا الفصل الكلام في وجوب النية فيه. ولا خلاف في المذهب في وجوبها في الصوم، وانها ركن من أركانه (لأنها) عبادة تفتقر إلى نية الطهارة، والصلاة. والاستدلالات المتقدمة في وجوبها في الطهارة جارية هاهنا.

وروت حفصة أم المؤمنين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له) صححه أكثر أهل الحديث مسندًا، وموقوفًا على حفصة. وخرجه الدارقطني من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيه:(قبل طلوع الفجر). وقد روى موقوفًا على عائشة، فإن قيل: الصوم

ص: 508

(ترك)، والتروك لا تفتقر إلى نية كالزنا وشرب الخمر، قلنا: التروك على قسمين: مطلقة غير مختصة بزمان فلا تفتقر إلى نية، ومختصة بزمان فتفتقر إلى نية كالصوم.

قوله: ((مستحقه في جميع أنواعه)): تنبيهًا على مذهب المخالف لأن من مذهبه [أنه] لا يفتقر صوم رمضان إلى نية إلا أن يكون الصائم مريضًا أو مسافرًا بناءً على تعيين الزمان للصوم، حتى إنه نوى فيه صيام غير رمضان انقلب إلى رمضان.

قوله: ((يوقعها المكلف لكل يوم)): قلت: من كل نوع - يعني - من أنواع الصيام المفروض وغير المفروض على اختلاف.

قوله: ((من (ليلته) ويستديمها إلى آخره حكمًا)): بيان لمدار من العقد، واختلف المذهب في مسائل تتعلق بذلك.

(المسألة) الأولى: هل تجزئ النية بعد الفجر أم لا؟ اختلف الفقهاء فيه، والمشهور من مذهب مالك أن ذلك لا يجزئ، بناءً على اشتراط تقديمها قبل الفجر، أو مقارنتها له، وذلك في الفرض والنفل سواء، وفي الأسمعة عن مالك في الحائض تشك هل طهرت أم لا؟ فلا تستبرئ بعد طلوع

ص: 509

الفجر، قال: تصوم، واستقرئ من هذا أن عقد النية بعد الفجر جائز، وروى عن مالك أن صوم يوم عاشوراء بنية بعد الفجر جائز، وهو استناد إلى حديث معاوية الذي خرجه مالك في موطئه أنه قال: يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن هذا يوم عاشوراء وإني صائم فمن شاء فليصم). والمشهور الاعتماد على حديث حفصة الذي صدرنا بذكره، وهو عام في النوافل، والفرائض.

(المسألة) الثانية: هل يشترط النية لكل ليلة، أم يجزئ (التبييت لليلة الواحدة الأولى). فتستصحب على جميع الشهر فيه قولان في المذهب أحدهما: اشتراط التجديد لتخليل الفطر كل ليلة، والمشهور الاكتفاء بنية أول ليلة، لأنه كيوم واحد من حيث إن الفطر المتخلل ليس إلا في الليل، والليل ليس بمحل الصوم.

قوله: ((ما لم يقطعه فيلزم استئناف النية)): قلت: هذا الفرع فيه قولان عندنا، وهو إذا طرأ في رمضان ما يبيح الفطر من الاعذار، فهل يفتقر إلى إعادة النية أم لا؟ فيه قولان: المشهور الإعادة لانفصال حكم النية الأولى بانفصال الصوم عند طرو العذر، والشاذ الاكتفاء بالنية الأولى، لأنها مستصحبه حكمًا وهو ضعيف. وشهري التتابع في رمضان في الاكتفاء بالنية

ص: 510

الواحدة اعتبارًا (بتعيين) الزمان.

واختلف المذهب فيمن اعتاد سرد (صوم) النافلة هل يلزمه (النية) كل ليلة متمسكًا بعموم حديث حفصة، ولأن كل يوم مستقل بنفسه (أو يكتفي) بالنية الأولى، لأن اعتياد الاتصال كوجوبه، فليلتحق بزمان (رمضان) وشهري التتابع في ذلك فيه عندنا قولان في المذهب. وقول القاضي:((والقياس منعه)) إشارة إلى مراعاة الانفصال الحكمي، واستقلال كل يوم بنفسه، وإن اتصل حسًا، فقد انفصل حكمًا، وقد تقدم الخلاف في رفض نية الصوم هل يؤثر أم لا؟ وفيه قولان في المذهب قد قدمناهما.

قال القاضي رحمه الله: ((وصوم شهر رمضان واجب مفروض على الأعيان)) إلى قوله: ((ثم إن ثبت)).

شرح: قد انعقد الإجماع على أن صوم شهر رمضان (فرض)، وقد قدمنا الدليل على ذلك وشروط وجوبه ستة: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والصحة، والإقامة، والنقاء من دم الحيض والنفاس. فالإسلام تحرزًا من الكافر، وهو غير مخاطب بالصوم إلا بعد تحصيل الشرط الأول. والعقل تحرزًا من الجنون، ولا شك أن القلم مرفوع عنه بنص الحديث الثابت الصحيح، فلذلك اتفق الفقهاء على أن الجنون والإغماء مناقضان لانعقاد الصوم، وإذا بطل الانعقاد لزم عنه بطلان القضاء. ومذهب مالك وجوب القضاء عليه، قال مالك: من بلغ مجنونًا فمكث سنين ثم أفاق فليقض صوم تلك السنين، ولا يقضي الصلاة كالحائض، واحتج بقوله تعالى: {فمن

ص: 511

كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة: 184] ورأى أن ذلك داخل تحت حكم المرض. وقال المدنيون من أصحاب مالك: إنما يقضي الصوم في مثل الخمس سنين ونحوها، وأما صوم عشرة أعوام، أو خمسة عشر عامًا، فلا قضاء عليه وهو قول أصبغ. قال الشيخ أبو الطاهر: أما من لم يبلغ مطبقًا، وقلت سنون جنونه (وجب عليه القضاء بلا خلاف في المذهب، وإن بلغ مطبقًا، أو كثرت سنون جنونه) ففي المذهب ثلاثة أقوال: القضاء مطلقًا، ونفيه مع كثرة السنين، ومثلوه بالعشرة فما فوقها وإثبات القضاء مع قلة السنين كالخمسة ونحوها. فمن رآى (أن) العقل شرط في الأداء لا في الوجوب، أوجب القضاء مطلقًا، ومن رآه شرطًا في الوجوب أسقط القضاء وهو الصحيح، والتفريق استحسانًا لا وجه له. والبلوغ احترازًا من غير البالغ وهل يؤمر بالصوم كما يؤمر بالصلاة فيه قولان عندنا: المشهور أنه لا يؤمر، لأن الصوم لا يتكرر. والشاذ أنه يؤمر لأنه عبادة كالصلامة. ((والصلاة)) احترازًا من المرض، والإقامة احترازًا من السفر، وهو مبيح للفطر إجماعًا. والنقاء من دم الحيض والنفاس تحرزًا من النفساء والحائض، لأن الصوم ساقط عنهما، لكن هل يسقط الصوم عن الحائض والمريض والمسافر بعد وجوبه عليهم لطرء العارض، أم لم يجب البتة عليهم، فيه قولان عند الأصوليين.

قوله: ((واجب مفروض على الأعيان)): هو توكيد كما ذكره، وقدم هاهنا الواجب، وقدم في أول الكتاب الفرض على الواجب، وذلك يشعر بالترادف والتوكيد.

قوله: ((وللعلم بدخول ثلاثة طرق)): قلت: الأصل في ذلك قوله عليه السلام: (فلا تفطروا حتى تروا الهلال، ولا تصوموا حتى تروه، فإن غم عليكم

ص: 512

فاقدروا له) الحديث. أما الرؤية فهي على قسمين: عامة وخاصة، فالعامة: هي المستفيضة الواقعة من العدد الكثير الذي يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، فينزل ذلك منزلة الأخبار، فيقبل فيه الحر والعبد والعدل وغيره، والمقصود من ذلك أن يقع في الحجم الغفير فيجب بها، ويجب العمل بهذا في الأقطار المتباينة إذا دخلت تحت حكم إمام واحد تحت طاعته على الأصح، والخلاف في ذلك بين أهل العلم معروف، فروى ابن القاسم والمصريون عن مالك أن الهلال إذا (ثبتت) رؤيته عند أهل بلد نفذ حكمهم إلى غيره من أهل البلدان، فإن أكلوا في ذلك اليوم الذي صامه غيرهم وجب عليهم قضاؤه وهو قول الشافعي وأحمد، وروى المدنيون عن مالك أن لكل بلد رؤيته إلا أن يحمل الإمام الناس على ذلك وهو قول ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك. والأصل في هذا الباب ما خرجه مسلم من حديث [كريب] وأن أم الفضل بنت الحارث

ص: 513

(بعثته) إلى معاوية بالشام قال: ((فرأيت الهلال يوم الجمعة، ثم قدمت المدينة من آخر لشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم؟ قلت: رأيته يوم الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزل نصوم حتى نكمل ثلاثين، أو نراه؟ فقال: لا يكتفي برؤية معاوية، فقال:[لا] هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث الثابت الصحيح نص في أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد. وإنما عول أحمد والشافعي ومالك في رواية المصريين عنه على أن البلاد إذا لم تختلف مطالعها كل الاختلاف فهي كالأفق الواحد والله أعلم. وأما الرؤية الخاصة فهي من باب الشهادات، فيشترط فيها العدالة، والإسلام، والحرية، والذكورية. فلا يخلو أن يشهد العدلات برؤية الهلال في يوم صحو (أو يوم غيم، فإن كان في يوم غيم فتقبل شهادتهما، وإن كان في يوم صحو) والبلد كثير فهل تقبل شهادتهما أم لا؟ فيه قولان، المشهورقبول شهادتهما اعتبارًا بعدالتهما والشاذ أن شهادتهما غير مقبولة. قال سحنون: هؤلاء شهود، سوء، إشارة إلى أن الإفراد من اتفاق الموانع مظنة للتهمة سيما إذا كان القطر نحو صورة واحدة.

قوله: ((والجنس والعدد مستحقان فيه)): يريد جنس الرجال وعددهم، وذلك اثنان فصاعدًا.

قوله: ((ولا يقبل (في ذلك) النساء)) وهذا لا خلاف فيه عندنا.

ص: 514

قوله: ((ولا الواحد من الرجال)) وهذا كما ذكره على الأشهر، وقد قيل شهادة الرجل وحده مع الغيم، ويجب الصيام بقوله، روى عن مالك، حكاه الشيخ أبو محمد. وهل يلزمه الرفع وحده أم لا؟ أما العدل والمستور فلا خلاف عندنا أنه (يرفع) لاحتمال أن يشاركه غيره، وأما المكشوف الحال في الفسق، فهل يؤمر بالرفع أم لا؟ فيه قولان، المشهور أنه لا يرفع، إذ لا معنى لرفعه ولا فائدة لقوله، وقيل: يرفع لاحتمال الاستتار والانتشار برفعه، وهل يلزمه الإمساك ام لا؟ ولا خلاف في لزوم ذلك في حق نفسه، فإن أفطر فسنذكره بعد حين ذكره القاضي.

قوله: ((وليس من جهات العلم بدخوله قول منجم او حاسب)): وهذا مذهب الجمهور كما ذكره، وذهب مطرف بن عبد الله بن الحسن من كبار التابعين وابن سريج وغيره من الشافعيين إلى العمل على التنجيم في ذلك، وحكى أصحاب الشافعي عن الشافعي أن مذهبه الاستدلال بالنجم، ومنازل القمر في ذلك وهي رواية شاذة في المذهب. رواها بعض البغداديين من أصحاب وعليه حمل قوله عليه السلام:(فاقدروا له) من التقدير بالحساب والتنجيم، والجمهور

ص: 515

على أن المراد به تكميل العدد، ثبت مجيئه مفسرًا كذلك من طرق عديدة.

قوله: ((إذا تراءى الناس الهلال فلم يروه)) إلى آخره. يتعلق (هذا) الكلام بصيام يوم الشك. وقد خرج الترمذي من حديث عمار بن ياسر قال: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم) هذا حديث حسن صحيح.

فقد اختلف الفقهاء في (محمل) الحديث. فقيل: المراد به من صامه على أنه من رمضان، قال بعضهم: المراد من صامه تطوعًا، وحمله (بعضهم) على الإطلاق، وهو ظاهر اللفظ. وكذلك اختلف الفقهاء في جواز صومه على ثلاثة أقوال: منهم من منع ذلك مطلقًا تمسكًا بعموم النهي، ومنهم من اجازه حملاً للحديث على التأويل الأول الذي ذكرناه قال محمد بن مسلمة: من شاء صامه تطوعًا ومن شاء أفطره، ومنهم من أجازه تطوعًا لمن عادته سرد الصوم دون من خصه بالصوم، وهل يؤمر بصومه

ص: 516

(احتياطًا وتحريًا أم لا؟ اختلف المذهب فيه، فالمنصوص أنه لا يصام تحريًا، فإن صامه أنه لا يصام تحريًا، فإن صامه أنه لا يصام تحريًا، فإن صامه كذلك لم يجزه، ووجب عليه القضاء مطلقًا، وهو يؤمر بصومه) تحريًا مطلقًا في الصحو والغيم أخذًا من قول مالك فيمن شك هل طلع الفجر أم لا؟ أنه يؤمر بالإمساك وفي الحائض في أيام الاستظهار أنها تصوم وتصلي وتقضي احتياطًا، ولعلهما مختلفان في المعنى، فمثاله: أشار إليه الشيخ أبو الطاهر، وحكاه القاضي أبو محمد أنه يؤمر بالصوم فيه إذا كانت السماء متغيمة احترازًا. وحقق جواز الفطر فيه بقوله:((وترك صومه)) والأكل فيه جائز من غير حظر، كما لا يجوز مع الأصحاء، والله أعلم، ويصومه من ندره، وليس مورد النهي على الأصح من أقاويل العلماء.

قال القاضي رحمه الله: ((ثم إن ثبت بعد طلوع (الفجر) أن الهلال رئي في أمسه)) إلى قوله: ((وتعيين النية)).

شرح: وهذه المسائل التي ذكرها ظاهرة، ولا خلاف في هذه الصور إلا في جواز صومه تطوعًا، أو احتياطًا كما ذكرناه، وبدأ بمن يصومه على أنه من رمضان قطعًا، أو احتياطًا، والقضاء فيها واجب، والاحتياط في ذلك بمنزلة من صلى الظهر على شك، أو اغتسل على أنه إن كانت عليه جنابة فقد ارتفعت بهذا الغسل، وكل ذلك باطل، لا تجزئ النية، وكل من صامه لرمضان، أو لغيره من الواجب في الذمة، أو الواجب بالنذر المعين، أو غيره، فعليه قضاؤه لرمضان، أو لغيره من أنواع الصيام الواجب إلا أن يصومه

ص: 517

لنذر معين، فيفطر لعذر، أو نسيان، ففي وجوبه عليه قولان، لأن بالتعيين صار كرمضان، والإسقاط بناء على اعتبار العذر والنسيان، ولا قضاء عليه إن صامه تطوعًا، وإنما يقضيه عن رمضان فقط.

قال القاضي رحمه الله: ((وتعيين النية واجب لكل صوم واجب)) إلى آخر الفصل.

شرح: وهذا مذهب مالك وجمهور الفقهاء أن تعيين النية للصوم واجب، لقوله عليه السلام:(وإنما لكل امرئ ما نوى). ومن العلماء من رآى الاكتفاء بنية الصوم المطلق وهو قول أبي حنيفة قال: إن أطلق نية الصوم أجزأه، وكذلك إن نوى في رمضان صيام غير رمضان انقلب إلى رمضان إلى أن يكون مسافرًا، فإن النية لا تنقلب في حقه من حيث كان له الفطر والصوم فلم يتعين الصوم في حقه كتعيينه في حق الصحيح الحاضر، وكذلك اكتفى بالإطلاق حيث يتعين الصوم، ونبه القاضي على ذلك في أثناء كلامه.

قوله: ((فإن عين غيره لم يجزه عن رمضان ولا عما نواه)) وهو كما ذكره. أما عدد إجزائه عن رمضان فلأنه لم ينوه، وأما إن نواه عن غير رمضان فلأن الزمان متعين لرمضان.

قوله: ((وإن جمع في نيته وجهين)): لم يجزه عن واحد منهما لاشتراك المناقض لخصوصية كل عبادة منهما. ثم تكلم على ما إذا رآى الهلال ظاهرًا. ولا يخلو أن يرى قبل الزوال أو بعده، فإن رئي بعد الزوال، فلا خلاف في المذهب أنه لليلة المستقبلة، لأن ما بعد الزوال عشاء عند العرب حكاه الجوهري في الصحاح، واختلف إذارأي قبل الزوال هل

ص: 518

يجعل لليلة الماضية، أو يجعل للمستقبلة فيه قولان عندنا، وكذلك اختلف الفقهاء فيه، [فقال] أبو حنيفة والشافعي هو لليلة المستقبلة، وقال أبو يوسف وأبو بكر بن داود: هو لليلة الماضية، وهو قول ابن حبيب من أصحابنا، والمعتمد عليه من المذهب أنه لليلة المستقبلة، وفي الآثار: أن عمر بن الخطاب بلغه أن قومًا رأوا الهلال فأفوا. فكتب إليهم يلومهم. وقال: إذا رأيتم الهلال قبل الزوال فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا. وقال علي بن أبي طالب نحوه. وفي حديث علي: فإن الشمس ترفع عنه، أو تميل عنه. ولم يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم -شيء.

قوله: "ويلزم المنفرد برؤية الهلال (من الحكم) ما يلزم من شورك في رؤيته": وهذا مذهب مالك كما ذكرنا. وقد تقدم الكلام هل يؤمر بالرفع أم لا؟ وشذ (الحسن) وعلي بن أبي رباح فقالا: لا يصوم إلا برؤية غيره معه، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب من طريق ضعيف الإسناد،

ص: 519

وكذلك اختلفوا هل يفطر برؤية نفسه وحده أم لا؟ فقال الشافعي، وغيره: فيجب عليه الفطر لأنه يؤمر بجزم الصوم على مقتضى قوله.

وتحصيل مذهب مالك أنه يصوم برؤيته وحده، وهل يفطر برؤيته أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه يفطر سرًا بناء على علمه أنه يوم محرم الصوم. والثاني: أنه لا يفطر خوفًا من (الفساد) وسد الذرائع. وإذا رأى هلال الصوم وحده، وأوجبنا عليه الصوم فأفطر عامدًا غير متأول، فعليه القضاء والكفارة، وإن أفطر عامدًا متأولاً أن الصوم لا يلزمه، أو جاهلاً، فهل تجب على الكفارة، أو القضاء، أو القضاء فقط، فيه قولان بناء على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ وهل الجاهل كالعامد أو كالناسي، وفي الأصلين خلاف مشهور.

قوله: "وصلوا العيد إن كان قبل الزوال": وهذا كما ذكره، لأنه محل لهذه الصلاة، وهل تصلي بعد الزوال أو من الغد. واختلف الفقهاء فيه، والمذهب كما ذكره القاضي والله المستعان.

قال القاضي رحمه الله: "الأيام على خمسة أضرب" إلى آخر الفصل.

شرح: ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن صيام يومين يوم فطركم من صيامكم ويوم تأكلون فيه من نسككم) وكذلك أجمع الجمهور من العلماء

ص: 520

على تحريم صومهما مطلقًا وهو أول الأقسام الخمسة.

واتفق المذهب على جواز صوم يوم التشريق الثاني والثالث للمستمتع، ولو كان صومهما محرمًا لعينهما لمنع للمستمتع وغيره وهو القسم الثاني. واختلف المذهب هل يقضي فيهما رمضان أم لا؟ وهل يصامان أيضًا على الكفارة أم لا؟ فيه قولان، وكذلك اختلف المذهب في النادر لهما بعينهما هل يصومهما أم لا؟ المشهور أنه لا يصومهما لشيء من ذلك، ويصوم الرابع للنذر، وقيل: لا يصومه أيضًا. والمشهور جواز صوم الرابع للنذر دون الثاني والثالث، لأن الرابع لا يتناوله قوله.

والقسم الثالث: هو ما يصح أن يصام ويكره على وجه، وهو الرابع من أيام التشريق فيصومه من نذره، ولا يصومه غير الناذر.

والقسم الرابع: أيام رمضان المستحقة له المتقربة بصيامه.

والقسم الخامس: ما عدا رمضان وهذه الأيام. وكره بعض العلماء صوم يوم السبت خوف الاشتراك مع اليهود في تعظيمه، وكره بعضهم صوم يوم الجمعة وحده خوفًا من مضاهاتهم في تعظيم يومًا من الأسباع، والنهي عن ذلك ثابت في الصحيح، وأجاز مالك صومه اتباعًا للعمل، وقال بعض أهل الفضل: يتحراه. وقد تقدم الكلام في صوم يوم الشك.

ص: 521

قال القاضي رحمه الله: "ولا يفسد الصوم ذرع قيء ولا حجامة".

شرح: لا يخلو القيء أن يكون اختيارًا، أو غلبة، فإن كان اختيارًا فاستدعاه وقصد إليه فجمهور العلماء على أنه يفطر خلاف طاوس فإنه قال: لا يفطر مطلقًا. وإذا قال بقول الجمهور فإما أن يكون لضرورة دعته إليه، أو لغير ضرورة، فإن استدعاه لضرورة، فعليه القضاء خاصة، وهل القضاء على جهة الإيجاب أو على جهة الاستحباب ففيه عندنا قولان. فاختار الشيخ أبو القاسم بن الجلاب أنه استحباب، لأنه لو كان واجبًا لاستوى مختاره وغالبه كالأكل والشرب إذا قصده أو أكره عليه. واختيار غيره أنه إيجاب لا استحباب، ولا خلاف في نفس الكفارة عليه في هذه الصورة ولا كفارة عليه، وإن استدعاه لغير ضرورة فعليه القضاء على ما ذكرناه. وفي وجوب الكفارة قولان في المذهب المشهور سقوطهما إذا لم يصل إلى الحلق شيء، والشاذ وجوبها، وهو اختيار الشيخ أبي الفرج إذ لا يسلم غالبًا من أن يرجع إلى حلقه شيء، وإن أتاه غلبة فجمهور العلماء على أنه [لا] يفطر خلافًا لربيعة، فإنه قال يقضي مطلقًا اعتمادًا على حديث ضعيف ورد به.

قوله: "ولا حجامة": تنبيه على مذهب (ابن حنبل) حيث رأى أنه إذا

ص: 522

احتجم فقد أفطر الحاجم والمحتجم. اعتمادًا على حديث ورد بذلك، صححه أحمد.

قوله: "ولا إصباح على الجنابة": تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن مذهب عروة ابن الزبير والحسن البصري وطاوس وعطاء وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن صيام الجنب باطل. واختلف النقل فيه عن أبي هريرة. والجمهور على صحة صوم الجنب اعتمادًا على حديث عائشة:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -يصبح جنبًا من غير احتلام وذلك في رمضان). وقد تقدم الكلام في الحائض والنفساء إذا ارتفع دمها، وتركت الاغتسال قبل الفجر.

قوله: "ولا ركوب مأثم لا يخرجه عن اعتقاد وجوبه": تحرزًا من قطع النية أو خرم الإمساك تهاونًا، فإن ذلك مناقضًا لاعتقاد الوجوب. وشذ بعض أهل العلم فرآى أن الغيبة، والقذف، والكذب، ونحو ذلك من جملة المفطرات تمسكًا بظاهر قوله عليه السلام: (من لمن يدع قول الزور والعمل به

ص: 523

والرفث في الصوم، فليس لله حاجة في ترك طعامه وشرابه) الحديث. وقد اختلف العلماء في السواك للصائم ومذهب مالك كراهية السواك الرطب للصائم خيفة أن يصل إلى حلقه، ولا بأس بالسواك (اليابس) في النهار كله، وكرهه الشافعي بعد الزوال لأنه يذهب بخلوف فم الصائم الذي هو عند الله أطيب من ريح المسك.

قوله: "ويكره له ذوق قدر، ومحو مداد، ومضغ علك": وهذا مما اختلف العلماء فيه ومذهب مالك ما حكاه القاضي. وانظر كيف نص في هذا المقام على أن ذلك من جنس المكروهات للصائم، وأدخله في الفصل الأول تحت ما يجب الامتناع منه، لأن هذا كله من جنس المطعومات ففي كلامه (تجوز) ظاهر، ونحن نفصل الكلام في حكم الصائم يتناول شيئًا من تلك الممنوعات بالصوم. أما الطعام والشراب فلا خلاف في وجوب (الاكتفاف) عنهما في حال الصوم في وجوب القضاء عليه إن تناولهما.

واختلف في مسائل:

(المسألة) الأولى: إذا كان في فمه حصاة أو لؤلؤة أو نواة أو عود أو

ص: 524

نحو ذلك مما لا يغذي فيسبق إلى حلقه. قال ابن حبيب: عليه القضاء في السهو والغلبة وإن تعمد ذلك فليكفر قاله ابن الماجشون. وقال أصبغ عن ابن القاسم: كل ما ليس فيه غذاء مثل الحصا واللوزة يقشرها فلا يقضي في سهوه، ويقضي في العمد، وقيل في المذهب: لا شيء عليه في التراب والحصا والدرهم، لأنه لا يتطعم ولا يغذي.

المسألة الثانية: الدهن والكحل. قال مالك في الكحل وصب الدهن في الأذن هو أعلم بنفسه، منهم من يدخل في حلقه، ومنهم من لا يدخل ذلك. ونص الشيخ ابن الجلاب على كراهية الكحل، وأما الشموم (فهي) جوامد يتطعم، فلو تناولها عامدًا وجبت عليه الكفارة لأنها من المطعومات والشموم المستدامة كالمتطعم من الأغذية إذا وصلت كالدهن ونحوه.

المسألة الثالثة: الفلقة من الطعام بين الأسنان ولا قضاء عليه، وقيل: يجب من غبار الطريق، لأنه مما يمكن الاحتراز منه دون ما لا يمكن ذلك كالدقيق ونحوه، فقال ابن القاسم: ومن داوى جائفة بدواء مائع فلا قضاء عليه، واختلف في البلغم إذا أمكن طرحه فابتلعه، فقيل: يقضي، وقيل: لا قضاء عليه لأنه لا يغذي، وكذلك في القلس. وقال

ص: 525

الشيخ أبو الطاهر: ولا خلاف في سقوط الكفارة في الواصل إلى المعدة، أو إلى الحلق من غير الفم إلا ما قاله أبو مصعب فيما دخل (من منفذ واسع)، وهو بعيد جدًا، لأن هذا مما لا تتشوق النفوس إليه فيعلق عليه الكفارة، وإنما ظن أن الشريعة عليه الكفارة (بوصول) شيء إلى المعدة مع العمد والقصد، وسيجيء الكلام في الأكل والشراب والجماع ومقدماته بعد.

قال القاضي رحمه الله: "والأحكام المتعلقة بإفساد الصوم أربعة".

شرح: قد قدمنا أن القضاء والكفارة أحكام مرتبة على الفساد، وأن قطع النية وقطع التتابع لازمان للإفساد، أحدهما: لزوم السبب، والآخر: لزوم المسبب. وقسم الصوم المتعين قضاؤه إلى أقسام ثلاثة. وبدأ بالمعين بتعيين الله تعالى، وهو رمضان، والإجماع منعقد على وجوبه.

قوله: "وقضاؤه ما بينه وبين رمضان ثان": وهذا (التوسع) يقتضي أن قضاء رمضان ليس على الفور، والدليل عليه قول عائشة:"كنت أقضي الصوم في شهر (شعبان) لاشتغالي بخدمة رسول صلى الله عليه وسلم" والبدار إلى

ص: 526

قضائه أبرأ للذمة، وأحوط للواجب، فإن أخر قضاءه إلى دخول رمضان المقبل اشتغل بصوم الداخل، وكان عليه قضاء من الخارج بعد، والفدية، فإن صام الداخل قضاء على الخارج ففيه ثلاثة أقوال في المذهب، فقيل: لا يجزئه عن واحد منهما، وعليه قضاء شهرين فلا يجزئه عن الداخل لأنه لم ينوه، ولا يجزئه عن الخارج لأن زمانه معين للداخل، وهي رواية عن ابن القاسم وأشهب، وقال ابن القاسم: يجزئه عن الخارج، وعليه قضاء الداخل لقوله عليه السلام:(وإنما لامرئ ما نوى) وقيل: يجزئه عن الداخل، وعليه الخارج والفدية، لأن الزمان متعين للداخل، وإنما يجب عليه الفدية مع القضاء، إذا أخر القضاء بغير عذر، فإن كان معذورًا في بعض المدة دون بعض أطعم في الأيام التي لا عذر له فيها، وقيل: عند وجود العذر. والإطعام مد لكل مسكين بالمد الأصغر من غالب القوت. وأما إذا أفطر في أيام الصوم المعين فلا يخلو أن يكون لعذر أو لغير عذر، فإن كان لعذر، فلا قضاء عليه وإلا فعليه. وفسر الأعذار بالمرض والإكراه، والإغماء، والسهو، والحيض، وخطأ الوقت والأمر في ذلك بين.

واختلف الفقهاء في صيام التطوع على ثلاثة مذاهب: فقال الشافعي: الصائم المتطوع أمين نفسه إن شاء صام وإن شاء لم يصم. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء مطلقًا سواء أفطر لعذر، أو لغير عذر، وقال مالكك: إن أفطر فيه لعذر فلا قضاء عليه، وإلا فالقضاء عليه، واعتمد الشافعي على حديث عائشة قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -يصبح صائمًا فقلت له: أنا صانع

ص: 527

لك حيسًا فقال: أما أنا كنت أريد الصوم ولكن قربيه) خرجه أبو داود واعتمد أبو حنيفة على قوله عليه السلام لعائشة وحفصة حين أصبحنا صائمتين فأفطرنا فقال لهما: (اقضيا يومًا مكانه) وخرجه أبو داود أيضًا من حديث أم هانئ قالت: لما كان يوم فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عند يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم تناولته أم هانئ فشربت منه، ثم قالت: يا رسول الله قد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها عليه السلام:(أكنت تقضين شيئًا؟ قالت: لا. قال: فلا يضرك إن كان تطوعًا) وجمع مالك رحمه الله بين هذه الأحاديث ورآه أولى من طرح بعضها، فأسقطه مع العذر، وأوجبه مع عدم العذر والمرض والحيض والجنون والنسيان أعذارًا، وفي السفر خلاف في المذهب. وأجمعوا على أن من قطع نافلة تلبس بها قبل تكملها فلا قضاء عليه، وأجمعوا على وجوب

ص: 528

قضاء حج التطوع إذا قطعه. فالصوم فرع بين أصلين: الحج والعمرة المتطوع بهما وقضاؤهما بالقطع واجب إجماعًا، والصلاة ناسيًا في صوم التطوع فعليه القضاء والجمهور على خلافه.

قال القاضي رحمه الله "وأما الكفارة فضربان" إلى قوله: "وأما الصغرى فهي".

شرح: أجمع العلماء على أن الكفارة في هذا الباب تنقسم إلى صغرى وكبرى، وبدأ بالكبرى. والأصل فيها حديث الأعرابي خرجه مسلم من حديث أبي هريرة جاء رجل إلى النبي _صلى الله عليه وسلم- فقال: هلكت (وأهلكت) يا رسول الله قال: (وما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما [تعتق به رقبة، قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما؟ تطعم ستين مسكينًا؟ قال: لا، ثم جلس فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا، فقال: تصدق بهذا، فقال: أعلى أفقر منا، فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب فأطعمه أهلك). وفي طريق آخر: (قال: فلكه) وفي حديث عائشة: (فجاءه عرقان فيهما طعام فأمره أن يتصدق به) وقال أبو داود: (فأتى بعرق تمر فيه قدر عشرين صاعًا)

ص: 529

وطريق حديث مسلم أصح وأشهر، وليس فيها صوم يوم، ولا مكيلة التمر، ولا الاستغفار. وذكر مالك في مراسيل ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:(هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: هل تستطيع أن تهدس بدنة؟ قال: لا) الحديث.

قال المصنف: اختلفت الروايات في ذكر أنواع الكفارات في هذا الحديث. ففي بعض الطرق عتق الرقبة، ثم الصيام، ثم الإطعام، وفي بعضها ذكر العتق ثم البدنة، وذكر البدنة في هذا الحديث جماعة من الرواة منهم: الحسن ومجاهد وقتادة وعطاء الخرساني. وفي حديث ابن المسيب أن رسول الله أمره أن يعتق رقبة أو بكفارة الظهار.

قوله: "فأما الكبرى فلا تجب إلا في رمضان": وهذا كما ذكره لا أعلم فيه بين العلماء (خلافًا) إلا ما روى عكرمة وقتادة أن من أفطر في قضاء رمضان فعليه الكفارة، فقيل: كفارة رمضان، وقيل: بدنة مقلدة.

قوله: "وتجب بالخروج عن صومه على وجه الهتك من كل معتقد لوجوبه من رجل أو امرأة" فخرج الناسي بقوله: "على وجه الهتك"، لأن الناسي ليس بهاتك. ويخرج المتأول كمن أفطر ناسيًا فاعتقد سقوط حرمة الصيام فأفطر بعد ذلك متعمدًا.

واختلف المذهب في أصلين: الأول: من جامع في نهار رمضان ناسيًا

ص: 530

للشهر هل عليه الكفارة أم لا؟ وسنذكره بعد. الأصل الثاني: إذا أفطر ناسيًا ثم أفطر متأولًا من غير نسيان فعليه القضاء بلا خلاف

واختلف المذهب في وجوب الكفارة عليه على قولين، من ذلك المرأة ترى الطهر ليلًا فلا تغتسل فظنت أن من لم يغتسل لا يصوم فتأكل، أو الرجل يفطر ناسيًا لسقوط حرمة الصوم فيفطر متأولًا، والرجل يدخل من سفره ليلًا فيظن ألا صوم عليه إلا بالدخول نهارًا فيفطر، والمسافر سفرًا قريبًا يظن أنه يبيح الفطر (بعذر) ومن رأى الهلال وحده فأفطر ظانًا بأن الصوم لا يلزمه والمرأة تفطر ظانة أن اليوم يوم حيضتها والمسافر يفطر ظانًا أنه يخرج لإكماله فيقيم والمريض يظن أن الحمى تأتيه يومه ذلك فلا تأتيه. فهذه المسائل كلها يتصور فيها جه من التأويل، فلا خلاف في وجوب القضاء فيها، وفي وجوب الكفارة فيها قولان في المذهب، المشهور سقوط الكفارة عذرًا بالتأويل سيما إذا كان التأويل ظاهرًا، والخلاف في ذلك بعد هذا التأويل. قال ابن القاسم: رأيت مالكًا يسقط الكفارة في كل ما (سئل) عنه من هذه الوجوه على التأويل. قال ابن الماجشون والمغيرة في المجموعة وابن حبيب: من أفطر ناسيًا ثم أفطر بعد ذلك متعمدًا، أو وطئ متأولًا فليكفر. قال ابن حبيب: إن وطئ متأولًا كفر، وإن أكل متأولًا لا يكفر.

قوله: "لكل يوم كفارة": هذا هو المشهور، وقيل: لكل هتك كفارة، وتظهر فائدة ذلك إذا تكرر الهتك في اليوم الواحد مرارًا فتتعدد عليه الكفارة، وقيل: لا يتعدد أنواع الهتك، إعطاء الثاني حكم الأول، وكما وجبت الكفارة بالأول كذلك تجب بالثاني، ومن رأى أن الحرمة تسقط بالهتك الأول اكتفاء

ص: 531

بالكفارة الأولى، وهذا الخلاف قائم إذا كفر عن الهتك الأولى ثم انتهك، وأما لو انتهك فلم يكفر حتى انتهك ثانية فحكى أشياخنا أن الكفارة لا تتعدد في هذا المحل، والذي يقتضيه) النظر تعدد الكفارة مطلقًا، اعتبارًا بصورة الهتك.

قوله: "لا يسقطها عن يوم وجوبها في آخر" معناه: إن تعدد الانتهاك في اليوم يوجب لكل يوم كفارة، ولا أعلم فيه خلافًا.

قوله: "من غير اعتبار بالأنواع التي يخرج (بها عن الصوم) ": يعني أن أنواع الإفطار سواء بالأكل أو بالشرب أو الجماع اعتبارًا بالمعنى الجامع، فلذلك ألحقنا بالجماع غيره من أنواع المفطرات ونبه بذلك على مذهب المخالف حيث قصر الكفارة على الجماع فقط وهو قول الشافعي.

سبب الخلاف فيه: هل الانتهاك بالأكل الشرب في معنى الانتهاك بالجماع أم لا؟ فقال الشافعي: الكفارة عقوبات لانتهاك الحرمة، والنفس للجماع أميل طبعًا، فكان تعليق الكفارة على خصوصية الجماع مناسبًا لمقصود الشارع، فلا يلحق به ما ليس في معناه، ولما كان ذلك عقوبات على الانتهاك وجب على ذلك قصر الكفارة على العامد دون الناسي من حيث كان غير منتهك بالمعنى. وكذلك لا تجب على مقتضى ذلك على المكره، وفي الأصلين عندنا خلاف الأولى إذا جامع في نهار رمضان ناسيًا فلا خلاف في وجوب القضاء، وفي وجوب الكفارة قولان الوجوب، لأن الاستفصال في قرائن الأحوال في مواضع الاحتمال يتنزل منزلة العموم في المقال، والإسقاط وهو المشهور لأنه غير مكلف ولا طالب الانتهاك، وكذلك المكره على الجماع، هل تجب عليه الكفارة أم لا؟ فيه قولان عندنا أيضًا الوجوب إذ لا

ص: 532

يأمن لذة (قبلة)، ولا يتعلق بها الإكراه البتة وهو قول ابن الماجشون، والإسقاط لأن تلك اللذة طبيعية لا اختيارية، إذا كان الجماع مكرهًا عليه في حال الصوم، كانت أسبابه الداعية إليه وإلى الإنزال محرمة كالفكر والنظر والقبلة والملاعبة والمباشرة، لأن ذلك كله استدعاء المني ويستنزل به اللذة الطبيعية غالبًا، ولا خلاف أن فعل هذه المقدمات التي عددتها في حال الصوم يستدعي المني، لا يجوز. وإنما الخلاف هل يمنع (بنفسها) للاستدعاء، أو إنما يمنع الاستدعاء فقط، ومنه نشأ الخلاف في جواز القبلة للصائم، والخلاف في ذلك بين السلف مشهور، وفي المذهب في القبلة للصائم ثلاثة أقوال: التحريم مطلقًا لأن مظنة الشيء كالشيء غالبًا، والكراهية لما فيها من الاحتمال لإفساد الصوم، وعدم إفساده. وجوزوها للشيخ، ومن علم من نفسه سلامته غالبًا. منعها للشاب ومن لا يتقي سلامته منها غالبًا والخلاف في ذلك بين السلف مشهور. وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(يملك إربه). وروى عن ابن عمر قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فرأيته لا ينظر إلي فقلت: يا رسول الله ما شأني؟ قال: ألست الذي تقبل وأنت صائم؟ قلت: والذي بعثك بالحق لا أقبل بعدها، وأنا صائم أبدًا) وفي إسناده

ص: 533

متكلم. وأما الفكر والنظر لغير استدعاء المني فجائز، وأما المباشرة، والملاعبة فممنوعة لقوله سبحانه:{فالأن باشروهن} الآية [البقرة: 187] ومقتضاها تحريم المباشرة بعد الفجر.

تكميل: اختلف الفقهاء في من فعل مقدمات فأمنى مثل القبلة والمباشرة عل تجب عليه الكفارة، لأن فاعل السبب كفاعل المسبب في قضاء الانتهاك، أو لا يجب، لأن وجوب الكفارة معلق عن الجماع. والأول هو المشهور عندنا. وكذلك اختلف المذهب فيمن استدام النظر فأمذى، هل القضاء عليه واجب، أو مستحب، فيه قولان مراعاة للقصد، والاستدامة، والاستحباب اعتبار للسلامة. ولو استدام النظر فأمذى فالقضاء في هذه الصورة مستحبة، ولو نظر فالتذ بقلبه فلا شيء عليه. ولو أنعظ، فالمشهور القضاء خاصة ولا كفارة عليه. وعندنا وجوب الكفارة عليه إذا استدام النظر حتى أنعظ، لأن ذلك علامة على تحريك المني وقرب خروجه، ولو استدام النظر فأمنى فالكفارة واجبة عليه، وإن لم يداوم النظر فأمنى فلا خلاف في وجوب القضاء عليه. وفي وجوب الكفارة عليه قولان فقيل: عليه الكفارة إذا قصد النظر والمشهور سقوطها، لأن النظر لا يكون سببًا للمني غالبًا. وحكى الشيخ أبو القاسم فيمن نظر أو تذكر فأنزل روايتين في وجوب الكفارة، فقيل: إنها واجبة، وقيل: عليه القضاء دون الكفارة. ولو قبل فالتذ بقلبه فلا شيء عليه، وإن أنعظ فقولان وجوب القضاء، إذ الإنعاظ علامة على تحريك المني للخروج، وإسقاطه، لأن الاعتبار بالخروج لا (بالتمييد) للخروج،

ص: 534

وكذلك حكم المباشرة، أو الملاعبة إن لم ينعظ فلا شيء عليه، وإن أنعظ فقولان في القضاء: الوجوب والإسقاط، ولو قبل أو باشر أو لاعب (ناسيًا) فههنا وجبت عليه الكفارة بلا خلاف، ولو مس ذكره فأمنى أو مست المرأة فرجها فأمنت فعليها القضاء، والكفارة رواية عن المذهب. وكذلك إن جامع في الفرج فأنزل أو لم ينزل أو جامع فيما دون الفرج فأنزل، فإن جامع دون الفرج فلا كفارة إلا أن ينزل فلا يختلف حينئذ وهل يجب عليه القضاء إذا جامع دون الفرج فلم ينزل، نص البغداديون على وجوب القضاء.

فقال: بعض شيوخنا الممنوعات التي يجب أن يمسك (عنها الصائم) نفسه ثلاثة:

الأول: الجماع ودواعيه.

والثاني: ما يصل (إلى البطن) من منافذ الجسد.

والثالث: الاستقاء.

الواجب بذلك ينقسم خمسة أقسام.

الأول: يوجب القضاء والكفارة باتفاق، وهو الوطء العامد، فالكفارة في (هذا القسم) واجبة باتفاق.

الثاني: ما يوجب القضاء باتفاق، واختلف في وجوب الكفارة، وهو من قبل أو باشر مرة واحدة فأنزل، ومن أسقط نية الصوم من قبل الفجر إلى غروب الشمس عامدًا أو الوطء ناسيًا، والأكل والشرب جاهلًا، ومن قالت:

ص: 535

حيضتي اليوم فأفطرت قبل الحيض حاضت فيه، والمريض القادر على الصوم يقول: اليوم يوم حماي فيفطر قبل مجيء الحمى والإكراه على ما يفسد الصوم، ومن أصبح على سفر فأفطر ولم يسافر فالقضاء في جميع ذلك واجب، وفي وجوب الكفارة قولان عندنا.

الثالث: ما يوجب القضاء باتفاق، ولا كفارة فيه، وذلك الأكل والشرب نسيانًا، ومن ظن أن الشمس غابت، وأن الفجر لم يطلع ثم تبين خلافه. ومن نظر أو لمس أو قبل أو باشر، وقد كرر ذلك عامدًا ولم ينزل.

الرابع: اختلف في القضاء ولا كفارة فيه كالفتائل للحقنة وصب الدهن في الإحليل ومن يداوي جحائفة بدواء مائع، وغيار الطريق الدقيق فلا كفارة في ذلك كله، وفي وجوب القضاء قولان.

الخامس: اختلف في القضاء والكفارة فيه كالفلقة من الطعام بين الأسنان يبلعها عامدًا أو جاهلًا. وعليه قد اختلف في وجوب القضاء والكفارة على قولين، فقيل: القضاء خاصة دون الكفارة، وقيل: عليه القضاء والكفارة، وقد تقدم الكلام فيمن جامع عامدًا.

ويتعلق بذلك حكم المرأة، ولا يخلو أن تطاوعه على الجماع أو يكرهها، فإن طاوعته فعلى كل واحد منهما القضاء والكفارة، وإن أكرهها فهل يلزمه التكفير عنها أم لا؟ فيه قولان في المذهب اللزوم تغليظًا عليه، ونفيه، لأن كفارته تجزئ عن الهتك، قال مالك: ومن قبل امرأته قبلة واحدة فأنزل فعليه القضاء والكفارة.

ص: 536

قوله: "ولا بالوجه الذي يخرج عن الصوم من اعتقاد تركه": يعني اعتقاد ترك الصوم وذلك أمسك عابثًا لا متقربًا.

قوله: "إن بعد عقده": يعني أن يتركه. ويفسد عقده فهو كالأول.

قوله: "بقطع نية أو إمساك" أو قطع إمساك فهو تنويع لنوع الفساد، إما قطع النية وإما قطع الإمساك.

قوله: "ولا بطروء عذر بعد ذلك أو عدمه": يعني إذا أفطر منتهكًا، ثم لم يقض اليوم حتى جدت له معنى يبيح الفطر، فالقضاء والكفارة واجبان عليه لمقصوده الأول، والطارئ لا يرفع حكم الكفارة الثابت قبل الطروء.

قوله: "والكفارة الكبرى ثلاثة أنواع": هذا كما ذكره، وقد اختلف في هذه الكفارة هل هي على الترتيب أو على التخيير، وذلك مبني على اختلاف روايات الحديث ففي بعضها هل تستطيع أن تعتق رقبة أخرى، وذلك يقتضي الترتيب وهي رواية ابن وهب عن مالك، وبذلك يقول الشافعي وأبو حنيفة.

وجمهور أصحاب مالك على أنها على التخيير. فإذا قلنا: إنها على التخيير، فقد اختلفوا في الأفضل من أنواعها، (فقيل) هو الإطعام. قال

ص: 537

ابن القاسم: ولا يعرف مالك غيره، وروى ابن القاسم عنه أن المستحب في الفطر بالأكل الإطعام، ثم الصوم، ثم العتق، وقال أبو مصعب: إن أكل أو شرب فليس عليه إلا الإطعام، وإنما العتق والصيام في الوطء لأنه أعظم جرمًا. وقال مالك: الجميع في الاختيار سواء.

واعتبر بعض الأشياخ حال المكفر، وحال البلد والوقت، فالإطعام في زمان الجوع أفضل، والعتق في زمان الرخاء أفضل، إلا أن يكون المكفر من أهل الرفاهية فيغلط عليه بالصيام وهذا استحسان، وإذا قلنا: إنها على الترتيب فشرع في الصوم ثم أيسر في أثنائه فهل ينتقل أم لا؟ فيه قولان في المذهب، والصحيح أنه ينتقل، لأنه بالدخول فيه قد تعين.

تفريع: اختلفوا في السفيه هل يجزئ عنه الصيام، وإن كان واجدًا لغيره أم لا؟ وفيه قولان عندنا. أحدهما: أن فرضه الصيام، لأن العتق والإطعام إتلاف للمال، وقيل: هما مرتبان عن سبب فليستا بإتلاف شرعًا.

قوله: "إعتاق رقبة كاملة": احترازًا من المعتقة بعضه. قوله: "غير ملفقة". قوله: "مؤمنة": احترازًا من الكافرة. قوله: "محررة": أي ليس فيها عقد حرية، ويشترط أيضًا أن تكون سالمة من العيوب، وكذلك حكم كفارة الظهار وغيره من أنواع الكفارة. والخلاف عندنا مشهور، هل يعتبر قوت المكفر نفسه أو قوت أهل البلد.

قال القاضي رحمه الله: "وأما الصغرى فهي إطعام" إلى آخر الفصل.

شرح: الأصل في الكفارة الصغرى قوله سبحانه: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة: 184].

والجمهور على أن هذه غير منسوخة بل محكمة للحبلى والمرضع،

ص: 538

ولا خلاف أنها مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء مفسرًا في السنة، ويتعلق بمؤخر قضاء رمضان إلى رمضان من غير عذر، والمرضع، والحامل، والشيخ الكبير المفند والعطشان الذي يخاف الهلاك على نفسه. أما مؤخر قضاء رمضان من غير عذر فلا خلاف في وجوب القضاء، وهذه الكفارة الصغرى عليه. واختلفوا في المرضع هل تجب عليها هذه الكفارة مع القضاء إذا أفطرت لعذر أم لا؟ وفيه روايتان عندنا، فكما سهل الشيخ أبو القاسم بن الجلاب فقال: ليس عليها إلا القضاء فقط كالمريض، وقيل عليه القضاء (والكفارة) وكذلك المعطش والشيخ المفند هل تجب عليه (الكفارة) أيضًا أم لا؟ فيه قولان عندنا.

ونص القاضي على أنها مستحبة في حق المرضع والهرم. وأما الحامل ففيها أربعة أقوال:

الأول: وجوب القضاء والكفارة مطلقًا سواء خافت على نفسها، أو على ولدها.

الثاني: سقوط القضاء مطلقًا.

الثالث: وجوبه فيما بعد الستة الأشهر، لأنها في حكم المريض وسقوطها فيما قبل ذلك.

الرابع: أنها إن خافت على نفسها فلا كفارة عليها، وإن خافت على ولدها فعليها الكفارة مدان والاستدلال عليها غير متحصل على التحقيق.

قوله: "وأما قطع التتابع فهو أن يفطر بغير عذر أو بعذر يمكنه دفعه

ص: 539

كالسفر": قد ذكرنا أن تسمية القاضي قطع التتابع وقطع النية حكم فيه تأمل، وإنما لاحظ في ذلك أنه إذا قطع التتابع بغير عذر، وجب عليه الابتداء، أو حرم النية فهو حكم يوجب الابتداء وامتناع البناء، وجعل السفر عذرًا اختياريًا لا يعتبر مع الأعذار التي ذكر، وقد تقدم الخلاف في ذلك في صيام التطوع، وأما السهو والمرض وخطأ العدة والحيض بأكله بقيته.

قوله: "وأما قطع النية فهو إفساد الصوم أو تركه على الإطلاق": وأشار بالإفساد إلى خرمه بوجه مفسد بعد انعقاده (وأشار) بقوله: "أو تركه على الإطلاق" إلى من يعقده (البتة)؟، وهذا القسم فيه نظر، لأن الترك المطلق لا يصدق على قطع النية، وكلام القاضي يقتضي حمله عليه، فلو قال القائل: قطع النية ترك الصوم لكان الكلام غير مفهوم البتة، وكذلك ليس إفساد الصوم أيضًا هو غير قطع النية، بل القطع فعل المكلف، والإفساد حكم شرعي مترتب على المكلف.

قوله: "ولا يقطع استدامتها وإنما يقطع استصحاب ابتدائها": إشارة إلى أن الأعذار التي هي المرض، والسفر، وإن كانت مانعة من (انحتام) مانع عقد الصوم فهي لا تمنع استدامته، لأن للمريض والمسافر أن يصوما (إنذارًا) لفعل الصوم، وتحملًا للمشقة في طاعة الله، غير أنهما إذا اختارا الصوم لزمهما تجديد النية وقطع هذا العذر استصحاب ابتداء النية المتصلة في جميع الشهر كما في حق الحاضر، ومن لا عذر له من المكلفين، فيلزم المريض والمسافر تجديد كل ليلة، لأن العذر مانع لهما من استصحاب النية الأولى، والضمير في قوله:"ولا يقطع" عائد على العذر الذي هو المرض والسفر.

ص: 540

قال القاضي رحمه الله: "وكل مسافر (سفر القصر) " إلى آخر الفصل.

شرح: الأصل في جواز الفطر للمسافر الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى:{وإن كنتم مرضى أو على سفر} الآية [المائدة: 6] فافطروا، وهو من لحن الخطاب. وأما السنة فحديث أنس قال:(سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم، ومنا المقر، فلم يعب أحد منا على الآخر) وانعقد إجماع الأمة على ذلك، واختلف المذهب في حكم ذلك كما تقدم في قصر الصلاة، والمشهور من المذهب أن الصوم أفضل، واحتج بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى:{وأن تصوموا خير لكم} الآية [البقرة: 184]. وأما السنة فما ثبت من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد فأفطر، ثم أفطر الناس، فكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فابتداؤه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه الأفضل، وعكسه آخرون فقالوا: رجوعه عليه السلام إلى الفطر يدل على أنه الأفضل وأما من قال بالتخيير فاحتج بحديث أنس، وقد قيد القاضي بقوله: سفرًا يجوز له قصر الصلاة فيه" فإن ما

ص: 541

دون ذلك لا يجوز له الفطر فيه، ولا القصر لانتفاء السنة غالبًا.

قوله: "ولا ينحتم عليه إلا بأن يقيم بعزيمة في موضع لا أهل له به أربعة أيام ولياليها": قلت: لأنه إذا نوى أربعة أيام صار حكم المقيم، يدل على ذلك أنه عليه السلام لما هاجر من مكة أذن لمن تخلف عنه أن يقيم ثلاثة أيام، وقد كان منع من الإقامة بها بعد هجرته عليه السلام، فدل على أن الثلاثة الأيام في حكم السفر لا في حكم الإقامة.

فرع: إذا أصبح صائمًا في الحضر، ثم عرض له سفر فسافر فهل يجوز له الفطر أم لا؟ المشهور أنه لا يجز له ذلك اليوم لانعقاد نية الوجوب عليه، وأجازه ابن حبيب، وحكى الشيخ أبو الحسن بن القصار عن المذهب كراهية الفطر لا تحريمه.

فإذا قلنا: إنه لا يجوز له الفطر، وهل يستحب ذلك في حقهم أم لا؟ فإن (تأول المسافر) فأفطر فلا يخلو أن يفطر قبل السفر أو بعده فإن أفطر بعد خروجه فقال المغيرة وابن كنانة عليه الكفارة لأنه بانعقاد سبب الوجوب عليه صار هاتكًا. وقال مالك: لا كفارة عليه، لأنه لم يفطر إلا في حال (لا يجب) عليه الصوم فيه. وإن أفطر قبل خروجها فاختلف في وجوب الكفارة عليه على ثلاثة أقوال. الأول: وجوبها عليه، خرج أو لم يخرج مراعاة لزمان الانعقاد، وحال الفطر. قال ابن القاسم: لا كفارة عليه لأنه متأول، وقد ذكرناه قبل، سواء خرج أو لم يخرج وهو قول أشهب وسحنون. وروى ابن

ص: 542

حبيب عن ابن القاسم وابن الماجشون أنه إن (أفطر استعمال أسباب السفر).

مسألة: وإذا صام في السفر ثم أفطر فهل تجب عليه الكفارة أم لا؟ قولان (وجوبه ونفيه) وقيل: تجب مطلقًا، لأن دخوله في الصوم أوجبه عليه، وأراد التخيير، وقيل: لا كفارة عليه اعتبارًا بأصل التخيير وقيل: إن أفطر فجامع فعليه الكفارة، وإن أفطر ولم يجامع فأكل فلا كفارة عليه، لأن ذلك يقوي على السفر بخلاف الجماع.

قوله: "والأعذار التي يسوغ معها الفطر في رمضان ضربان": مقصود هذا الفصل أن يبين أن من الأعذار ما يؤمر المكلف بالإمساك بقية يومه مع ارتفاعه، ومنها ما لا يؤمر بالكف في (يومه) كالمسافر والمريض والمرضع يموت ولدها لا يجب عليهم الكف، وأما الناسي، ومخطئ الوقت والعدد، عليهم ذلك. فالناسي هو الداهل عن كون اليوم من رمضان. وأشار بمخطئ الوقت إلى الأسير. والخطأ في العدد ظاهر وذلك عند الأهلة. وانظر قوله:"منها ما لا يوجب ذلك فيه" هل يقتضي إثبات الاستحباب، أو التخيير، ومقتضى اللفظ نفي الإيجاب فقط. وأشار بقوله:"مع العلم" بكون اليوم من الشهر، أو بشرط عدمه (إلى) كلا القسمين، فإن المسافر والمريض والمرضع أبيح لهم الفطر مع علمهم باليوم، وأما الناسي ومخطئ الوقت والعدة فإنما أفطروا لعدم العلم باليومين، فقابل القسمين بطرفين، قابل المسافر والمريض والمرضع بطرف العلم، وقابل الناسيء ومخطئ الوقت والعدة

ص: 543

بالطرف الآخر الذي هو عام العلم باليوم، وقابل شيئين بشيئين وهي مقابلة حسنة، والتفات صحيح في الكلام. والضمير في قوله:"أو شرط عامه" عائد على العلم، والإباحة المطلقة، إشارة إلى الإباحة في محل العذر، فهي مطلقة في محلها والله الموفق.

ص: 544