الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب (في) قصر الصلاة في السفر
الأصل في القصر في السفر قوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلوات} [النساء: 101] الآية، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وأصحابه، ثبت ذلك عنه قولاً وفعلاً. وأجمعت الأمة أنها مشروعة، وإنما اختلف الفقهاء في أصل الفرض، فذهبت طائفة من أهل العلم سلفهم وخلفهم إلى مقتضى حديث ابن عباس قال:(فرض الله الصلاة على لسان نبيكم أربعًا في الحضر، وركعتين في السفر، وركعة في الخوف). فهؤلاء رأوا أن الفرض في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقالت طائفة بل كان أصل الفرض ركعتين فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر على حالها، وهو مقتضى حديث عائشة رضي الله عنها، وقالت
طائفة من أهل العلم: بل فرض كل واحد منهما على ما هو عليه، ففرضت صلاة الحضر أربعًا، وصلاة السفر ركعتين، وظاهر قوله سبحانه:{فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} أن أصل الفرض كان على التمام، لأن القصر لا يقصر، وقد رد أبو المعالي وغيره حديث عائشة رضي الله عنها بناء على أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول لتوقي الرواة على نقل مثله.
قوله: ((القصر في الصلاة الرباعية)): وهو كما ذكره، ولا خلاف بين الأمة إلا ما روي عن ابن عباس وغيره أن العتمة لا تقصر، لا أصل له من السنة، وأما المغرب وصلاة الفجر فالإجماع على أنهما لا تقصران.
قوله: ((وأداؤها على صفة أداء التامة)): الضمير عائد على الصلاة المقصورة، والمعنى أنها في التكبير، والركوع، والقراءة، وسائر أقوالها وأفعالها كانت تامة سواء، وإن خالفها من جهة العدد لا من جهة الهيئة مورد استثناء القاضي بقوله:((إلا في الاتمام)) والجمهور من أهل العلم أن القصر المراد بقوله تعالى: {أن تقصروا من الصلاة} هو قصر العدد لا قصر الهيئة.
قوله: ((وحد سفر القصر ثمانية وأربعون ميلاً)): يتعلق بهذا الكلام في حكم القصر، وفي حد المسافة، وقد اختلف الفقهاء في حكم القصر في السفر، فقيل: هو فريضة، والاتمام ممنوع احتجاجًا بحديث عائشة رضي الله عنها، وحققه الأئمة، لأنها كانت تتم، ولأنه عليه السلام، يتم وقيل: القصر سنة، لأنه عليه السلام فعله مظهرًا مداومًا عليه. وهو حقيقة السنة، وقيل: إنه رخصة، لأن سبب الرخصة قائم، وهو المشقة اللاحقة، فرخص للمسافر في القصر والفطر، وقيل: إنه مباح اعتمادًا على حديث أنس قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا الصائم، ومنا المفطر، ومنا المتم، ومنا المقصر، فلم يعتب أحد منا على الآخر) وهذا معقول الإباحة.
والذي اختاره القاضي من المذهب ونصره أن القصر سنة، والاتمام مكروه اعتمادًا على الفعل الدائم المستمر.
وأما المسافة المبيحة فاختلف السلف فيه اختلافًا كثيرًا. وتحصيل المذهب في ذلك أن السفر إما أن يكون بريًا أو بحريًا، وأما المسافة ففي المذهب روايتان، إحداهما: التحري بالزمان. الثانية: بالمكان. واختلفوا في تعيين الزمان على روايات. الرواية الأولى أنه لا قصر إلا في مسيرة اليومين التامين. الرواية الثانية أن لا قصر إلا في مسيرة اليوم والليلة. الثالثة: أنه لا قصر إلا في مسيرة اليوم. والذين حدوه بالمكان اختلفوا ي تعيينه، فقيل: أقل
من ذلك ثمانية وأربعون ميلاً، لا قصر في أقل من ذلك. وقيل: خمسة وأربعون ميلاً، وقيل: أربعون ميلاً، وقال ابن القاسم إن قصر في ستة وثلاثين ميلاً لم يعد. وحكى أبو محمد بن عطية المفسر في كتاب التفسير عن المذهب القصر في ثلاثين وقال: وفي المذهب أيضًا القصر في ثلاثة أميال فصاعدًا.
قلت وهذا غير معروف في المذهب، والمشهور ما ذكرناه من الروايات الأولى، وهذه الروايات الواقعة في المذهب مبنية على اختلاف الأحوال وتقارب الزمان، لأن هذه المسافة المكانية هي مظنة لا يقطعها المسافر في هذه المسافة الزمانية، وإن اختلفت فذلك بحسب اختلاف المسافرين في المشاة والركبان، وقد قال عليه السلام:(لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يومًا وليلة مع غير ذي محرم) ففي هذا النص الصريح ما يدل على أن هذه المسافة توجب حكم السفر، ومفهومه أن أقل من ذلك لا يوجب.
وثبت في هذا الباب آثار مختلفة عن السلف من الصحابة والتابعين، وذكرناها في موضعها، وأما سفر البحر فأكثر الرواة على أنه كسفر البر، وقال مالك بقصر أهل البحر في مسافة (اليوم) التام هكذا وقع في
المبسوط، وإنما حده بالزمان، لأن الأميال قد لا تنحصر فيه غالبًا، ولهذا اختار بعض الأشياخ التفصيل، فإن كان المسافر (ملجئًا) اعتبرناه باليوم التام، وإن كان (مسهلاً) اعتبرناه بالأميال على اختلاف الروايات فيه، وكل ذلك اختلاف في أحوال لا في فقه، فإن اجتمع السفر في البر والبحر غلب الكثر، وقيل يقع التلفيق.
قوله: ((فإن كان خلف مقيم فليتبعه)): وهذا الذي ذكره هو المشهور من المذهب، وعندنا في الصورة قولان: احدهما: أن المسافر يتبع الإمام المقيم بدل المخالفة، والثاني: أنه لا يتبعه بناء على أن فرضه القصر، فزيادته على الركعتين تبطل صلاته وإذا أمرناه بالاتباع هل يعيد في الوقت أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وهو جار على ما قدمناه في حكم القصر، وعندنا قولان أيضًا في من أتم عامدًا، فقيل: صلاته باطلة بناء على وجوب القصر، وتعيين عدد الركعات، وقيل: صلاته صحيحة مراعاة للخلاف.
قوله: ((وإن كان خلف مسافر فأتم فلا يتبع)): وهذا أيضًا فيه قولان عندنا الاتباع بدل المخالفة، ونفيه بناء على أن القصر مطلوب شرعًا.
قوله: ((ويستمر المسافر على القصر وإن عرضت له (إقامة) ما لم يبلغ بعزيمته إقامة أربعة أيام وليالهن)): وهذا مذهب مالك رحمه الله، والدليل على تخصيص هذه المسافة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(حرم على المهاجرين المقام بمكة أكثر من ثلاثة أيام): فدل على أن ما زاد، في حكم الحضر، وأن الثلاثة في حكم السفر.
قوله: ((ولا يقصر حتى يفارق بلده، ويخلفه وراء ظهره)): وهذا الذي ذكره هو المشهور من المذهب وعندنا فيه قولان أحدها: ما ذكره. والثاني: ما ذكره ابن القاسم وابن حبيب أنه لا يقصر حتى يجاوز البلد بثلاثة أميال، لأن هذا المقدار هو الذي يلزم فيه إتيان الجمعة، وكأنه في حكم الحاضر، ولا يتحقق له حكم المسافر إلا بالزيادة على ذلك.
قوله: ((ولا يقصر العاصي بالسفر)): وهذا هو المشهور من المذهب أيضًا، وعندنا قولان في العاصي هل يرخص له لعموم ورود الرخصة ام لا يباح له، لأن في ذلك إعانة على المعصية، والمشهور ما ذكره القاضي.
قوله: ((وإن فرغ من صلاة مقصورة ثم عزم على الإقامة لم تلزمه إعادة)): وهذه المسألة لم يختلف فيها المذهب، وإنما الخلاف إذا حدثت له نية الإقامة في أثناء الصلاة، ومبناه على أصل، وهو هل يلزمه عدد الركعات أم لا؟ وفي هذا الأصل قولان في المذهب قال مالك: إذا عقد منها ركعة وهو مسافر، ثم نوى الإقامة أضيف إليها أخرى، وجعلها نافلة، وصلى صلاة مقيم. وقال ابن دينار يبتدئ الصلاة، وإن كان إمامًا أتبعه المأموم، وابتدأ جميعهم الصلاة، وقال ابن القاسم إن كان إمام قدم غيره وخرج.