الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب زكاة الحرث
قال القاضي رحمه الله: ((وشرطها النصاب دون الحول)) إلى قوله: ((خمسة أوسق)).
شرح: الأصل في زكاة الحبوب قوله تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} إلى قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} فهذا بيان للوجوب والجنس، إجمال في المقدار، وإذا قلنا: إنه بيان للوجوب تمسكًا بصيغة الأمر في محل الإتيان، وإنما قلنا: إنه بيان لجنس الوجهين: الأول: قوله: {معروشات} فبين جنس المزكى. الثاني: قوله {يوم حصاده} فخرجت البقول إذ ليست مما يحصد تنبيهًا لقوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من الحب صدقة) والبقول والخضروات ليست مما يكال. وقد اختلف علماء السلف في الحق المراد في الآية، فقيل: الزكاة بناء على أنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وقال كثير من الصحابة ومن بعدهم: الحق المشار إليه هو (المواساة) منه والإحسان للقاصد إليه.
واختلف العلماء في الحبوب والثمار هل يشترط فيها النصاب أم لا؟ فقال الجمهور باشتراط النصاب فيها لمقتضى نص قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون الخمسة أوسق الزكاة). وقال أبو حنيفة: لا يشترط النصاب في الحبوب لعموم قوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) وضعفه الجمهور لأن المقصود منه بيان المقدار المخرج، لا بيان القدر المخرج منه مع أنه عام والخاص يقضي على العام، ولم يشترط فيه الحول لقوله سبحانه:{وآتوا حقه يوم حصاده} .
قوله: ((وهي واجبة في المقتاة وما يجري مجراه)): هذا هو أصل المذهب، وقد اختلفت الروايات فيه عندنا، فقال ابن الماجشون: الزكاة واجبة في كل شيء كالرمان والتفاح والسفرجل، والرواية الثانية: أنها تجب في كل مقتاة، متخذ للعيش غالبًا، والرواية الثالثة: أنها تجب في كل ما يخرج من الحبوب. والرواية الرابعة: أنها تجب في كل مقتاة، وإن لم يكن أصلًا للعيش كالتين ونحوه. قال ابن حبيب: يزكي بالأندلس، لأنها عندهم قوت، واختلف في زريعة العصفر، فقيل: يزكى، وقيل: لا زكاة فيه، وقيل: إن أكثر زيتها وجبت فيه الزكاة، وإن قل لم تجب، وكذلك اختلفوا
فيما لا يزبب من العنب وفيما لا يخرج زيتًا من الزيتون، وفيما لا يصير ثمرًا في النخل هل في ذلك كله زكاة أم لا؟، وفيه قولان عندنا: وجوب الزكاة وإسقاطها، وقد روي عن مالك في كتاب محمد إسقاطه في القطاني وكذلك اختلفت الرواية في حب الفجل والكتان هل فيه زكاة أم لا؟. وكل ذلك نظر في تنقيح مناط الحكم، لأن الشارع صلوات الله عليه قصد نص على التمر تنبيهًا به على مقتضى العلة الذي علق الشرع الحكم عليها وهي الاقتيات الغالب، إذ كان التمر غالبًا القوت بالحجاز، ثم تعلق أصحابنا بما ذكرناه من لفظ ((الحصاد)) والحب والكيل، وكل ذلك غير مطرد في البقول.
قوله: ((وتجب الزكاة بطيب الثمر ويبس الزرع)): وهذا الأصل قد اختلف المذهب فيه على أربعة أقوال:
الأول: هو المعتبر الذي حكاه القاضي رحمه الله. وهو المعروف عن مالك. قال مالك: إذا زها النخل، وطاب الكرم وأفرك الزرع فاستغنى عن الماء واسود الزيتون أو قاربه وجبت فيه الزكاة هذا نص المتقدمين من أصحابنا.
الثاني: أنهما إنما تجب في الحبوب والثمار بالخرص وهو قول المغيرة.
الثالث: أنها إنما تجب بالجداد وهو قول ابن مسلمة.
الرابع: أنها تجب ببدو الصلاح. والأول هو المشهور لأن الطيب واليبس نهاية الكمال، والصحيح الانتفاع، وأما من أوجبها فينزل الخارص منزلة الساعي، وزكاة الماشية إنما تجب بخروج الساعي على ما فيه من اختلاف. وأما من اعتبر الجداد فينزله منزلة الحصاد المنصوص على اعتباره في الآية ومن اعتبر بدو الانتفاع اعتبر بدو الصلاح.
وتظهر فائدة ذلك الخلاف إذا مات رب الثمرة، أو باع في أثناء هذه الأحوال، فلا خلاف في وجوب الزكاة عليه إن باع بعد الجداد، وكذلك في الموت، ولا خلاف في سقوطها عنه إذا باع أو مات قبل بدو الصلاح، واختلف إن مات في أثناء ذلك على الاختلاف المذكور.
فرع: إذا باع الثمرة بعد وجوب الزكاة عليه، وقبل إخراجها فهل يرجع المصدق على المشتري إن وجد الثمرة بعينها أو يتبع البائع، ولا شيء على المشتري، فيه قولان. قال ابن القاسم: يرجع المصدق على المشتري، لأن الزكاة متعلقة بالعين، فلم يرجع المشتري على البائع إذا أيسر. وقال أشهب: يتبع المصدق للبائع ولا شيء له على المشتري، لأن الوجوب متعلق بالبائع.
فرع: إذا باع الثمرة بعد وجوب الزكاة عليه، فاشترط الزكاة على المشتري للقدر الواجب عليه وهو نصف العشر.
قوله: ((وكل جنس معتبر بنفسه)): وهذا كما ذكره والأصل في ذلك تقارب المقصود، واتفاق المنفعة المقصودة غالبًا، والمنصوص عندنا أن القمح والشعير والسلت صنف واحد، وقيل: هما صنفان، ووافقه
بعض المتأخرين كالسيوري وغيره.
واختلف المذهب في القطاني فقيل: إنها صنف واحد في الزكاة والبيوع وقيل: إنها أصناف مختلفة. والقول الثالث: إنها صنف واحد في الزكاة تغليبًا لحق الفقراء، واحتياطًا لهم، وأصناف مختلفة في البيوع، وقد كان مراعاة جانب الاحتياط في البيوع يوجب كونها جنسًا واحدًا احترازًا من الربا.
قوله: ((وإذا (كان) نوعًا واحدًا أخذ الزكاة منها)) إلى آخره. قلت: الأصل في أخذ الزكاة من العين الذي تعلق منها الوجوب، فإذا كانت العين نوعًا واحدًا فلا إشكال حينئذ، وإن كانت أنواعًا مختلفة فالوسط عدل بين الفقراء، وأرباب الأموال هو مقصود الشرع، وقيل: يؤخذ من كل نوع بقدره كما ذكره القاضي، وهو سديد، اعتبارًا لكل عين بنفسها، كذلك وقع في كتاب محمد وقد قيل: إذا كان كله جيدًا أخذ منه، وإذا كان كله رديئًا أخذ منه، ولا يكلف المزكي أن يأتي بما ليس عنده رفعًا للحرج والمشقة.
قال القاضي رحمه الله: ((والنصاب خمسة أوسق)) إلى قوله: ((ويخرص الرطب)).
هي ستة أقفزة، وربع قفيز بإفريقية. والواجب فيه معتبر بسقيه فما احتاج إلى آلة كالدلو وغيره، ففيه نصف العشر تخفيفًا على أرباب الأموال،
وما شرب سيحاً أو بعلًا أو من ماء السماء والعيون ففيه العشر بلا خلاف إلا أن يكون رب الأرض لا يملك ذلك، وإنما يشرب بالثمن، فهل يجري مجرى أصله، أو مجرى ما يسقى بالدلو فيه قولان عندنا، فقيل: فيه نصف العشر، لأن شراءه بالثمن يتنزل منزلة الآلات، وقيل: فيه العشر اعتبارًا بأصله، ولأن المؤنة ربما كانت فيه أحف من المسقى بالدلاء، فإن سقى بالأمرين بالنضح والسماء ففيها تفصيل، إن كان أحدهما أكثر فثلاثة أقوال: أحدها: اعتبار الأكثر، فيعطى حكمه بناء على أن الاتباع غير مراعاة (بنفسها) وهو الذي حكاه القاضي. والثاني: كل واحد بنفسه. والثالث: النظر إلى (الأخير)(منهما) لأن به حيي الزرع، فإن حيي بماء المطر فالعشر، وإن حيي بماء الدلاء والسواني، فنصف العشر، وإن تساوى الحال فيهما، فإن سقى بهما معًا سقيًا واحدًا ففيه قولان في المذهب، فقيل: الواجب فيه ثلاثة أرباع، وقيل: المعتبر الأخير الذي حيي به الزرع.
قال القاضي رحمه الله: ((ويخرص الرطب والعنب)) إلى آخر الفصل.
شرح: الأصل في الخرص أن النبي صلى الله عليه وسلم: (بعث عبد الله بن رواحة
إلى يهود خيبر للخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي فكانوا يأخذونه) الحديث. وخرج الترمذي في حديث:(عتاب بين المنذر بن الأسد) أن النبي صلى الله عليه وسلم: (كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم) وخرج أيضًا من حديث سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا خرصتم فخذوا ودع الثلث فإن لم تدع الثلث فدع الربع) وهذا رد على أبي حنيفة حيث قال: الخرص باطل لأنه قال من باب المزابنة إذ فيه بيع التمر بالتمر كيلًا وتأولوا قصة أهل خيبر، وقد ذكرنا ذلك في شرح الحديث، ولا خلاف في مذهب مالك في جواز خرص النخل والعنب، واختلف مذهب مالك هل (يخرص) الزيتون والزرع إذا احتاج أهله إلى الأكل منه أم لا؟ فقال ابن الماجشون: يخرص ذلك عليهم، وقال ابن
عبد الحكم، وقال داود بن علي: لا خرص إلا في النخل إذا أزهت وأمنت (من) العاهات، لأنه الذي كان غالبًا تختبر حينئذ.
واختلف أشياخ المذهب في علة منع خرص الزيتون، فقيل: لأن أوراقه تستره، وقيل: لأنه لا يؤكل رطبًا بخلاف النخل، وإذا قلنا بالخرص فقد اختلف المذهب، هل هو شهادة فلا يكفي فيه أقل من خارصين، أو حكم فيكتفي فيه بخارص واحد، وفيه قولان في المذهب، وكذلك اختلفوا في القائف والطبيب وحاكم الجزاء في الصيد. وحديث عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف أصل في ذلك.
واختلف المذهب هل يخفف عن أصحاب الثمار في الخرص للغرباء والضيف أم لا؟ وعندنا فيه قولان، فقال في المدونة: لا يترك لهم شيء، وقال ابن حبيب: يخفف عنهم وهو الصحيح اتباعًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. وإنما بنى في المشهور على أن الزكاة وجبت بالطيب، فلا يجوز إسقاط الواجب، ولا شيء منه.
قوله: ((ولا تضر مخالفة الوجود للخرص)): هذا إذا ثبت على غلط
الخارص. وتحصيل القول فيه: أنه إن لم يكن عارفًا بالخرص، فالرجوع إلى ما تبين لا إلى قوله. وإن كان من أهل المعرفة، ثم تبين أنه أخطأ فزاد أو نقص فهل يؤخذ بقوله أو بما تبين، فيه قولان في المذهب مبنيان على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ والخلاف فيه مشهور. قال الشيخ أبو القاسم: إذا كان الإمام عدلًا، والخارص عدلًا فالخرص حكم متبع لا سبيل إلى نقصه في الزيادة والنقصان، فلا ينقص الزكاة مع النقص، ولا يزاد مع الزيادة، وإن كان الإمام والخارص جائرين زكى رب المال على ما وجد، وروى عن مالك أنه إذا زاد الخرص فأحب إلى أن يؤدي عن الزيادة، قال بعض القرويين: أحب بمعنى أوجب، وقال غيره: هو على ظاهرة، ثم تكلم القاضي على ما لا يزبب من العنب، ولا يثمر من البسر، وجعل المثل والثمن في ذلك كالعين. واختلف فيما يستعمل (منه زيت) إذا بيع قبل تناهيه فقيل: يخرج زكاة من ثمنه، وقيل: من حبه أو دهنه. حكاه الشيخ أبو القاسم. ثم تكلم على الخضروات والبقول والخلاف في ذلك مشهور، وقد تقدم من ذلك ما فيه كفاية.