الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجهاد
قال القاضي رحمه الله: "الجهاد من فروض الكفاية" وقد يتعين في بعض الأوقات إلى قوله: "وينبغي أن يدعوا قبل قتالهم".
شرح: الجهاد في اللغة هو التعب، جاهد يجاهد جهادًا وهو التعب، ويقال: جهد نفسه جهدًا إذا أتعبه، وهو في الشرع تعب مخصوص لا يراد به إلا إتعاب النفس في سبيل الله، ومقاتلة الكفار ليدخلوا في دين الله، وهو أعظم من أعمال البر من حيث إن فيه بذل النفس في سبيل الله، ولا أحب للإنسان من نفسه، لأن سعي الملك وأداة العاجلة والآجلة إنما يريدها لنفسه، فإذا بذل أحب الأشياء إليه في ذات ربه فقد أتى بأعظم أنواع القربات، ولذلك عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمته، وبين شرفه ودرجته، وأخبر بأن الشاهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
ومثل (المجاهد) مثل الصائم القائم الدائم الذي لا يفتر من صيام،
ولا قيام، وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وعوضهم عنها الجنة، وإنها لصفقة رابحة، وتجارة ناجحة وقد أمر عليه السلام بدعوى الحق إلى الله في أول الإسلام بالأدلة والبراهين، فقال سبحانه مخاطبًا له:{ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل: 125] ثم لما (بدت) كلمته، وانتشر في الآفاق ذكره وهاجر إلى روضته. فأمر بالجهاد والمقاتلة، لأن في ذلك صرف القلوب إلى الله، وحماية (البيضة) ورد المرشود إلى الموعظة النبوية، والدلائل البرهانية وهو بالمدينة:{قتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} [التوبة: 29] وقال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة: 216] وقال: {انفروا خفافًا وثقالا} [التوبة: 41] أي شبابًا وشيوخًا، وقيل: ركبانًا ومشاءً.
وقد أجمع العلماء على أنه فرض كفاية، وشذ (عبيد الله) بن الحسن المقبري فقال: إنه تطوع لقول الله تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} [النساء: 95] ولا دليل فيه لاحتمال أن يكون المقصود من القاعدين بعد المشرعة واستقلال طائفة من المؤمنين بهذه الوضعية، فالدليل على أنه فرض كفاية قوله تعالى:{وما كان المؤمنون لينفروا كآفة} الآية [التوبة: 122] وقال تعالى: {وكلا وعد الله الحسنى} .
وأجمع أهل الآثار على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج قط للغزو إلا وترك بعض الناس، فلو كان متعينًا لما أخروا عنه. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قوله تعالى:{انفروا خفافًا وثقالاً} منسوخ بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كآفة} الآية. وهذا لا حجة فيه لاحتمال (التأويل في) قوله: {انفروا خفافًا وثقلاً} على وقت التعيين والمقصود بالآية الثانية حيث سقط التعيين فيكون كفروض الكفاية، ولما أمر الله سبحانه بالقتال بعد هجرته إلى المدينة أوجب عليه أولاً أن يقاتل من قاتله، وأن يكف عمن لم يقاتله فقال تعالى:{فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة: 191] فنزلت سورة براءة بعد تمام (سنتين من الهجرة)، فأمره سبحانه بقتال جميع المشركين فينهض صلى الله عليه وسلم بأمر الله، وشمر عن الجد، في مقاتلة أعداء الله أي نهض صلى الله عليه وسلم، وقد انتهت غزواته وسراياه نحوًا من أربعين ما بين غزوة وسرية. وقد حكى بعض شيوخنا الإجماع على أنه فرض كفاية وهو إجماع الجمهور لا إجماع الجميع. قال علماؤنا: ويجب على الإمام القائم بأمر الله تحصين الثغور وحراستها بالعدد والعدد، وإغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرة يخرج بهم نفسه، أو يبعث من يرتضيه (حكاه) الشيخ أبو عمر بن عبد البر وغيره.
قوله: "وقد يتعين في بعض الأوقات": قلت: يتعين في محلين:
الأول: إذا فاجأ العدو قومًا من المسلمين، وعجزوا عن مدافعته فيلزم من والاهم معاونتهم لقوله تعالى:{قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} [التوبة: 123] وبهذه الآية احتج المنصور رحمه الله على صلاح الدين لما بعث إليه عامل دمياط، وغزا رحمه الله الأرك. فإن لم يستطع من (والاهم) بدفعه، وجب على كل واحد من علم بذلك، وطمع في إدراكهم النهوض لإعانتهم، وابتدارًا إلى المقابلة معهم.
الثاني: أن يعين إمام العدل أحدًا للخروج فيتعين عليه.
قوله: "ولا يجوز تركه إلى الهدنة إلا من عذر": وهذا كما ذكره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد هادن أهل مكة وغيرهم من الكفار حال الضعف فلما قوي الإسلام، وأمر الله (سبحانه) بالقتال فقاتل فنصره الله وأيده، وجعل كلمته العليا.
وقد اتفق العلماء على جواز الهدنة في حال الضرورة إذا كان فيها مصلحة للمسلمين، وهل يجوز أن يصالحوا لأكثر من المدة التي صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أهل الحديبية أم لا؟ وهل يجوز أيضًا أن يصالحوا على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار في حال الضرورة إذا رأى الإمام ذلك أم لا؟ اختلف العلماء في (كلا) المسألتين، فقال الشافعي: لا يجوز الصلح لأكثر من هدنة عليه السلام يوم الحديبية. واختلف أهل الآثار في قدر ذلك، فقيل: إنه عليه السلام صالحهم أربع سنين، وقيل: ثلاث سنوات، وقيل: عشر سنين، والجمهور على جواز ذلك من غير تقييد بمدة لقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها} [الأنفال: 61] بظاهر هذه الآية احتج من أجاز (الصلح) لغير ضرورة.
وذكر أهل العلم أن صلحه عليه السلام عام الحديبية لم يكن لضرورة. وأجاز الأوزاعي أن يصالحوا على شيء يدفعه المسلمون، واحتج بأن النبي عليه السلام هدنهم على أن يعطي من ثمرة المدينة لبعض الأحزاب، فاختلفوا في قدر ذلك فلم ينفذ.
قوله: "ولا يكف عنهم إلا بأن يسلموا، أو يدخلوا في ذمتنا ويؤدوا الجزية في دارنا": وهذا كما ذكره، لأن المقصود بالمقاتلة أحد هذه الخصال، فلا يلحق القول في أداء الجزية، والمقصود من يجوز أخذ الجزية منه دون غيره، فالمقاتلة عامة بجميع الكفار، وأخذ الجزية خاص، وقد روى عن مالك أنه لا يجوز ابتداء الحبشة والترك بالقتال تعويلاً على قوله عليه السلام:(اتركوهم كما تركوكم، وذروا الحبشة كما وذرتكم). والحديث مشهور، وقد قال مالك: لم يزل الناس يتحامون غزوهم.
قوله: "وينبغي أن يدعوا قبل قتالهم": قلت: اختلف المذهب في وجوب الدعوة قبل القتال على خمسة أقوال: أحدها: إيجاب الدعوة مطلقًا. والثاني: أنها ليست بواجبة على الإطلاق. والثالث: أنها واجبة في حق من بعد داره. والرابع: أنها واجبة في حق الجيوش دون السرايا الصغيرة.
والخامس: أنها واجبة إلا أن يعاجلونا. وظاهر كلام (القاضي) أنها مستحبة إلا أن يعاجلونا. هذا تحصيل المذهب فيه.
والقول الكلي في ذلك عندنا: أن الدعوة قسمين عامة وخاصة، فالعامة الدعوة إلى الله وتبليغ الرسالة. وقد أجمع المسلمون على أن بلوغ هذه الدعوة شرط في جواز المقاتلة أي أن حرابتهم لا تجوز حتى تكون الدعوة قد بلغتهم بلوغًا صحيحًا، والدليل عليه الكتاب، والسنة، والإجماع. فأما الكتاب قوله تعالى:{وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء: 15]، وقال تعالى:{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} [المائدة: 67]. وأما السنة فقد تواتر قولاً وفعلاً أنه عليه السلام دعا الكفار إلى الدخول في الإسلام، وأمر أبو بكر، وهو مقتضى الرسالة. وقد أجمعت الأمة على مقتضى ذلك. وأما الدعوة الخاصة فهي الدعوة المتكررة عند تكرار الحرب، وقد حكينا فيه عن المذهب خمس روايات.
وقد اختلف المتأخرون في هذه الروايات الخمس، فمنهم من جعهلا أقوالاً مختلفة، ومنهم من ردها إلى أحوال مختلفة، ورآى الوجوب إنما هو فيمن ترجى إجابته، أو ظن به أنه لم يعلم ذلك فخرج مقتضى من ذكرناه أ، العلماء في الدعوة الخاصة قد اختلفت آراؤهم، فمنهم من استحبها، ومنه من أوجبها، ومنهم من لم يوجبها، ومنهم من يستحبها، ومنهم من يراها على أحوال مختلفة، فإن كان الكفار عالمين والجيش كثير، والإجابة مظنونة فهي واجبة، وإن كان قبولهم مستبعدًا، وإجابتهم غير موجودة فهي مباحة. وإن كان الجيش صغيرًا وخاف أعمال الكفار واستطالتهم فهي محرمة. ومن شيوخنا من أوجب دعوة الترك، وروى عن مالك أنه وقف في الروم والقبط قال: "لا
يقاتلوا حتى يدعوا".
وسبب الخلاف في وجوب الدعوة أصلان: الأول: معارضة القول للفعل. والثاني: هل معرفة الله واجبة بالعقل أو بالسمع. أما الأول: فقد ثبت أنه عليه السلام إذا بعث سرية قال لأميرها: (إذا التقيت عدوك من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال) الحديث وهو ثابت في الصحيح، وثبت أمره بالدعوة من طرق. وثبت من فعله عليه السلام أنه أغار على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، وبعث في قتل كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق غلبة، وكان عليه السلام ينتظر، فإن سمع آذنًا، وإلا نشر الغارة، فمن أهل العلم من رجح الفعل، ورأى أنه ناسخ للقول، ومنهم
من رأى أن أمره بالدعوة كان في أول الإسلام قبل انتشار الإسلام، ومنهم من حمل الفعل على الخصوص، ووجب الدعوة، وبه عمل الخلفاء، وأوصى أبو بكر (معاوية) بن أبي سفيان وغيره بذلك، ومنهم من جمع بين القول والفعل ويرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب من يظن به العلم أو لا يظن، ومن قربت داره، أو بعدت، ونحوه.
وأما الأصل الثاني: فمن رآى أن معرفة الله وتوحيده معلوم عقلاً أسقطها، ومن رآى أنه شرعًا أوجبها وهو الصحيح، ولعله عليه السلام: إنما بعث في قتل كعب بن الأشرف وأمثاله غيلة بناء منه على ما علم من غالب حاله، أو أوحى إليه في شأنه. وقد روى عن مالك أنه حرم البغتة وأجازه محمد، وإذا قلنا بوجوب الدعوة، فمعناها أن يدعوا إلى نفي الشرك والإقرار بالرسالة. وأحكامها على اختلاف تفاصيلها، فإذا أجابوا إلى أصول التوحيد دعوا بعد ذلك إلى فروع الإسلام، فإن أجابوا امتنع قتالهم.
الأول: من قتل قبل أن يدعى إلى الإسلام، قال قوم من أهل العلم: لا دية على قتاله بناء على أن معرفة الله واجبة عقلاً، وقال قوم: على عاقلته الدية، وليس في المذهب فيه نص. وحكى بعض البغداديين فيه الخلاف
تخريجًا على هذا الأصل. وأما من قتل قبل أن يلفظ بالإسلام، فالصحيح إيجاب الدية على عاقلته، وحديث أسامة فيه تأويلات ذكرناها في موضعها.
الفرع الثاني: هل يدعى اللصوص، ومن خالف الحق من الخوارج، وأهل الأهواء أم لا؟ فيه قولان في المذهب، فمنهم من اسحتب ذلك، لأن الباطل في المعتقد قد شمل جميعهم، ومنهم من أسقط ذلك، إذ الدعوة إنما هي للكفار، لا لأهل الإسلام والأول أصح.
قال القاضي رحمه الله: "وتجوز النكاية في العدو بكل ما يقدر عليه من إحراق الأراضي" إلى قوله: "ولا يجوز الغلول".
شرح: نكاية العدو على قسمين: إما في النفوس، وإما في الأموال. فالأول بالقتل والاستيسار، وسيجيء ذلك بعد، وإما في الأموال بأخذها أو بإفسادها فأخذها غنيمة وإفسادها نكاية.
وقد اختلف العلماء في ذلك فأجاز مالك قطع الأشجار، والثمار، وتخريب البنيان، وكره الأوزاعي قطع الشجرة المثمرة، وتخريب العامر من الكنائس وغيرها. قال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا لم يكن
بها معاقل، وكذلك أجاز مالك أن تعرقب الخيل والأول أصح. وإذا قلنا بجوازه فهل تحرق بعد العقر والذبح أم لا؟ واختلفت الرواية فيه، فقال ابن القاسم: ما سمعت أنها تحرق بعد ذلك، وقد قيل: إنها تحرق إذا خشي أن يدركوها قبل فسادها فينتفعوا بأكلها إلا أن يكونوا ممن لا يأكلون الميتة. وروى المصريون عن مالك أن للجيش أن يعرقبوها، أ، يجهزوا عليها، فيذبحوها، فروى المدنيون أنها يجهز عليها، كره أن تعرقب، أو تذبح لأن في ذلك تعذيبًا للحيوان. واختلفت الرواية فيما يقدم عليها من النحل، فكره مالك مرة أن تحرق أو تغرق، وإن كانت كثيرة، وقال أيضًا: تحرق وتغرق سواء كانت قليلة أو كثيرة، لأن ذلك من النكاية، وذلك ما عجز عن إخراجه من الأمتعة والأطعمة فإنه يحرق أو يغرق، وهذا كله ما لم يكن للمسلمين قوة على حيازة ذلك الموضع الذي ظفروا به، وتحصينه بعدد المسلمين وعدتهم والإقامة فيه، وقد ثبت أنه عليه السلام حرق نخل بني النضير وقطع كرمهم، ونصب المنجنيق على أهل الطائف، وقد ثبت عن أبي بكر أنه قال: ولا تقطعن شجرًا ولا
تخربن عامرًا. ولعل ذلك من أبي بكر بناء على علمه بالناسخ لفعله عليه السلام، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قتل لهم حيوانًا -ولعله- لأن قتل الحيوان مثله، وقد نهى عليه السلام عن المثلة، وإذا قلنا بجواز النكاية فيهم جاز نصيب المجانيق على حصونهم، وإرسال المياه عليهم، وفي إضرام النار عليهم اختلاف في المذهب لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التعذيب بالنار.
وقال علماؤنا المالكية: ويجوز نصيب المجانيق على قلاعهم، وإن كان فيها نسوة وصبيان ورهبان (لأن) المقصود غيرهم، ولو تترسوا بالنساء والذرية تركناهم، إلا أن يؤدي ذلك إلى استئصال المسلمين والظفر بهم، ولو تترس الكافر بالمسلم يحرم دم المسلم إلا أن يخاف استئصال المسلمين، أو ذهاب جمهورهم، فالمرافعة واجبة، وسقط مراعاة المترس به. وقال الأوزاعي: إن كان في الحصن أسارى المسلمين وأطفالهم وجب الكف عن رميهم بالمنجنيق لقوله تعالى: {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابًا أليمًا} [الفتح: 25].
قوله: "وتخمس الغنيمة كلها عينها وعرضها": وهذا كما ذكره، والأصل فيه قوله تعالى:{واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} [الأنفال: 4] وقال عليه السلام: (ما لي مما أفاء الله عليكم ولا مثل هذه إلا الخمس وهو مما أفاء عليكم).
والغنيمة: كل ما أخذ من الكفار بقتال. وهي على قسمين عقار وغير عقار، فالعقار موقوف للانتفاع به في مصالح المسلمين (ولأنفسهم) عى الأشهر من المذهب. وقد روى عن مالك أنه يقسم كغير العقار. وفي المدونة: أن الخيار في ذلك إلى الإمام. وإذا قلنا: إنه لا يقسم فحكمها أ، يؤخذ ثلثها وتصرف في مصالح المسلمين من أرزاق الجيوش، والعمال، وبناء المساجد، والقناطير وغير ذلك من (سبل) الخير، وقد قسم عليه السلام وأبقى عمر بن الخطاب ما غنم المسلمون من أرض الشام والعراق لمن يأتي من المسلمين، عليه تأول قوله تعالى:{والذين جاءوا من بعدهم} [الحشر: 10] وقال: لولا حبل الحبلة.
قوله: "والسلب وغيره سواء لا يخص به القاتل إلا باجتهاد الإمام": وهذا كما ذكره أصل مذهب مالك رحمه الله. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مالك ما ذكرناه: أن السلب من الغنيمة لا يختص به القاتل إلا باجتهاد الإمام، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي، وأحمد،
وإسحاق، وأبو ثور، وجماعة من أهل العلم: السلب للقاتل، وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من جعله له من غير شرط، وهو قول الجمهور. وقال الشافعي: لا يكون السلب للقاتل إلا أن قتله مقبلاً غير مدبر، وقالت طائفة من أهل العلم: السلب للقاتل إلا أن يكون كثيرًا فهو غنية وهو قول (الأوزاعي).
وسبب اختلافهم فيه اختلافهم في مفهوم قوله عليه السلام: (من قتل قتيلاً فله سلبه) هل هو إنشاء للحكم، أو إخبار عنه، والصحيح العمل على مقتضى ظاهر الحديث، وظاهره أنه عليه السلام لم يقل ذلك إلا يوم (خيبر) ويوم بدر، وعضدنا هذا بما يصح عن عمر بن الخطاب أنه قال: كنا لا نخمس السلب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وخرج أبو داود عن عوف بن مالك حمل على
(هرمز) يوم الزأرة) فطعنه طعنة فبلغ سلبه ثمانين ألفًا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب، وإن قد بلغ مالاً كثيرًا، ولا أرى إلا خمسه. فقال ابن سيرين: حدثني (أسد) بن مالك أنه أول سلب في الإسلام وأما من رأى أنه قتل حين المعتركة فهي غنيمة فلاحظ المعنى، ورأى أنهم متعاونون في المقاتلة بالاختصاص في السلب، وإذا فرعنا على مذهبنا أن القاتل لا يستحق السلب إلا أن ينص
الإمام على ذلك، فلا خلاف أن الإمام ينفل من شاء بعد القتال، ولا يجوز للإمام أن يقول ذلك قبل القتال ولا أن يعد النفل قبل الحرب خوفًا من إفساد العمل بأن يكون قتله على غرض الدنيا لتكون كلمة الله هي العليا، فإن وقع القتال على ذلك، وشرطه الإمام قبل المعتركة فله شرطه، وقع في كتاب سحنون أنه جائز قبل القتال من غير كراهة، وبه قال جماعة من أهل العلم، قال في كتاب ابنه: وإذا بعث الإمام سرية على أن لهم ثلث ما غنموا، ثم مضى ذلك فلهم ما شرطوا، وأخذوا سهامهم من الباقي بعد شرطهم. ولو شرط الإمام ذلك بعد انقضاء القتال فهي يمضي شرطه، ويمضي حكمه أم لا؟ فيه قولان المشهور نفاذ حكمه بذلك لأنه كالمبايعة، فلا يجوز نقضها، ولو قال للإمام: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه لم يستحق السلب إلا بالبينة ولو أطلق اللفظ فقال: من قتل قتيلاً فله سلبه، ولم يقيده بالبينة فقيل: السلب به، وقيل: لا شيء له.
واختلفوا في مسائل تتعلق بذلك:
الأولى: السلب المشار إليه اتفقوا على أن السلب هو المعتاد، وقيل: جميع ما وجد على المقتول واستثنى قوم من ذلك الذهب والفضة، وفي المذهب خلاف في النادر من اللباس كالتيجان، والأسورة التي يتخذها عظماء الروح، هل هي من السلب أم لا؟ وكذلك فيما يكون معه من دنانير، والأصل أن ذلك كله من السلب، وكذلك الفرس عند الجمهور.
الثانية: اختلفوا إذا كان القائل من لا سهم له كالذمي، والمرأة هل
يستحق السلب أم لا؟ وفيه قولان عندنا، فروى ابن سحنون عن أبيه (إذا كان القاتل ذميًا)، وقال سحنون أيضًا: إن قاتلا فلهما السلب.
قوله: "ويأخذ (الإمام) من الغنيمة خمسها": الذي (يأخذها) الإمام فقال مالك: هو منزلة الفيء يأخذ منها الغني والفقير. وقال الشافعي: يقسم الخمس على أربعة أقسام، وهو قول الطائفة من أهل العلم، وهؤلاء عولوا على قوله تعالى:{فأن لله خمسه} افتتاحًا لكلام، وليس قسمًا خامسًا، وقال قوم: إن سهم النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم القربى سقط بموت النبي عليه السلام.
واختلفوا في "ذي القربى" فقيل: بنو هاشم، وقيل: بنو عبد المطلب وبنو هاشم. إن سهم النبي وذوي القربى يرد على سائر المستحقين للخمس، وقيل: بل يجعل في السلاح والكراع.
قال القاضي رحمه الله: "ولا يجوز الغلول" إلى قوله: "والنفل كله من الخمس".
شرح: أجمع العلماء على أن الغلول محرم، والدليل على ذلك الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى:{وما كان لنبي أن يغل} الآية [آل عمران: 161]. وأما السنة فقوله عليه السلام: (أدوا الخائط والمخيط، فإن الغلول عار، ونار، وشنار يوم القيامة) والآثار (الصحيحة) في تحريمه كثيرة، خرجها مسلم وغيره.
قوله: "ويؤدب فاعله": وهو كما ذكره لأنه فعل معصية، وارتكب كبيرة، واستحق العقوبة، ولا يحرق رحله، ولا يحرم سهمه عند الجمهور خلافًا لمن شذ اعتمادًا على (حديث) ورد بذلك، وفي إسناده مقال ولذلك نبه القاضي، وحكمه إن تاب أن يؤتي به إلى الوالي فيضعه
في المقاسم وتسقط عنه العقوبة حين أتى به تائبًا، فإن جاء به الإمام بعد تفريق الجيش اجتهد الإمام فيه، فإن لم يجد الوالي تصدق به، حكاه محمد بن المواز عن مالك ولو تاب من الغلول في مرضه، وأراد إخراجه فهل يخرج من رأس المال أو من ثلثه، فيه نظر.
وتحصيل القول فيه: أنه إن تاب بقرب أخذه قبل افتراق الجيش، فهو من رأس المال، وإن طال ذلك أخرج من ثلثه، ولو سرق من المغنم، وكان فيه من يعتق عليه أو وطيء جارية فهل يدرأ عنه الحد، ويعتق عليه ذو محرمة أم لا؟ فيه خلاف. أما إذا سرق مقدار نصيبه فأقل فرأى أنه لا يقطع للشبهة، والمشهور من المذهب أنه يقطع مطلقًا إذا سرق بعد إحراز الغنائم، وكذلك إذا زنى بالمرأة، فعليه الحد، وقال عبد الملك: لا حد عليه.
ومبنى الخلاف على تحقيق الشبهة قال سحنون: ولو أعتق عبدًا من المغنم يكمل عليه ويقوم نصيب أصحابه، وكذلك إذا كان فيه ذو محرم يعتق عليه، فإنه يعتق ويقوم نصيب أصحابه، قال ابن القاسم وأصحابه: إذا أعتق أمة من المغنم فلا عتق له، ولو وطئ جارية حد، ولو حملت (لم تكن له) أم ولد، وقيل: إنه إن وطئ أمة فحملت فهي أم ولده لا حد عليه. حكاه بعض شيوخنا عن المذهب. ثم إن كان سهمه من المغنم يستغرق
الأمة أخذ منه قيمتها يوم الحمل، فإن لم يف سهمه بذلك كمل قيمتها فيما لزمه من الغنيمة، وتبع من قيمة الولد بقدر ذلك.
واختلف أهل العلم في إباحة الطعام والعلف للغزاة ما داموا في أرض العدو، فالجمهور إباحة ذلك، ولم يروه من باب الغلول. والأصل فيه ما خرجه البخاري، ومنع من ذلك كله ابن شهاب وغيره من أهل العلم، ورأوه من الغلول، وحكى بعض شيوخنا إجماعًا على إباحة أكل طعام المشركين في أرض الحرب بغير إذن الإمام، وإن تعلف منه الدواب، وكذلك كل طعام من الإدام والمواشي من غير إسراف، وفي هذا الإجماع نظر، وقد حكينا مذهب ابن شهاب في ذلك، وإذا قلنا بالجواز (فحكمه) أن يأخذ منه بقدر حاجته، فإن احتاج إلى الفرس والسلاح أو الثياب قال ابن القاسم عن مالك: أنه يأخذ ذلك بغير إذن الإمام لينتفع به حتى تنقضي غزوته. وروى ابن زياد وابن وهب: أنه ليس له أخذ شيء من ذلك إلا بإذن الإمام. قال ابن حبيب: ولو نهى السلطان عن أكل طعام العدو، ولم يكن ثابتًا أن يأكلوا بعد نهيه إذا احتاجوا إليه، وسواء أحرزه الإمام بعد نهيه أولاً.
واختلف المذهب إذا احتاجوا إلى بيع شيء من ذلك يشتروا سلاحًا ونحوه، فقيل: لا بأس به. وقال ابن حبيب: هو مكروه لأنه إذا صار ثمنًا
رجع غنيمة. وكذلك اختلفوا هل يجوز ذبح الأنعام في دار الحرب للأكل منها أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان: الأشهر: الجوار وقيل: لا يجوز، ولو فضل من العلف، أو اللحم ونحوه شيء بعد انفصال الجيش، ودخول دار الإسلام فهل يمتلك أو يتصدق به، فيه خلاف، والمشهور أنه إن كان كثيرًا تصدق به، وإن كان يسيرًا فله الانتفاع به.
قوله: "وما حصل في أيدي العدو من أموال المسلمين فأسلموا عليه كان لهم": وهذا بناء على أن أهل الحرب مالكون لما حكموا عليه من أموال المسلمين.
قوله: "فإن عاد شيء من ذلك إلى الغنيمة فهو لمن كان يملكه من المسلمين" إلى آخره وهذا كما ذكره. هو أصل مذهب مالك رحمه الله، والأصل في ذلك ما رواه ابن عباس أن رجلاً وجد بعيرًا له كان المشركون قد أصابوه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة)، وقال الشافعي، وأبو ثور هو لأربابه، وليس للغزاة فيه شيء، وهذا بناء على أنهم غير مالكين لما
(حكموا) عليه من أموال المسلمين. وقال علي بن أبي طالب: هو غنيمة للجيش ليس لمالكه فيه شيء، وهذا بناء على أنهم مالكون حقيقة، وهو قول الزهري (وعيسى) بن دينار وغيرهما من أهل العلم، وانظر إطلاق لفظ القاضي في قوله:"ولا يجوز قسمه إن علم به".
واختلف العلماء: هل يجوز للغانمين قسمته أم لا؟ وفي مذهب مالك فيه تفصيل، فإن علم أنه لمسلم، وكان صاحبه حاضرًا لم يقسم، وأخذه بغير عوض إذا أثبت أنه كان له، فإن كان صاحبه معلوم العين مجهول البلد لم يقسم أيضًا، وللإمام أن يقفه أو يبيعه ويوقف ثمنه، فإن كان صاحبه معلوم العين والبلد نقل إليه إن خف نقله، فإن صعب اجتهد له فيه الإمام، فإما باعه، وإما أمر بنقله إليه، فإن كان صاحبه مجهول العين والبلد، فتحقق أنه ملك مسلم، فقال مالك: يقسم للمسلمين. وحكى القاضي أبو محمد أنه لا يقسم، ويترك حتى يأتي ربه. وقال محمد بن المواز: هو كاللقطة. فإن كان معلوم البلد مجهول العين، فقال مالك، وابن القاسم: يقسم. وقال البرقي، عن مالك: يبعث به إلى بلده، فإن علم صاحبه وإلا أمر ببيعه. وإذا أشكل الأمر هل هو لمسلم أو لكافر غلب عليه حكم الدار، وقسمه الإمام مع الغنائم بين الجيش.
تنبيه: قد حكينا عن مالك أن الكفار مالكون ما حكموا من مال المسلمين، وخالفه الشافعي في ذلك، فلو أسلم حربي وبيده مال مسلم، فقال مالك، وأبو حنيفة: يجوز له تملكه، وقال الشافعي: لا يصح له تملكه، والدليل لنا قوله عليه السلام:(وهل ترك لنا عقيل من دار) وهذا يدل على أنهم مالكون لما حازوا من أموال المسلمين، ومن طريق المعنى أنهم كانوا غير مالكين لضمنه كالغاصب لاستوائهما في القهر والغلبة. وينبني على هذا الأصل لو دخل مسلم إلى دار الكفار على وجه التلصص وأخذ من أيديهم مال مسلم، فمقتضى القول: أنهم مالكون أن اللص أولى به من صاحبه وهو قول أبي حنيفة وقال مالك: هو لصاحبه، وليس للص فيه شيء وهذا غير جار على أهله أنهم مالكون، وأما ما فدى من أيدي اللصوص، فقد اختلف المذهب في حكمه، فقيل لصاحبه بغير شيء وهذا بناء على أنهم غاصبون لا ملك لهم على ما غصبوه البتة، وقيل: يأخذه صاحبه بالأقل من قيمته أو ما أفدى به. واحتج من رآى أنهم غير مالكين بالنقل والمعنى. أما النقل فما روي من حديث ابن عمر أنه كان له فرس فأخذه المشركون فظهر عليه المسلمون فردت عليه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى (ابن عمر) وابن حصين قال: أغار
المشركون على سرح المدينة، وأخذوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا حتى أتت العضباء فأتت ناقة ذلول فركبتها، ثم توجهت (إلى) المدينة، ونذرت لئن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة فأتوا بها النبي عليه السلام فأخبرته المرأة بنذرها، فقال:(بئسما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية)، وفي هذين الحديثين دليل على أنه غير مالكين لما حازوه من أموال المسلمين، وإلا لما رد عليه السلام على ابن عمر فرسه، ولا ما رد الناقة إليه من حيث إنهم ملكوها بحيازة، وأما المعنى فإنهم لا يملكون رقاب أهل الإسلام فلا يملكون أموالهم.
قوله: "والنفل كله من الخمس": فهذا هو مذهب جماعة من العلماء، وهو قول مالك رحمه الله.
واختلف في ذلك قول الشافعي، والمختار عندهم أنه من الخمس أي
من حظ الإمام منه، وقال أحمد (وأبو عبيد): وهو من أصل الغنيمة، وأجاز جماعة من أهل العلم أن ينفل الإمام الغنيمة كلها. والدليل على أنها من الخمس الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ} الآية ومقتضاها تعيين الموصوف فلا مدخل للنفل. وأما السنة فما روى مالك عن ابن عمر (أن رسول الله بعث سرية فيها عبد الله بن عمر قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة، فكانت سهامهم اثني عشر بعيرًا، ونفلوا بعيرًا بعيرًا). وهذا يدل على أن النفل كان من الخمس بعد الغنيمة وهو نص في محل النزاع، واحتج من رأى من أصل الغنيمة بقوله تعالى:{يسئلونك عن الأنفال} الآية [الأنفال: 1]، وهذا يدل على أن الحكم فيها للإمام، واحتج أيضًا بما رواه حبيب بن مسلمة أنه عليه السلام كان ينفل الربع للسرايا بعد الخمس في البداءة وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة يعني في غدوه وانصرافه. وهذا يدل على أنه من أصل الغنيمة، وبهذا الحديث نفسه احتج من رآى أنه للإمام أن ينفل من الثلث والربع عملاً على حديث حبيب بن مسلمة، وقد رآى طائفة من أهل العلم (ألا يعارض) قوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم
من شيءٍ} وقوله: {يسئلونك عن الأنفال} وحمل الآيتين على أن الخيار في ذلك للإمام.
وإذا فرعنا على مذهبنا أن النفل والسلب والرضخ من الخمس فهو أعني النفل على قسمين جائز، ومكروه، فالجائز ما كان بعد القتال من غير كراهية، وإذا قلنا بالكراهية فشرط الإمام وجوب الوفاء بالشرط كما ذكرناه، لأنه مبايعة فلا يحل نقضها.
قال القاضي رحمه الله: "ويستحق الإسهام بثلاثة شروط" إلى قوله: "الأجراء والصناع".
شرح: يتعلق بهذا الفصل الكلام في الغنيمة، وشروط استحقاقها، ونحن نتتبع لفظه.
قوله: "أن تغنم الغنيمة بقتال أو إيجاف عليها بخيل أو ركاب": وهذا كما ذكره من شروط تسميتها غنيمة، وما عداه يسمى فيئًا وهو ما صار للمسلمين من أموال المشركين من غير إيجاف عليه بخيل أو ركاب.
قوله: "فأما ما سوى ذلك مما ينجلي عنه أهله فهو فيء": وهذا كما ذكره، وما يختلس أو يسرق فإنه خاص للمختلس والسارق ويخمس إذا أخذه المسلم الحر، فإن اختلسه أو سرقه عبد فهل يخمس أم لا؟ فيه قولان فقال
ابن القاسم: يخمس إن أخذه العبد، وقال سحنون (وابن المواز): لا يخمس على العبد.
قوله: "فإنه يصرفه الإمام في مصالح المسلمين" هو كما ذكره.
واختلف العلماء هل يخمس الفيء، فقال الجمهور: الفيء غير مخمس، وهو الثابت عن أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وغيرهما. وقال الشافعي: الفيء يخمس، ولم يقل به أحد قبله، ورآى أنه مقسوم على الأصناف التي ذكر الله سبحانه في سورة الحشر. قال تعالى:{ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى} الآية [الحشر: 7] ألا وهم الذين ذكرهم الله تعالى في الغنيمة. وإذا قلنا بما ذهب إليه الجمهور من أن الفيء غير (مخمس)، فقد اختلفوا بعد ذلك في مصرفه، فقال قوم: هو إلى الاجتهاد فينظر فيه السلطان، فينفق منه على نفسه وعياله من رأي. واحتجوا بما خرجه مسلم عن ابن عمر قال:(كان أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لا يوجب عليه المسلمون بخيل أو ركاب، فكانت له عليه السلام خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي يجعله في السلاح والعدة في سبيل الله). وقال قوم: هو مقسوم على الأصناف الخمسة الذين ذكرهم الله سبحانه في قوله: {واعلموا
أنما غنمتم من شيءٍ} الآية، والآية المذكورة في سورة الحشر. المشهور أنه للأغنياء والفقراء، والمقاتلة والحكام والمؤذنين ونحوهم ممن ينفع المسلمين في شيء.
قال ابن حبيب: (السرية) التي مضى عليها (أئمة) العدل فيما أفاء الله على المسلمين من خمس وجزية وخراج أرض وما صولحوا عليه الحربيين من هدنة ما يؤخذ من أعشار الحربيين وتجار أهل الذمة وخمس الغنائم أن هذا لسد مخاوف المسلمين، ومنعة حصونهم، واستعداد آلات الحرب لهم، فإن فضل شيء أعطى قضاتهم وعلماؤهم ومن للإسلام فيهم انتفاع وبناء المساجد والقناطير، فإن فضل من ذلك شيء فرقه على الأغنياء، فإن رآى حبسه لنوائب المسلمين فعل، واختلف العلماء في كيفية الصفة المعتبرة، فقيل: الضرورة والحاجة، وقيل: السائبة والبلاء في الإسلام، وقيل: الأمر في ذلك راجع إلى اجتهاد الإمام العدل على ما يرى من تسوية، أو تفصيل ويوفر سهم قرابته عليه السلام منه إجلالاً لهم، وسدًا لخلاتهم، قاله كله ابن حبيب. قال ابن عبد الحكم: إذا صار الفيء في بيت المسلمين أعطى الإمام منه المقاتلة، وبناء الثغور، وإعطاء النساء، والدرية، والمنفوس والأعراب، ولا يعطي العبيد، وذلك كله على حسب اجتهاد الإمام، وما يراه صلاحًا للمسلمين.
قوله: "ولا يسهم لمن مات قبلها": وهذا كما ذكره وبه قال الجمهور، وقال سحنون: إذا قامت الصفوف، ولم يقم القتال، فلا سهم لمن مات، وروى نحوه عن مالك قال: وإنما أسهم بعد المناشبة في القتال. قال ابن حبيب: سمعت أن أصحاب مالك قالوا: إن مشاهد الحصن والعسكر
كالقاتل.
قوله: "ولا (لمن" جاء بعدها": تنبيهًا على مذهب أبي حنيفة لأن مذهبه أن من لحق الجيش قبل أن يخرجها إلى بلاد الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن استعمل، والجمهور على أنه لا سهم له، والدليل للجمهور ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد من المدينة قبل نجد فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فتحها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله -صلى الله عليه سلم-: (فقسم لهم صلى الله عليه وسلم) واحتج أبو حنيفة بالنقل والمعنى، أما النقل فما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر: إن عثمان ذهب في حاجة لله وحاجة لرسوله، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يضرب لأحد غاب عنه فوجب له السهم لاشتغاله بأمر الإمام، وذلك أن زوجته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة (بالحصبة) وإن لم تكن حجة في غير المحل، إلا أن فيه
التنبيه على المعنى، وهو اشتغاله بأمر الإمام هو نص فيمن رده الإمام لحاجة، وسنذكره بعد. وثبت أنه عليه السلام أسهم لطلحة: وقال: يا رسول الله وأجري؟ قال: (وأجرك)، وكلاهما عندنا.
وأما المعنى فكأنهم شبهوا تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ، وذلك ان حاضر القتال له أثر في أخذ الغنيمة والمدد لهم تأثير في حفظها، فتساوت المقتضيات وتقاربت.
قوله: "ولا أن يكون صحيحًا غير مريض": وهذا شرط مختلف فيه في المذهب على أربعة أقوال:
أحدها: أن المريض يسهم له مطلقًا، ولو خرج من بلاد المسلمين مريضًا، ولعل هذا القول محمول على من له أن ينتفع به الجيش.
والثاني: أنه لا يسهم إلا أن يمرض بعد شهود القتال لحصول المشاركة.
والثالث: أنه لا يسهم له إلا أن يمرض بعد ابتداء القتال لنفسه، لأن مبادئ الانتفاع به قد حصل.
والرابع: أنه لا يسمع له إلا أن يمرض بعد الحصول في أرض الحرب، وهذا بناء على أن ما قرب من الشيء له حكمه.
قال الشيخ أبو الطاهر: إن مرض بعد أن أشرفوا على الغنيمة فقولان: الإسهام، ونفيه، والإسهام أشهر، وإن من مرض قبل الإشراف على الغنيمة فقولان: الإسهام، ونفيه وهو المشهور. وإن مرض في بلد المسلمين فقولان الأشهر نفى الإسهام له، وإن كان ذلك بعد حصوله في أرض الحرب فقولان أيضًا، وهذا تفصيل المذهب فيه.
واختلف العلماء أيضًا في الضال عن الجيش هل يسهم له أم لا؟ وفي مذهب مالك فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يسهم له مطلقًا لأنه مغلوب.
والثاني: لا يسهم له أصلاً إلا أن يضل بعد شهود القتال.
والثالث: التفرقة فإن ضل في بلاد الحرب أسهم له، وإن ضل في بلد المسلمين لم يسهم له، وهذا نظر إلى المعنى، لأنه شارف وحاضر نفسه كالقاتل، وقيل: إن ضل بعد القتال، أو بعد الغنيمة أسهم له، وإلا فلا، وهو قول رابع.
واختلف فيمن رده الإمام من الجيش لحاجة هل يسهم له أم لا؟ وفيه قولان في المذهب، وقد ذكرنا أن الأصل في ذلك رد النبي عليه السلام عثمان لمرض ابنته صلى الله عليه وسلم والتي كانت تحت عثمان رضي الله عنه. وهذا الخلاف إنما هو فيمن رد في حاجة المسلمين لا للجيش على الخصوص، وأما من رد الإمام لحاجة الجيش، فلا خلاف أنه يسهم له، وحكى ابن شاس عن المذهب أنه لا يسهم له، وهو غير معروف. قال الإمام أبو بكر بن المنذر ثبت أن عمر بن
الخطاب قال: الغنيمة لمن شهد الوقيعة. وأما من رجع من تلقاء نفسه اختيارًا قبل دخول الحرب وقبل الوقيعة، فهل يسهم له أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على أن ما قرب الشيء هل له حكمه أم لا؟ ولو رجع بعد الوقيعة والمقاتلة لا سهم له (بلا خلاف)، ولو غاب بانهزام لم يسهم، فإن قصد التحيز إلى فئة التحيز إلى فئة أخرى لا يسهم له، ولو ادعى على رجل التغيب، فإن ثبتت بينة كافية، أو أمارة ظاهرة عمل بمقتضاها، وإلا فالأصل بعد خروجه وحصوله مع الجيش، وفي بلاد الحرب (حضوره) الوقيعة فيسهم له، وهل يرجع في ذلك إلى شهادة الإمام وحده أم لا؟ فيه قولان في المذهب.
قوله: "ومثل ذلك السرية المنفصلة من جملة العسر برأي الإمام": وهذا تنبيه على مسألة الخلاف أيضًا، وذلك أن العلماء أيضًا اختلفوا في مسألتين من هذا المعنى.
المسألة الأولى: من خرج بغير إذن الإمام هل يسهم له مع الجيش أم لا؟ الجمهور على الإسهام لجميع الغانمين خرجوا بإذن، أو بغير إذن. وشذت طائفة من العلماء فقالوا: من خرج بغير إذن الإمام فلا يسهم له قصر الفعل على ما ورد بأن جميع السرايا (والجيوش) لم يخرج أحد فيها على عهده صلى الله عليه وسلم-
إلا بإذنه، فهؤلاء رأوا أن إذن الإمام شرط، إذ هو صورة الفعل الواقع في عهده عليه السلام.
المسألة الثانية: إذا غنمت السرايا التي تخرج من العسكر هل تختص بالغنيمة أم لا؟ وتحصيل القول فيه: أن السرايا المفردة مخمسة مختصة بالغنيمة بلا خلاف، وفي مذهب مالك خرجت بإذن الإمام أو بغير إذنه. وقال قوم من أهل العلم: لا خمس فيها إذا خرجت بغير إذن، وهي للغانمين خاصة، وقالت طائفة: وكل ما ساقته السرية المفردة الخارجة بغير إذن الإمام.
والرجل يأخذ وحده فيتم فهو نفل يأخذه الإمام كله إذا خرج بغير إذنه، قصر الخروج على صفته التي كانت على عهده صلى الله عليه وسلم، ولم تكن إلا بإذنه عليه السلام، والتي تقدمت بين يدي العسكر، فلا يخلو أن يغنم العسكر، أو تغنم السرايا، فإن غنم العسكر فلا يخلو أن تخرج السرية بإذن الإمام، أو بغير إذنه، فإن خرجت بإذنه شاركوا العسكر في الغنيمة وإن خرجت بغير إذنه لم تشارك العسكر في الغنيمة. وإن غنمتم السرية المتقدمة بين يد العسكر، فالجمهور على أن العسكر يشاركوا أهل السرية في الغنيمة، وإن لم يشهد العسكر العنيمة، ولا القتال، وهو مذهب مالك. لأن الجيش إعانة السرية، إذ لولاه لما قدرت على دخول بلد الحرب، ولما نهضت إلى العدو، فللعسكر تأثير على من حضر القتال ولم يقاتل (لأنه) ألقى الرهبة، وكثر السواد. وقال النخعي: الإمام بالخيار إن شاء خمس ما تغنم السرية، وإن شاء نفذه كله. وقال الحسن: إن خرجت بغير إذنه خمسها، وكان ما بقي بين الجيش كله، وإن خرجت بإذنه خمسها، والباقي للسرية خاصة دون الجيش.
قوله: "والثالث أن يكون (المسهم له) من (جيش)(من) يلزمه
القتال": وهذا كما ذكره، واتفقوا على (أن من كملت فيه) سبع صفات فهو (مستحق) للغنيمة: الإسلام، والعقلن والبلوغ، والحرية، والذكورية، والصحة، وإطاقة القتال.
وقولنا: "الإسلام" احترازًا من الكافر، وقد اختلف العلماء هل يستعان بالمشركين في الجهاد أم لا؟ وفيه قولان، (المذهب) في المشهور منع لقوله عليه السلام:(إنا لا نستعين بمشرك) الحديث خرجه مسلم. والشاذ: الجواز، لأن المقصود غلبة الكفار، وإذا قلنا بجواز الاستعانة بالمشركين، فهل يستعان به في سائر أسباب القتال، أو في الخدمة خاصة فيه قولان في المذهب. قال ابن حبيب في قوله عليه السلام:(إنا لا نستعين بمشرك) هذا في الزحف والصف، فأما من هدم حصن أو رمي مجانيق ونحوه فلا بأس به، قال: ولا بأس أن يستعان بمن سأله من أهل الحرب على [ ....... ]، وإذا قلنا بذلك: فهل يسهم للكافر أم لا؟ أما من لم يقاتل فلا يسهم له، وإن قاتل فهل يسهم له فيه في المذهب ثلاثة أقوال.
أحدها: أنه يسهم له بحصول المقتول من الخروج، وسبب الغنيمة.
والثاني: أنه لا يسهم له بناء على منع الاستعانة.
والثالث: أنه إن استقل المسلمون بأنفسهم لم يسهم له، إذ لا ضرورة له ولا سهم له.
وقولنا: "العقل" احتراز من المجنون، والمجنون على قسمين مطبق وغير مطبق، والمطبق على قسمين: إما أن يكون طرؤه عليه بعد الخروج من بلاد الإسلام، والوصول إلى أرض الحرب أو (قبله. فإن كان قبل الخروج من بلاد المسلمين لم يسهم له، وإن كان بعد الوصول إلى أرض الحرب أو) بعد الوقعة ففيه قولان: الإسهام له، لأنه كثر السواد، وقارب الشيء ونفيه، إذ لا يصح منه القتال، وغير المطبق يسهم له إن كان معه من العقل ما يطيق به القتال والإجراء على ما ذكرناه.
وقولنا: "البلوغ" احترازًا من الصبي. وقد اختلف العلماء هل يسهم للصبيان أم لا؟ وفيه قولان: الجمهور على أنه لا يسهم (لم) وفي مذهب مالك فيه نظر. تحصيله أنه إن لم يطق القتال فلا يسهم له وإن أطاقه فهل يسهم له أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يسهم إذا حضر الوقيعة قاتل، أو لم يقاتل، لأنه كثر السواد.
الثاني: أنه لا يسهم له، لأنه لا يؤمر بالقتال.
الثالث: أنه إن (قاتل) أسهم له وإلا فلا، لأن المقصود من حصوره القتال، وإذا قلنا: إنه لا يسهم للصبي، فالمراهق حكمه حكم البالغ، وقيل: حكم الصبي، والأول قول الشافعي. وكذلك اختلفوا أيضًا: هل يرضخ لهم (أم لا) إن قلنا: إنه لا يسهم لهم، ومما احتج به من رأى الإسهام للصبيان
عموم قوله تعالى: {فأن لله خمسه وللرسول} ، ومما احتج به من رآى أنه لا يسهم لهم (ما) ذكره ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطاب وابن عباس. وإنما اشترط البلوغ تعويلاً على حديث ابن عمر.
وقولنا: "الحرية" احترازًا من العبد. وقد اختلف العلماء هل يسهم للعبيد إذا قاتلوا أم لا؟ وفي المذهب في ذلك ثلاثة أقوال: الإسهام مطلقًا، ونفيه، والإسهام مطلقًا، ونفيه، والإسهام إن لم يستقل الأحرار بأنفسهم، ونفيه إن استقلوا بأنفسهم، وفي الصحيح عن عمر بن الخطاب أنه قال: ليس (أحد) إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم.
وقولنا: "الذكورية" احترازًا من المرأة، ولم يختلف المذهب أنها لا تستحق السهم إذا لم تقاتل، فهل يسهم لها أم لا؟ فيه قولان في المذهب. وإذا قلنا: إنه لا يسهم لها فهل يرضخ لها أم لا؟ قال ابن حبيب: إن قاتلت المرأة كقتال الرجال أسهم لها.
وسبب الخلاف اختلافهم في الإسهام لهن اختلاف الأحاديث هل كان عليه السلام يسهم لهن، أم يرضخ من العطاء ولا يسهم، فروى الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر. وفي الصحيح: أن أم عطية كان عليه السلام يرضخ لها من الغنيمة.
وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء إذا قاتلوا هل يسهم لهم أم لا؟ قال ابن القاسم: إن قاتل التاجر أسهم له، وإن كان في رحله لم يسهم له. وقال أشهب في المدونة: وإن قاتل. قال سحنون: إن استؤجر للخدمة فقاتل فله سهمه، وتبطل من أجرته ما عطل من الخدمة، وحكم نوانية البحر حكم الأجراء. وخرج عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين: أن يخرج معه، قال: نعم. فوعده، فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معتذرًا بأمر عياله وأهله، وأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه، فلما هزموا العدو وسأل عبد الرحمن نصيبه من المغنم، فقال عبد الرحمن: سأذكر أمرك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره (فقال له) عليه السلام: (تلك الثلاثة دناننير حظه من الغزو وفي دنياه وآخرته).
وإذا قلنا: إنه لا يسهم للعبيد، والأجير، والنساء، ولا التاجر، فخرجوا مع سرية فهل يسهم لهم أم لا؟ فيه قولان في المذهب. قال ابن العطار في الأجير إن خرج للجهاد والإجارة كالخياطة فله سهمه شهد القتال أم لا؟. وإن استؤجر للخدمة فلا يسهم له. وفي كتاب ابن محمد: إن شهد الأجير (القتال) فكان مع الناس عند القتال أسهم له، وفي كتاب محمد: التاجر إن شهد القتال أسهم له، وإن لم يقاتل.
وقولنا: "صحة" احترازًا من المريض قد ذكرنا فيه الأقوال الثلاثة الواقعة في المذهب.
وقولنا: "وإطاقة القتال" احترازًا من الأعمى، لأنه لا يطيق القتال،
والأقطع، والمقعد والأعرج. قال سحنون: يسهم لهم، والمشهور لا يسهم لهم.
ومبنى الخلاف: هل يعدوا في حكم الأصحاء أو في حكم المرضى، تنبيهًا على ما ذكر ابن المواز أن الإمام مخير بين أن يقسم أعيان المغانم أو أثمانها. وقال سحنون: يقسم الأثمان. واختار القاضي أبو الوليد قسم الأعيان وهو الأولى عندنا إلا أن يبيعوا، ويحتمل أن يكون الخيار في ذلك للجيش والإمام، وهو سديد في النظر، لأنهم المالكون.
قال القاضي رحمه الله: "والمسهم لهم ضربان" إلى قوله: "والإمام في الأسارى".
شرح: وهذا أصل مذهب مالك رحمه الله أن للفارس ثلاثة أسهم: سهم لنفسه، وسهمان للفرس وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان سهم له وسهم لفرسه.
وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار فجاء من طريق ابن عباس وغيره أن النبي عليه السلام جعل للفارس ثلاثة أسهم سهمان للفارس، وسهم
لراكبه. وجاء من حديث مجمع بن جارية وغيره مثل قول أبي حنيفة.
قوله: "ولا يسهم إلا لفرس واحد": فيه قولان في المذهب المشهور ما ذكره. وقال ابن وهب: من له فرسان يتبدل عليهما فإنه يسهم لفرسين، وقد قيل لفرسين فأكثر.
ومبناه على مراعاة الطوارئ. قال الشيخ أبو الطاهر: لا خلاف أنه يسهم للفرس الواحد، ولا يسهم على ما زاد على اثنين. وهل يسهم للفرسين يكونان لمالك واحد أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على مراعاة الطوارئ، فمن راعاها أسهم لهما ومن لم يراعها لم يسهم لهما، قال ابن الجهم: من له فرس واحد في حكم (الرجال) لأنه معرض للجراح والهلاك، وقال غيره: لا خلاف عندنا أنه لا يعطى لما زاد على فرسين.
قوله: "وإذا أجاز الإمام الهجن والبراذين أسهم لها": قلت: الخيل على ثلاثة أقسام عتاق قوية يسهم لها، وبراذين غير قوية فلا يسهم له، وبراذين قوية فيسهم لها إن أجازه الإمام، ولا خلاف في مذهب مالك أنه لا يسهم لبغل ولا حمار، لأن المقصود منه الكر والفر، وهو غير حاصل لها.
واختلف في مسائل من ذلك:
(المسألة الأولى): الفرس المريض هل يسهم له أم لا؟ واختلفت الرواية في ذلك، فقال مالك: يسهم للفرس المريض الذي لا يمنعه من حصول المنفعة المقصودة منه، وقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له، وهذا إذا مرض قبل الوقيعة، وأما المريض بعد الوقيعة والمناشبة له فيه خلاف جار على الخلاف بماذا تستحق الغنيمة ويستقر ملك الغانمين عليها، فقيل: بالقهر والاستيلاء، وقيل: بنفس الغنيمة، وعلى ذلك يجري حكم الفرس وإذا قال بعد الوقيعة. وقد تقدم الخلاف في الرجل يضل على الجيل هل يسهم له، وهو جار على الفرس، وكذلك إذا مات الفرس بعد الوقعة حكمه حكم الغازي والمناشبة به فله سهمه. ولو دخل دار الحرب بفرس مريض، أو عقير فصح وقاتل عليه (فليسهم) له من يومه (لا من) قبله؛
قاله سحنون. وكذلك الفرس الرهيص، قال مالك: يسهم له لأن ذلك لا يمنعه من حصول المنفعة به وما حدث من هذه العيوب بعد الوقيعة لم يمنع له لسبق المنفعة به.
المسألة الثانية: الفرس المغصوب والمستعار والمستأجر يسهم له لراكبه بلا خلاف إلا أن يغصبه من (غازي)، ففي سهم الفرس قولان فقيل لغاصبه لأنه المقاتلن وقيل لمالكه، وعلله الأشياخ بوجهين: أحدهما: أن الغاصب قد منع شيئًا فعليه ضمانه للمالك. الثاني: أن استحقاق السهم للمالك ثبت بالخروج، أو بالوصال إلى أرض الحرب، وهذا كله إذا كان الغصب أو الاستحقاق أو العارية قبل القتال، فإن كان ذلك بعد القتال والمناشبة فالسهمان للمالك بلا خلاف لاستحقاقه (ذلك) قبل الإجارة والعارية، ولو استأجر الفرس ببعض سهمه، فالسهم للقاتل، وعليه لرب الفرس أجرة المثل في فرسه، لأنه أجرة فاسدة.
المسألة الثالثة: إذا كان الخيل في السفن فهل يسهم لها أم لا؟ المنصوص أنه يسهم لها لأنها معدة للنزول، ويجري فيه الخلاف هل يعتبر الحال، أو يعتبر المآل والأول مختلف فيه. والخيل الصغير الذي يحصل الكر والفر منه كالكبار وإلا فلا.
المسألة الرابعة: الفرس الضعيف هل يسهم له أم لا؟ اختلف فيه. فقال أشهب وابن نافع: لا يسهم له لأنه لا يمكن القتال عليه حال ضعفه فهو كالكسير، وكذلك الأعجف الذي لا ينتفع به، وقيل: يسهم للضعيف لأنه مرجو البرء.
قوله: "ولا يقتل النساء و (لا) الصبيان ولا الشيخ الفاني ولا أهل الصوامع والديارات إلا أن يخاف منهم أذى أو تدبير": وهذا أصل مذهب مالك كما ذكره، وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا.
وتحصيل القول فيه أنهم أجمعوا على جواز قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين في حال الحرب، واختلفوا في قتل صبيانهم ونسائهم وشيوخهم ورهبانهم وأجرائهم وخدامهم والأعمى والمعتوه منهم. فقال الشافعي: يقتل جميع هذه الأصناف، (فاستدل) بالكتاب والسنة والمعنى. أما الكتاب فظاهر قوله تعالى:{فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]. وقال تعالى: {وقاتلوا المشركين كآفة} الآية [التوبة: 36]. وأما السنة فعموم قوله عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله) الحديث. وأما المعنى فرآى أن علة القتل إنما هي
الكفر وهي عامة في جميع الكفار. وحكى الشيخ أبو الطاهر أن (الآية) مجتمعة على خروج الولدان من الأقوال، المشهور عن الشافعي وغيره جواز قتل الولدان والنسوان مطلقًا.
وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن هؤلاء إن قاتلوا أو آذوا المسلمين بوجه من وجوه الإيذاء، إما برأي أو تدبير أو بإعانة إما بزاد وإما بقتل، فإنهم يقتلون وإن لم يفعلوا هذا على سبيل الإجمال. فإن فصلت قلت: أما النساء فإن لم يقاتلن لم يقتلن، فإن قاتلن فهل يقتلن أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال في المذهب.
أحدها: أنهن لا يقتلن على الإطلاق لعموم نهيه عليه السلام عن قتل النساء والصبيان.
وثانيها: أنهم يقتلن لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر على امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه تقاتل) فظاهره أنها لو قاتلت لقتلت.
وثالثها: أنها تقتل إن قاتلت في حين القتال، وإلا لم تقتل بعد.
وإذا قلنا: إنها تقتيل إن قاتلت، فالمراد قتالها بالسلاح المعتادة، فإن قاتلت بالرمي والحجارة ونحوه فهل هو كالقتال والسلاح فتقتل أم لا؟ فيه قولان، المشهور من المذهب أنها إذا (سرحت) بلساها أو أخرجت مع النسوة في السور والحصون فإنها لا تقتل، وأما الصبيان فلا يقتلون إلا أن
يقاتلوا بالسلاح، ولو قاتلوا بالحجارة أعرض عنهم ولم يقتلوا. وقيل: إذا قاتلوا مطلقًا قتلوا والقولان في المذهب. واختلفوا فيه حد البلوغ في هذا الباب على قولين في المذهب الإنبات، وقيل: الاحتلام، وكذلك اختلفوا أيضًا في الرهبان المنقطعين عن الناس إذا لم يؤذونا بوجه، المشهور أنهم لا يقتلون تعويلاً على قول أبي بكر: فدعنهم وما حبسوا أنفسهم له. وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث جيوشه قال: (لا تقاتلوا أصحاب الصوامع) والشاذ أنهم يقتلون لعموم قوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كآفة} [التوبة: 36].
ومنبى المسألة على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد.
واختلفوا في النساء إذا ارتهبن هل يقتلن أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان:
أحدهما: أنهن يقتلن لأن الرهبانية مختصة بالرجال.
والثاني: يتركن لانقطاعهن وانفرادهن عن الناس، واختلفوا في الزمناء، والأجراء، والمريض، ومن لا معونة له برأي، ولا غيره هل يقتل أم لا؟ وفي مذهب مالك في ذلك قولان.
أحدهما: أنهم يقتلون تمسكًا بالعموم.
والثاني: أنهم يؤمرون ولا يقتلون، وإذا قلنا في الرهبان أنهم يقتلون فكذلك لا يؤسرون أيضًا. قال مالك: ولا ينزل من صومعته، وكذلك
اختلفوا في الحراث، قال الأوزاعي: لا يقتل.
قوله: " (ويترك) لهم أموالهم": وهذا كما ذكره، ولا خلاف في المذهب على القول أنهم لا يقتلون أنه يترك لهم أموالهم، وهل جميعه، أو ما يقوم به الأيام اليسيرة، ويؤخذا ما فضل عن ذلك، فيه قولان في المذهب لأن أخذ الجميع قتل في المعنى. قال مالك في المدونة:"يترك لهم ما يعيشون به، ولا يؤخذ كله". قال محمد بن المواز: أما ما لا يشبه أن يكون لهم، فلا يترك ولا يصدق الراهب في مثل هذا. قال مالك:(ويترك) البقرتين والغنيمات (والغليمات) والنخيلات ويؤخذ ما بقي ويحرق. قال مالك أيضًا: ما علم أنه لهم من عبيد وزروع فلا يتعرض لهم فيه. وإذا قلنا: بالقتل فيهم أوقع القتل القتل فيمن يجوز قتله في الأصل، فهو يجوز أن يحرقوا بالنار بعد قتلهم لأنه نكاية، أولاً لنهيه عليه السلام عن التعذيب بالنار فيه قولان في المذهب.
فرع: لو قتل أحد من هؤلاء الذين لا يجوز قتلهم بعد أن صار مغنمًا فعلى قاتله قيمته بجعلها في المغنم، ولو قتل قبل أن يصير مغنمًا فليستغفر الله قاتله ولا شيء عليه.
قوله: "وأمان الأمراء نافذ": وهذا ثابت بالإجماع، والدليل عليه الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{وإن أحد من المشركين} الآية [التوبة: 6]. وأما السنة فقوله عليه السلام: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ). وسيجيء الخلاف فيه هل هو إخبار أو إنشاء.
قال علماؤنا المالكية: الأمان على قسمين: عام لا يتولاه إلا الإمام. وخاص يستقل به الآحاد. وأجمع الفقهاء على أن من كملت (فيه) هذه الشروط فإن إمامته جائزة.
فالأول الإسلام ثم البلوغ ثم العقل ثم الحرية ثم الذكورية، وهذه الشروط الخمسة مشترطة في استحقاق الإمامة شرعًا، فإذا حصلت الإمامة المنعقدة بهذه الشروط، وأمن الإمام فلم يختلف المسلمون في جواز تأمينه مطلقًا كان تأمينه أو مقيدًا. واختلف في تأمين غيره فيمن حصلت له هذه الشروط، فقال ابن الماجشون: لا يجوز أمان أحد سوى الإمام إلا بإجازته، أو بإذنه، والجمهور على خلافه.
والتفصيل فيه: أما قولنا: "بالإسلام" احترازًا من الكفار، وقد اختلف المذهب في تأمين الذمي إذا كان من الجيش على قولين: أحدهما: أنه ليس بأمان وهو المشهور لقوله عليه السلام: (يجبر على المسلمين أدناهم) فشرط
الإسلام في جواز التأمين. والشاذ أنه أمان جائز لأنه تبع للمسلمين، فله ذمتهم وحكمهم في ذل. ولو قال حربي: ظننته مسلمًا فقد اختلف قول ابن القاسم في ذلك فقال مرة: يقبل دعواه، ويرد إلى مأمنه، وقال مرة: هم فيء ولا أمان (لهم) ولا يردون إلى مأمنهم. قال أبو الطاهر: وهذا خلاف في حال، فإن ظهر كذبه لم يقبل عذره، وإن ظهر صدقه قبل، وإن أشكل الأمر فالرجوع إلى الأصل يقتضي الإباحة، والرجوع إلى أشكال الحال يقتضي صحة التأمين.
وأما قولنا: "في البلوغ" احترازًا من الصبي في المقاتلة جاز تأمينه وإلا فلا. قال غيره: يجوز تأمين الصبي، أجازه الإمام في المقاتلة أم لا؟ لقوله عليه السلام:(يجير على المسلمين أدناهم) والصبي أدناهم.
وقلنا: "العقل" احتراز من المجنون لا أمان له.
وقولنا: "الحرية" احترازًا من العبد. وفي المذهب في تأمين العبد ثلاثة أقوال:
أحدها: جوازها قاتل أم لم يقاتل.
وثانيهما: أنه غير جائز، وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال جاز أمانه. وحكى بعض شيوخنا قولاً رابعًا عن المذهب في العبد أنه إن قاتل صح تأمينه وإلا فلا وهو قول أبي حنيفة.
وسبب الخلاف في جواز تأمين العبد معارضته للعموم وللقياس. أما
العموم فقوله عليه السلام: (ويسعى بذمتهم أدناهم) وهذا يقتضي تأمين العبد. وأما القياس فهو أن التأمين نوع من الحكم والولاية، ومن شرطه الكمال ونقص العبودية مانع من ذلك كمانع (من) الإمامة والشهادة وغير ذلك من مراتب الكمال.
وقولنا: "الذكورية" احترازًا من المرأة. وقد اختلف المذهب في تأمين المرأة فأجازه ابن القاسم وأشهب بناء على أن قوله عليه السلام: (قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ) إخبار عن حكم الله، وحكى أبو الفرج عن عبد الملك أنه باطل وليس بأمان.
وسبب الخلاف ما ذكرناه من الأصليين.
الأول: هل قوله: "قد أجرنا من أجرت" إنشاء أم خبر.
الثاني: معارضة العموم للقياس. وههنا مسائل اختلفوا فيها:
الأولى: هل يثبت الأمان بقول المؤمن، أو بشهادة شاهدين فيه قولان في المذهب فقال ابن القاسم: يثبت بقوله كابتداء الأمان. واشترط سحنون في ثبوته قيام الشهادة، لأنها دعوى على العسكر فيفتقر إلى الشهادة.
الثانية: إذا أجزنا تأمين غير الإمام فهو جائز قبل الفتح فإن وقع الفتح، وصار في قبضة المسلمين، فهل يجوز تأمينه، ويكون مانعهن قبله أم لا؟ فيه قولان (عندنا) حكاهما أبو الطاهر:
أحدهما: جوازه لأن إجارة أم هانئ كانت بعد الفتح، وقد أمضى ذلك عليه السلام لها.
وثانيهما: أنه لا يجوز لأنه صار هراق الدم بحصوله في قبضة
المسلمين.
الثالثة: يصح التأمين بكل ما يفهمه من نطق، أو إيماء باللسطان القوي إجماعًا.
الرابعة: يجوز عندنا التأمين لواحد أو لعدد محصور، ولو عقده لعدد غير محصور لم يجز، لأن هذا من قسم التأمين العام، وعقد مخصوص بالسلاطين لا (يتولاه) غيرهم.
قال القاضي رحمه الله: "والإمام في الأسارى" إلى آخر الباب.
شرح: وهذا هو أصل مذهب مالك (وتبعه) على هذا جماعة من الفقهاء، وذلك عام في جميع أنواع المشركين إلا الرهبان، فإن طائفة من العلماء رأوا أن يتركوا ولا يتعرض لهم برق ولا بإسباء ولا بغير ذلك اتباعًا لفعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وهذه الخصال الخمسة راجعة إلى اجتهاد الإمام فما يراه منها صوابًا فعله، وإذا استرقه فهو (عبد) لجميع الغانمين وهذا أولى من القتال وقد يرشده الله تعالى للإسلام، وقتله جائز إن رآه الإمام صلاحًا، لأنه إنكار العدو.
وقد قال جماعة من أهل العلم: لا يجوز قتل الأسير اعتمادًا على ظاهر الحصر المفهوم من قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} الآية [محمد: 4] فظاهر الآية حصر ما يفعل بالأسير بعد أسره وليس إلا المن والفداء. والجمهور على خلافه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل الأسارى في غير ما موضع، وفعله ناسخ للآية إن سلمنا دلالتها على الحصر وفيه نظر.
قوله: "وفي الجاسوس الاجتهاد": قلت: اختلف المذهب في
الجاسوس للكفار على خمسة أقوال: فقيل: يقتل مطلقًا من غير استتابة إن لم يتب، وقيل: يكفي ضربه وتنكيله، وقيل: يقتل إلا أن يعذر بجهل، وقيل: إن كان معتادًا لذلك، وإن كان ذلك منه أول الأمر ضرب ونكل. والأصل في المسألة حديث حاطب بن أبي بلتعة، ومن رآى استتابته قاسه على المرتد، ومن رآى نفي الاستتابة قاسه على الزنديق والله أعلم.
قوله: "وترد الرهائن وإن أسلموا": هذا مذهب مالك والأصل فيه ما خرجه البخاري في حديثه. ثم تكلم عن أرض الصلح وأرض العنوة، فحكمهما ظاهر. فأرض من أسلم صلحًا ملكًا له، وأرض عنوة من جملة الغنائم لا يرجع إلى أربابها بإسلامهم، وقد قدمنا الكلام على حكم الفيء والخمس وما في معناه.