الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الاعتكاف
قال القاضي رحمه الله: "والاعتكاف قربة" إلى قوله: "وليل المعتكف".
شرح: الاعتكاف في اللغة اللزوم. قال الله تعالى: {يعكفون على أصنام لهم} [الأعراف: 138] وقال: {سواءً العاكف فيه والباد} [الحج: 25]. وهو الشرع: "ملازمة المسجد، للعبادة". أجمع العلماء على أنه من أعمال البر لا سيما في رمضان، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيار المسلمين فعلوه وكانوا عليه فيه.
واختلف الفقهاء في حكمه، فأطلق القاضي أبو محمد، والشيخ أبو محمد بن أبي زيد وكثير من القرويين عليه أنه نافلة، وقال بعض الأندلسيين: سنة مؤكدة سيما في عين رمضان رجاء التماس ليلة القدر، وهي عبارة أبي الوليد بن رشد. وسماه القاضي قربة من حيث كان داخلًا في أعمال البر، ثم خصصه بحكمه، وهو من نوافل الخير، فلفظ القربة عام، ولفظ النافلة خاص، فلا يظن بكلام القاضي ههنا الترادف والتوكيد، بل
هما إطلاقان: عام، وخاص، وفي كلام مالك ما يدل على كراهيته لأنه شاق قد يكون يقدر الإنسان على الوفاء بجميع شروطه.
وفي الشرع ينقسم قسمين: نذر وتطوع. فالنذر على وجهين: معين، وغير معين، فالمعين يلزمه بتعيينه فإن كان في رمضان يلزمه قضاؤه، وإن كان في غير رمضان فأفطر فيه لمرض أو غيره من الأعذار فهل يلزمه قضاؤه أم لا؟ قولان حكاهما الشيخ أبو القاسم لزوم القضاء ملاحظة الالتزام، ونفي اللزوم ملاحظة التعيين وغير المعين هو المطلق، ويلزمه قضاؤه إجماعًا. ولا يجوز جعله في صوم رمضان، ولا في غيره من أنواع الصيام الواجب كصوم الظهار، وقتل النفس والتطوع، وهو ما يشرع فيه من غيره.
قوله: "ويلزم بالنذر" هو كما ذكره لقوله سبحانه: {أوفوا بالعقود} [المائدة: 1] ولقوله عليه السلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه).
قوله: "ومعناه في الشرع": هو تخصيص شرعي والصوم شرط فيه لا سيما اعتكافًا شرعيًا لأنه لا بد عندنا منه. وقد اختلف العلماء في ذلك، فاستقرئ من مذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا اعتكاف إلا بصوم، وبه قال من السلف كثير. منهم: ابن عمر وابن عباس وقال الشافعي: الاعتكاف بغير صوم جائز.
وسبب الخلاف فيه أمران: أحدهما: أن الله سبحانه قرنه به في الآية التي تضمنت ذكر الصوم. الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتكف قط إلا في رمضان، فهل ذلك الاقتران الفعلي مقصود. والثاني هو مورد النظر، والأصح أنه مقصود. واحتج الشافعي بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: لله علي أن أعتكف ليلة فقيل: إن نذره باطل، إذ لا اعتكاف إلا بصوم، والليل ليس محل الصوم، وقيل: يلزمه اعتكاف يوم وليلة لارتباطهما، (ولا) سيستغني بأحدهما عن الآخر وكذلك اختلفوا إذا قال: لله علي أن أعتكف يومًا، فقيل: لا يجوز لفعله صلى الله عليه وسلم كان تطوعًا لا منذورًا. وكذلك اختلف أهل العلم إذا قال: لله علي أن أعتكف مطلقًا هل يلزمه فيه التتابع، وهو قول مالك وأبو حنيفة أو لا يلزم، وهو قول الشافعي.
قوله: "مع صوم إما له (أو) لغيره": وهذا فيه تسامح، لأن ظاهر كلامه عموم ذلك في اعتكاف النذر والتطوع، واعتكاف النذر لا يجوز فيه إلا الصوم المراد له، حتى إنه لا يجوز في شيء من أنواع الصيام الواجب كما ذكرناه على نصوص المذهب، وحكى بعض المتأخرين اختلاف المذهب فيمن
نذر اعتكافًا مطلقًا هل يكون الصوم منذورًا أم لا؟ على قولين، فمن قال منذورًا لم يجز أن يجعله في صوم واجب، ومن قال: ليس بمنذور جعله في أي صوم شاء، وهذا جار على مقتضى ما قاله القاضي أبو محمد.
قوله: "والمرأة والرجل (في ذلك سواء) ": تنبيهًا على مذهب المخالف أبي حنيفة حيث قال: "اعتكاف المرأة في بيتها أفضل" كما أن صلاتها في بيتها أفضل من صلاة المسجد كما جاء في الخبر. ومن العلماء من رأى أن اعتكافها في المسجد أفضل مع زوجها كما كان عليه السلام يفعل مع أزواجه.
قوله: "ولا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد": قلت: أكثر العلماء على أن الاعتكاف الشرعي لا يصح إلا في المسجد، وقال ابن لبابة: يصح في غير المسجد، وقال قوم: لا يكون الاعتكاف إلا في المسجد الجامع لما يلزم المعتكف من حضور الجمعة والخروج إليها.
قوله: "ولا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لأربعة أمور أحدها حاجة الإنسان": وهذا لا يتصور الاعتكاف فيه، وكذلك طرؤ حيض أو نفاس أو مرض.
واختلف المذهب هل يخرج لشراء طعامه أم لا؟ فالمشهور جواز ذلك، والشاذ المنع من ذلك، ويؤمر بتيسر أشيائه وتهيئ معيشته قبل الدخول،
وكذلك اختلف المذهب عندنا هل يخرج لصلاة الجمعة إذا اعتكف في غير مسجد الجمعة، وهل يخرج للجنازة في خارج المسجد أم لا؟ وهل يخرج لصلاة العيدين، ولغسل الجمعة، ولغسل ثيابه إذا احتاج إلى ذلك، وفي ذلك كله عندنا خلاف في المذهب فقيل: لا يخرج، لأن ذلك مناقض لسنة الاعتكاف، فإن خرج بطل اعتكافه، وقيل: يخرج لأن ذلك ضرورة وطاعة، وكذلك لا يخرج لطلب دين له، وهل يخرج لدين عليه أو لا؟ لا يخلو أن يدخل لدداً أو غير لدد، فإن دخل لدداً فلا خلاف في إخراجه جبراً، وإن دخل على غير وجه اللدد فهل يخرجه الحاكم جبراً أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال، فقيل: يخرجه مطلقًا تغليبًا لحق الآدمي، وقيل: لا يخرجه مطلقًا تغليقًا لحق الله سبحانه، وقيل: إن بقي له من الاعتكاف اليوم واليومين فلا يخرجه، فإن طال الأمر أخرجه، قال ابن القاسم: إن خرج لطلب دين عليه ناجز وجب عليه بطل اعتكافه، وروى عن مالك أنه لا يبطل، لأن هذا ضرورة، وإن طلب بأداء شهادته. قال مالك في (العتبية): يؤديها في المسجد، وقيل: ينقل عنه، وأجاز النقل عنه، وإن كان صحيحًا لأجل العذر.
قوله: "ويلزم المعتكف من حكم الاعتكاف في حال خروجه ما يلزمه في حال مقامه": وهذا كما ذكره لأن حكم الالتزام باق عليه، وإنما أباح له الخروج وجود العذر.
قوله: "ولا يجوز له الخروج لغير ما ذكرناه من عيادة المريض أو صلاة على جنازة، وإن كان لأهله".
قلت: اختلف المذهب في العمل الذي يخص الاعتكاف، قيل: الصلاة وذكر الله، وقراءة القرآن لا غير ذلك، وقيل: جميع أعمال البر الأخروية، فيدخل في ذلك الصلاة على الجنازة ودراسة العلم ونسخه، وكل عمل فيه ثواب وقربة، ولا يبيح الاشتراك فيه إباحة ما ليس فعله في الاعتكاف كالحج والعمرة، والخلاف في ذلك بين أهل العلم مشهور، قال مالك: قد اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم وعرف المسلمون سنته، فإن اشترط ما يغير سنة الاعتكاف، فحكى ابن القصار أن ذلك لا يفيد.
قوله: "ويتجنب المعتكف جميع أنواع المباشرة": قلت: الأصل في ذلك قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون} الآية [البقرة: 187]. نبه بالمباشرة على ما في معناها من أنواع الاستمتاع، فإذا فعل من هذه الممنوعات شيء بطل اعتكافه، ووجب عليه القضاء، هذا مذهب جمهور العلماء وشذ ابن لبابة فقال: إن المباشرة تحرم على المعتكف في المسجد، وأما في غير المسجد فلا. وإن جامع عامدًا في غير المسجد لم يبطل اعتكافه عنده، وهذا شذوذ عن أقوال الجماهير ولا يعول عليه، وربما كان به مسندًا بالآية، وقال أبو حنيفة: إن قبل أو باشر لم يبطل اعتكافه. وأجمع العلماء على أن المعتكف إذا ارتكب كبيرة بطل اعتكافه، ولو بطل اعتكافه لعذر جاز له البناء.
قوله: "وله أن يعقد النكاح لغيره أو لنفسه": وهل (يجوز) النكاح للمحرم، والخلاف في ذلك مشهور.
قال القاضي رحمه الله: " وليل المعتكف ونهاره سواء" إلى آخره.
شرح: قد تقدم العمل الذي يخص الاعتكاف، وبقي النظر في الوقت الذي يدخل المعتكف إلى معتكفه، واختلف العلماء في ذلك، قال مالك: يختار له الدخول قبل الغروب (للشمس) من ليلة الذي هو مبتدأ اعتكافه ليأتي عليه (الليل) السابع بيومه وهو معتكف، وهذا إذا بنينا على اعتبار الليل، وقال الأوزاعي: يدخل بعد صلاة الصبح، وقال (الشافعي) والليث: وروى فيدخل قبل طلوع الفجر لتحقيق اعتكاف اليوم فقط من حيث كان الليل مرادًا بنفسه للاعتكاف ولا معتبر فيه، والصحيح في ذلك الاعتماد على ما خرجه البخاري عن عائشة قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان فإذا صلى الغداة داخل مكانه الذي كان يعتكف فيه).
قوله: "والاختيار فيه ألا ينقص عن عشرة أيام": أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا حد له، واختلف في أقله وقيل لا حد لأقله، وقيل: يوم وليلة، إذ لا يجوز ليلة، لأن الليل ليس محل الصوم، فلا أقل من يوم وليلة لتحقق الصوم الذي هو شرط الاعتكاف، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: سبعة أيام، وقيل: عشرة أيام. ورواه ابن القاسم عن مالك اعتمادًا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، هل ذلك التحديد أداء (للواجب) أو للأفضل، هو مورد النص، وصح حديث عمر بن الخطاب الذي أمره عليه السلام-
أن يوفي بنذره، وأما التحديد بثلاثة وما دونها فاستحسان لا دليل عليه.
قوله: "وفي حقيقة الواجب أن يدخل قبل طلوع الفجر": لأنه (مبدأ) اليوم الذي هو محل الاعتكاف، إذ الليل ليس محلًا عند الجمهور، وبغروب الشمس ينقضي اليوم، فعنده يتحقق جواز الخروج، واستحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر من رمضان ألا يرجع إلى بيته إلا بعد أن يصلي العيد، وإن خرج بعد غروب الشمس ليلة الفطر أجزأه، وقال سحنون وابن الماجشون: إن رجع إلى بيته قبل طلوع الفجر من ليلة الفطر فسد اعتكافه لأن الليلة الفائتة من العشر هي المجتمع عليها، فإن بقي عليه أيام من الاعتكاف النذر بعد يوم الفطر، شهد العيد ثم عاد إلى الاعتكاف، وقيل: لا يخرج إلى العيدين، والأول أصح، لأنه مشهور ما يؤمر بمحضره.
قوله: "والاعتكاف مقتضى بإطلاقه التتابع": وقد تقدم الخلاف في ذلك، وعمدة مذهب مالك أن الصوم المنذور المطلق لا يقتضي التتابع بخلاف الاعتكاف المطلق المنذور مثل: أن يقول: لله علي أن اعتكف عشرة أيام فيجب عليه التتابع، ولا يجوز تفريقها، فإن فرقها لعذر بنى، وإن كان لغير عذر ابتدأ. والله الموفق للرشاد.