الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب المناسك
قال القاضي رحمه الله: "الحج فرض واجب على مستطيعه" إلى قوله: "وفرض الحج".
شرح: الحج في اللغة بكسر الحاء، وفتحها، هو القصد مطلقًا، وفي الشريعة: قصد البيت الحرام لأداء الفريضة المعلومة التي (هي) أحد أركان الإسلام. والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالًا} [الحج: 29] وقال عليه السلام: (بني الإسلام على خمس) وذكر فيها الحج، وقال عليه السلام:
(كتب عليكم الحج فحجوا)، وأجمعت الأمة على وجوبه على المستطيع، وسنتكلم على المستطيع بعد. (وإرداف) القاضي بقوله:"فرض واجب" تأكيد كما قدمناه قبل.
قوله: "على مستطيعه": (تقييد) يخرج غير المستطيع، والاستطاعة هي شرط مجمع عليه بين الأمة.
قوله: "من الأحرار المكلفين": احترازًا من العبيد.
قوله: "الرجال": تحرزًا من الصبيان، لأن الصبي لا يسمى رجلًا في حال الصبا باعتباره إطلاق الجنس.
قوله: "وشروط وجوبها أربعة البلوغ": احترازًا من الصبي، والعقل احترازًا من المجنون، فلا خلاف بين المسلمين في اشتراطهما في الوجوب، لأن غير البالغ وغير المكلف فاقدان شروط المكلف، وإنما اختلف الفقهاء في حج الصبي، هل ينعقد أم لا؟ قال مالك والشافعي: إذا وقع من الصبي فهو منعقد، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد، واحتج مالك والشافعي بحديث البخاري ومسلم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: (مر بامرأة وهي في محفتها
فأخذت بضبعي صبي قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر) واحتج أبو حنيفة بأن القلم مرفوع عنه بنص الحديث. وقوع العبادات من غير العاقل قال: لا يصح، وهذا عموم لقائله، خصوص لحديث ابن عباس.
واختلف القائلون بأن حج الصبي ينعقد هل يجزئه عن حجة الإسلام أم لا؟ قال مالك والشافعي: لا يجزئه وقال داود: يجزئه، واعتمد مالك والشافعي على أنه إذا وقع من الصبي نافلة فلا يجزئ عن الفريضة. واعتمد داود على ظاهر حديث ابن عباس.
واختلف أصحاب مالك في صحة انعقاده عن الطفل الرضيع يعقده عنه أبوه أو وليه، واختار بعضهم صحة انعقاده ووقوعه عن ابن السبع، والعشر، لأنه مأمور بالصلاة شرعًا، وروى أن المذهب لم يختلف في ذلك، واشتراط الحرية تحرزًا من العبد.
والمتحصل على مالك أن لا حج على العبيد، فإن حج وهو عبد، ثم عتق لم يجزه عن الفريضة كالصبي اعتمادًا على أن العبيد مستغرقون في حقوق السادات، فلم يقع المشترط في الوجوب.
قوله: "وشروط أدائه شيئان: الإسلام": قد قدمنا الكفار هل هم مخاطبون بفروع الشريعة، وعليه اعتبار هذا الشرط. وأما إمكان السير فهو شرط في الوجوب لأنه راجع إلى الاستطاعة التي أدخلها في شروط الوجوب. إلا أن ظاهر كلام القاضي أن الاستطاعة إلى حال المكلف في نفسه فهي شرط في الوجوب. وإمكان السير راجع إلى الطريق من الأمن، والخوف فلذلك جعلها من شروط الأداء، فلا (تناقض) في كلامه باعتبار هذا المقصود.
وقد اختلف العلماء في تفسير الاستطاعة المشترطة، هل هي مقدرة، أو بحسب الأحوال، والمشهور من المذهب أنها بحسب الأحوال كما قاله القاضي. وقال الشافعي وغيره: هي الزاد والراحلة مع أمن السبيل، وروى هذا القول الذي قاله الشافعي عن سحنون وغيره من أهل المذهب.
قوله: "كالفيوج": قال ابن سيده في المحكم: الفيج رسول السلطان
على رجليه، وجمعه فيوج يقال: أفاج في الأرض إذا ذهب فيها، وهو الذي يقال له: الرقاص.
قوله: "وليس المحرم للمرأة من الاستطاعة": وهذا قد اختلف العلماء فيه. وتحصيل القول فيه: أن الحج لازم لها مع الزوج، أو ذي محرم. واختلف المذهب إذا لم يكن لها ولي على ثلاثة أقوال:
الأول: أنها تسافر مع الرفقة المأمونة تقديمًا لفريضة الله تعالى.
الثاني: أنها لا تسافر إلا مع الولي المحرم، أو الزوج.
الثالث: أنها تسافر بحجة الفريضة مع الرفقة المأمونة، وإن لم يكن لها زوج ولا ولي، ولا تسافر بحجة النافلة إلا مع زوج، أو ذي محرم، وسوى في حقها البر والبحر في زمان يغلب فيه على الظن الأمن وروى عن مالك أنه كره للمرأة الحج في البحر. قال أبو عمر بن عبد البر: فهو كذلك في الجهاد أكره قال بعض البغداديين من المالكية: إنما كره ذلك لصغر السفن بالحجاز، إذ لا يمكن للمرأة الاستتار فيها لضيقها، فأما السفن الكبار فلا بأس بها. وروى عن مالك أنها إذا لم تجد سبيلًا إلا في البحر فلا يلزمها الحج جملة من غير تفصيل.
واعتمد من اشترط في استطاعتها المحرم على نهيه عليه السلام أن تسافر المرأة من غير ذي محرم منها أو زوجها فوق ثلاثة، وفي بعضها يومين، وفي بعضها
يوم وليلة، وفي بعضها يوم، وفي بعضها بريد، وذلك كله مروي عن ابن عمر، واعتمدوا أيضًا على أنه عليه السلام:(رد رجلًا (اكتتب) في الغزو والحج امرأته).
واعتمد الآخرون على أن الاستطاعة حاصلة وهي شرط الوجوب. وروى عن ابن القاسم أن المرأة إذا قدرت على المشي، ولا تجد راحلة فلا يلزمها المشي إلا أن يكون الموضع قريبًا جدًا كأحواز مكة وقراها. وروى عن مالك أنه لا يلزمها المشي إن قدرت لضعفها، ولأن ذلك من تكليف المشقة المرفوعة شرعًا. وسئلت عائشة رضي الله عنها عن المحرم للمرأة هل هو شرط فقالت:(ليس كل الناس تجد محرمًا). ولا خلاف أن الحج لا يلزم الأعمى الذي لا يجد قائدًا، أو لا يجد من يستبد بخدمته، لأن ذلك من الحرج المرفوع، فإن وجد قائدًا لزمه، لحصول شرط الاستطاعة حينئذ.
قوله: "والبحر لا يمنع الوجوب": هو كما ذكره على الشرط الذي ذكره، ولو علم من حاله أنه يميد حتى (يعطل) فريضة واحدة، حرم عليه ركوبه. وأما (المعطوب) الذي لا يمسك نفسه عن الراحلة، ففرض الحج
ساقط عنه لعجزه فقد شرط الاستطاعة، لأنه عليه السلام عذر الخثعمية حيث شكت إليه أن أباها شيخ كبير لا يستطيع أن يثبت على الراحلة فأمرها بالنيابة عنه. فلذلك يدل على سقوطه عنه ببدنه، أو على أنه مخاطب به في ماله، وسنذكره.
قال القاضي رحمه الله: "وفرض الحج على الفور" إلى آخر الفصل.
اختيار المتأخرين من المالكية. والخلاف فيه بين العلماء مشهور. ووقع في المذهب فيمن منعه أبواه أو أحدهما أنه يتربص السنتين والثلاثة، لأنهما واجبان (تعارضا). والمختار عند البغداديين من المالكية أنه على الفور، وهو صريح مذهب أبي حنيفة. وللعلماء في هذه المسألة مسالك منطقية وقياسية. فاعتمد الشافعي، ومن تبعه من المتأخرين من المالكية على أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الحج بعد أن فرض عليه. وذلك يقتضي التوسعة، إذ لو
كان على الفور لما أخره، عنه الحنفية بأنه عليه السلام إنما أخره بتوجيه من الله، إذ كان مشتغلًا بالدعاء إلى الله، وتقرير التوحيد، والإرسال إليه، فأخره لاضطرار العارض، وأحسن السنتين كالزيادة في تأخيره والثلاثة إلا رضا الأبوين، ومنها أنه كان مصدودًا في غالب أحواله، لأن المشركين قد استولوا على مكة حتى أظهر الله أمره، فكان تأخيره عليه السلام بعذر، وقد رد الحنفية ذلك من طريق المعنى والقياس المشهور، وذلك أنهم قالوا: كما لا يجوز تأخير الصلاة حتى يذهب وقتها، كذلك لا يجوز تأخير الحج وقت وجوبه على العام الذي توجب فيه التكليف وتحقق في وجوبه على المكلف سيما أن الحياة إلى العام الثاني محتملة. وقال القاضي:"هذا استحسان، ورفق لصعوبته وموضع الاجتهاد في استطاعته" إشارة إلى استحسان التأخير لتعارض النظر والاجتهاد في تحقيق الاستطاعة المشترطة في الوجوب حتى لو تحصلت تحقيقًا لما كان إلى التأخير سبيل، فلما كان موضع اجتهاد، وكان حصولها غير متيقن، جاز التأخير المذكور.
قوله: "ومن مات قبل أن يحج لم يلزم الحج عنه": وهذا كما ذكره، وهو صريح مذهب مالك. وقد قسم العلماء العبادات على ثلاثة أقسام: مالية محضة، فالنيابة فيها جائزة إجماعًا، وبدنية محضة فالنيابة فيها ممنوعة كالصوم، ومركبة من المال والبدن كالجهاد والحج، وهذا قد اختلف في جواز النيابة فيه في الفرض. وأجمع العلماء كافة على جواز النيابة في حج التطوع.
وتحصيل مذهب مالك رحمه الله أن المستنيب في الحج إما أن يكون حيًا،
أو ميتًا، فإن كان ميتًا فلا يخلو أن يوصي به أولًا. فإن لم يوص به فلا حج عنه على المشهور سواء كان ضرورة، أو غير ضرورة. فإن أوصى به هل تنفد وصيته، ويحج عنه أم لا؟ فيه قولان: المشهور تنفيذ وصيته، والاستئجار عليه من ثلثه مراعاة للخلاف. والشاذ أن وصيته لا تنفذ، والنيابة عنه لا تجوز ملاحظة لأصل القاعدة: أن النيابة في الأعمال البدنية لا تجوز. وإن كان حيًا إما أن يكون عاجزًا، أو قادرًا عليه، فإن كان قادرًا عليه لم تجز النيابة عنه بلا خلاف، وإن كان عاجزًا فهل تجوز النيابة عنه أم لا؟ في المذهب فيه ثلاثة أقوال:
الأول: جوازها مطلقًا من كل نائب أجنبيًا، كان أو قريبًا عملًا بمقتضى الأحاديث الصحاح الواردة في المذهب. منها: ما خرجه الشيخان البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: (أن امرأة خثعمية قالت لرسول الله: يا رسول الله فريضة الله على عباده أدركت أبي كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه، وذلك في حجة الواداع) ومنها: ما خرجه البخاري أيضًا من حديث ابن عباس قالت: (أتت امرأة من جهينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت الحج أفأحج عنها؟ قال: حج عنها أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضية؟ قالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء).
القول الثاني: امتناع النيابة مطلقًا اعتمادًا على قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39].
القول الثالث: جواز نيابة الابن فقط دون غيره من (الأجانب والأقارب) قصرًا للحديث على ما ورد عنه.
قوله: "ويلزم النائب في الحج عن غيره أن ينوي به من ينوب عنه":
وهذا كما ذكره، لأن فعل النائب إنما (هو) عارية (لمن) ناب عنه، فلذلك خصه بالقصد.
قوله: "ويكره لمن لم يؤد فرض نفسه أن ينوب عن غيره": وهذا كما ذكره، والدليل عليه حديث ابن عباس أنه عليه السلام سمع رجلًا يقول:(لبيك عن شبرمة، فقال له: ومن شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قال: قريب لي، فقال عليه السلام: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة).
قوله: "ويكره التنقل بالحج قبل أداء فرضه": وهو كما ذكره، لأن الفرض أسبق وحرمته آكد.
قوله: "والنيابة في الحج بأجر وبغير أجر سواء": وهذا كما ذكره، والتسوية بينهما في جواز النيابة على شرطها في محلها غير أن (أخذ) الأجرة على ذلك مكروه شديد الكراهية، لأن الأصل في العبادات أن تفعل تقربًا إلى الله، ولرجائه العوض منه، لا للأغراض الدنيوية. قال مالك: لا يستأجر الرجل نفسه في عمل البر (والحطب التي من هذا). ثم ذكر القاضي أن هذه الإجارة على قسمين أحدهما: أن يكون كسائر (الإجارات) والثاني:
يسميه أصحابنا البلاغ، وبين القسمين، والأمر كما ذكره. ولو وصى بمال معلوم يحج به عنه فوجد الورثة من يحج عنه بأقل من ذلك رد الباقي على ورثته، إلا أن يوصي بذلك لرجل بعينه، فله أخذه، فإن لم يعين عددًا ولا عدد الحجات فوجد من يحج بأقل مما يسمي من المال، فهل يكون الباقي للورثة إن حج عنه بالجميع حجًا. اختلفت الروايات فيه عن المذهب على قولين. واختلف (المذهب) في فروع تتعلق بذلك.
الأول: إذا استأجر أجيرًا على الحج فهل يعتبر على الحج شرط في صحة الإجارة، ولا يلزم اشتراط التعيين، لأن العقد يوجبه وإن لم يكن شرط، فيه قولان عندنا، فقيل: يوجب الشرط، وقيل: يحمل بالعقد على السنة.
الثاني: إذا أخذ الإجارة على الحج بأن يقيم على الإحرام إلى عام قابل، فهل له ذلك أم لا؟ فيه قولان.
الثالث: إذا استأجر عام الحج
…
.
قوله: "والعمرة سنة مؤكدة": قلت: اختلف الفقهاء في حكمها على قولين: المشهور: أنها سنة، والشاذ أنها واجبة وهو قول طائفة عظيمة من السلف، وقيل: إنها مع باق الخمس والحجة للشاذ قوله تعالى: {وأتموا
الحج والعمرة لله} [البقرة: 196](قد قرئ) بالرفع، والمعنى والعمرة لله على ابتداء وخبر.
قوله: "مرة في العمر": هو كما ذكره قياسًا على الحج، والتطوع بها جائز كالحج، وهل يكره تكرارها في السنة الواحدة مرارًا أم لا؟ فيه قولان: الكراهية، وهي نص القاضي. الثاني: لأنه محل طاعة وفعل قربة.
قال القاضي رحمه الله: "وللحج ميقاتان" إلى قوله: "ولا يجوز لمريد الإحرام".
شرح: قال الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] وأجمع العلماء على أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة. واختلف هل جميعه وهو المشهور عن مالك أو عشرة منه، وهو القول الثاني عن مالك، وهو الذي اختاره الشافعي، أو سبع من ذي الحجة وهو قول أبي حنيفة والحجة للأول التمسك بصيغة الجمع، والحجة للثاني القضاء والإحرام، وجواز التحليل قبل انقضاء ذي الحجة فدل على أن أيام الحج منه هي الأيام التي يفعل فيها أفعال الحج. وفائدة هذا الخلاف فيما إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، فقيل: لا دم عليه، لأن جميعه، وقيل: عليه الدم، لأن المعتبر منه العشر الأولى فقط.
قوله: "ويكره الإحرام (به) قبل (أشهر الحج) ويصح إن
وقع": إنما ذكره لوجهين: الأول: مخالفة المشروع، الثاني: المشقة اللاحقة، فيخشى عليه الإفساد، وأما إن وقع قبل أشهر الحج فهل ينعقد أم لا؟ فيه قولان، والمشهور: أنه ينعقد، لأنه عقده على نفسه، والشاذ أنه لا ينعقد قياسًا على من أوقع الصلاة محرمًا قبل وقتها حكاه الشيخ أبو الحسن.
قوله: "ولا ينقلب عمرة": تنبيهًا على مذهب المخالف، وهذه الأشهر في مواقيت الحج لا العمرة، إذ لا ميقات لزمان العمرة، وإنما كرهت في أيام منى لمن حج. وأما المكانية فهي خمسة، وثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمر وغيره، كما خرجه أهل الصحيح. وروى أن عمر بن الخطاب هو الذي وقت لأهل العراق ذات عرق.
وقال الشافعي والثوري: إن (أهل العراق من) الصغير كان أحبَّ إلينا
لثبوت هذا التوقيت لهم عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "والأفضل الإحرام بالحج من ميقاته زمانًا ومكانًا": وهذا كما ذكره لما في ذلك من ميقاته حكمة الشرع، هذا من مذاهب أهل العلم.
قوله: "ولا يجوز لأحد يريد دخول مكة أن يدخلها إلا محرمًا": أما من أراد الحج والعمرة فلا يجوز له دخولها إلا محرمًا، ورخص للحطابين، وقيل: هم كالحجاج.
قوله: "ولا يجوز لمريد الإحرام إذا مر" إلى آخر الفصل.
شرح: الأصل في منع المحرم المار على هذه المواقيت أن لا يتجاوزها إلا محرمًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هل لمن أتى بعدهن إلى يوم القيامة) الحديث. واتفقوا على أن لأهل الشام أن يؤخروا الإحرام من ذي الحليفة إلى الجحفة إذا مروا على طريق المدينة، لأن ذلك ميقات لهم، وإليه (أشار) القاضي. واختلف المذهب هل يرخص للمرض أن يؤخر الإحرام إذا مر بذي الحليفة إلى الجحفة، والمشهور جواز ذلك (له) لأن ذلك ضرورة. وقسم القاضي المار على ميقات من هذه المواقيت ثلاثة أقسام:
الأول: أن يمر عليها لحاجة مكة، وحكم هذا ظاهر كما ذكر القاضي.
والثاني: أن يريد دخول مكة.
والثالث: أن يمر عليها مريدًا للإحرام، وهذا القسم الثالث قد يتوهم أنه هو الثاني، وليس كذلك، لأن الثاني أراد دخول مكة، والثالث مريدًا للإحرام فقط من غير أن يدخل مكة، بل لما مر بالميقات أراد تحصيل العبادات فيه، والاغتسال به، والصلاة المتعلقة بالاغتسال (وما هو سقوط من العبادات).
قوله: "فإن تجاوزها رجع ما لم يحرم": وهذا كما ذكره أنه يرجع بالقرب ما لم يحرم، فالمشهور أنه لا دم عليه، وإن لم يرجع لزمه الدم، ولو رجع بعد أن طال الأمر، وأحرم لم يسقط عنه الدم ولو جاز الميقات يريد دخول مكة حلالًا، ثم أحرم بعد أن جاوزه ففيها روايتان: أحدهما: أنه عليه دم، والأخرى لا دم عليه.
قوله: "والإحرام من الحرم جائز لمريد الحج": ولو أراد الاعتمار فلا بد له من الخروج إلى الحل، لأن ذلك سنة الاعتمار.
قوله: "وفي إحرام القارن (من مكة) خلاف": قلت: المشهور من المذهب في القارن تغليب حكم العمرة، وأنه لا بد له من خروجه من الحرم إلى الحل، لأنه أحوط. والشاذ تغليب الحج، لأنه آكد، وإلى هذا الخلاف أشار القاضي رحمه الله.
قال القاضي رحمه الله: "وأركان الحج" إلى قومه: "والتلبية".
شرح: أركان الحج هي دعائمه وفروضه التي لا يتم وقوعه شرعيًا إلا
بها وهي أربعة. وألحق بها عبد الملك جمرة العقبة، والجمهور من أهل العلم أنها ليست بركن اعتمادًا على قوله عليه السلام:(الحج عرفة) واعتمد ابن الماجشون على قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} [الحج: 29] أشار بذلك إلى جمرة العقبة.
قوله: "والقاطع للحج شيئان فوات وإفساد": قلت: ظاهر كلام القاضي أن الحج ينعقد بالنية المنفردة دون أن يقترن بها فعل من أفعال الحج وهو خلاف المعروف. وتحصيل القول فيه: أنه إن انضم إلى النية فعل أو قول كالتلبية فلا خلاف في انعقاد الحج، وإن انفردت النية فالمشهور أن الحج لا ينعقد قياسًا على الصلاة، والشاذ أنه ينعقد، استقرأه أبو الحسن (من) المذهب وفيه نظر، وقاسه على الصوم، وذكر الغسل (للإحرام)، واختلف المذهب هل هو سنة، أو فضيلة، واستقرئ من كلام ابن الماجشون أنه واجب استقراء ضعيفًا، ولو أحرم قبل الاغتسال، وطال الأمر أمر (بإعادة) الغسل بلا خلاف. وإن قرب فهل يؤمر بإعادة الغسل أم لا؟ فيه قولان في المذهب ويؤمر بهذا الغسل كل من عقد الإحرام حتى الحائض والنفساء لأنه مقصود للنظافة لا للعبادة.
قوله: "إلا النساء فيكره لهن رفع الصوت": لأن أصواتهن عورة.
قوله: "وأما واجباته فأن يحرم من الميقات ولا يتجاوزه": قلت: ظاهر كلام القاضي معارض لما قبله، فإن قال قبل:"فأما السنن أو المندوبات فأن تحرم من الميقات نفسه إن كان منزله منه، أو قبله، أو مر عليه" فجعل الإحرام من الميقات سنة. ثم قال في هذا الموضع: "وأما واجباته فأن يحرم من الميقات ولا يتجاوزه" فظاهره أن ذلك واجب وهذا قد يفهم فيه التعارض، ولا تعارض في الحقيقة فيه، فالمسنون أن لا يحرم إلا منه، والواجب أن يحرم ولا يتعداه إلى مكة غير محرم، فإحرامه منه واجب، بمعنى أنه لا يتجاوزه إلى مكة مريدًا للإحرام غير محرم منه، وإحرامه منه سنة، بمعنى أن إحرامه قبله مكروه. وقد اختلف المذهب في الإحرام قبله على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جائز، لأنه عمل خير فلا يتقيد. والثاني: أنه مكروه، لأنه مخالفة للمشروع. والثالث: أنه جائز لمن بعد عن الميقات، ومكروه في حق من قرب منه، وقد أحرم الصحابة من الشام وغيره.
قال القاضي رحمه الله: "والتلبية سنة مؤكدة" إلى آخر الفصل.
شرح: التلبية سنة عند الجمهور، وقال أبو حنيفة: هي واجبة لدعاء إبراهيم عليه السلام إلى الحج، واختلفوا فيمن تركها فقال: عليه دم، وقال
الشافعي: لا شيء عليه، واختلفوا أيضًا متى يقطعها الحاج والمعتمر، فقيل: حين يدخلان في الحرم، وقيل: إذا دخلا بيوت مكة، والمشهور أن الحاج يقطعها إذا دخل بيوت مكة، ويقطعها المعتمر إذا دخل الحرم، وكان الخلفاء الأربعة يقطعونها إذا زاغت الشمس من يوم عرفة.
قوله: "والاختيار أن يقتصر في إحرامه على النية في تعيين ما ينويه دون التلفظ به".
قال القاضي رحمه الله: "والإحرام يمنع الرجل عشرة أشياء" إلى آخر الفصل.
شرح: هذه العشرة التي يجب الامتناع بالإحرام عنها ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا. وانظر قول القاضي: "وما دونه مكروه"، واختلف في جواز الكحل للمحرم، فمنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه إذا لم يكن طيب، ولو اكتحل بكحل فيه طيب، فهل يلزمه الفدية أم لا؟ فيه قولان في المذهب، وكذلك اختلفوا في جواز الحمام للمحرم، فالجمهور على منع ذلك، وصح عن ابن عباس أنه كان يدخل الحمام. والأول أصح لأنه من الطيب، وإنما كره المعصفر، لأنه من الطيب. وروى عن مالك أنه قال: لا بأس به للمحرم، وأوجب الفدية بتغطية الرأس، أو بعضه بخلاف تغطية الوجه، والفرق بينهما ظاهر.
قوله: "وليس لشيء منها مكان مخصوص": تنبيهًا على مذهب
المخالف، وقيل: إن النسك لأهل مكة، وكذلك الإطعام.
قال القاضي رحمه الله: "ويحرم على المحرم" إلى آخر الفصل.
شرح: الأصل في تحريم الاصطياد (البري) للمحرم، قوله تعالى:{لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} الآية [المائدة: 95]، وقوله تعالى:{وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} [المائدة: 96] والأصل في تحريم ذلك للحلال، قوله عليه السلام:(لا ينفر صيدها ولا يختلى خلالها).
قوله: "مما لا يبتدئ بالضرر": كالنمر والأسد.
قوله: "وبتعريضه للقتل": يريد فعل سبب القتل، وفي هذه الصورة قولان في المذهب مبنيان على فاعل السبب هل هو كفاعل السبب أم لا؟
قوله: "ويستوي في ذلك عمده وسهوه": تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن الله سبحانه قيد بالعمد لقوله تعالى:{ومن قتله منكم متعمدًا} [المائدة: 95] ومذهب مالك أن العامد والناسي في ذلك سواء، وقال به من السلف: عمر بن الخطاب وولده عبد الله، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم. وذكر علماؤنا في ذلك .. ومنها القياس على كفارة الخطأ. قال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد: إنما ذكر الله
سبحانه العمد خاصة تنبيهًا على لحوق الإثم، وارتفاعه على المخطئ، وأما الكفارة فواجبة عليهما وشبهه بقوله تعالى:{فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة} الآية [النساء: 25]. ومن المعلوم أن الحد واجب على غير المحصنات. كما يجب على المحصنات.
واختلف العلماء فيما صاده الحلال هل يأكله المحرم أم لا؟ ومذهب مالك أنه لا يأكله إذا صاده لأجله، أو لمحرم سواه، فإن صاده لنفسه ثم أهداه إلى المحرم أكله، والأصل في الباب قوله عليه السلام:(لولا أني محرم لقبلناه).
قوله: "ومن قتل صيدًا فأكله فعليه جزاء واحد": وهذا مذهب جمهور أهل العلم، لأن الله سبحانه إنما علق الكفارة على القتل لا على الأكل.
قوله: "ولا يجوز أن يدل أحدًا محرم على صيد، ومن فعل ذلك أثم": وهو كما ذكره لأنه سبب إلى المأثم، والجزاء على القاتل دون الدال، وقيل: على جميعهم، وهي رواية عن مالك:(موافقة لقول) ابن المسيب قال: الصائد والآمر بقتله والمشير والدال عليه سواء والكفارة على جميعهم.
قوله: "وللحلال أن يذبح صيدًا مملوكًا في المحرم": وهذا تنبيه على مذهب المخالف، لأن المعتبر عندنا المكلف لا المحل. واختلف فيما قرب من الحرم هل هو كالحرم أم لا؟ فيه قولان عندنا مبنيان على أن ما قرب من الشيء هل يعطي حكمه أم لا؟.
واختلف المذهب أيضًا إذا رمى في الحل فأصاب في الحرم، أو بالعكس، هل ينظر إلى أصلها، أو إلى فرعها، وفيه قولان في المذهب.
واختلف العلماء في حرم المدينة هل هو كحرم مكة أم لا؟ فيه قولان عندنا، ومبنى المسألة على جريان القياس في الكفارات.
قوله: "ولا جزاء فيه": يعني قطع الشجر وهذا تنبيه على اختلاف شاذ للشافعي. واختلف المذهب إذا أحرم وفي بيته صيد، هل يجب عليه إرساله أم لا؟ فيه قولان مبنيان على اختلاف المفهوم في قوله تعالى:{وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} هل الصيد الاسم أو الفعل.
قوله: "والجزاء الواجب بإتلاف الصيد مثل المقتول أو (مقاربه) في الخلقة": يريد الستة صور فإن عدم فحكومة.
قوله: " (ويخيرانه) بين إخراج مثل الصيد وبين قيمته": هذا مذهب جمهور الأمة أنها على التخيير تمسكًا بظاهر اللفظ، فإذا قومه الحاكمان فهل يقومانه حيًا، أو ميتًا، فيه قولان عندنا.
قوله: "بموضع الإتلاف": هذا مذهب مالك فإن لم يكن مستحق ففي أقرب المواضع إليه. وقال أبو حنيفة: حيث ما أطعم أجزأه، وإذا قلنا:(إنه) لا يطعم إلا مساكين الحرم فأطعم غيرهم مجتهدًا فيه، هل يجزئه أم لا؟ اختلف المذهب على قولين بناء على رفع الخطأ بالاجتهاد.
قوله: "وفي صغير الصيد مثل ما في كبيره": وهذا فيه قولان في المذهب المشهور التساوي لعموم اللفظ، وكذلك معيبة هل هي كصحيحة أم لا؟ فيه خلاف عندنا.
قوله: "وللمحرم قتل السباع العادية": وهذا كما ذكره، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال:(خمس فواسق يقتلن في الحرم والحل) ونبه بهذه الخمس على كل ضار.
واختلف المذهب في الصغير الذي لا يبتدئ بالضرر، هل يجوز قتله أم لا؟ وفيه قولان عندنا مبنيان على تعارض العموم والمعنى.
(قوله: "ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير المحرم": قد تقدم الكلام فيه).
قوله: "ومن لم يجد من المحرمين إلا صيدًا، أو ميتة أكل الميتة": (هذا هو) مذهب ابن القاسم أن الميتة (للمضطر) أولى للمحرم (والعطاء جرعًا من صيد المحرم). وقال ابن الماجشون: صيد المحرم أولى لأنه يحل في وقت ما أباحه مطلقًا في غير المضطر.
قال القاضي رحمه الله: "والإحرام على ثلاثة أوجه: إفراد، وتمتع، وقران": فالإفراد: أن يحرم بالحج وحده والقران: أن يجمع بين الحج والعمرة عند ابتداء الأحكام وعقده، والتمتع: أن يحرم بعمرة في أشهر الحج، ثم يحل ويحج من عامه قبل رجوعه إلى أفقه فقد تمتع بإسقاط أحد السفرين.
واختلف الفقهاء في أفضلها. فقال مالك: الإفراد أفضل، وبه أحرم
النبي عليه السلام في حجة الوداع على ما روته عائشة. ومما يدل على أنه أفضل سقوط الدم على المفرد، فدل على (كمال) نسكه، إذ الدم إنما شرع جسرًا لما ورد من نقص (وقال أبو حنيفة والثوري وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه: القران أفضل، وحكاه اللخمي عن المذهب) والمشهور عندنا خلافه.
قوله: " (في نيته) دون لفظه": بيان لموقع الإجزاء إشعارًا أنه إن اقتصر على النية وحدها، وانعقد إحرامه لا معنى للفظه. واتفق العلماء على أن الحج يردف على العمرة ما لم يطف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، فلو طاف وسعى بطل الإرداف، وإذا أجزنا الإرداف، فقد اختلف في محله
على روايات، فقيل: إنه ما لم يشرع في الطواف، (فإن) طاف ولو شوطًا واحدًا بطل الارتداف، والرواية الثانية: أنه يردف ما لم يركع، وإن أكمل الطواف وهذا عكس قول الأول، والرواية الثالثة: أنه يرتدف ما لم يكمل الطواف، فإن أكمله بطل الارتداف، ومن رآى الشوط منعقدًا به، والرفض غير ممكن أبطل (الارتداف)، ومن رعى الكمال أجزأه ما لم يكمل.
فرع: إذا قلنا بنفي الإرداف بعد الشوط فهل يلزمه قضاء الحج أم لا؟ فيه قولان عندنا كناذر يوم لا يصح صومه، لأنه إنما لزم أحكام الحج بشرط صحة الارتداف، فإذا لم يصح الارتداف كان كنادر يوم لا يصح صومه شرعًا.
قوله: "وفعل القارن كفعل المنفرد": وهذا كما ذكره، وهل يجب على القارن دم أم لا؟ (فيه) اختلاف، أوجبه عليه عبد الملك مطلقًا، كان مكيًا، أو غير مكي، فإن كان من غير أهلها فلا خلاف في وجوب الدم عليه عندنا. ثم ذكر المتمتع وشروطه، وصح عن ابن عباس: والله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله نحدثكم عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتحدثونا عن أبي بكر وعمر.
قوله: "قبل رجوعه إلى أفقه": وهذا كما ذكره لأنه قد تمتع حينئذ بإسقاط أحد السفرين فإن كان وطنه بعد الحجاز لعاد إليه، وإلى موضع غير الحجاز فعاد إلى موضع أبعد منه لا إلى الوطن نفسه، فقيل: هو كالعودة إلى وطنه، إذ لم يتمتع بإسقاط أحد السفرين. وقال:"أو إلى ما كان من المسافة في حكمه" يدل على أن ما سوى وطنه في المسافة كالوطن.
قوله: "ولا يصح إرداف عمرة على حجة": وهذا كما ذكره لأن من سنة الإرداف أن تتقدم العمرة، ثم يردفها ما هو أعم منها، وهو الحج، وأما إذا (عقد) الحج، فقد دخلت تحت العمرة، فلا معنى لإرادفها، إذ لا يردي اعتقاد العمرة شيئًا، ولا يصح الإحرام بحجتين، ولا بعمرتين. ومن أحرم بذلك لزمة حجة، أو عمرة، ولا يصح إدخال حج على حج، ولا عمرة على عمرة، ولا عمرة على حج، ويصح إدخال الحج على العمرة، لأن الحج أعم، وهذا لا خلاف فيه عندنا.
قوله: "والواجب لكل واحد من التمتع، والقران هدي ينحر": وهذا كما ذكره لقوله سبحانه: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فيما استيسر من الهدى} [البقرة: 196] وأقل ذلك شاة. وقال تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله} الآية [البقرة: 196] إشارة إلى أهل (مكة) وذي طوى، ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فهؤلاء حاضرون في المعنى، وقيل: كل من كان دون المواقيت المعلومة، فهو مكي في الحكم.
قوله: "ولا يجزئه الصوم ما دام متمكنًا من الهدي": قلت: لأن الله تعالى رتبه فقال: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج} [البقرة: 196] فقيد ذلك بنفي الوجود.
قال القاضي رحمه الله: "ويستجيب لمن دخل مكة محرمًا" إلى قوله: "هذه جملة أفعال الحج".
شرح: إنما استحب للداخل من (العقبة العليا) وهي كذاء، لأن ابن عمر وغيره من الصحابة ثبت عنه ذلك، ولم يكونوا يفعلون إلا الأفضل، وقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة، وخرج إلى السعي من باب بني مخزوم، وإلى المدينة من باب بني تميم، وكل ذلك واسع إن شاء الله. واستلام الحجر سنة فعلها صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعده، وقيل: يشهد يوم القيامة لمن استلمه.
قوله: "ثم وضعها على فيه من غير تقبيل": فيه إشعار بالخلاف. وقد اختلف المذهب إذا لم يستطع لمس الحجر بيده، فلمسه بعود ووضعه على فيه، هل يقبله أم لا؟، والمشهور أنه لا يقبل ما مسه به لأن التقبيل المشروع الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لحجر لا لغيره. اختلف المذهب هل يقول إذا قبله:"إيمانًا بك وتصديقًا لكتابك" اتباعًا لما جاء في الآثار، أو لا يقول ذلك تركًا للتحديد.
قوله: "وسنته لغير المكي": هو ظاهر، لأن المكي غير قادم فلا معنى لطواف القدوم في حقه.
قوله: "الثلاثة الأولى خببًا والأربعة مشيًا": كذا جاءت السنة، والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه:(رحم الله امرأً أراهم اليوم من نفسه قوة) وذلك أن المشركين عام الحديبية قالوا: إن أصحاب محمد قد نهكتهم حمى يثرب. فقصد عليه السلام مخالفة قولهم، وإظهار القوة عليهم ويؤمر بذلك من أحرم من القرب والبعد طردًا للقاعدة. وهل يؤمر المريض بقدر طاقته، والصبي أم لا؟ فإن ترك الرمي فهل عليه هدي أم لا؟ فقيل: عليه الدم، لأنه سنة، وقيل: لا دم عليه. والجمع بين الظهر والعصر بها سنة، وكذلك بعرفة والمزدلفة.
قوله: "والاختيار أن يقف راكبًا": وهذا خشية العجز عن القيام، وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا خشية من ازدحام الناس عليه، وليبين للأمة.
قوله: "عدا بطن محسر": قلت: الأصل في ذلك ما خرجه
الطحاوي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، وميقات منى كلها منحر).
قوله: "ثم حلق، أو قصر، والحلاق للرجال أفضل": هو كذلك لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: (رحم الله المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين ثلاثًا) الحديث. وقد تقدم الكلام في رمي جمرة العقبة هل هو ركن أم لا؟ وكذلك اختلف المذهب في طواف الوداع، والمشهور أنه سنة.
قال القاضي رحمه الله: "هذه جملة أفعال الحج" إلى آخر الفصل.
شرح: الطهارة مستحبة في كل الأفعال، وهي في أفعال الحج كنذر، وهي في الطواف واجبة، لأنه صلاة، ولذلك لا يجزئ منكسًا، وعليه الإعادة، كمن نكس صلاة إلا أن يرجع إلى بلده، فهل يكتفي بذلك الطواف المنكس أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور نفي الاكتفاء، لأنه خلاف المشروع، والشاذ الإجزاء مراعاة للخلاف.
قوله: "وللإمام تقديم ضعفة أهله ليلة المزدلفة إلى منى": والأصل في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم النساء ليلاً مع الضعفة من أصحابه.
والحلاق سنة لقوله عليه السلام: (رحم الله المحلقين) الحديث في ترحمه عليهم يدل على أنهم فعلوا قربة.
قوله: "وما يفعل من رمي ونحر وحلاق، فلا شيء في تقديم بعض منه على بعض": قلت: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من تقديم بعضها على بعض فقال: (افعل ولا حرج) فهل هو نفي للإثم والدم أم الإثم، فيه قولان عندنا مبنيان على مراعاة ما ذكرناه، ثم ذكر أن الوطء في الفرج، والإنزال عن استمتاع من غير وطء يفسد الحج ما لم يتحلل بالرمي، ووطء قبل الطواف.
وقد اختلف العلماء في الحج الفاسد هل يجب تتميمه أم لا؟ ومذهب مالك أن تتميمه واجب، وذلك لا يغني عن قضائه، وبه قال الجمهور اعتمادًأ على قوله سبحانه:{وأتموا الحج والعمرة لله} الآية. وشذت طائفة من العلماء فقالوا: لا يجب تتميمه قياسًا على سائر النوافل، ولا خلاف أنه يقضي حجة الفريضة إذا أفسدها. واختلف هل يجب عليه قضاء التطوع، والجمهور على وجوب قضائه، لأنه بالدخول فيه والتلبس به صار (التكميل واجبًا).
قوله: "ويتفرق الزوجان إذا أراد القضاء": وهذا كما ذكره خوفًا من تكرار الفساد. واختلف المذهب فيمن أفسد حجة القضاء فقال عبد الملك: عليه حجة واحدة، وهي حجة الإسلام، وقال ابن القاسم: عليه حجتان، حجة
عن الأولى، وحجة عن الثانية.
قوله: "يلزم بفساد الحج بدنة": وهذا كما ذكره لثبوت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولو أكره أمته أو زوجته على الوطء لزمه أن يحجهما بالنفقة، وأهدى عنهما، فإن لم يكن له مال أنفقتا من مالهما، ورجعتا عليه بذلك، وهل يجوز بيع العبد المحرم والأمة المحرمة بإذن السيد؟ المشهور جواز ذلك ومنع ذلك سحنون إلا بعد انقضاء الحجة لعلة التحجيز.
قوله: "وتقلد البدن وتشعر": وهذا لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قلد وأشعر ليكون ذلك علامة على الهدى تعرف بها، ولا خلاف عندنا أنه مشروع. وقال بعض الفقهاء: هو (سنة) وهذا خطأ لأن السنة قاضية عليه، وهل تشعر البقر التي تهدي لأنها كالإبل أم لا؟ فيه قولان. والتقليد أيضًا سنة، ويستحب أن يكون بخيط ونحوه مما ينبته الأرض وقيل: لا يستحب إلى ذلك.
واختلف العلماء في جواز الأكل من جميعها إلا من الأنواع الأربع التي سماها القاضي، وكذلك اختلفوا في جواز ركوبها المشهور من المذهب أهل العلم جواز ذلك.
قال القاضي رحمه الله: "ومن أحصر بعدو فله التحلل" إلى آخر الفصل.
شرح: الأصل في الإحصار قوله سبحانه: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى} [البقرة: 196].
وقد اختلف الفقهاء في المراد بهذه الآية هل هو منع العدو، أو منع المرض، وقد استوفينا ذلك في شرح الحديث والمعتمد عليه من مذهب مالك أن حصر العدو مخالف لحصر المريض، وغيره ممن امتنع عليه الحج وفاته بخطأ الطريق والهلال فالمحصور بالعدو يحل حيث حصر، يوم حصر، ومن عداه ممن فاته الحج لا يحل إلا بوصوله إلى البيت، فإذا وصل فقد فاته الحج، حل بعمرة، وكان عليه القضاء. وأجمعوا على أن المحصر بعدو [لا] يجب عليه قضاء حجة الفريضة التي صد عنها، ولم يخالف في ذلك إلا من شذ، ولو صده العدو عن حجة التطوع فحل، فهل عليه قضاؤه، لأنه بدخوله فيه صار واجبًا عليه أو لا يجب عليه، القضاء مراعاة الأصل، إذا أبحنا للمحصر من العدو، والمشهور من المذهب أن لا هدي عليه، لأن الآية تتناوله.
قوله: "وللصغير حج يحرم به وليه": مقصوده أن حج الصبي منعقد بدليل حديث: (المرأة التي سألته عن صبي أله من حج؟ قال: نعم ولك أجر). قوله: "يحرم به وليه": وهذا كلام مستأنف لبيان أن العاقد عليه
أجر كان ممن يقبل أن يكون في نفسه أهلاً للعقد. ثم ذكر مسألة الصبي يبلغ بعد التلبية بالإحرام، والعبد يعتق فيلزمه الإتمام لدخولهم في العمل، ولا يجزئهم ذلك عن فريضة الإسلام، لأن انعقاد ذلك على وجه التطوع، وللسيد أن يمنع عبده الإحرام مطلقًا إلا بإذنه، وكذلك الزوج له أن يمنع زوجته الإحرام لغير الفريضة بخلاف العبد. ورمي الجمار سنة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبدًا لا يعقل له معنى، وقد قيل: إن آدم رمى إبليس لما رآه في ذلك المكان فبقيت سنة بعده إلى الآن. وطواف الوداع مستحب، وهل يؤمر تاركه بالدم أم لا؟ فيه اختلاف وقد اختصرنا الكلام في الحج اتكالاً على استيفائه عند مشاهدته إن شاء الله، وإنما ذكرنا فيه هذا القدر اليسير لأنا لم نراع الإكثار منه، ولا يثبت الأمر إلا بالمشاهدة. نسأل الله ذلك بفضله.