المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في الإمام والجماعة، وقضاء الفوائت والنوافل، وأوقات النهي ومواضعه،والجمع وما يتصل بذلك - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ١

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌باب في الإمام والجماعة، وقضاء الفوائت والنوافل، وأوقات النهي ومواضعه،والجمع وما يتصل بذلك

‌باب في الإمام والجماعة، وقضاء الفوائت والنوافل، وأوقات النهي ومواضعه،

والجمع وما يتصل بذلك

الأصل في طلب الإمامة قوله عليه السلام: (أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفون) الحديث وقال عليه السلام: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) وقال عليه السلام: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلامًا) الحديث. وهو متفق

ص: 362

على تصحيحه. واتفق الفقهاء على (اختبار في الاختبار في الفا ..... الشرعية والخلقية والمكانية).

قوله: ((والفقيه أولى من القارئ)): وهذا إجراء على أصل المذهب، وهي مسألة اختلف الفقهاء فيها، فقال مالك والشافعي: الأفقه أولى بالإمامة من الأقرأ. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل: الأقراء أولى من الأفقه.

وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم عليه السلام: (يؤمهمأقرؤهم) فحمله مالك وأصحابه على أن المراد به الأفقة لوجهين:

الأول: قراءة الصحابة كانت فقهًا، ولذلك مكث ابن عمر في سورة البقرة ثمانية سنين وقيل: اثنتي عشرة سنة.

الثاني: أن الحاجة في الصلاة إلى الفقه الذي به يصلح ما عساه أن يسهى فيه، أهم من الحاجة إلى (تجويد) القراءة والتلفظ بالمخارج على ما فيه من تكلف، ولو اجتمع الفقيه والصالح لكان الفقيه أولى، إلا أن يمنعه من ذلك مانع شرعي، فإذا اجتمع الأفقه والأصلح، فهل الأفقه أولى بالتقديم من الأصلح أم الأصلح؟ اختلف العلماء فيه والشافعي فيه قولان: أحدهما: تقديم الأصلح لأنه وسيلة إلى قبول الشفاعة. الثاني: تقديم الأفقه لما جاء من فضل العالم على العابد. فاعتبار النوادر من الصور. وعلى الجملة والمختار

ص: 363

من صفة الإمام أن يكون فقيهًا صالحًا شريفًا في النسب، كبيرًا في سنة، كامل الصورة، حسن اللباس، عارفًا بالقراءة، مالك الموضع إن كان مملوكًا. وإنما شرطنا الفقه، لأن به يحسن الأداء، وإنما شرطنا الصلاح، لأنه مظنة قبول الشفاعة.

قوله: «ولا تجوز إمامة الفاسق، ولا المرأة، ولا الصبي إلا في نافلة، فتجوز دون المرأة ولا العبد في الجمعة» : تعرض رحمه الله للموانع المانعة من الإمامة وهي على قسمين منها ما يمنع الإجزاء، ومنها ما يمنع الكمال، فأما ما يمنع الإجزاء فهو أقسام:

الأول: يمنع من تكميل أجزاء الأركان جميعها، وهذا لا خلاف أنه معتبر في الباب مثل أن تكون به علة تمنعه القيام أو غيره من الأركان. وسنفصل ذلك عند ذكر إمامة الجالس، وكذلك إذا كانت به علة تمنعه القراءة.

القسم الثاني: ما يرجع إلى الاعتقاد الفاسد.

القسم الثالث: ما يرجع إلى الفسق بالجوارح.

وأما إمامة الجالس فتحصل القول فيه أنه إما أن يستوي حال الإمام والمأمومين في المرض المبيح للجلوس، أو يختلف، فإن استوى حالهم في الصحة فلا كلام في هذه الصورة أنهم يصلون قيامًا أجمعين، وإن استوى حالهم في المرض، ففي جواز إمامة الجالس لهم قولان في المذهب: الجواز، والمنع، وإن كان الإمام مريضًا والمأمومين أصحاء، ففي جواز إمامة المريض لهم قولان.

الأول: الجواز اعتمادًا على إمامته عليه السلام للناس جالسًا وهو مريض.

ص: 364

الثاني: المنع لقوله عليه السلام: (لا يؤم أحد جالسًا) وهذا الحديث مرسل مروي عن جابر بن [يزيد] الجعدي وهو كذاب فيما أسند فكيف فيما أرسل. وهو أيضًا ممن يقول بالرجعة. وذهبت طائفة من أهل العلم أن فرض القيام يسقط عن المأموم لمرض الإمام المبيح للجلوس لقوله عليه السلام: إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون) فتحصل من

ص: 365

التقسيم أربعة أقسام: الأول: إمامة القائم للقائم، ولا خلاف في جوازها، والثاني: الجالس للجالس، وفيها قولان في المذهب، ويتعلق بهذا فروع:

الأول: إذا أجزنا إمامة الجالس المريض للمريض الجالس أيضًا فصح المأمون في أثناء الصلاة، ففيها ثلاثة أقوال في المذهب.

أحدهما: أنه يقطع الصلاة كالأمة تعتق في أثناء الصلاة.

الثاني: أنه يتم الصلاة وراءه قائمًا مراعاة لجوازه ابتداء على قول بعض أهل العلم.

الثالث: أنه يتم لنفسه منفردًا.

الفرع الثاني: لو كانت العلة في الإمام قطع جارحة من أعضاء محدودة كقطع اليد، كانت إمامة جائزة على الأشهر، وفي رواية ابن وهب ما يدل على أن إمامته باطلة لقوله-عليه السلام:(أمرت أن أسجد على سبعة آراب) الحديث، وأما ما يمنع القراءة فهو قسمان إما أن يمنع وجودها، أو كمالها، فالأول: لا يؤمن. والثاني: كالألكن واللحان. أما الألكن

ص: 366

ففي إمامته قولان: أحدهما: أنها صحيحة، وهو المشهور. والثاني: أنها باطلة، لأن اللكنة مانعة من النطق بالحروف، وكذلك اختلفوا في إمامة اللحان على أربعة أقوال، فقيل: لا تصح أصلاً، وقيل: إنها جائزة، والقول الثالث: أنه إن غير المعنى فإمامته باطلة، وإلا فلا. وقد روى عن الشيخين أبي محمد وأبي الحسن من لم يفرق بين الظاء والضاد فلا تجوز إمامته، لأن اللحن كالتبديل. وأما النقص الراجع إلى الفسق، فإما أن يكون فاسقًا بالاعتقاد أو بالجوارح، فالأول: إما أن يوجب التكفير أم لا، فإن أوجب التكفير فإمامته باطلة، والصلاة وراءه غير جائزة، ولو صلى الناس وراءه غير عالمين بكفره، ثم استمر على إظهار الإسلام، وجبت إعادة جميع ما صلى خلفه ما لم يلفظ بالكلمة، ويتحقق له أحكام الإسلام، وقد روى سحنون فيمن لم يستمر بكفره ذلك وعلم على إسلامه، فإن تمادى ترك، وإن لم يتمادى فهي ردة، ونزل الصلاة منزلة التلفظ بالشهادة لقوله عليه السلام:(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة) الحديث. وعلى هذا الاختلاف اختلفوا في إيجاب الإعادة على من صلى خلفه، وإن لم يوجب التكفير،

ص: 367

كاعتقاد المعتزلة والخوارج وغيرهم، ففي المذهب ثلاثة أقوال في صلاة من ائتم بهم، أحدها: الإعادة مطلقًا بناء على تكفيرهم وهذا أحد قولي القاضي والشافعي ومالك فيهم. والثاني: الإعادة في الوقت بناء على نقصهم في الفسق، الثالث: نفي الإعادة مطلقًا، ولعله بناء على كل مصل يصلي لنفسه. قال مالك: ولا يصلي خلف الإمام القدري إلا أن تخاف على نفسك فصل معه. قال ابن القاسم: ورأيت مالكًا إذا قيل له في إعادة صلاة من صلى خلف أهل البدع يقف ولا يجيب عن ذلك وهذا إشارة إلى ما ذكرناه من الخلاف. فأما بالجوارح كشرب الخمر، والزنا، وغير ذلك من أصحاب الكبائر، فقد اختلف المذهب في جواز إمامتهم، والمشهور أنها لا تجوز. ومن صلى وراء صاحب كبيرة منهم أعاد أبدًا إذا علم بذلك منه، والشاذ أنها جائزة، وصلاة من صلى وراءه صحيحة، لأن فسقه غير متعلق بأحكام الصلاة ولو تعلق فسقه بأحكام الصلاة، مثل أن يعلم من حاله أنه يصلي بغير طهارة، فلا خلاف أنه متهاون لا تجوز إمامته، واحتج أهل الظاهر على جواز إمامة الفاسق بعموم قوله عليه السلام:(يؤم القوم أقرؤهم) وهذا احتجاج بالعموم في غير مقصوده. واختار الشيخ أبو بكر الأبهري أن فسقه (إن كان) مقطوعًا به أعاد المصلي وراءه أبدًا، وإن كان مظنونًا أعاد في الوقت، وأجاز قول الفاسق بالتأويل كالجميع بشرب النبيذ دون الفاسق غير المتأول.

ص: 368

وأما إمامة المرأة، فالجمهور من أهل العلم على أنها لا تجوز للرجال ولا للنساء. وشذ قوم، منهم أبو ثور والطبري، فأجازوا إمامتها مطلقًا للرجال والنساء، واعتمادًا على حديث أم ورقة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزورها في بيتها وجعل لها (مؤذنًا يؤذن لها) وأمرها أن تؤم أهل دارها) وفي رواية أخرى:(أن تؤم قومها). خرجه أبو داود وفي بعض طرقه أنه عليه السلام: (كان يقول لأصحابه سيروا معي نزور هذه الشهيدة). وأخبر عليه السلام على أنها تستشهد قبل وقوعه، وهو دليل نبوته كما ذكرنا في كتاب المنقول من معجزات الرسول. وفي مذهب مالك قولان في جواز إمامتهم للنساء، والمشهور أنها لا تؤمهم، وأجاز الشافعي محصول المساواة. وقوله عليه السلام:(أخروهن من حيث أخرهن الله) يدل على أن النساء يمنعن من ذلك، وقد منعها الله الإمامة الكبرى، والصغرى مثلها، لأن الصحابة قالوا:

ص: 369

هو إحداهما على الأخرى بدل على تساويهما في كثير من الأحكام.

وأما الصبي ففي إمامته ثلاثة أقوال: أحدهما: الجواز مطلقًا اعتمادًا على ما أخرجه البخاري من حديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه دون البلوغ. الثاني: المنع مطلقًا، وتأولوا هذا الحديث على أنه عليه السلام يعلم ذلك وهو باطل لما جاء من الروايات، والصحيح أنه عليه السلام قدمه لذلك، وقدم حتى اشتروا له القميص، وقوله من طريق المعنى، لأن الصبي معتقد النافلة، فيكون من باب إمامة المتنفل بالمفترض، وذلك ممتنع على الأشهر وانفصل عنه آخرون، بأن الصبي معتقد للوجوب. والثالث: أن ذلك يجوز (في) النافلة دون الفريضة، وعلى هذا نشأ الخلاف في إعادة من صلى وراءه، فقيل: يعيد مطلقًا، وقيل: يعيد في الوقت، وروى أبو مصعب أن الصلاة وراءه صحيحة اعتمادًا على حديث عمرو بن سلمة.

وأما العبد فلا يجوز اتخاذه إمامًا راتبًا في الجمعة بلا خلاف، إذ ليس من أهلها، فإن حضرها فهل تجوز عن ظهره، أو هل يجوز ابتداء الإمامة وراءه، أم لا، في المذهب فيه قولان: المشهور أنه لا يجوز، والشاذ الإجزاء إن وقعت، ولعله بناء على أن الجمعة واجبة عليه بالأصل، وإنما سقط لحق السيد والله أعلم.

قوله: ((ومقاما المأموم مع الإمام أربعة)): وهذا كما ذكره، ولا خلاف

ص: 370

أن الواحد يقوم عن يمينه اعتمادًا على حديث ابن عباس: (حين بات في بيت خالته ميمونة فقام عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم، وأقامه عن يمينه)، وشذ قوم فقالوا: إن الواحد يقوم عن يسار الإمام وهو خطأ لمخالفته للسنة. وأما الرجلان فاختار القاضي أن يقوما خلفه لقوله عليه السلام: (الاثنان فما فوقهما جماعة) وفي المذهب قول آخر أنهما يقومان عن يمينه وشماله لقوله عليه السلام: (عن يمينه ملك وعن يساره ملك) الحديث.

قوله: ((والجماعة في غير الجمعة مندوب إليها)): هذا مذهب جمهور الفقهاء بناء على صحة التفضيل وذلك بعض حصول الإجزاء، جاز الانفراد، قال عليه السلام:(صلاة الجماعة تفضل على صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا) وفي رواية أخرى: (سبعة وعشرين درجة) وأوجب أهل الظاهر شهود الجماعة للقادر عليها اعتمادًا على حديث

ص: 371

عتبان بن مالك وعلى غيره.

قوله: ((ويستحب للمنفرد إعادة ما عدا المغرب)): وهذا كما ذكره، وإنما ذلك لتحصيل مزيد الدرجات، وبأي نية تعاد. اختلف المذهب فيه على أربعة أقوال أحدها: أنه يدخل بنية النافلة، لأن الفرض قد سقط عنه بصلاته فذا. الثاني: بنية الفرض، ولعله بناء على صحة الفرض. الثالث: أنه ينوي إكمال الفرض حكاه الشيخ أبو وليد الباجي. الرابع: أنه يفوض الأمر فيه إلى الله وهو مذهب ابن عمر رضي الله عنه، وينبني على هذا الاختلاف، إذا تبين له بطلان أحد الصلاتين، فإن قلنا: إنه يعيد بنية النافلة فتبين له بطلان الأولى سقطت عنه الإعادة إلا أن يريد تكميل إعادة الثانية التي هي نافلة، وإن قلنا يعيد بنية فريضة فتبين الحال فيها، وجب عليه إعادتها فقط، وكذلك إن قلنا إنه ينوي تكميل الفرض بالثانية أو يفوض الأمر فيه إلى الله.

قوله: ((ما عدا المغرب)): تنبيهًا على المشهور وقال المغيرة

ص: 372

المخزومي: يعيد المغرب، وقد قيل: إلا المغرب والعشاء الآخر إذا أوتر بعدهما، لقوله عليه السلام:(لا وتران في ليلة) وقد ألزم المغيرة إعادة العشاء بعد أن أوتر من حيث رآى إعادة المغرب وهي وتر صلاة النهار، والمشهور أن المغرب والعشاء الآخر إذا أوتر بعدها لا يعادان، واختلف في فروع تتعلق بهذا.

الفرع الأول: إذا قلنا إنه يعيد المغرب أبدًا فأعادها ثانية، ففي المذهب فيه ثلاثة أقوال: فروى ابن وهب عن مالك أنها يعيدها ثالثة ويعيد وترًا، وقيل: لا يعيدها الثالثة، وقيل: إن تذكر بالقرب شفعها برابعة وجعلها نفلاً، وإن تباعد مضى وسقطت الإعادة والإضافة.

الفرع الثاني: إذا قلنا في العتمة بإعادتها، فهل يعيد الوتر أم لا؟ فيه قولان مبنيان على ما ذكرناه من الإعادة، هل هي بنية الفريضة أو بنية النافلة.

الفرع الثالث: اختلاف المذهب إذا قلنا بمنع الإعادة، فأعاد، ثم ذكر في الصلاة أن ذلك منهي عنه، فقيل: يقطع ولو بعد ركعة واحدة، وقيل: يتمادى (وهو) مبني على تقابل مكروهين، ولو صلى في جماعة أعظم منها، المشهورة أنه لا يعيد، وقال لابن حبيب يعيد في الجماعة العظمى وفي الجامع

ص: 373

العتيق، وفي المساجد الثلاثة. وألزمه اللخمي أن يعيد فيها فذًا، ولا يلزمه ذلك، وهو مبني على طلب الكمال.

الفرع الرابع: إذا صلى وحده لم يؤم غيره في تلك الصلاة لإمكان أن يكون نفلاً في حقه فيكون من باب ائتمان المتنفل بالمفترض، ولو أم فيها أعاد من ائتم به. قال ابن حبيب:((يعيدون أفذاذًا مراعاة للخلاف)).

قال القاضي رحمه الله: ((والترتيب في الفوائت واجب)) إلى قوله: ((وأما سجود القرآن)).

شرح: تضمن هذا الفصل أحكامًا بدأ منها بحكم الفوائت، وهذا الذي قاله هو جار على أصل المذهب في قضاء الفوائت، وقد انعقد الاجماع على وجوب قضاء الصلوات الفوائت بنسيان أو نوم وإن زادت على الخمس، وذهب من لا يعتد بقوله فقالوا: لا يقضي ما زاد على الخمس. واختلف في المتروك عمدًا، والجمهور على وجوب قضائها بعد التوبة والاستغفار، والدليل على وجوب قضاء المتروكات نسيانًا الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{وأقم الصلاة لذكري} وأما السنة فقوله عليه السلام: (من نام على صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وأقم الصلاة لذكري} الآية) وإنما قال الجمهور: يقضي المتروك عمدًا قياسًا على التنبيه بالأدنى على الأعلى.

وقد اضطرب المذهب في الترتيب بين المنسية والحواضر، فحكى البغداديون عن مالك في ذلك روايتين، إحداهما أنه واجب مع الذكر ساقط

ص: 374

مع النسيان.

وتحصيل القول فيه أن الذكر للصلاة المنسيات إما أن يذكرها قبل التلبس بالوقتية أو بعده، فإن ذكرها قبل التلبس بالوقتية فلا يخلو أن تكون كثيرة أو قليلة أو متوسطة، فإن كانت كثيرة فلا خلاف أنه يبدأ بالوقتية، وذلك كالخمس عشرة صلاة فما فوقها. وشذ محمد بن مسلمة من أهل المذهب فقال: يبدأ بالمنسيات، وإن كانت صلاة شهرين، وروى عن أشهب أنه بخير بين الابتداء بالمنسيات وبالوقتية لتقابل حقين: حق الترتيب، وحق الوقت، وإن كانت يسيرة بدأ بالمنسية، وإن كانت متوسطة فقولان: أحدهما: الابتداء بالمنسية، والثاني: يبدأ بالحاضرة وهذا كعشر صلوات. والمشهور من المذهب أنه يبدأ بها ما لم يخف فوات وقت الحاضرة. واختلف المذهب هل فوات وقتها الاختيار أو الاضطرار، وفيه قولان في المذهب مبنيان على تقابل المكروهين، فيقع النظر في تغليب أحدهما، ولا خلاف في المذهب بأن الأربع صلوات في حد اليسير، وأن الستة في حد الكثير. واختلف المذهب في الخمس على قولين فقيل: هي لاحقة بالكثير وقيل: باليسير إذ تكرار فيها. وإن ذكرها بعد التلبس بالصلاة وهو في أثنائها، فلا يخلو من قسمين إما أن تكون المذكورة مستحقة التقديم على الحاضرة أم لا؟ فإن كانت غير مستحقة التقديم فلا تأثير لذكرها، وحكمها أن يتمادى على الحاضر التي تلبس بها، وإن كانت مستحقة التقديم، لأنها في حيز اليسير.

فتحصيله أنه يخلو أن يكون إمامًا أو مأمومًا أو فذًا، ولا تخلو الصلاة التي هو متلبس بها، إما أن تكون فريضة أو نافلة، فإن كانت فريضة

ص: 375

وكان إمامًا. ففي المذهب قولان: أحدهما: أنه يقطع بناء على وجوب الترتيب. والثاني: يتمادى بناء على نفي الوجوب. وإذا أمرناه بالقطع فهل يجري حكم القطع على من خلفه أو يحمله أن يستخلف فيه قولان أحدهما: أن المأمومين يتبعونه بالقطع بناء على الارتباط. الثاني: أنه يستخلف قياسًا على الحدث. وإذا أمرناه بالتمادي أمرناه بعد الإعادة، وهل الإعادة واجبة، أو مستحبة، فيه قولان في المذهب: الوجوب والاستحباب بناء على وجوب الترتيب أو عدمه، وهل يعيد المأمومون بإعادة إمامهم أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور الإعادة بناء على الارتباط، والشاذ نفيها إعطاء لهم حكم أنفسهم. وإن ذكر ذلك وهو مفترض مأموم تمادى مع إمامه ولم يقطع. واختلف المذهب هل تبطل عليه الصلاة التي هو فيها أم لا؟ وفيها قولان أحدهما البطلان لقوله عليه السلام:(من ذكر صلاة وهو في صلاة بطلت عليه التي هو فيها) الثاني: نفي البطلان، بناء على أن الترتيب ليس بواجب. وإن كان فذًا فلا يخلو أن يذكر وهو في شفع من صلاته أو في وتر. فإن ذكر بعد أن صلى ركعتين قطع، وجعلها نافلة، وعاد إلى صلاة المنسية، ثم الحاضرة بعد. وإن تذكر بعد أن صلى ركعة، أو ثلاث ركعات فقولان: فقيل: يتمادى إلى الاثنين، وإلى الأربع وتبطل المنسية والحاضر بعد تكميل الأولى نافلة، وقيل: يقطع على وتر، وهو مبني على تقابل مكروهين. وإن تذكر ولم يكمل ركعة فلا يخلو أن يتذكر قبل أن يركع أو بعد أن يركع، وإن تذكر قبل أن يركع ففيه قولان: أحدهما، أنه يتمادى ويتمها نافلة بناء على أن تكبيرة الإحرام ركن. والثاني: أنه يقطع بناء على أنها ليست بركن. وإن تذكر بعد عقد الركعة فقولان أيضًا: القطع والتمادي.

ص: 376

وقد اشتهر الخلاف المذهبي في عقد الركعة ما هو؟ هل وضع اليدين على ركبتين، وقيل: رفع الرأس منها. وإن ذكر ذلك وهو في نافلة، فإما أن يعقد منها ركعة كملها بأخرى نافلة، وإن لم يعقد ركعة فقولان أحدهما: يكملها ويضيف أخرى. والثاني: أنه يقطع بناء على ترجيح أحد المكروهين المتقابلين. أنظر لو ذكر منسية وهو في صلاة الجمعة. وتحصيل القول فيه أن المنسية إن كانت مستحقة التقديم فلا يخلو أن يطمع بإدراك الجمعة بعد قضائها أم لا؟ فإن طمع تمادى على جمعته وقضاء المنسية بعد، وهل يعيد الجمعة ظهرًا أم لا؟ فيه قولان مبنيان على وجوب الترتيب ونفيه، وإن لم يطمع بإدراك شيء من الجمعة تمادى عليها، ثم إذا صلى الجمعة قضى المنسية، ويجري حكم إعادة الجمعة على ما قدمناه. ولو ذكر صلاة يوم فهل يبدأ بالصبح من ذلك اليوم لأنها أول صلاة النهار، أو بالظهر لأنها أول الصلاة في إمامة جبريل عليه السلام، فيه قولان في المذهب.

قوله: ((ويقضيها على صفة أدائها)): هو كما ذكره. وظاهر كلامه العموم في شروطه السابقة المقارنة ولأركانها. والخلاف في الأذان للفوائت معلوم. والمشهور من أقوال العلماء الإقامة دون الأذان. وهو قول مالك وأصحابه.

قوله: ((قضي أولها كما فعل الإمام)): تنبيه على حكم المستوفي. وقد

ص: 377

(اختلف) المذهب هل يعد بانيًا أو قاضيًا. وعندنا فيه ثلاثة أقوال: قيل: هو بان مطلقًا، وقيل: هو قاض مطلقًا، وقيل: إنه بان في الأفعال قاض في الأقوال، وهو المشهور من المذهب.

وأصل الاختلاف اختلاف الروايات في قوله عليه السلام: (ما فاتكم فاقضوا) وفي رواية (فأتموا). ثم النوافل قسمان. والأمر في ذلك كما ذكره.

قال القاضي رحمه الله: (((وأما) سجود القرآن)) إلى قوله: ((فأما الأحوال)).

شرح: يتعلق بهذا الفصل الكلام في سجود التلاوة. وقد اختلف المذهب في حكمه، فقيل: سنة، وقيل: فضيلة وكلاهما مستقيان من المذهب.

ص: 378

والدليل على إسقاط وجوبه قول عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة: (إن الله لم يكتبها علينا أن نشاء).

قوله: ((إحدى عشرة سجدة)): بناء على المشهور من المذهب، وقد اشتهر الخلاف فيه عندنا، وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال، فقيل: إن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة وهو المشهور، وقيل: أربعة عشرة سجدة، وقيل: خمسة عشرة سجدة، والثابت رواية المصريين عن مالك هو القول الأول. وقد اختلف أشياخنا في هذه الثلاثة الأقوال، فمنهم من جعلها مختلفة. واختار أبو محمد وغيره أن السجود مأمور به في هذه الخمسة عشر إلا أن في الأحد عشر آكد وأقوى، ولذلك سماها الفقهاء عزائم. واختلف الأحاديث هل سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المفصل. وجاء من طريق أبي هريرة وغيره أنه عليه السلام:(سجد في المفصل وسجدوا معه) والمثبت أولى من المنفى على ما تقرر في علم الأصول.

ص: 379

واختلف أهل المذهب في فعل السجود في أربع سجدات:

الأولى: سجدة الانشقاق، فقيل: في آخر السورة، وقيل: عند قوله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الإنشقاق: 21] في المذهب لم يثبت فيها سنة.

الثاني: سجدة حم تنزيل، فقيل عند قوله:{لا يسئمون} [فصلت: 38] وقيل عند قوله: {إن كنتم إياه تعبدون} [فصلت: 37].

والموضوع الثالث: سجدة ص فقيل عند قوله: {وحسن مئاب} [ص: 40] وقيل: عند قوله: {وخر راكعًا وأناب} [ص: 24] واختلف في الحج هل فيها سجدتان، أو سجدة واحدة، فقيل: سجدتان الأولى عند قوله: {إن الله يفعل ما يشاء} [الحج: 18] والثانية عند قوله: {لعلكم تفلحون} [الحج: 77] وفي الحديث: (فضلت الحج بسجدتين)، المشهور أنه ليس فيها إلا السجدة الأولى.

قوله: ((ويسجدها من قرأها في صلاة أو نفل)): وهذه مسألة خلاف في الفريضة دون النافلة فلم يختلف المذهب في جواز قراءة السجدة في صلاة النافلة، ويسجدها في محلها مع سجدات الصلاة، ولا يكون ذلك زيادة في أعداد السجدات أصلاً، وكذلك يسجها المنفرد في الفريضة.

واختلف المذهب في قراءة الإمام بها في الفريضة، وفي المذهب في

ص: 380

ذلك أقوال فقيل: بجوازه مطلقًا لقوله تعالى: {وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون} [الانشقاق: 21] ومقتضاها الذم على ترك هذا السجود مطلقًا. والقول الثاني: المنع مطلقًا، لأن ذلك زيادة في أعداد سجدات الفريضة. والقول الثالث: جواز ذلك في يوم الجمعة خاصة من حيث جرى عمل النبي صلى الله عليه وسلم. القول الرابع: جواز ذلك في صلاة الجهر دون صلاة السر خوف الالتباس. القول الخامس: جواز ذلك إذا كانت الجماعة يسيرة، لأنه يأمن التشويش بخلاف الجماعة الكثيرة.

قوله: ((واختلف عنه في فعلها في الأوقات المنهي عنها)): وفي المذهب في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز بعد العصر وبعد الصبح، وهو قوله في الموطأ. والثاني: جوازه فيها. وهو قول مالك في المدونة. وقال ابن حبيب تجوز بعد الصبح، ولا تجوز بعد العصر لأن كراهية الصلاة بعد العصر أشد من كراهيتها بعد الصبح، إذ تأخير العصر إلى الاصفرار محرم أو مكروه، وتأخير الصبح إلى الإسفرار جائز، أو مكروه على ما فيها من الخلاف المذهبي في الفصلين. ويشترط في هذا السجود ما يشترط في الصلاة من الطهارة، واستقبال القبلة، وستر العورة.

واختلف المذهب هل يكبر للسجود عند الهوى، والرفع أم لا؟ والمشهور أنه يؤمر بالسجود بالتكبير وكرهه غيره، وقال ابن القاسم هو مخير في ذلك إن شاء كبر للهوي وإن شاء لم يكبر.

قال القاضي رحمه الله: ((وأما (الأحوال) التي نهى عن التنفل فيها)) إلى قوله: ((وصلاة المريض)).

ص: 381

شرح: اختلف المذهب في الداخل يوم الجمعة، والإمام يخطب، والمشهور من المذهب أنه لا يركع، لأن المأموم مأمور باستماع خطبة الإمام وقراءته. قال تعالى:{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له} [الأعراف: 204] الآية. قال الشافعي: إنه مأمور بالركوع لقوله عليه السلام للداخل: (قم فاركع ركعتين) وهي رواية محمد بن الحسن عن مالك، وقيل: إن هذا الأمر مخصوص بالرجل بعينة، وحديث سليك الغطفاني هو المعمول عليه في هذا لثبوته عنه صلى الله عليه وسلم.

وقول القاضي: ((وشروعه في الصلاة)) وهذا كما ذكره لقوله عليه السلام: (أصلاتان معًا) وقال عليه السلام: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا

ص: 382

المكتوبة).

قوله: ((والاختيار في التنفل مثنى مثنى)) وهذا كما ذكره. وقد صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً. وصح عنه التنفل بأربع من غير تفصيل بسلام. وأجاز الإسفراييني وغيره التنفل كيف ما أمكن بواحدة أو اثنتين أو ثلاث أو أربعًا أو خمسًا وغير ذلك من غير سلام، والسنة ترد عليهم قولاً وفعلاً.

قوله: ((والجهر بالقراءة فيها جائز ليلاً ونهارًا)): وهذا كما ذكره والتوسط بين السر والجهر افضل اعتمادًا على حديثه عليه السلام لأبي بكر حين سمع قراءته فوق هذا، وقال لعمر دون هذا.

قوله: ((وتكره الصلاة في معاطن الإبل)): وهذا من المواضع السبعة التي نهى عن الصلاة فيها على ما رواه الزهري وغيره. واختلف المذهب

ص: 383

في تعليل نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطن الإبل فقيل: لأنها خلقت من جن، وقيل: لأنها تمنى كما يمنى بني آدم، وهذا لا حجة فيه، لأن منيها وبولها وروثها تابع للحمها في الطهارة، وقيل: لنفورها، وقيل: لأنها كانوا يستترون بها عند قضاء الحاجة. واختلف المذهب فيمن صلى في معاطن الإبل على هذا، فقيل: يعيد أبدًا، وقيل: يعيد في الوقت. وأما البيع والكنائس، فالنهي عن الصلاة فيها ظاهر المعنى، لأنها حفرة من حفر النار.

قوله: ((والفرض داخل البيت)): احترازًا من (داخل) البيت، وقال الفرض تحرزًا من النفل. وقد اختلف المذهب فيمن صلى الفريضة داخل البيت، فقيل: يعيد أبدًا، قيل: لا إعادة عليه، وقيل: يعيد في

ص: 384

الوقت، وقد تأول اللخمي، وغيره على أشهب جواز الفريضة فيها ابتداء. واختلف المذهب في النفل فيها، وفيه قولان: الجواز والمنع، ومبناه على اختلاف الروايات، ففي حديث ابن عباس أنه عليه السلام:(لم يصل فيها يوم دخلها) وفي حديث بلال وابن عمر أنه صلى وكل أخبر عما شاهد، ولعلها حالان مظنونان أو يكون أحدهما لغوية، والآخر شرعية، وإنما منعت الصلاة داخل البيت، لأن المصلي داخلها مستقبل به بعض القبلة ومستدبر بعضها، والمأمور به استقبال جميعها أو غيرها، وكذلك فوق البيت إذا لم يجعل ساترًا، فهل تكره الصلاة على ظهرها أم لا؟ فيه قولان في المذهب.

قوله: ((وتجوز الصلاة في مراح (الغنم والبقر))): وهذا كما

ص: 385

ذكره وهو نص عنه صلى الله عليه وسلم.

قوله: ((ويجوز الجمع بين الصلاتين في السفر)): وهذا كما ذكره، لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم:(كان إذا جد به السير جمع بين الصلاتين) وفعله حجة على جميع الأمة، وروي عن ابن شعبان أنه أجازه للنساء وكرهه للرجال ولا حجة في ذلك مع الخصوصية. واختلف المذهب في السفر المبيح للجميع، فقيل هو: السفر الجاد الذي يخاف بترك الجمع فوات الحاجة، وقيل: يجوز جد السير أم لا؟

قوله: ((في آخر وقت الأولى، وأول وقت الثانية)): تحصيل القول في هذه المسألة أن المسافر إما أن يعلم أنه يقدر على النزول لكل صلاة في وقتها المختار أم لا؟ فإن علم ذلك صلى كل صلاة لوقتها. وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن اختلفت أوقاته وأحواله، فإن سافر قبل الزوال، وعلم أنه ينزل قبل الاصفرار يرخص بتأخير الظهر، وصلاها عند الاصفرار، وإن سافر بعد الزوال، ففي المذهب قولان المشهور أنه يجمع بينهما بتقديم الظهر، ثم العصر بعدها من غير تأخير، والشاذ أنه يصلي كل صلاة لوقتها، والذي

ص: 386

يعول عليه في ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكان إذا ارتحل قبل الزوال جمع بينهما في (أول) الوقت).

واختلف المذهب في حكم المغرب، والعشاء، وفي المدونة عن ابن القاسم لم يذكر في المغرب والعشاء مثل ما ذكر في الظهر والعصر، وعلل الأشياخ قول ابن القاسم حيث فرق من جهة أن الغالب السير في وقت الظهر والعصر، والنزول عند المغرب والعشاء ولعله أجاب في حال. وسوى القاضي بينهما، ولعله اختار قول سحنون وبنى عليه.

قوله: ((ولا ينتفل بينهما)): هو كما ذكره، لأن الجمع لهما شرع للتخفيف، وذلك يناقض التشاغل بالنافلة ولم يذكر القاضي ههنا الجمع للمريض في مشهور أصل المذهب على جوازه. لأن المشقة في المرض أشد من المشقة في السفر والمطر، وقد روى أن المريض لا يجمع، ويصلي كل صلاة في وقتها، وإن حضر وقتها، وعقله مغلوب عليه، سقطت عنه، لأنه غير مكلف، وإنما يجوز الجمع بينهما للمريض بناء على المشهور إذا خاف الغلبة على عقله، فإن كان أرفق به وكان لا يخاف الغلبة على عقله، ففي جواز الجمع قولان: المشهور: الجواز والشاذ: نفيه، بناء على تحقيق مناط

ص: 387

الجمع، وإذا أجزنا الجمع للمريض فهو على ما ذكرناه بالتقديم مرة، وبالتأخير أخرى، وإذا أجزنا تأخير الظهر فيجمع بينها وبين العصر، فإلى أي وقت تؤخر؟ اختلف المذهب على ثلاث روايات، ففي المدونة أول الظهر توخر إلى وسط وقتها. واختلف الأشياخ في تفسيره، فقيل: مع القامة وقيل: نصفها، واختار سحنون أنها تؤخر إلى آخر وقتها، وكذلك المغرب والعشاء يجمع بينهما عند مغيب الشمس إن ترخص بالتقديم، أو عند مغيب الشفق إن ترخص بالتأخير على حسب أحوال والله أعلم.

قوله: ((ويجوز في الحضر لعذر المطر في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر)): تنبيه على مذهب المخالفين والجمهور من أهل العلم على أن الجمع بهذه الأعذار مشروع في كل المساجد، وشذ بعض أهل العلم فقالوا: إنه مخصوص بمسجد الرسول عليه السلام لأنه جمعه عليه لخصوصية فضله، وقيل: إنه جائز مع النبي عليه السلام لفضل الصلاة، ورآه الجمهور على عموم الإباحة، وقيد بقوله في الحضر، لأن السفر مبيح بنفسه لا يفتقر إلى انضمام عذر المطر إليه، وذكر المطر من حيث كان معظم الأسباب، وهي ثلاثة: المطر، والطين، والظلمة، فإن اجتمع ثلاث فالجمع جائز بلا خلاف تفرعًا على القول بالإباحة، وإن انفردت الظلمة، فالجمع ممنوع. وإن انفرد المطر وحده جاز الجمع بلا خوف. واختلف المذهب انفرد الطين والوحل هل يباح الجمع أم لا؟ وفيه قولان في المذهب.

ص: 388

واختلف إذا ارتفع العذر بعد صلاة المغرب فقط، هل يرتفع حكم الرخصة أم لا؟ وفيه قولان عندنا استقريا من المذهب.

قوله: ((دون الظهر والعصر)): تحرزًا من مذهب الشافعي وغيره حيث اجازه في الظهر والعصر، كما أجازه الجمهور بين العشاءين، وعول في ذلك على ما رواه مالك في موطئه من حديث ابن عباس وغيره قال:(جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء والظهر والعصر من غير خوف ولا سفر). قال مالك أراه كان في المطر.

قال المصنف عفا الله عنه: هذا التأويل ضعيف من وجهين:

الأول: إن في بعض صحيح طرقه: ((ولا مطر)).

الثاني: إنه أول مقتضى التأويل خلاف مذهبه في الظهر والعصر، المشهور من المذهب أن الجمع بين الظهر والعصر بعذر المطر لا يجوز لانتفاء معنى المشقة أو قبلها في ذلك الوقت بخلاف المغربين وقد روى عن المذهب جواز ذلك كقول الشافعي، وهو استقراء الأشياخ كأبي القاسم بن الكاتب وغيره.

واختلف المذهب في فروع تتعلق بهذا الفصل:

الأول: في وقت الجمع، وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال: الأول يصلي

ص: 389

المغرب في أول وقتها، والعشاء بعدها من غير تأخير، وهو الصحيح عملا (بظاهر) حكمه، وقيل: يؤخر المغرب قليلًا قدر اجتماع الناس، ثم يصلي العشاء بعدها من غير تأخير، وقيل: يؤخر المغرب إلى آخر وقتها ثم تصليان معًا.

الثاني: صفة الجمع، وفيه خلاف، المشهور أنه بأذان واحد وإقامتين، إذ لا معنى للأذان الثاني، وقيل: بأذانين وإقامتين أيضًا لكل واحدة، من الصلاتين حكمها وسنتها، وقيل: بالإقامة من غير أذان أصلاً، وهذا لا أصل له، والصحيح إبقاء كل صلاة على سنتها وحكمها، وإذا قلنا بالأذان الثاني فقيل: يكون داخل المسجد، لأن معنى الإعلان حصل بالأذان الأول، فقيل: في خارجه، لأنها مشروعة الأذان.

قوله: ((ومن رعف في صلاته)): إلى آخر الرعاف. وتحصيل القول في الرعاف أنه لا يخلو أن يكون الرعاف يسيرًا يذهب الفتل، أو كثيرًا لا ينقطع حتى ينقضي وقت الصلاة، أو متوسطًا، فإن كان يسيرًا فتله بأنامله، ومضى على صلاته، وإن كان كثيرًا لا يرجى انقطاعه بالخروج صلى على حاله، وأما المتوسط الذي ينقطع عند خروجه فحكمه أن يخرج على الصفة التي أدركها بعد، ثم لا يخلو أن يكون طرأ له الرعاف بعد أن عقد ركعة بسجدتيها، أو قبل ذلك، ثم لا يخلو أن يكون إمامًا أو مأمومًا أو فذًا. أما الفذ فهل يجوز له البناء إن كان عقد ركعة أم لا؟ قولان في المذهب، مذهب المدونة أنه يبني إن عقد ركعة بسجدتيها. والقول الثاني: أنه لا يبني.

ص: 390

وسبب الخلاف اختلاف الفقهاء في علة البناء، هل هي حرمة الصلاة، ويمنع من قطعها، أو حرمة الجماعة، فإن قلنا إن البناء جائز لحرمة الجماعة، اختص ذلك بالإمام دون الفذ، وإن قلنا: لحرمة الصلاة تساوي الفذ والإمام والمأموم.

وأما الإمام فيجوز له البناء إن كان قد عقد الركعة فما فوقها. واختلف المذهب في الأفضل، هل البناء، أم القطع، فمذهب ابن القاسم أن القطع أفضل، وقال مالك البناء أفضل، لأن الله سبحانه يقول:{ولا تبطلوا أعمالكم} .

واختلف المذهب في فروع:

الأول: إذا كان الدم كثيرًا لا يرجى انقطاعه كجرح صلى على حاله، وهل ينتقل فرضه إلى الإيماء أم لا؟ فيه تفصيل إن اضطر بجسده جاز له الإيماء، ويسقط عنه الركوع والسجود للضرورة الظاهرة، وإن خاف على ثيابه التلطخ دون جسده هل يسقط عنه فرض الركوع والسجود وينتقل إلى الإيماء أم لا؟ فيه قولان في المذهب، والمشهور أنه لا يسقط ذلك تغليبًا لحق الله على الآدمي.

الفرع الثاني: إذا اختار الخروج لغسل الدم فصفة الخروج أن يخرج ممسكًا لأنفه قاصدًا لأقرب المواضع إليه غير متكلم ولا ماش على نجاسة. فقولنا: ((ممسكًا لأنفه)) احترزا من تلويث المسجد. وقولنا: ((قاصدًا لأقرب المواضع)) احترازًا من أن يتجاوز موضع الماء إلى ما بعده، فإن جاوزه بطل البناء، ووجب الابتداء عليه. وقولنا:((غير متكلم)) احترازًا من المتكلم في خروجه، لأن حكمه حكم المصلي، والمصلي ممنوع من الكلام، فإن تكلم عامدًا قطع، وإن تكلم ناسيًا ففيه ثلاثة أقوال:

ص: 391

الأول: إنها تبطل مطلقًا، لأن حكم الصلاة مستدام.

الثاني: أنها لا تبطل، وهو قول ابن سحنون وغيره، وعليه أن يسجد لسهوه بعد السلام، لأن كلامه زيادة إلا أن يكون كلامه والإمام لم يفرغ من صلاته، فيكون من سهو الإمام الذي يحمله عنه إمامه، ولا يلزم فيه سجود أصلًا.

والقول الثالث: أنه إن تكلم في سيره لم تبطل، لأنه منفصل عن الصلاة حسًا، وإن تكلم في عودته بطلت، لأنه راجع إلى الصلاة، فله حكم المصلي حسًا.

واختلف المذهب في الجاهل هل هو كالعامد أو كالناسي، وقد قدمناه والماشي على النجاسة كالمتكلم، وفرق ابن سحنون بين قشب اليابس، والنجاسة الرطبة، فإن مشى على نجاسة رطبة بطلت صلاته، ويبني إن شاء على قشب يابس، لأنه لا يتعلق بالرجل ولا بالثوب.

الفرع الثالث: إذا أجزنا له البناء فذلك إذا عقد ركعة بسجدتيها، فإن أصابه الرعاف قبل عقد الركعة، فهل يجوز له البناء أم لا؟ فيه قولان في المذهب أحدهما البناء لأن حرمة الصلاة حاصلة وهو قول ابن مسلمة. الثاني: نفيه لنفي الإعادة بما دون الركعة شرعًا.

الفرع الرابع: إذا خرج ظنًا أنه دم فكشف الغيم بعد خروجه أنه ليس بدم، فهل يجوز له البناء أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أو لا؟ واختلف في صلاة المأمومين فقال ابن عبدوس لا تبطل وهو قول سحنون، وقال محمد بن سحنون تبطل صلاتهم.

الفرع الخامس: إذا عقد ركعة وبعض أخرى فهل يبتدئ الثانية، ويبني على الأولى وهو المشهور، أو يبني على ما مضى من الثانية وهو قول عبد الملك ومحمد بن مسلمة.

ص: 392

الفرع السادس: إذا غسل الدم عنه، ورجع إلى صلاته، وهل يلزمه الرجوع إلى المسجد أم لا؟ أما إن علم أن الإمام لم يكمل صلاته فلا بد من رجوعه، وإن علم أن الإمام فرغ من صلاته، فإن كانت غير جمعة فلا يعود، وإن عاد بطلت صلاته، لأنها زيادة مستغنى عنها، وإن كانت جمعة فيه ثلاث أقوال في المذهب: فقيل: يعود، لأن شروط الجمعة معتبرة في جميعها، وقيل: لا يعود بناء على أن الشروط مشترطة في أوائلها، وقيل: إن حال بينه وبين العودة حائل صلى في موضعه، وأجزاه وإلا فلا.

الفرع السابع: إذا أصابه الرعاف وهو صلاة الجنازة أو صلاة العيدين فحكمه حكم ما لو كان صلاة الفريضة، والتكبير في صلاة الجنازة كالركعة في غيرها، وروى عن أشهب أنه إن رعف قبل أن يعقد ركعة من صلاة العيدين، أو تكبيرة من صلاة الجنازة، وخاف فوات الصلاة إن هو خرج لغسل الدم عنه، فله أن يصلي على حاله، ولا ينصرف، وكذلك إذا رأى في ثوبه نجاسة ولا يعفي عنها، وخاف فوات الصلاة إن اشتغل بغسلها، فله أن يصلي على حاله، لأن الصلاة على هذه الحالة أولى من فوات الصلاة.

الفرع الثامن: إذا لم يدرك مع الإمام ركعة يعتد بها، ثم رعف، فهل يبتدئ تكبيرة الإحرام، أو يبني على تكبيرة الإحرام أم لا؟ فيه قولان: والصحيح أنه يبتدئ من حيث لم يحصل له ركن يعتد به.

قال القاضي رحمه الله: ((وصلاة المريض بحسب إمكانه)) إلى آخر الباب.

شرح: الأصل في صلاة المريض ما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرسًا فصرعه فجحش شقة الأيمن فصلى جالسًا فصلى الناس بصلاته

ص: 393

جلوسًا وقال: (إنما جعل الإمام) الحديث.

قوله: ((ويختار له أن يجلس متربعًا)): وهذا هو المشهور عملاً بفعل ابن عمر وكان يتربع.

قوله: ((ولا يجذب إليه أحدًا)): تنبيهًا على مذهب المخالف، وعمدة المذهب قول عائشة رضي الله عنها:(شبهونا بالكلاب لقد رأيتني معترضة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتراض الجنازة فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي وإذا رفع بسطتها).

قوله: ((ويستحب للمصلي في الفضاء أن تكون بين يديه سترة تحول بينه وبين المارين)): وهو كما ذكره، والأصل في السترة ما ثبت أن

ص: 394

رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له سترة توضع له إذا صلى، وكان يصلي إلى سترة، وإنما ذلك في حق الإمام والفذ إذا صليا بحيث لا يأمنا المرور فإن آمنا فهل يتوجه عليهم بالسترة أم لا؟ فيه قولان، قال مالك والإمام سترة لمن خلفه، وفي لفظ آخر: سترة الإمام لمن خلفه، والمعنى مختلف وهو ظاهر.

ص: 395