الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الأيمان والنذور
قال القاضي رحمه الله: "الأيمان على ضربين: يمين جائزة، ويمين ممنوعة" إلى قوله: "ورفع اليمين".
شرح: اليمين، والحلف، والقسم، والألية، بمعنى واحد، وحده بعض شيوخنا فقال: رفض العقد بمسمى معظم حقيقة واعتقادًا.
واتفق العلماء على إباحة الأيمان بأسماء الله تعالى، والدليل على أن أصل اليمين جائز، الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى:{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} الآية [المائدة: 89] وقال تعالى: {وأقسموا بالله} [الأنعام: 109] وقال تعالى: {فلا وربك} الآية [النساء: 65]. وهذه كلها أقسام صحيحة. وقال عليه السلام: (من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت). وقد أجمع العلماء على جواز اليمين بأسماء الله سبحانه ما لم يمنع من ذلك مانع. واختلف أهل العلم في تأويل قوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم} الآية [البقرة: 224]، فقال بعضهم المعنى: لا تكثروا الأيمان بالله، وقال
بعضهم: لا تمنعوا أفعال الخير بأيمان تعدونها على أنفسكم. وأدخل القاضي: عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته في صفة الذات، وفي ذلك بحث، لأن العهد المشار إليه إن كان المراد منه عهده الذي أخذه على نفسه لخلقه، أو على خلقه له، فالأول راجع إلى صفة الذات يدل عليه قوله تعالى:{كتب ربكم على نفسه الرحمة} [الأنعام: 54] فهذا عهد الله على نفسه لخلقه وهذا من صفات الذات الراجعة إلى العلم القديم الكاشف لأنواع الرحمات التي خص بها خلقه، ويجوز أن يرجع إلى صفة الأفعال فيكون عبارة عن تفسير الرحمة وهي من صفات الأفعال يدل عليه قوله عليه السلام:(إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة).
والأظهر في الميثاق، والكفالة، أنهما من صفات الأفعال، لأن معنى الميثاق والتوثيق المأخوذ على اليقين، فيعطى زيادة تحقيق من العهد تمكينًا لأمره، وكذلك الكفالة، والأمانة فهي فعل من أفعال خلقه خلقها سبحانه فيها، أو خلقها فعرضها عليهم، فأدخل ذلك في صفة الذات، بحث تأمله.
وقد روى عن أشهب أنه كره اليمين بأمانة الله، قال: لأن لها مصرفين فقد يراد بها الأمانة التي هي صفات الله، وقد يراد الصفة الجارية في خلقه، وكذلك أدخل القاضي أيضًا عزة الله في صفات ذاته، وجعلها كالعلم والقدرة والكلام وذلك فيه نظر، لأن لفظ العزة قد يراد بها العزة المضافة إلى الخلق التي جعلها سبحانه فيهم عمومًا، وفي المؤمنين خصوصًا قال تعالى:{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [التغابن: 8] وإذا أراد به العزة المضافة إلى الله تعالى فهي راجعة إلى نفسه، لأن معنى اسمه "العزيز" أنه الذي لا يغلب في أحكامه، ولا مانع في سابق قضائه.
قوله: "والممنوعة الحلف بما (سوى) ذلك": وهذا اللفظ فيه تجوز لأن ظاهره العموم ومن المعلوم أن الوحدانية والقدم (والقدوسية) وغير ذلك من الصفات المعنوية (كالعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات المعنوية) في لزوم اليمين بها على مذهب مالك سواء، وكذلك لا يحلف بوجود الله سبحانه على ما في الوجود من الاختلاف، هل هو نفس الموجود، أو صفة زائدة، والحالف بكل هذا غير ممنوع، فإطلاق القاضي القول في المنع فيه تجوز. ثم الممنوع على قسمين: محرم، ومكروه، فالمحرم ما قصد به المضاهاة كالحالف باللات والعزى، وغير ذلك من الأصنام. وقد أجمع العلماء على أن ذلك محرم، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(لأن أحلف بالله فآثم أحب إلي من أن أضاهي). وفي لفظ آخر: "أحب إلي من أن أحل بغيره فأبر) والمكروه: الحلف بالآباء وغير ذلك من المعظمات، وقد قال عليه السلام منبهًا على الحض في القسم الأول:(ومن حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه تعالى: أن أقامرك فليتصدق) الحديث.
وحكى الشيخ أبو الطاهر، وغيره أن اليمين بصفات الفعل لا تجوز بلا خلاف في المذهب، قال: لأنه يرجع إلى غير الله تعالى ولا يجوز اليمين بغيره. قال: فإن حلف بها لم تجب عليه كفارة. وهذا فيه نظر لأن قوله إنما ترجع إلى
غير الله لا معنى .... العالم قد حصل في عقائدهم أن القاتل إذا قال: الخالق أو الرازق، فإن السابق إلى الفهم منه أنه الله سبحانه لا غيره، فهو كالحالف بلفظ الله، فالصحيح أن صفات الأفعال راجعة إلى الحق سبحانه، واليمين منعقد، والتنبيه بقوله: فليحلف بالله على سائر صفات الحق سبحانه، وأما قصر ذلك على لفظ الله فجمود وتعميم. لا معنى له. وقد قال تعالى:{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} [الإسراء: 110] فالحكم مجمل على جميع الصفات والأفعال.
وحكى الشيخ أبو الحسن عن محمد بن المواز أنه علق الحكم في الحديث بالاسم فقط، فالجمهور عوده إلى صفة النفسية، صفات احتمال وتجوز. وقد اختلفت الرواية فيمن حلف بالمصحف، أو بالقرآن، أو بما أنزل الله، والمشهور من المذهب أن الكفارة لازمة له، لأن ذلك راجع إلى كلام الله سبحانه. وقال ابن زياد: من حلف بالمصحف، أو بالقرآن فلا كفارة، وقد تأول بعض أهل العلم (عليه) الاعتزال من هذا القول، ورأى ذلك منه بناء على أن الكلام صفة من صفات الأفعال فمنعى قولنا: الباري سبحانه متكلم أنه خالق الحروف والأصوات في محل ما (فيسمى) متكملًأ بمعنى أنه خالق الكلام لا بمعنى قيام الصفة به، وهذا مذهب باطل في نفسه، وإلزام على نفسها، والقراءة هي أصوات القرآن ولغاتهم، ولا خلاف في حدوثها. وقد قال الشاعر:
يقطع الليل تسبيحًا وقرآنًا
يريد قراءة القرآن، وقال تعالى:{وقرءان الفجر} [الإسراء: 78] يريد قراءته، وقد قال الأشياخ: إن هذه الرواية منكرة عن علي بن زياد. وقال الشيخ أبو عمران: إن صحت رواية علي بن زياد فهي محمولة على أنه أراد بذلك جسم المصحف لا المكتوب فيه.
واختلف المذهب فيمن حلف: {والطور} [الطور: 1]{والزيتون} ونحوه من الأقسام المستعملة بالقرآن، وقيل: لا شيء عليه، وقيل: المراد بالطور
…
فعليه كفارة اليمين بالله. وقد شذ قوم فجعلوا الحالف بغير لفظ الله عاصيًا، وعكسه قوم فقالوا: اليمين بكل معظم شرعًا جائز، والدليل عليه قوله تعالى:{والنجم إذا هوى} [النجم: 1] وقوله: {والسماء والطارق} [الطارق: 1] وتأوله الآخرون وقالوا: من باب حذف المضاف، والمعنى ورب كذا، والصحيح الذي يجب التعويل عليه عندنا جواز الأيمان بلفظ الله، وأسمائه، وصفاته، مطلقًا لأنها كلها راجعة إلى ذاته، وإن اختلف وجه النسبة فالأولى في التقسيم أن يقال: الأيمان على ثلاثة أقسام: محظورة، ومكروهة، ومباحة. فالمحظور اليمين باللات والعزى ونحوه من الطواغيت مما تقع به المضاهاة. والمكروه على قسمين: قسم لا كفارة فيه إلا الاستغفار كقوله: هو يهودي، أو نصراني. وهذا هو القسم الأول، والآخر: أن يحلف بالطلاق والمشي والصدقة فيلزمه ما حلف به إن حنث، ومن
المكروه الذي لا كفارة فيه أيضًا: اليمين بالآباء والأشراف. والمباح: اليمين بالله، وصفاته مطلقًا. قال في المدونة: إذا قال: علي عهد الله، وميثاقه، أو قال: علي عهد الله فهو يمين، ولو قال لك: علي عهد الله أو أعطيك عهد الله، فأوجب ابن حبيب فيه الكفارة، وقال ابن شعبان: لا كفارة فيه.
قال القاضي رحمه الله: "ورفع اليمين بوجهين" إلى قوله: "فلا يرفع شيئًا من ذلك استثناء".
شرح: وارتفاع اليمين بوجهين كما ذكره، وقد اختلف متأخرو المذهب في الاستثناء هل (هو) حل لليمين المنعقدة، أو مانع لها من الانعقاد، أو بدل عن الكفارة، وقد روى عن ابن القاسم:(أنه بدل من الكفارة). وروى ابن الماجشون: (أنه حل اليمين). قال القاضي أبو بكر: وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح.
وثمرة ذلك الاختلاف: هل يشترط فيه الاتصال أم لا بناء على كل واحد من هذه الأقوال. والذي اختاره القاضي أبو محمد: أنه حل الكفارة.
قوله: "فأما الاستثناء فهو كذا": يعني الاستثناء الشرعي، وفي لفظه مجاز، لأنه قيد في موضع الإطلاق فقال بقوله: إن شاء الله، وقد يكون
الاستثناء بحرف الاستثناء وبغير حرفه، والحرف على وجهين:(الأول: "إلا")، والثاني: الاستثناء بـ "أن"، و"إلا أن"، فقد يكون بغير حرفه. قال الشيخ أبو الوليد بن رشد كقوله: ما رأيت اليوم قرشيًا عاقلاً هو في قوة قوله: ما رأيت اليوم قرشيًا إلا أحمق، والصحيح أنه داخل في قسم التقييد، وهو أعم من أن تقيد الاستثناء إذ الاستثناء قد يكون بالصفة، وبالغاية، وبالشرط، وبالاستثناء بغير ذلك، وقد يكون الاسثتناء بمشيئة الله تعالى على وجه الإثبات، أو النفي، وقد يتعلق بمشيئة غيره من الآدميين (ما تعلم) مشيئته، وقد يتعلق بمن لا تعلم مشيئته، وبمن لا مشيئة له، ثم قد يكون بما ذكرنا من أنواع المشيئة، وقد تكون بإخراج بعض من كل، وقد رآها القاضي من هذه الأقسام كلها، وكل داخل في قسم الاسثتناء، وإن اختلف الحكم في هذه الأقسام.
وقد أجمع العلماء على أن للاستثناء تأثيرًا في حل الأيمان. وقال ابن المنذر. ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث). واتفقوا على أنه مؤثر إذا كان نقطًا، متصلاً، منويًا من أول اليمين أو قبله. واختلف إذا اختل بعض هذه الشروط.
وقولنا: "نطقًا" احترازًا من الاستثناء المنوي الملفوظ (به)(وقد اختلف العلماء في الاستثناء المنوي غير الملفوظ) فالجمهور أنه لا ينفع
وهو قول مالك، وقال أشهب، وابن حبيب: تجزئ فيه النية، وإن لم يحرك لسانه، وقد روى أن اليمين ينعقد بالنية: وأن الاستثناء يصح بالنية. قال الشيخ أبو الطاهر: هو اليمين بالقلب دون اللسان فيه قولان في المذهب اللزوم لقوله عليه السلام: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلم أو يعمل).
وتحصيل المذهب في الاستثناء بالنية فقط من غير تحريك لسان: أن ذلك إما أن يكون في إخراج بعض ما تناوله اللفظ، الأول: أو في إخراج صفة من صفات الفعل، أو في التقييد بمشيئة الله سبحانه، أو من مشيئته. فإن كان في إخراج بعض ما تناوله اللفظ الأول مثل أن يقول: والله لأضربن بني تميم إلا العلماء منهم، فهذا ينظر فيه، فإن استوته النية اشترطنا بالاستثناء وإن لم يقيد النية فهل ينفعه فيه القصد وحده من غير لفظ أم لا؟ فيه خلاف في المذهب، فمن رآه من باب الاستثناء اشترط النطق، ورآى أن القصد غير نافع، ومن رآه تخصيص العموم أجازه قصدًا، وإن لم يكن نطقًا، ومن ذلك: أن يحلف ألا يفعل شيئًا، ويقصد بعضها، أو يحلف بالأيمان اللازمة أو بالتحريم، وينوي محاشاة الزوجة، فهل ينفعه ذلك بالقصد دون اللفظ أم لا؟ فيه قولان في المذهب. وأما إن خرج بالاستثناء المنوي صفة من صفات الفعل مثل أن يقول: والله لأفعلن، أو يريد إلا أن يبدو لي،
واللفظ فيه بالاستثناء مشترط، وأما التقييد بمشيئة من له مشيئة لابد فيه من اشتراط النطق بالاستثناء. قال الشيخ أبو القاسم بن محرز: أما ما كان بابه إيقاف حكم اليمين كلها، أو رفع حكمها فلا يصح فيه إلا الاستثناء المقصود إذ عزله في أصل عقد يمينه وهذا راجع إلى ما ذكرناه.
وقولنا: «ناويًا به الاستثناء» احترازًا من أن يقول امتثالًا لقوله تعالى: {ولا تقولن لشايءٍ إني فاعل ذلك غدًا * إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 - 24] وكذلك لو قصد التعريض بقوله سبحانه فإن ذلك لا ينفعه. وإنما ينفعه من الاستثناء ما قصد به حل اليمين. وإذا قلنا: إن النطق شرط في صحة الاستثناء، فهل يشترط الجهر، أم يكفي تحريك الشفتين، فيه تفصيل، ضابطه: أن ما استحلفه عليه غيره في وثيقة حق، أو طلاق، أو نكاح، أو بيع، أو غير ذلك من حقوق المستحلف فلابد فيه من جهر. وأما ما حلف عليه بنفسه فيكفيه النطق مع تحريك الشفتين من غير جهر.
وقولنا: «متصلًا» احترازًا من المنفصل، والجمهور على اشتراط الاتصال، وقال الشافعي: يفرق بينهما بالسكتة الخفيفة للتذكر، أو للتنفس، أو انقطاع الصوت. وقال بعض التابعين: له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه، وقال ابن عباس: له الاستثناء أبدًا. واحتج الشافعي على صحة
مذهبه بما رواه ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لأغزون قريشًا، قالها ثلاث مرات، ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله) وهذا يدل على أنه نافع بالقرب، والدليل على خلاف ما قاله ابن عباس، أن الاستثناء ولو كان حالًا بالعقد لأغنى عن الكفارة.
واختلف المذهب إذا قلنا بقول الجمهور من شرط الاتصال في الاستثناء، هل يشترط أن يكون منويًا في أثناء اليمين أم لا؟ وفي المذهب فيه قولان:
فاشترط ابن المواز، وغيره أن يكون قصد الاستثناء ولو بآخر حرف قال مثل أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، فإذا نواه قبل أن يلفظ بالهاء من الشهادة أجزأه، وهو قول القاضي إسماعيل ورآى إسحاق: فلو عزم عليه بعد فراغه ثم وصله من غير صمات لم ينفعه.
والقول الثاني: أن ذلك غير مشترط بل إنما حدث بعد اليمين متصلًا باليمين فهو نافع، وقد قيل في المذهب، أنه لابد من اشتراط قصد الاستثناء في أول اليمين، وأنكره أبو محمد.
ومبني هذا الخلاف على اختلافهم هل الاستثناء مانع من انعقاد اليمين، فيشترط اقترانه بأولها، أو بآخر حرف منها، أو حل اليمين المنعقدة، فلا يشترط ذلك فيه وهو الصحيح.
واختلف المذهب إذا استثنى بمشيئة من لا يعلم كالملائكة والجن، أو من لا مشيئة له كالجامد على قولين: اللزوم، ونفيه.
قوله: «إلا أن يكون قطعها بغير اختيار من سعال، أو عطاس، أو ما أشبه» : وهذا كما ذكره لا خلاف فيه لأن القطع بدل.
قوله: «وأما النوع الآخر، وهو لا يصح رفعه فضربان: أحدهما: لا يتعلق به حكم كقوله: والنبي، والكعبة، وكقوله: هو يهودي، أو نصراني» : وهذا كما ذكره، وقد ذكرنا أن الحالف بهذا من قسم المكروه، ولقوله عليه السلام:(من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت). وأما قوله: هو يهودي، أو نصراني، فالجمهور على أن هذه ليست بإيمان. قال مالك: من قال ذلك لا يكون كافرًا حتى يكون قلبه مصرًا على الكفر، وليس ما قال في المدونة: هو زان، أو سارق، أو يأكل لحم الخنزير، أو يترك الصلاة، أو عليه لعنة الله ونحوه لم يكن شيء من هذا حالفًا. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: إذا قال: هو يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، ونحوه من الملل المختلفة فهو حالف، وعليه كفارة اليمين إن حنث اعتمادًا على حديث ضعيف ورد فيه، عوّل عليه أحمد، وأما أبو حنيفة فعول فيه على المعنى، وذلك أن الحالف بالتعظيم منعقد، فقال: ليس عليه ترك التعظيم، لأنه كما يجب التعظيم يجب ألا يترك التعظيم، فقال: الترك على الفعل، وفيه بعد.
قوله: «والآخر أن يكون يمينًا بإيقاع شيء معين، أو بنذر معين، فيلزم فيه تنفيذ ما حلف به كالطلاق، والعتاق والمشي، وغيره من نذر الطاعات» : وهذا كما ذكره، وقد تقرر من المذهب أن الاستثناء إنما يؤثر في الأيمان التي تكفر، وهي اليمين بالله، والنذر المطلق، وأما الطلاق، والعتاق، والمشي، والنذر المعين، فالجمهور على أن الاستثناء فيه غير نافع، لأن اليمين بغير الله
غير مباح فلم يكن له حكم، فلم يكن له حله بخلاف اليمين بالله، لأنه مباح، فله حله بالاستثناء، وأجاز أبو حنيفة والشافعي الاستثناء فيه كاليمين بالله وهو قول ابن الماجشون وغيره من أصحابنا إذا رد الاستثناء إلى الفعل، لا إلى الطلاق نحو قوله: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله، فإذا رد المشيئة إلى الدخول نفعه عنده، والمشهور من المذهب خلافه.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب الجاري على مذهب أهل السنة، وهو قول مالك أن الاستثناء لا ينفع في الطلاق. وقال الشيخ أبو الطاهر: لأنه إذا قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله، فإن رد المشيئة إلى صدور اللفظ فقد شاء الله صدوره، وإن ردها إلى وجود الطلاق فصدور اللفظ يقتضي وجود وقوعه، وإن ردها لمشيئته، فمشيئته إليه فرعية لا تتحدد، وكذلك لا تنفع الكفارة في هذه الأيمان، وقد روى عن ابن القاسم أن هذه الأيمان إذا خرجت على معنى اللجاج والغضب ففيها كفارة يمين، وكان بعض الشيوخ يختاره.
قال القاضي رحمه الله: «والألفاظ التي يحلف بها في القسم الأول» إلى آخر الفصل.
هذه الأقسام التي يقسم بها معلومة، إلا أن أفعاله مضمرة، واستغنى عن إظهار تلك الأفعال الدالة عليها، فإذا قال بالله، فالمعنى: أقسم بالله. ولا خلاف في أنه حالف إذا ذكر الفعل والمقسم به، أو ذكر المقسم به وحده، لأن الفعل منوي، ولو ذكر الفعل وحده دون المقسم به. قال الشافعي: إذا قال «أقسم» ولم يقل: بالله لا شيء عليه، وقيل: هو يمين، ولو قال:
أعزمت الله فهو يمين، وقيل: إن كان على فعل غيره، فليس بيمين، وإن كان على فعل نفسه فهو يمين، ولو قال لغيره: سألتك بالله، أو نحوه لكان يمينًا. قال ابن القاسم: وقد قيل: إنه ليس بيمين لأن المفهوم منه السؤال وقلت، وكذلك يقوم لاحتمال في قوله: بالله ألا فعلت، لأن الباء قد تستعمل في الاستعطاف منفردة بذلك عن سائر حروف القسم، والدليل على ذلك قول الشاعر:
بالله ربك إن دخلت فقل له
…
هذا ابن هرمة واقف بالباب
قال سحنون في السليمانية: اختلف فيمن قال: أشهد بالله، أو أحلف بالله هل هي يمين أم لا؟ ولو قال: أشهد واعتقد به اليمين، كان يمين لغو اليمين، ولم يلفظ بلفظها، وقيل: هو كالملفظ، لأن هذا من ألفاظ القسم. لا يخلو الحالف إما أن يفرد فعل القسم به، أو يجمعهما، فإن أفرد فعل القسم فقال: أحلف أو أقسم فقولان المشهور أنه ليس بيمين إلا أن يريد المحلوف به، والشاذ أنه يمين تحكمًا للعادة، وهو أقوى من الأول.
قوله: «وليس من الأيمان ولا من ألفاظها ولا من معانيها تحريم محلل» : وهذا كما ذكره إلا في الزوجة، والعبد على صفة ما قاله، وسيجيء الخلاف في تحريم الزوجة، وأما الأيمان الحادثة التي هي قوله: الأيمان تلزمني، أو كل الأيمان تلزمني، أو جميع الأيمان تلزمني. فقد اختلف المتأخرون من الفقهاء في حكمها، وليس لمالك ولا لأصحابه فيها قول،
ولعلها لم تكن يمينًا عندهم. قال أبو عبد الله الزموري من أصحاب ابن الخطيب: هي يمين لاغية لا يلزم فيها شيء البتة، وقاله أبو عمر بن عبد البر، وقيل: يلزم فيه كفارة اليمين بالله سبحانه، فعليه كفارة ثلاثة أيمان، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة، أو كفارة اليمين بناء على أن أقله اثنان، وهو قول الطرطوشي وغيره، وأفتى به أبو عمر بن عبد البر، وأبو عمران الفاسي أيضًا وغيره من شيوخنا الذين أخذنا عنهم حيث لا قصد للحالف، ولا عادة تضبط على أن هذا اللفظ لا يدخل تحته إلا اليمين بالله عز وجل، وغيره لاسيما يمينًا حقيقة، وهو قول ابن حازم وغيره، وأجمع المتأخرون من أهل المذهب على أنه يجب فيها بالطلاق في جميع نسائه، والعتق في جميع عبيده، فإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة. والمشي إلى مكة، والصدقة بالله، وصيام شهرين متتابعين. واختلف القائلون بلزوم الطلاق في ذلك هل هو ثلاثة، وهو رأي الفقيه أبي
بكر بن عبد الرحمن وأكثر الأندلسيين بناء على أن أيمان التحريم هل هو ثلاثة، أو واحدة وهو رأي أبي عمران، وسائر القرويين، أو ثلاثة إن قصد التعميم، وواحد إن لم يقصده. حكاه الشيخ أبو الطاهر وقد روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن أنه أفتى بنقض قضاء قاض قضى فيها بطلقة واحدة. والصحيح عندنا الحمل على القصد والعادة، فإذا ارتفعنا فالقول ما قاله الطرطوشي، وأبو عمران، وأبو عمر، وغيرهم ممن أدركناه من شيوخنا وبه كان يفتى. واختلفوا أيضًا فيمن حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد، ففي العتبية عن ابن وهب فيه كفارة اليمين بالله. قال ابن القاسم: إن لم تكن له نية لزمه جميع الأيمان من الطلاق والمشي والصدقة.
قال القاضي رحمه الله: «والأيمان على ثلاثة» إلى قوله: «وتجب بالمخالفة سهوًا وعمدًا وخطأً» .
شرح: وهذا كما ذكره، وبدأ بحكم اللغوي، وقد قال تعالى:{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} [البقرة: 225] وقد اختلف العلماء في يمين اللغو ما هو؟ على خمسة أقوال:
أحدها: ما ذكره القاضي أنها اليمين على الشيء يظنه كذلك، ثم تبين له خلافه.
الثاني: أنها يمين الغضبان، وبه قال القاضي إسماعيل من أصحابنا.
القول الثالث: أنها اليمين الجارية على اللسان لفظًا من غير قصد. قاله بعض أصحاب مالك وهو قول الشافعي واختاره أبو بكر الأبهري وهو آخر قول عائشة وهو المشهور وبه قال الحسن، وقتادة، ومجاهد،
والنخعي، وبه قال مالك في الموطأ عن عائشة وهذه الأقوال واقعة في المذهب. وقال ابن عباس: لغو اليمين الحالف على معصية، وقال بعض السلف: لغو اليمين أن يحلف الرجل على أن لا يأكل شيئًا مباحًا شرعًا، والذي يقتضيه ظاهر القرآن أنها يمين الجارية على اللسان من غير عقد، ولا عزم، وقال:{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} فمن اقتضاه أن اللغو الذي لا يقطع الواحد به هو ما لم يكسبه القلب فإما أن تيقن على الأول الذي حكاه القاضي عن المذهب، لأنه غير مكتسب بالقلب، وإما على ما صح عن عائشة أنه يمين اللفظ دون العزم، والعقد وإذا تحصل ما ذكرناه، فاليمين إما أن يقع على ماض أو مستقبل، فاليمين على المستقبل منعقدة كانت على وجود الفعل أو نفيه. والماضي على ثلاثة أقسام: معلوم، ومظنون، ومشكوك فيه، فالمعلوم يجوز فيه اليمين على ما هو معلوم عليه، فإن حلف على خلاف ذلك فهو من باب الغموس، وكان كذبًا، وسيجيء الخلاف فيه هل يكفر أم لا؟ وإن كان مظنونًا كان لغوًا، لا كفارة فيه كالحالف على طير أنه غراب، فإذا هو حمام، وإن كان المشكوك فيه امتنع اليمين عليه، لأنه كالغموس.
واختلف الشيوخ هل الإثم فيه مثبتًا، والإثم الحاصل عن اليمين الحادث قطعًا، أو خطأ درجة، اعتبارًا بالشك، وهو الصحيح.
قوله: «والغموس هو الكذب» : وهذا كما ذكره، وهي مخصوصة بالماضي المقطوع، فإنه كذب، وسميت غموسًا لأنها تغمس صاحبها في الإثم. وقد اختلف الفقهاء هل فيها الكفارة أم لا؟ فقال مالك: لا كفارة
فيها، لأن ذنبها أشد من أن يكفر وهو قول أبي حنيفة وابن حنبل وقال الشافعي: الكفارة فيها، ورآى أنها مسقطة للإثم كغير الغموس. واحتج مالك على أن الغموس غير مكفرة لقوله عليه السلام:«من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار» فهذا يدل على أن الغموس لا تكفر ولا دليل فيه، لأن للشافعي أن يقول هذا مخصوص بما اقتطع به حق الغير، فلا تحرم الكفارة فيه حكم الجنة، لأن فيها الظلم مع الحكم، فإذا أراد المظلمة، وكفر وتاب وسقط عنه جميع الإثم، وإن كفر ولم يرد المظلمة، وإن كفر ولم يرد المظلمة لم يسقط، إذ التوبة من الذنب الواحد لا تتبعض. واحتج أصحاب الشافعي بعموم قوله تعالى:{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} وهذا عام في الغموس وغيرها، وظاهر قوله تعالى:{بما عقدتم الأيمان} [المائدة: 89] أن ذلك مخصوص بالمستقبلة الذي يعقد به الحالف على نفسه عقدًا، والله أعلم.
قوله: «والكفارة تجب بالحنث دون البر» : وهذا كما ذكره لا خلاف فيه إلا رواية شاذة منكرة رويت عن مالك أن الكفارة تجب بنفس الحلف لقوله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} [المائدة: 89] والمراد فحنثتم. وهو عندنا فحوى الخطاب، والدليل على صحة ذلك قوله عليه السلام: (إني والله لا أحلف على شيء فأرى غيرها خيرًا منها إلا كفرت
عن يمين وأتيت الذي هو خير لي) الحديث.
قال القاضي رحمه الله: «وتجب بالمخالفة سهوًا وعمدًا وخطأً» إلى آخر الفصل.
شرح: الظاهر من لسان العرب أن العمد والخطأ سواء، كما أن السهو والخطأ كذلك، فكلام القاضي فيه نظر. وذكر التحنيث بالسهو والخطأ وهو أصل مذهبه رحمه الله. وقال الشافعي: ليس على الناسي والمكره شيء، وهو قول أهل الحديث، وأكثر أهل العلم، ومال إليه بعض المتأخرين من المالكية، واحتج مالك بعموم قوله تعالى:{ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} ولم يفرق بين عامد أو ناسي. واحتج الشافعي بقوله عليه السلام: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وهو الصحيح في النظر، لأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز، هذا إن صح العموم في الآية، في ذلك احتمال.
قوله: «كالحالف لا ألبس ثوبًا هو لابسه» : والأمر كما ذكره لا خلاف أنه حانث إن استدام اللبس إلا أن يقصد عند اليمين استئنافًا، فإن نزعه فقولان المشهور أنه غير حانث لأنه فعل جهد مقدوره.
الثاني: أنه حانث، أخذًا بالاحتياط ومن هذه الأسئلة، قوله: إن وطئتك فأنت طالق. وسيجيء الخلاف هل يباح له الوطء أم لا؟ فيه قولان في المذهب.
قوله: «وأعداد الكفارة معتبرة بالأيمان دون متناولها» : إلى آخر قلت: وهذا كما ذكره. وتحصيل القول في هذه المسألة: أنه إما أن يتعدد المحلوف عليه، أو لا يتعدد المحلوف به دون المحلوف عليه أو بالعكس فإن تعدد لفظ المحلوف به، والمحلوف عليه، مثل: أن يقو: «والله لا دخلت الدار» ، «والله لا كلمت زيدًا» ، «والله لا شربت ماء» ، فهذه أيمان مختلفة، والحنث يقع عليه بكل واحد من هذه الأفعال فيلزمه لكل واحد كفارة، إذ هي أيمان متعددة، فإن اتحد المحلوف به والمحلوف عليه، فهي يمين واحدة مثل أن يقول: والله لا أكلت رغيفًا، فإن أكل بعضه فهل يحنث بالبعض أم لا فيه قولان في المذهب فإن تعدد المحلوف به دون المحلوف عليه، فلا يخلو الأيمان أن تكون من جنس واحد، أو أنواع مختلفة، فإن كانت من جنس واحد مثل أن يقول: والله والله والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار والرحمن لا دخلت الدار، والرحيم لا دخلت الدار، فهل يتكرر عليه في هذه الصور، أو يكون يمينها واحدًا، فللمذهب فيه تفصيل. فإذا قصد التأكيد حمل عليه، فإن قصد التكرير في الأيمان لتكرير الكفارات، وإن عرى عن قصد أحد الأمرين فالأصل التكرير، وفيه خلاف خارج المذهب، فقيل: هو توكيل، وعليه كفارة واحدة، وقيل: تتعدد عليه الكفارات إذا أتى بلفظ العطف حكاه أبو الطاهر مثل أن يقول: والله والله لا دخلت الدار، ولو حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها لم يؤمر بالخروج منها، وله الجلوس منها، إذ لا يسمى المقيم فيها داخلًا بخلاف المستديم للباس والركوب. قال الشيخ أبو محمد: ولو قال: عزة الله وقدرته وجلاله فمقتضى الروايات أن ذلك على قولين في تكرير الكفارة عليه. فاختار الشيخ أبو عمران: تعدد الكفارات عليه، قال الشيخ أبو عمران: ولو قال: السميع العليم اللطيف لكانت يمينًا واحدة.
واختلف المذهب إذا قال: وعهد الله وميثاقه وكفالته هل تكرر عليه الأيمان أم لا؟ حكى الشيخ أبو الطاهر فيه روايتين، وإن تعدد المحلوف عليه، واتحد المحلوف به مثل أن يقول: والله لا كلمت زيدًا، ولا دخلت الدار، ولا شربت عسلًا، فاليمين متعلقة بكل واحدة منها، فإن فعل جميعها حنث إجماعًا. فإن فعل بعضها هل يقع عليه الحنث أم لا؟ المشهور أنه يحنث بالمخالفة في واحد، وحكى ابن الجلاب وغيره أنه لا يحنث حتى يفعل الجميع وهذا شاذ في مذهب مالك محمول على ما إذا لم يقصد فيجري فيه الخلاف على الأصل المعلوم، هل يقع التحنيث بالأقل أو بالأكثر. فأما لو قصد أحد الوجهين بقصد رجع إليه، وبناء على الأصل الذي ذكرناه هل يقع الحنث بالأقل أو بالأكثر، أو يقول لأربع زوجات له: إن فعلتن كذا فأنتن طوالق، أو لإيماء إن فعلتن كذا فأنتن أحرار، فإن فعلن الجميع وقع الحنث بلا خلاف، وإن فعل ذلك بعضهن فيه ثلاثة أقوال في المذهب، فقيل: يقع الحنث عليه بالجميع بناء على أن الحنث بالأقل. الثاني: لا يقع عليه الحنث في واحدة منهن إلا بفعل الجميع بناء على أن الحنث لا يقع إلا بالأكثر. الثالث: أنه يقع الحنث عليه فيمن فعل دون من لم يفعل ملاحظة للمعنى، وهو أن كل شخص منه كالمحلوف عليه. ولو حلف لا يأكل خبزًا وزيتًا فأكلهما جميعًا فهو حانث، فإن أكل واحدًا منهما فهل يحنث أم لا؟ فيه قولان جاريان على ما قلناه من الحنث بالأقل، أو بالأكثر، والأصح أنه غير حانث، لأن ظاهر لفظه الجمع بينهما.
قال القاضي رحمه الله: «ويعتبر في اليمين ثلاثة أشياء» إلى آخر الفصل.
شرح: وهذا كما ذكره، وإنما كانت النية أول ما يرجع إليه، ويعود اللفظ عليه لقوله عليه السلام:(الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى). والبساط الذي هو السبب المثير لليمين دليل على النية ومعرف لها، فلذلك كان بعد النية، ولو فقدت النية والبساط، فهل يحمل اللفظ على مقتضاه لغة، لأنه الأصل، أو على مقتضاه عرفًا، لأنه الغالب، أو على مقتضاه شرعًا، لأنه الحاكم. حكى الشيخ أبو الطاهر وغيره هذه الأقوال الثلاثة عن المذهب وينبني على ذلك مسائل كثيرة مذكورة في المطولات.
قوله: «كانت مطابقة له، أو زائدة فيه أو ناقصة عنه» : يعني أنها مرجوع إليها في الأحوال الثلاثة. أما المطابقة فأمرها ظاهر، وكذلك الزائدة عليه، وأما الناقصة، فقد مثل القاضي ذلك كله بقوله:«بتقييد مطلقه، أو تخصيص عامه» فالأول مثل أن يقول: «والله لأضربن رجلًا يريد كافرًا» . والثاني أن يقول: «والله لأغزون المشركين يريد من لحق منهم» .
قوله: «دون عادة الفعل» : يريد صورة وقوعه في الوجوه مثل: والله لآكلن اللحم فعادة الفعل أنه يقتضي الإبراء إلا بأكله مطبوخًا وهي عادة التخاطب، ومقتضى اللغة يبرأ بأكله نيًا ومطبوخًا.
قال القاضي رحمه الله: «والكفارة أربعة أنواع» إلى قوله: «وأما الإعتاق» .
شرح: اتفق جمهور العلماء على أن هذه الكفارة على التخيير، لأنه المفهوم من نص القرآن. قال تعالى:{فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} [المائدة: 89] ومقتضاها التخيير. وأما الصيام فترتب بعد العجز عن جميعها إجماعًا، وقد روى عن ابن عمر وغيره أنه إن غلظ اليمين أعتق أو أكسى، وإذا لم يغلظها أطعم، واختلفوا في معنى التغليظ المشار إليه فقيل: أن يكررها باسم الله فيقول: والله، والله، والله، وقيل: إن ذلك أن يتبع الاسم لبعض صفات فيقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، ونحو ذلك. وقد شذ بعض أهل العلم فقال: إن قاعدة هذه الكفارة وغيرها من أنواع الكفارات تختلف بحسب اختلاف الأشخاص. وحكى الغزالي، وغيره في الصحيح: أن قواعد الشرعي لا تختلف بحسب الأشخاص.
والنظر في الإطعام مسائل:
المسألة الأولى: في مقداره، وقد اختلف الناس في ذلك فقال أبو حنيفة: يطعمهم نصف صاع من حنطة، أو صاعًا من تمر، أو شعير، قال: فإن غذاهم أو عشاهم أجزأه. قال الشافعي: الإطعام لكل مسكين مدًا
بمده عليه السلام في جل البلاد. واتفق مالك وأصحابه على أن المد الواحد من أمدائه عليه السلام يجزئ بالمدينة، لأن قوت أهلها لا يزيد عليه، وأما في غيرها من الأمصار والقرى فهل يجزئ المد فيها أم لا؟ قولان في المذهب: الإجزاء، ونفيه. قال ابن القاسم: يجزئه المد بكل مكان، وقال غيره: يجزئ الوسط من الشعير، وقال بعض المالكية: رطلان بالبغدادي من الخبز وشيء من الإدام. قال ابن المواز: أفتى ابن وهب بمد ونصف، وأشهب مد وثلث، وذلك كله خلاف في حال، وبناء على عوائد غالبة.
المسألة الثانية: هل يكتفي بالخبز، أم لابد من الإدام معه فيه قولان في المذهب. قال ابن حبيب: لا يجزئ الخبز وحده، ولابد معه من الإدام الوسط وهو الزيت، وقيل: اللبن والسمن والتمر.
المسألة الثالثة: اتفق جمهور العلماء على أن اشتراط العدد في المساكين واجب، وقال أبو حنيفة: الإطعام مسكينًا واحدًا عشرة أيام أجزأه.
ومبنى الخلاف على اختلافهم هل الكفارة حق للعدد المذكور، أو حق واجب على المكفر. والعدد يراد لتعديده لا لاستحقاقه، والأول أصح ابتاعًا لمقتضى الآية، وإذا قلنا باشتراط العدد فقد اختلف المذهب في الرضيع الذي يأكل الطعام هل يجزئه إن أعطى أم لا؟ وفيه قولان في المذهب.
المسألة الرابعة: هل المعتبر قوت المكفر، أو قوت البلد الذي فيه قولان في المذهب.
قوله: «والكسوة أقل ما يجزئ فيه الصلاة» : تنبيهًا على مذهب المخالف، لأن الشافعي وأبا حنيفة قالا: يجزئ من ذلك أقل ما ينطبق عليه اسم الكسوة: إزارًا، أو قميصًا أو عمامة. وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: لا تجزئ العمامة ولا السراويل.
وسبب الخلاف: هل يطلق المطلق على المقيد أم لا؟ وذلك أن الله سبحانه لم يشترط الوسط في الكسوة. واشترطه في الإطعام، فهل يرد المسكوت عنه إلى المنطوق به أم لا؟ فيه نظر، ولا خلاف في مذهب مالك أنه لا يجزئ في حق المرأة أقل من الدرع، والخمار، والثوب الساتر كاف للرجال.
واختلف المذهب إذا كسا الصغير على قولين، فقيل: يكسى الصغار ما يكسى الكبار قياسًا على الطعام، وقيل: يكسى الصغار ما يسترهم، وإن لم يبلغ كسوتهم إلى كسوة الكفارات.
قوله: «ولا يجوز صرفها إلا في الأحرار المسلمين الفقراء» : وهذا تنبيه أيضًا على مذهب المخالف أما اشتراط الفقير فمتفق عليه، فإن دفعها لغني عالمًا بغناه لم تجزه، وإن ظنه فقيرًا فاجتهد وأعطاه، فهل يجزئه أم لا؟ فيه قولان مبنيان على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ ولا خلاف أنها ترد من يده إن كانت قائمة، فإن فاتت فهل يتبع بها أم لا فيه خلاف، والصحيح عندي أنه يتبع بها نظرًا إلى أنه في حال الأخذ غير مستحق لذلك. وأما الإسلام والحرية فاشترطه مالك والشافعي ولم يشترطه أبو
حنيفة بناء على أن استحقاق ذلك عنده بالفقر لا بالإسلام، فرآى الجمهور أنه يستحق بالفقر والإسلام.
قال القاضي رحمه الله: «وأما الإعتاق فتحرير رقبة مؤمنة سليمة من العيوب» .
شرح: وهذه الشروط التي ذكرها في الرقبة تنبيهًا على مذهب المخالف، واشترط مالك والشافعي أن تكون مؤمنة من باب المطلق إلى المقيد ولم يشترطها أبو حنيفة.
قوله: «سليمة» : احترازًا من المعيبة. وقال أهل الظاهر: يجزئ عتق المعيبة، لأنها رقبة. والجمهور على خلافه.
قوله: «وأما الصوم فثلاثة أيام» : وهذا ما ذكره، ولا يجوز الانتقال إليه إلا مع العجز واختلفوا في اشتراط التتابع فيها على قولين: اللزوم، ونفيه، ومبناه على القراءة الشاذة هل توجب عملًا أم لا؟ واختلفوا إذا وجد من يسلفه هل يكلف السلف أم لا؟ وفيه قولان، واختلفوا هل يجزئ تلفيق الكفارة فيه قولان في المذهب.
قوله: «وفي تقديم الكفارة على الحنث روايتان» : والخلاف فيه مبني على اختلاف الروايات في قوله عليه السلام: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه فليأت الذي هو خير منه). وفي لفظ آخر: (فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه).
وحكى الشيخ أبو الطاهر في الكفارة قبل الحنث روايتان: أحدهما: أن ذلك جائز، والثانية: أنه ممنوع، والثالثة: أنه إن كان على بر فليس له الكفارة قبل الحنث، ولو كان على حنث فله ذلك، والرابعة: أنه إن كان يمينه بالله فله ذلك، وإن كانت بغيره من الأيمان فليس له ذلك.
قال القاضي رحمه الله: «النذر على وجهين: مطلق، ومقيد» إلى قوله: «ويلزم نذر المشي إلى بيت الله» .
شرح: الأصل في الوفاء بالنذر، الكتاب، والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:{يأيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود} وقوله تعالى: {وليوفوا نذورهم} [الحج: 29]، وقال:{يوفون بالنذر ويخافون يومًا} الآية [الإنسان: 7}. وأما السنة فقوله عليه السلام لعمر بن الخطاب: (أوف بنذرك)، وقوله عليه السلام:(من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه). وأجمع العلماء على وجوب الوفاء بنذر الطاعة. وقسمه القاضي على وجهين: مطلق، ومقيد وكلاهما لازم كما ذكره القاضي، وذكر أن في النذر المطلق كفارة يمين، وهذا كما ذكره مذهب مالك رحمه الله. وقال بعض أهل العلم: يلزمه أقل ما ينطلق عليه الاسم فيصوم يومًا، أو يصلي ركعتين بناء على تعمير الذمة بالأقل، لأنه مقطوع به. وقال بعض أصحاب الشافعي: النذر المطلق لا يجوز ولا يلزم. وقال قوم من أهل العلم: فيه كفارة الظهار. والصحيح أن فيه كفارة يمين وهو قول مالك، والدليل على صحته ما رواه عقبة بن عامر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفارة النذر كفارة اليمين). خرجه مسلم.
قوله: «ولا يلزم منها الطاعة» : تنبيهًا على مذهب المخالف كما ذكره قبل في النذر المطلق والجمهور على أن نذر المعصية غير لازم، قال أبو حنيفة والثوري والكوفيون: إذا نذر معصية فعليه كفارة يمين اعتمادًا على ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر في معصية) وكفارته كفارة اليمين. واعتمد الجمهور على قوله عليه السلام: (من نذر أن يعصي الله فلا يعصه) وظاهره أنه لا يلزم شيء البتة.
قوله: «ولا اعتبار باختلاف الوجوه التي يقع النذر عليها من لجاج، أو تبرم، أو غضب أو غير ذلك» : وهو تنبيه على مذهب المخالف، لأن من أهل العلم من يقول: إن هذه الأيمان والنذور إذا خرجت على وجه الغضب، واللجاج لا تلزم، وهو قول إسماعيل القاضي، وغيره من المالكية. وقال به جمع من أهل العلم. وروى عن ابن القاسم إن كان من هذه الأيمان على وجه الغضب، فيه كفارة اليمين.
قوله: «ومن حلف بصدقة ماله كله، أو نذره لزمه ثلثه يوم حلف، لا يوم حنث» : وهذه المسألة اختلف الفقهاء على خمسة أقوال: فقال النخعي: يلزمه إخراج جميع ماله، وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال
التي تجب فيها الزكاة، وقيل: يكفيه الثلث، وقيل: إن خرج مثل زكاة ماله أجزأه، وقال قتادة: إن كان ماله كثيرًا أخرج ثلثه، وإن كان وسطًا أخرج سبعه، وإن كان يسيرًا أخرج عشره، والقليل خمس مائة، والوسط ألف، والكثير ألفان.
وأصل مذهب مالك أنه إذا نذر الصدقة بجميع ماله، والقول الثاني أنه يلزمه من ذلك ما لا يجحف به ولا يؤدي إلى ضرورة. قال ابن حبيب: إذا حلف بصدقة ماله كله، فإنما يلزمه إخراج ثلثه إذا كان مليًا. فأما القليل المال الذي يجحف به الثلث فيخرج قدر زكاة ماله وأما الفقير فعليه في ذلك كفارة يمين. وقال سحنون: يخرج ما لا يضر به عين أو لم يعين فإن أخرج جميعه فهل يمضي فعله أم يرد من ذلك ما زاد على الثلث فيه قولان في المذهب مبنيان على الخلاف في الصدقة بجميع المال ابتداء اعتمادًا على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أو يمنع اعتمادًا على قوله عليه السلام:(لسعد الثلث والثلث كثير) أو يكره حملًا على الولد على الكراهية لا على الحضر والتحريم، فإن عين النادر من ماله فكان الثلث فما دونه لزمه، فإن زاد على الثلث فيه قولان: اللزوم، وملاحظة رد الزائد بناء على أن الثلث حد لا يجوز تجاوزه.
وقد اختلف المذهب إذا احتاج إلى نقله والنفقة عليه هل يكون ذلك من الثلث أو من رأس المال إذا زاد المال فيما بين الحلف والحنث بتجارة، فإن زاد بولادة قال في الواضحة: أخذ ثلثها مع ثلث الأصل، فإن نقص المال يوم الحكم عن مقداره يوم الحلف، وكان على حنث نحو قوله: مالي صدقة لأفعلن كذا. وإن لم يفعل هل المراعى فيه يوم الحنث في هذه الصورة قولان مبناهما على الخلاف في الحنث هل هو سبب للوجوب، أو شرط. قاله الشيخ أبو الطاهر.
وههنا مسائل اختلف المذهب فيها فيما ذكرناه.
الأولى: إذا حلف بصدقة ماله فحنث فلم يخرج شيئًا حتى أنفقه. قال أشهب: لا شيء عليه ولا يتبع به دينًا. وقال ابن القاسم: إذا أنفقه أو ذهب منه ضمنه كزكاة فرط فيها حتى أذهب ماله. قال سحنون: إذا فرط في إخراج الثلث حتى هلك المال ضمن. قال في الواضحة: إن ذهب بغير سببه فلا يضمن، ولا يضره ذلك، وإن أذهبه بالاستنفاق فهو دين.
الثانية: إذا تكررت اليمين بالصدقة بجميع المال فيه تفصيل، فإن أخرج الثلث عن اليمين الأول ثم حلف بعد الإخراج تكررت اليمين عليه، وأخرج كفارة اليمين الثانية بلا خلاف، وإن لم يخرج عن اليمين الأول حتى دخلت أيمان كثيرة فهل يجزئه إخراج ثلث واحد، أو يتكرر ذلك عليه على حسب تكرار الأيمان، فيه قولان في المذهب، ففي كتاب ابن حبيب، وكتاب ابن المواز ليس عليه إلا ثلث واحد، وفي كتاب ابن المواز أيضًا يتكرر عليه الإخراج وهو قول ابن كنانة.
الثالثة: إذا حلفت ذات زوج بصدقة جميع مالها، قصدقت بجميعه فللزوج الزائد على الثلث بلا خلاف، وهل له أن يرد الثلث أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه ماض، وليس للزوج رده لأنه مرتب على حسب موجب لم يقصد به الإضرار.
الثاني: الرد كما له أن يرد لو لم يكن يمينًا.
قال القاضي رحمه الله: «ويلزم نذر المشي إلى بيت الله في حج أو عمرة» إلى آخر الباب.
شرح: أجمع العلماء على أن من نذر المشي إلى بيت الله فإنه يلزمه، لأنه من أجل الطاعات، وقد قال عليه السلام:(من نذر أن يطيع الله فليطعه) الحديث.
قوله: «في حج أو عمرة» : وعلى حسب ما التزمه فإن أطلق فهو بالخيار في الحج أو العمرة. واختلف الأشياخ لم ألزمناه الحج أو العمرة في حال الإطلاق، وقال بعضهم: إنما لزمه ذلك لأنه بالتزامه المشي إلى ذلك، قد التزم دخولها ولا يجوز دخولها، إلا الحج أو العمرة، وينبني على ذلك مسائل:
المسألة الأولى: هل الأقطار البعيدة كأهل المغرب والأندلس وإفريقية إذا التزم أحدهم المشي إلى مكة في يمين حلف بها هل يخير بين أن يجعل ذلك في حج، أو عمرة كغيرهم من أهل مكة ونحوها أو يتعين عليهم المشي في حج، إذ هو غالب أيمانهم عادة فكأنهم لم يعينوا سوى الحج فيه خلاف بين المتأخرين مبني على ما ذكرناه من التعليل.
المسألة الثانية: إذا التزم المشي إلى موضع خارج عن الحرم هل يلزم أم لا؟ فيه قولان في المذهب مبنيان على ما ذكرناه، فقيل: لا يلزم إلا من
ذكر مكة، وقيل: يلزم من ذكر ما اشتمل عليه الحرم وفيه قول ثالث أنه إذا ذكر مشعرًا من شعار الحج كعرفة ونحوه يلزم.
المسألة الثالثة: إذا قصد مشيًا مطلقًا لم يلزمه عند ابن القاسم، وكذلك إذا قصد مشيًا إلى غير مكة مما لا يؤمر بإتيانه لم يلزمه أيضًا، لأن المقصود إنما هو إتيان مكة.
قوله: «ويلزم المشي في الحج إلى آخر طواف الإفاضة وفي العمرة إلى انقضاء السعي» : قلت: الكلام في منتهى المشي يستدعي الكلام في ابتدائه، وقد ذكرنا أنه يكون بالأمرين، إما النذر، وإما اليمين، ويلزمه في كلا الحالتين المشي من حيث نوى، فإن ذلك موكل إلى ديانة، ومرجوع فيه إلى النية، فإن لم تكن له نية نظر إلى العرف، فإن اختلف رجع إلى مقتضى اللفظ، ولاشك أنه إذا اتحد موضع يمينه، وحنث أنه يمشي منه. فإن كان موضع حلفه غير موضع حنثه، ولا نية له وهو على حنث مشى من موضع يمينه، وإن كان على بر فهل يمشي من موضع حلفه أو من موضع حنثه، فيه قولان بين المتأخرين.
وأما منتهى المشي فالفراغ من أفعال ما مشى فيه من حج، أو عمرة، ويبتدئ أفعال العمرة بالفراغ من السعي. واختلفوا في الحج، فقيل: منتهاه طواف الإفاضة، وقيل: منتهاه رمي الجمار يمشي إلى أن يرمي الجمار، وهو قول عبد الملك.
وسبب الخلاف في ذلك: هل الجمار ركن أم لا؟
قوله: «وإن ركب في بعضه لعذر عاد قابلًا فلفق المشي وأهدى» : هذا مذهب مالك كما ذكره فقال الجمهور: ليس عليه إلا الهدي فقط، ولا يلزمه
إعادة المشي، وتلفيقه. وقال المدنيون: عليه تلفيق المشي دون الهدي، وقالت طائفة من أهل العلم: عليه الأمران أن يلفق المشي والهدي.
وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أن مشيه إما أن يكون متواليًا أو غير متوالي. فهل يجزئه أم لا؟ فيه خلاف في المذهب، فقيل: لا يجزئه مطلقًا. قاله ابن حبيب: وقيل: إن كان مضطرًا إلى تفريقه أجزأه، وإن فرقه مختارًا لم يجزه، وقيل: إن فرقه حتى خرج ذلك العام الذي فيه الحج، أو العمرة لم يجزه مشيه، وإن فرقه لم يفته الحج في ذلك العام أجزأه، فإن عجز عن المشي وكان ركوبًا يسيرًا جدًا أجزأه، وإن كان ركوبه كثيرًا فلا يخلو أن يكون قادرًا على إعادة المشي، أو غير قادر، فإن كان غير قادر على إعادة المشي أجزأه الهدي كالمريض والشيخ الفاني، وإن كان قادرًا على إعادة المشي لفق المشي وأهدى.
واختلف المذهب أيضًا إذا ركب في أفعال الحج، فقيل: عليه الدم كما لو ركب في الطريق، وقيل: لا دم عليه مراعاة للخلاف.
فرع: واختلف المذهب إذا عين المشي في عمرة فأراد الانتقال فيه إلى الحج هل يجوز له الانتقال، لأنه يأتي بالأول وزيادة، ولا يجوز، وهو المشهور.
قوله: «ومن نذر المشي إلى مسجد الرسول عليه السلام والمسجد الأقصى لصلاة فيهما لزمه» : وهذا مذهب مالك كما ذكره، وقد اختلف في ذلك فقال مالك والشافعي المساجد الثلاثة في لزوم الإتيان إليها سواء. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الإتيان غير المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة، وقد قال
بعض أهل العلم: المساجد التي يرجى فيها فضل زائد في حكم كالمساجد الثلاثة يلزم إتيانها، والدليل قوله عليه السلام:(لا تشد المطايا إلا لثلاث مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس).
قوله: «ومن نذر ذبح ابنه في يمينه، أو على وجه القرب فدى عنه هديًا، وإن نذره مجردًا لم يلزمه» : وهذه المسألة قد اختلف العلماء فيها: فمنهم من قال: عليه أن ينحر جزرًا فدى عن ذلك. وقال أبو حنيفة: ينحر شاة، وهو قول ابن عباس، وقال بعض العلماء ينحر مائة من الإبل، وقال بعضهم: يهدي بدنة، وقال به علي بن أبي طالب، وقال بعضهم: بل يحج، وهو قول الليث، وقال أبو يوسف والشافعي: لا شيء عليه، لأنه نذر معصية.
وتحصيل مذهب مالك فيمن نذر هديًا ينحر إلى مكة أنه لا يخلو أن يقصد النذر المطلق، وهذا عندنا من باب نذر المعصية ولا يلزم، أو يقصد القربة فيلزمه (التعويض) عنه بالهدي، فإن لم يكن له قصد فالظاهر من المذهب أنه لا شيء عليه من باب نذر المعصية، وهذا إذا نذر هدي أجنبي فإن نذر هدى قريب كالولد وغيره فلا يخلو أن (يكون سمى) موضعًا من مواضع مكة ومنى، أو لم يذكر، فإن سمى لذلك لزمه الهدي، وإن لم يسم ذلك فقولان أحدهما: أن عليه كفارة يمين، وهو أصل المذهب.
والثاني: أنه لا شيء عليه، وحكى بعض متأخري المذهب عن المذهب قولين فيمن نذر نحر ولده فقيل: لا يلزمه شيء، وقيل: عليه هدي، وقيل: كفارة يمين، (وسواء) سمى موضعًا أو لم يسم، والأصل في هذه المسألة قصة إبراهيم عليه السلام، وذلك أنه قرب (إلى) الله تعالى بذبح ولده، ثم أمره سبحانه بالفدى، وفيه رد على من أنكر النسخ قبل الفعل، والاحتجاج بهذه القضية فيه نظر من وجهين: الأول: أنها شريعة من قبلنا. والثاني: إن فيها اختلافًا بين الناس مذكور في كتب الكلام، فمن أوجب الدية رأى أنها بدل عن النفس، ومن أوجب مائة من الإبل عول على قضية عبد المطلب وهي قضية جاهلية لا تقوم بها حجة، ومن رأى أنه من نذر المعصية أسقطه، كما لو تجرد القصد.
واختلف المذهب إذا نوى أو حلف بنحر عدة من الأولاد هل يكتفي في ذلك بهدي واحد، أو لابد من الهدي لكل واحد، فيه قولان عندنا.
قوله: «ومن نذر هديًا من مال غيره» : وهذا كما ذكره لقوله عليه السلام: (لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم) إلا أن يريد النادر التزام ذلك إذا ملكه فيكون من باب الطلاق والعتق قبل الملك، والخلاف فيها منصوص، والمشهور أنه مع المخصوص لازم.
قوله: «(ويلزم) نذر ماله إن كان يهدي مثله» : وهذا كما ذكره، ويجب عليه إخراجه بعينه، وبعثه إلى مكة، فإن لم يكن (معه) بعينه باعه، واشترى ثمنه من جنسه، وهل له أن يخالف إلى ما هو أفضل منه أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور: الجواز، والشاذ: المنع، وهو خلاف في الحال، وكذلك اختلفوا أيضًا إذا كان مما لا يصل إلى بيع فباعه هل
له أن يشتري لنفسه بقيمته، أو يكره، لأنه يشبه شراء صدقته، فيه قولان عندنا. ووجه الجواز إنه إذا كان مما لا يهدى عنه فكأنه إنما يلزمه العوض.
قوله: «ويبيعه إن كان مما لا يهدى مثله وينصرف ثمنه في هدي» وهذا كما ذكره.
واختلف المذهب إن كان مما لا يهدى مثله فباعه، وقصر ثمنه عن الهدي، هل يتصدق به حيث كان لخروجه عن حكم الهدي، أو على مساكين الحرم، إجراء له في مجرى الهدي فيه قولان، واختار الشيخ أبو الحسن أن يشارك بثمنه في هدي، وفيه نظر للاختلاف في جواز الشريك في الهدي، وكذلك اختلف المذهب عندنا إذا كان معيبًا مما يصل إلى مكة، فهل يجوز له أن يعوض عنه سليمًا أم لا؟ فيه قولان، والأصح هو الهدي الذي عينه، والتعويض عنه لا يجوز إلا لضرورة مانعة لمن أهدى عينه. والله أعلم.