الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب في الاستنجاء وآداب الأحداث
قال القاضي رحمه الله: " (ويختار) لمريد الغائط والبول أن (يبعد) بموضع لا يقرب منه أحد ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها".
شرح: هذا كما ذكره، ويؤخذ من هذه الترجمة أن الاستجمار داخل تحت الاستنجاء لأنه بوب على الاستنجاء، وأدخل فيه الاستجمار وأحكامه، وقد ثبت أن الاستنجاء مأخوذ من النجو، وهو المكان المنخفض من الأرض، وقد يطلق على الرفع أيضًا:{فاليوم ننجيك ببدنك} [يونس: 92].
قال أهل العلم: نجوتك أي نجوتك عن الأرض ليكون (خطابًا من المستعطفين وغيره من المتعبدين) فسمى الاستنجاء بذلك، لأن الغالب في حال المستنجي أن يقصد الموضع المنخفض من الأرض، لأنه بعيد عن العيون، وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: نجوت العود إذا قشرته وأصلحته، وسمى به لأنه في الاستنجاء تقشير النجاسة عن محلها وإذهاب لعينها.
قوله: "ويختار لمريد الغائط والبول أن يبعد": هذا كما ذكره، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
وقوله عليه السلام: (إن كل سائلة يريد الرائحة وفي رواية يريد الصوت) وذكر في تهذيب الآثار أنه كان إذا أراد قضاء الحاجة يذهب (إلى المغسول) قال (ابن عمر): نحو ميلين عن مكة.
وأما الاستقبال والاستدبار فقد اختلف العلماء فيه، فمنهم من منع ذلك مطلقًا في الصحاري والمدائن بناء على حديث أبي أيوب، ولم يعتبره ابن مسعود وغيره وهو قول عطاء والنخعي والثوري ومجاهد
وأبو حنيفة (وأبي أيوب). وأجاز ذلك طائفة على الإطلاق [اعتمادًا] على حديث جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم -أن نستقبلها وأجاز مالك ذلك في المدائن دون الصحاري جمعًا بين الأحاديث، وأجاز قوم الاستدبار، ومنعوا الاستقبال، اعتمادًا على حديث ابن عمر. والصحيح ما ذهب إليه مالك، لأن فيه إعمال الأحاديث والجمع بينهما، فهو أولى من ادعاء النسخ.
واختلف المذهب في النهي عن ذلك، هل النهي لحرمة القبلة فيمنع مطلقًا، أو لحرمة المصلين فيمنع حيث يكون المصلي وفيه قولان. واختلف المذهب أيضًا على قولين في التجريد هل تجري إجماعًا على مجرى قضاء الحاجة أم لا؟ وسبب الخلاف النظر في تحقيق المناط.
قوله: "ولا ينبغي له قضاء الحاجة على قارعة الطريق": قلت: النهي عن التخلي في الموارد (والطرقات) وقد (أمر) رسول الله صلى الله عليه وسلم -فاعل ذلك خرجه أهل الصحيح، وذلك لما فيه من الضرر العام، وثبت نهيه صلى الله عليه وسلم -عن البول في الماء الدائم لأنه أفسده، وأجازه في الجاري، إذ لا يفسد بذلك.
قوله: "ولا يكلم أحدًا في حال جلوسه للحدث": هذا (محمل) على الكراهية.
قوله: "وإذا أراد الاستنجاء فبشماله": قلت: النهي عن الاستنجاء باليمين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر فيه بين لما منع الاستنجاء به صحيح محرم، وقال به بعض أهل العلم، اعتمادًا على النية.
قوله: "والأفضل (له) أن يجمع بين الماء والأحجار": أجمع العلماء على أن الجمع أفضل لقوله تعالى: {رجال يحبون أن يتطهروا} [التوبة: 108] وفي بعض الآثار أنهم كانوا يجمعون بين الأحجار والماء. وذكر أبو
داود أنهم كانوا يستنجون بالماء. وروى الشافعي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أهل قباء ما هذا الثناء الذي أثنى الله عليكم).
وأجمع جمهور العلماء على أن الآية نزلت في أهل قباء، وشك بعضهم فقال: إن المسجد المذكور في الآية، هو مسجد المدينة، وهو أصح.
وأجمع العلماء على جواز الاقتصار على الماء، وأجمعوا على جواز الاقتصار على الاستجمار مع عدم الماء، واختلفوا هل يجوز الاقتصار مع وجود الماء أو لا يجوز، والمشهور جوازه اعتمادًا على أنهم كانوا في الصدر الأول يقتصرون عليه، وأباه ابن حبيب، وتأول ما كان يفعله الصدر (تأويلاً) ضعيفًا.
وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: "غسل اليدين نجاة" وقال سعيد بن المسيب، وقد سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال:"إنما ذلك وضوء النساء" والجمهور على خلافه.
قوله: "فإن انتشر (عن) ذلك الموضع لم يجزئه إلا الماء": وهذا كما ذكره، لأنه لا يخرج حينئذ عن حكم الاستنجاء، وفيما قرب المخرج قولان، فقيل: لا يزال إلا بالماء، وقيل: يزال بالأحجار وبالماء، على أن ما قرب
الشيء حكمه كحكمه.
قوله: "ويستحب له أن يأتي بالثلاثة": وهذا كما ذكره لقوله عليه السلام: (من استجمر فليوتر)، وقد اختلف العلماء هل المطلوب الإنقاء فقط، أو الإنقاء والعدد، ومذهب مالك أن العدد يستحب، واختلفت الرواية هل يجوز الاقتصار على ثلاثة للمخرجين، أو يطلب لكل واحد منهما وترًا، وفيه قولان، وكذلك اختلفوا هل يعم بكل حجر جميع المخرج، أو يجعل حجرين للجانبين، وثالث لوسط المخرج، والأول مشهور المذهب. واختلفوا إن اقتصر على حجر واحد له ثلاثة شعب، هل يجزئه أم لا؟ والصحيح حصول الإجزاء، بناء على أن المقصود النظافة والاستطابة.
قوله: "وكل جامد يحصل به الإنقاء فهو كالحجر في الإجزاء": وهذا كما ذكره. وقد شد قوم فقصروا الاستجمار على الأحجار، والتراب وما في معناه.
قوله: "ويكره له العظم والبعر": لأن فيه حقًا للجن، والبعر أنه ملوث، وفي الحديث:(ولا تقربني حائلاً ولا رجيعًا) (ومن
إجزائه) "أخذ الحجرين ورمى الروث، وقال: إنها نجس". وقال الشافعي: إذا استنجى بالعظم لا يجزئه، وفي بعض الآثار أن عمر بن الخطاب كان له عظم يستنجي به، ثم يتوضأ، وفي إسناده ضعف.
قال القاضي رحمه الله: "ومَن ترك الاستنجاء والاستجمار وصلى بالنجاسة
…
" إلى آخر الفصل.
شرح:
اختلف المذهب في إزالة النجاسة على أربعة أقوال:
الأول: إنها فرض مطلق؛ لقوله تعالى: {وثيابك فطهر
…
} الآية، وقد قيل: إن المراد القلب؛ لأن الآية مكية [نزلت] قبل نزول الوضوء، وفيه نظر؛ لقوله عليه السلام في حديث المعذبين: (إنهما يُعذبان، وما يُعذبان في كبير
…
) الحديث، وفي بعض روياته:(أما أحدهما فكان لا يستبرئ)، وفي آخَر:(لا يستبرئ مِن بول).
الثاني: إنها واجبة مع الذِّكر ساقطة مع النسيان؛ اعتمادًا على حديث النعلين، خرجه أبو داود، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خلعهما وهو في الصلاة، فاتبعه الصحابة عندما أخبره جبريل أن فيه قذرًا
…
) الحديث.
الثالث: إنها مستحبة؛ اعتمادًا على حديث سلى جزور.
الرابع: إنها سنة.
وعلى ذلك يترتب الخلاف في صلاة مَن صلى ولم يستجمر ولم يستنج، فقيل: يُعيد أبدًا، وقيل: يُعيد في الوقت، وقيل: إن كان عامدًا أعاد أبدًا وإن كان ناسيًا أعاد في الوقت. واختُلِف في وقت الصبح، وقيل: يعيدها ما لم يقع الإسفار، وقيل: ما لم تطلع الشمس، وهو مبني على الخلاف في الإسفار: هل هو وقت اختيار أو وقت اضطرار؟ والخلاف فيه مشهور. واختلف في وقت الظهر والعصر، فقيل: الإصفار، وقيل الغروب.
قوله: "ويكره له البول قائمًا": اختلف العلماء فيه على ثلاثة أقوال:
فمنهم مَن حرَّمه؛ اعتمادًا على النهي الثابت في حديث عائشة: (مَن حدَّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائمًا فلا تصدقوه).
ومنهم مَن كرهه.
ومنهم مَن
أباحه، اعتمادًا على حديث السباطة وفيه:(أنه بال قائمًا)، وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال البول: قائمًا أحصن للدبر. وقيل: إن العرب تستشفي بالبول قائمًا، وقيل: إنما فعله عليه السلام -لمرض، وقيل: لنجاسة الموضع.
قال القاضي رحمه الله: "كل مائع يخرج من أحد السبيلين" إلى آخره.
قلت: هذا كما ذكره، ولا خلاف بين العلماء في نجاسة ما خرج من أحد السبيلين إلا المني، ففيه خلاف بين العلماء. فقال الشافعي: هو طاهر ويجزئ فركه، اعتمادًا على حديث عائشة، وقال مالك وأصحابه: هو
نجس، لأنه جرى مجرى البول ومخرجه، مع الاعتماد على الأحاديث المقتضية غسله أيضًا، وفرق قوم بين الرطب واليابس، فأجازوا فرك اليابس، وغسل الرطب، واختلفوا فيما خرج من فرج المرأة (من دم) هل هو نجس أجراه مجرى سائر المائعات الخارجة منه، أو طاهر أجراه مجرى عرقها.
قوله: "والدماء كلها نجسة، (من إنسان أو حيوان له نفس سائلة) تجوز الصلاة بقليلها ولا تجوز بكثيرها": هذا فيه تسامح لأن ظاهر الجواز يقتضي إباحة دخول الصلاة بالدم اليسير وهو ممتنع، وإنما الرخصة في العفو منه (بعد) رؤيته في الصلاة إلا دم الحيض ففيه روايتان، الأمر كما ذكره، فقيل: إنه كسائر الدماء يعفى عن يسيره، قيل: لا يعفى عن يسيره، ولا عن كثيره، لأن الله تعالى سماه "أذى"، وهذا فيه نظر، لأن كل نجس أذى، واختلفوا في دم الحوت هل هو نجس أجراه مجرى سائر الدماء، أو
طاهر لكونه غير مسفوح، قاله ابن القاسم.
مسألة: قليل النجاسة وكثيرها سواء لا يعفي عنه سوى الدم عند مالك، وقال الشافعي: النجاسات كلها سواء، الدم، وغيره لا يعفى عن قليلها ولا كثيرها بدليل حديث العرى وقال أبو حنيفة: قدر الدرهم من جميع النجاسات معفو عنه، وما زاد على ذلك يجب إزالتها، والدليل على خلاف قوله، حديث العرى، وظاهره الإطلاق في يسير البول وكثيره، وإنما رأى مالك العفو عن قليل الدم لعدم الانفكاك عنه والتحرز منه، وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه يغسل ما قل من الدم وكثر كقول الشافعي.
فرع: إذا قلنا إن اليسير من الدم معفو عنه، فقد اختلف في حد اليسير، فحكى الداودي عن مالك أنه لا حد له، لقلوه في دم البراغيث أنه يغسل إلا أن ينتشر، وروى علي بن زياد في المجموعة عن مالك أن مقدار الدرهم من الدم لا تعاد الصلاة منه، ولكن تعاد من الفاحش الكثير المنتشر، وقال ابن حبيب: سئل مالك عن قدر الدرهم فرآه كثيرًا، وروى قدر الخنصر قليلاً.
قال المصنف عفا الله عنه: قدر ما فوق الدرهم كثير، وقدر القيراط فما دونه يسير، واختلفوا فيما بينهما، هل هو في حد اليسير أو الكثير، فيه قولان في المذهب، وقال ابن قتيبة: إن الدرهم الصنجي قليل ولو كان هو الماء، بحيث لو انتشر لعم جميع الثوب، وهذا فيه نظر، وقد قيل: إن قدر الدرهم كحافر البغل. قال ابن حبيب: من لم يغسل موضع المحاجم من الدم حتى صلى لم يعد. وفي العتبية عن أشهب: من جفف من غسل في ثوب فيه دم ألا يخرج بالتجفيف، فلا شيء عليه، وإن كان فيه دم كثير يخاف بلل التجفيف فليغسل داره منه.
فرع: إذا ألقى عليه في صلاته نجس قال سحنون: أرى أن يبتدئ صلاته، وقال أبو الفرج: يتمادى على صلاته وإن أمكنه طرحه، وكذلك
اختلفوا إذا رأى نجاسة في ثوبه في أثناء الصلاة: فروَى ابن القاسم عن مالك: أنه يقطع الصلاة، وقال غيره: يتمادى ويعيد إيجابًا أو استحبابًا على اختلاف في إزالة النجاسة هل هي فرض أم لا؟ وقال أبو الفرج: إن خف طرحه تمادى في صلاته ولم يقطعها.
وذكر القاضي: أن الأبوال تابعة للحوم، وهو أصل مذهب مالك في الألبان والأبوال.
وقال الشافعي بعموم نجاسة الأبوال.
والمعتمد لنا: حديث العرنيين، أباح لهم النبي صلى الله عليه وسلم شُرب أبوال الإبل وألبانها، وتأوله الشافعي على أنه محل ضرورة. واحتج علماؤنا بحديث طوافه عليه السلام على البعير ولا يُؤمَن منه الحدث. ولا حجة فيه.
قوله: "وأجزاء الميتة كلها نجسة إلا ما لا حياة فيه":
هو كما ذكره، أن ما تحله الحياة ينجس بالموت، وما لا تحله الحياة لا ينجس بالموت.
واختلف المذهب في أنياب الفيل على أربعة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة، والفرق بين أن يسلق فينتفع به كالمدبوغ أو لا يسلق فلا ينتبع به.
قالوا: وأطراف القرون التي لا تؤلم البهيمة بقطعها ولا تنمو بنفسها ميتة.
وكذلك خصية الفحل تبقى معلقة بعد الخصي ميتة أيضًا؛ لأن نمو الحياة قد انقطعت عنها بانقطاع نموها.
ولو حلب من الشاة الميتة لبنٌ بعد موتها لم
يُشرَب، وقيل إنه يُشرَب؛ لأنه لو أخذ منها في حال حياتها لم يضرها.
ولو ماتت دجاجة فوُجدَت فيها بيضة؛ فهي نجسة في المشهور.
قوله: "وجلود الميتة كلها نجسة لا يطهرها الدباغ":
تعقَّبه عليه بعض شيوخنا؛ لأن لفظه معارِض لنص قوله عليه السلام: (إذا دُبغ الإهاب فقد طهر). والأولى أن يقول: إنما يطهرها الدباغ طهارة خاصة.
وقد اختلف المذهب فيه على قولين: فقيل: إنما يطهرها طهارة عامة، وقيل: طهارة خاصة.
وفائدة الخلاف: هل يُباع أم لا؟ فيه قولان.
وهل يُستعمَل في اليابسات فقط؟ أو المائعات واليابسات؟ فيه قولان جاريان على ما ذكرناه مِن عموم الطهارة أو خصوصها، والظاهر العموم.