الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الصلاة
قال القاضي رحمه الله: "الصلاة ركن من أركان الدين" إلى قوله: "فإذا ثبت هذا".
شرح: الصلاة في اللغة: هي الدعاء، ومنه قوله تعالى:{وصل عليهم} [التوبة: 103] معناه ادع لهم، وسمت الشريعة هذا الفعل المعلوم، صلاة لاشتمالها على الدعاء، وقيل: إنها مشتقة من المصلى وهي ثاني حالته، وسميت بذلك لأنها ثانية عن الإيمان والإسلام، وقيل: إنها مشتقة من (المصلين) وهما عظمان ينحيان في السجود، وسميت بما فيها، من باب المجاز.
واختلف أهل العلم في هذه الأسماء الشرعية، هل هي منقولة عن [الـ] موضع اللغوي جملة، أو منقولة عليه وزيد إليها شروط شرعية. وانعقد إجماع الأمة على فرضية الصلاة الخمس، وجعلها أقسامًا تابعة للأدلة الشرعية، وفرق بين فرض العين، وفرض الكفاية، هل فرض العين متوجه
على كل واحد من الكلفين، إلا أنه يسقط بفعل البعض، أو متوجه على بعض غير معين، (فمن جعله أسقط الوجوب بفعله على الباقين). واختار بعض المحققين أنه متوجه على الأعيان، والكفاية فيه، فأجزأ بعض عن البعض لا بأصل الخطاب، وفيه نظر، والصحيح أنه وجب على كل واحد من أحد المكلفين لما سقطت عنه بفعل غيره. وتعقب بعضهم قول القاضي:"الصلاة من أركان الدين" واجبة، فإن صح ذلك فكيف يقسمها إلى واجب، وسنة، وفضيلة، وهذا لا يتوجه لاختلاف الموضع، إذ الحكم الأول باعتبار قاعدة هذه العبادات الكلية والتقسيم بحسب أشخاصها، وهي مختلفة الأحكام إجماعًا.
ثم تكلم عن السنة والفضيلة، والسنة ما فعله عليه السلام -ومداومًا عليه مظهرًا له، والفضيلة ما واظب عليه غير مظهر، وقد اختلف الناس في هذا القسم هل يسمى سنة باعتبار المواظبة، أو فضيلة باعتبار الإخفاء. والنافلة أخف من ذلك وتميزه عن الفضيلة اصطلاح محظ (لرواتب) الصلوات، ووقت الضحى على نظر فيه.
وقسم السنة قسمين: والأمر في ذلك كما ذكره.
قال القاضي رحمه الله: "فإذا ثبت هذا فالصلوات الخمس التي هي فرض الأعيان من جحد وجوبها فهو كافر" هذا كما ذكره. وأجمع العلماء على تكفير من جحدها وأنكرها، لأنه ورد فيه المتواتر من القرآن، ومن شريعة النبي عليه السلام، وأما التارك العاصي، فقد اختلف العلماء فيه، فقال أبو حنيفة وسحنون يؤخر بفعلها، فإن أبى لم يقتل، اعتمادًا على قوله عليه السلام:(لا يحل دم مسلم إلا بأحد ثلاثة: كفر بعد الإيمان، أو زنا بعد الإحصان، أو قتل نفس بغير حق). وقال أحمد بن حنبل وداود وجماعة من أهل العلم منهم ابن حبيب من المالكية أنه يقتل كفرًا وقال الجمهور: إنه يقتل حدًا. ويترتب على هذا الخلاف، أين دفن، وهل يرثه ورثته من المسلمين أم لا؟.
اعتمد أحمد وأصحابه على ظاهر قوله عليه السلام: (من ترك الصلاة [متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله]) ـ وعلى قوله عليه السلام: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) وقال عمر: (ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة) وتأويله الجمهور على التغليظ والتشديد، وإذا قلنا: إنه يقتل: ينتظر به وقت الصلاة الثانية، وهل يؤخر إلى آخر الوقت الاختياري أو الضروري، وفيه قولان في المذهب، المشهور التأخير إلى وقت الضرورة لعموم قوله عليه السلام:(من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) والشاذ أنه يؤخر إلى آخر
وقت الاختيار، لإن وقت الإضرار لأصحاب الضرورة، وهم خمسة، واختلفوا هل يجهز عليه بالسيف، وهو المنصوص، أو ينخس لحمه، وهو اختيار بعض المتأخرين.
قوله: "ولا أوقات مختلفة الأحكام": إلى آخره. قلت ثبتت الأوقات المعلومات للصلوات الخمس بكتاب الله سبحانه إجمالاً، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم -تبيينًا وتفصيلاً، وقد علم المسلمون علمًا ضروريًا لم يخالف فيه من أهل القبلة، وسنفصله متبعين لترتيب القاضي رحمه الله.
قال القاضي رحمه الله: "الأوقات وقتان" الفصل إلى آخره. هذا فصل حسن (جمع) فيه القاضي [أوقات الصلاة] ورتبها ترتيبًا محققًا، وفصلها تفصيلاً، فقسمها أولاً قسمين: وقت أداء، ووقت قضاء. والأداء عبارة عن فعل العبادت في وقتها ابتداء من غير تكرير، فإن كررت في وقتها سمى ذلك إعادة، فإن فعلت خارج وقتها سميت قضاء على الحقيقة، والمجاز باعتبارات مختلفة، بسط القول (فيها) الغزالي في مستصفاه، وقد يطلق القضاء على الأداء نفسه، قال تعالى:{فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة: 200] الآية، ومنه قضاء الدين.
وقسم وقت الأداء على خمسة أقسام، وفرق بين الاختيار والفضيلة،
وبين وقت الإباحة (والتوسعة) والفرق بينهما ظاهر، والمعلوم أن الإباحة تقتضي استواء لإيقاع الصلاة في جميع أجزاء الوقت، وتقتضي الفضيلة الترجيح لتضاد معقول الإباحة والترجيح، ووقت الفضيلة يقتضي الترجيح، وتعليق الثواب (بالأرجحية)، وفرق بين وقت العذر والرخصة، وبين وقت الإباحة والتوسعة، والفرق بينهما ظاهر لا يكاد يشكل على أحد، ومن المعلوم أن الإباحة تقتضي جواز التأخير من غير عذر اعتمادًا على أصل التوسعة بخلاف العذر، فإن إباحة التأخير متوقفة عليه ومعتبرة به، ومفتقرة إليه، فوقت العذر كوقت إباحة باعتبار التأخير. وينفصل عنه باعتبار وجود السبب ههنا، وانتفائه في وقت الإباحة ثم لفف بعد في أثناء كلامه، وعقده بضمير فيه إشكال، لم يزل الشيوخ يختلفون في مفهومه، وفي الضمير على من يرجع، والصحيح أنه عائد على العذر، واسم "كان" عائد على التأخير. والمعنى: أن العذر مبيح للتأخير، فلولا العذر لكان التأخير حظرًا، ومراده ههنا التخيير لا مع العزم، فهو محظور، لما فيه من الإخلال بالواجب مطلقًا، وهذا بناء على وجوب العزم، وأن تأخير الصلاة على أول الوقت لا يجوز إلا إلى البدل، وهو قول بعضِ البغداديين.
قوله: «وإما ندبًا» : يريد أن يكون التقديم ندبًا، فاسم "كان" ههنا عائد على التقديم الذي يقابل التأخير، وتكلم القاضي رحمه الله على (
…
) الوقت
وحكى على الفعل ومقابله فيهما، فلولا العذر لكان التأخير محظورًا، أو التعجيل مندوبًا، يريد مع العذر لما في التعجيل من المسارعة إلى المغفرة المأمور بها، فقابل المحظور بالمندوب، وفيه نظر، لولا أنه أخذ بحسب طرفين، ويجوز أن يشير إلى الندبية في حق المنفرد، لأن أول الوقت أفضل، ويجوز أن يريد قسم التأخير أحدهما التأخير الذي يخرج الصلاة عن وقت الإباحة إلى وقت الضرورة تأخير عمر بن عبد العزيز لصلاة العصر حتى أنكر عليه عروة بن الزبير في صلاة العصر إلى الاصفرار، ونزله بعضهم في حق عادم الماء في أول الوقت وهو مرجو أن يجده في آخره، فابن حبيب: يرى رجاءه هذا بالغًا من التيمم، فلا يجوز له التيمم، إلا أن ينقطع رجاؤه، واستحب ابن القاسم له انتظار الماء فإن بادر إلى التيمم أول الوقت، وصلى أجزأه، وهذه الصورة نادرة، فتنزيل كلام القاضي على قضية نادرة فيه بعد، والله أعلم.
قال القاضي رحمه الله: "أما وقت الظهر الذي لا (تحل) قبله ولا يجوز تقديمها عليه، فهو زوال الشمس".
شرح: بدأ بالظهر لأنها الصلاة الأولى التي صلاها جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم -على الأصح من أقاويل العلماء وأهل الإسناد. وقد أجمعت الأمة على أن أول وقتها زوال الشمس لا قبل ذلك، ولم يخالف فيه إلا من لا يعد
من أهل العلم كالخوارج ونظرائهم، ولم يصح الخلاف في ذلك على أحد من السلف، وما ذكر من الخلاف فيه باطل، وهو وقت موسع محدود بأول وآخر.
وقد اختلف أهل العلم في الوقت الموسع، هل يتعلق الوجوب بجميعها، أو بأولها، وآخرها والذي عليه أكثر المالكية أن جميعه وقت الوجوب، وإنما (نصف) آخره بين الأداء والقضاء، وذهب أصحاب الشافعي إلى أن الوجوب يتعلق بأول الوقت، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوجوب لا يتحقق إلا لآخر الوقت. وحكى القاضي أبو الوليد عن بعض العلماء أن وقت الوجوب منه وقت غير معين، وللمكلف (تكميله) بفعل الصلاة فيه، واختار هذا القول. قلت: وهو القول بعينه جعله القاضي أبو الوليد قولاً رابعًا معاندًا للأول، وفيه نظر، لأن القائلين أن جميعه وقت الوجوب موافقون على أن للمكلف أن يوقع الصلاة في أوله أو وسطه أو آخره فكل من أقامه في جزء من أجزائه حاصل لإيقاع العبادة فيه، ولشبه الصلاة لكل منها متساوية من جهة معقول الإباحة، لا باعتبار الفضيلة، فإذا صح جزء من إقامه لإيقاع العبادة فيه، فللمكلف تعيين ذلك الجزء الزماني بفعله فلا معنى -إذن -لقولهم: إن جميعه وقت للوجوب إلا ثبات الصلاحية الشريعة، وتساوي الشبه الزمانية، وليس المراد المكلف يجب عليه إيقاع الصلة في كل جزء منه، ولا تعمره بها، ولا يخرج الوجوب بذلك عن كونه موسعًا، ولحق بالواجب المضيق، وهو خلاف الإجماع، فإذا ثبت ما سوى الشبهة شرعًا، فالتخصص بالتعيين للمكلف تعمق في الدين يتصور أن يكون مذهبًا رابعًا لو
قيل به: (ههنا) أن يكون وقت الوجوب معينًا عند الله، غير معين عند الناس، كما قيل: في خصال الكفارة، وهو مذهب مدفوع (فيها) إذ لم يرض أحد من المحققين القول به.
فصل إذا ثبت ما ذكرناه فقد انعقد إجماع الأمة على جواز تأخير الصلاة عن أول الوقت بجزء، واختلف في مسائل:
الأولى: إذا أجرنا التأخير، فهل يجوز مطلقًا أو إلى بدل، اختلف الفقهاء فيه، فذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجوز تأخيرها إلى بدل، وهو العزم على الفعل، وقال بعضهم: يجوز تأخيرها إلى غير بدل، وهو العزم على الفعل، وقال بعضهم: يجوز تأخيرها إلى غير بدل، وبعضهم أوجب العزم، ويجوز ن تسميته لما توهم من قيامه مقام البدل منه، فحينئذ يلزم سقوط الفعل وهو خلاف الإجماع وفيه نظر، لأن لهم أن يقولوا: هذا بدل عن التقديم، لا عن أصل الفعل، وامتنع من إطلاق القول بإيجاب العزم لا مكان المبدل عنه، ولا يقال: إن ذلك إخلال بالواجب إجماعًا، وأن الدليل اللفظي إنما اقتضى إيجاب فعل الصلاة فقط، لا إيجاب الفعل أول العزم، واعتمد الشافعي على أن الإجماع منعقد على أن المكلف إذا أدى الصلاة في أول الوقت، فقد أدى الواجب، فدل على أن الواجب متعلق بأول الوقت فلزمه على مقتضى تحقيق اقتران الواجب بالأولوية امتناع التأخير، إذ الإيجاب والتأخير يتناقضان كما يتناقض الإيجاب والتخيير، ولذلك قال أبو هاشم
وأتباعه من المعتزلة: بإيجاب جميع خصال الكفارة مع تحديده ترك كل واحد على البدل، إذ هو مقتضى الإجماع واللسان، وإنما رأى إيجاب جميعها لما لم يفعل الجمع بين الوجوب (و) التخيير، وهو كذلك أول الحد المتعلق، أما عند اختلافه، فلا إشكال في جوازه، وهو قول أصحابنا (ندب) كلام أبي هاشم في ذلك، وكان ظاهر الخطأ والفساد، ولما لم يتحقق المأثم إلا بتركها في أول وقتها رأى أبو حنيفة وأصحابه أن الوجوب حقيقة إنما يتعلق بآخر الوقت وهو الصحيح باعتبار المأثم لا باعتبار تساوي الشبه الزمانية واختلفت مذاهبهم إذا (أوقعها) في أول الوقت، فشذ بعضهم فأوجب فعلها آخر الوقت، وخالفه الجمهور في ذلك فقال الكرخي: إنها نفل تسد مسد الفرض" كالوضوء قبل الوقت، وقال مرة:
هي موقوفة حكمًا متحققة علمًا، والقول بالإعادة في هذه الصورة خلاف الإجماع.
وتحقيق المسألة متعلق بأصول الفقه حيث يقع الكلام على حد الواجب وأقسامه. وذكر القاضي تمثيل الزوال وهو ظاهر من كلامه، وفيه توسع لقوله:"فتراه أول النهار طويلاً" فظاهر لفظه أن الضمير عائد على الفاعل والمراد: ظله، فعبر بضمير الملازم عن ملازمه واعتبر زيادة الظل بعد طرح الزوال، وهو قول أهل العلم.
قوله: "ويستحب تأخيرها في مساجد الجماعة إلا أن يكون ألفي ذراعًا": والأمر كذلك اعتمادًا على كتاب عمر بن الخطاب إلى عماله، وأراد بالذراع ربع القائم الذي يؤخذ به ظل الزوال، وإنما قدر بالذراع، لأنه آلة التقدير الأكثرية غالبًا. وقد اختلف الفقهاء في استحباب تأخيرها
فاستحبه مالك للجماعة، ليجتمع الناس، ويكثر وذلك في زمان الإبراد آكد، لاجتماع شيئين يقتضيان التأخير، قال مالك: فأما الرجل في نفسه، فأول الوقت أفضل له. وحكى القاضي أبو محمد وغيره استحباب تأخيره للفذ والجماعة، والأول أصح في المذهب. وسئل مالك عن الجماعة تصليها أول الزوال، فأنكر ذلك، ورأى التأخير من عمل الناس، وما ذلك إلا لثبوت ذلك عنده من عمل أهل المدينة، ولما جاء من الأمر بالإبراد وأشهر (مذهب) الشافعي أول الوقت أفضل على كل حال للمنفرد والجماعة وهو قائل بالإبراد، إلا أن وقت إنشائه الضرورة، فكذلك وافق الشافعي على أن التأخير للجماعة أفضل بمقدار الإبراد، وقال أبو حنيفة آخر الوقت أفضل على كل حال، والدليل لنا حديث عمر: وأمره إياهم بالتأخير إلى أن يكون الفيء ذراعًا. ومن المعلوم أنه إنما يأمرهم بالأفضل، واعتمد الشافعي وأصحابه على قوله عليه السلام -حين سئل عن أفضل الأعمال،
فقال: (الصلاة لأول وقتها وبر الوالدين) الحديث، وههنا مسائل:
الأولى: اختلف العلماء في حكم الإبراد، فأوجبه بعض أهل الظاهر تمسكًا بصيغة الأمر، واستحبه الجمهور، وأنكره بعض العلماء ممن شذ، ورأى أن أول الوقت مطلقًا أفضل للفذ والجماعة في كل زمان، لما روي أنه عليه السلام:(كان يصلي في الهاجرة)، ولحديث جماعة قال:(شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -حر الرمضاء فلم يشكنا). ولا حجة فيه من وجهين: الأول: الاحتمال أن يكونوا طلبوا مجاوزة الحد في التأخير بحيث يزيد على ربع القامة وذلك منهم مجاوزة لوقت الإبراد. الثاني: أن يكون معنى قوله: (فلم يشكنا) أي فلم يحوجنا إلى التأخير.
الثانية: الإبراد مخصوص بالجماعة على المشهور من المذهب. وقد
ذكرنا رواية عن المذهب أنه جاز في حق المنفرد تمسكًا بلفظ العموم.
الثالثة: هل يبرد بالجمعة أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور نفي الإبراد بها وفي حديث أنس: (كنا نبرد بالصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -لغير الجمعة) وهو حجة (على القول) الشاذ.
الرابعة: هل يبرد بالعصر أم لا؟ فيه قولان في المذهب المشهور نفي الإبراد لانتفاء معناه حينئذ.
الخامسة: هل يبرد في زمن الشتاء أم لا؟ فيه قولان في المذهب، المشهور نفي الإيراد أيضًا لما ذكرناه.
السادسة: اختلفوا في آخر وقت الظهر، الجمهور آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثله، وهو المشهور عن مالك وهو (أقل) تمام القامة الأولى قال ابن حبيب: آخر وقت الظهر بمقدار ما تصلي الظهر فتتم صلاته قبل تمام القامة. وأول وقت العصر تمام القامة فما بعدها وقال أبو حنيفة مرة: آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه، وقد روى عنه أن آخر وقتها هو المثل، وقت العصر المثلان، وما بين المثل والمثلين وقت لا يصلح لهما. والمعتمد لنا وجوه:
الأول: إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: (أنه صلى به الظهر في اليوم
الأول حين زالت الشمس، وفي الثاني حين صار ظل كل شيء مثله ثم قال له: الوقت ما بين هذين).
الثاني: حديث عمر وكتابه إلى العمال وهو نص في مذهبنا. واعتمد أبو حنيفة على قوله عليه السلام: (إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس أوتي أهل التوراة (التوراة) فعملوا حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا (قيراطًا) ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين فقال أهل الكتاب: أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين، وأعطيتنا قيراطًا قيراطًا وكنا نحن أكثر عملاً، قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا، قالوا: لا، قال: لا، قال: فهو فضل أوتيه من أشاء) والحديث نص في الوقت الذي بين الظهر والعصر، أرجح من الوقت الذي بين العصر والمغرب، كما أن الأولى أرجح منه، فلو كان آخر الظهر المثل لتساوى الوقتان لتساوي القامتين، وهو خلاف لمقتضى الحديث، فدل على أن وقت الظهر يأخذ من الوقت الثانية جزء، وخذا فيه نظر، نبه عليه الحافظ أبو محمد بن حزم من جهة التعديل فتأمله.
قوله: "وهو بعينه أول وقت العصر": يتعلق به الكلام في الاشتراك بين الظهر والعصر، وقد اختلف العلماء في إثباته ونفيه، وفي مذهب مالك فيه قولان، المشهور القول بالاشتراك بين وقتيهما وهو قول أبي حنيفة، وأنكر الشافعي الاشتراك جملة. والقائلون بالاشتراك اختلفوا في صفته، فالمشهور من مذهب مالك أن الاشتراك بينهما في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر لا بعد الزوال، فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو وقت اشتراك بمقدار ما يصلي أربع ركعات، فإذا ثبت الزيادة، خرج وقت الظهر وانفرد وقت العصر، فيختص الاشراك على هذا القول بآخر وقت الاختيار للظهر، وأول وقت العصر، ثم استمر الاشتراك الضروري إلى ما قبل الغروب بمقدار خمس ركعات للحاضر، أو ثلاثًا للمسافر وهذا أصل المذهب، وقد وقع في المذهب أن الاشتراك بينهما من أول الزوال إلى آخر وقت الظهر الذي هو أول وقت العصر، وهو (وقت) متصلة غير منقسمة حكمًا، وقيل أيضًا: إن الاشتراك بعد أربع ركعات للحاضر، وركعتين للمسافر من أول الزوال تتفرد بها الظهر، (فتختص) بمقدار أربع ركعات، أو ركعتين من الزوال لاشتراكهما فيها العصر، والاشتراك ثابت فيما بعد ذلك إلى آخر وقت الظهر المختار، ثم إلى الغروب بمقدار خمس ركعات للحاضر، وثلاث للمسافر. وذكرنا قبل عن ابن حبيب في الظهر أن آخر وقتها مقدار ما يصلي المصلي فتتم صلاته قبل تمام القامة، وأول وقت العصر لتمام القامة، ووافقنا أبو حنيفة على الاشتراك بينهما إذا صار ظل
كل شيء مثليه بناء على أنه وقت ضرورة اعتمادًا على ذلك. أما الشافعي وأصحابه فأنكروا الاشتراك، واعتمدوا على مسالك:
الأول: حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ووقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر) خرجه مسلم وهو نص في نفي الاشتراك.
الثاني: قوله -على السلام -: (لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى) وهو حديث صحيح الإسناد ولعله مشترك الدلالة، فلا يقوم به قاطع.
واحتج مثبتو الاشتراك بأدلة منها: الأحاديث الثابتة في الجمع بين الظهر والعصر في السفر في أول الوقت وآخره، وذلك يدل على اشتراك الوقتين، وفيه نظر، لقيام الضرورة في هذا المحل، فلا تقوم به الحجة على محل التوسعة، ومنها حديث إمامة جبريل وفيه (أنه صلى النبي عليه السلام -الظهر في اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس) وصحح الترمذي إمامة جبريل، والاحتجاج به على الاشتراك فيه قولان قوله:(صلى بي) يحتمل أن يكون معناه ابتدأ أو فرع.
قوله: "إلى أن يصير الظل مثليه فذلك آخر وقت العصر": قلت: اختلف المذهب في آخر وقت العصر على روايتين: إحداهما أن يصير ظل كل شيء مثليه رواه عبد الله بن عبد الحكم عن مالك، وهو قول الشافعي
اعتمادًا على حديث جبريل عليه السلام، وفيه (أنه صلى العصر في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه). والرواية الثانية أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس، وروى ابن القاسم عن مالك أنه أنكر التحديد بالمثلين فقال: لا أعرف ذلك ويصلي العصر ما دامت الشمس بيضاء نقية لم يدخلها صفرة، قاله أحمد بن حنبل أبو حنيفة اعتمادًا على قول النبي صلى الله عليه وسلم -في حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم:(ووقت العصر ما لم تصفر الشمس) خرجه مسلم وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة.
قوله: "فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر": يعني وقت الاختيار لا الضرورة وقد نص بعد على أن الاشتراك بينهما مستمر إلى أن يصير قبل الغروب بمقدار أربع ركعات للحاضر، أو ركعتين للمسافر، فحينئذ يختص الوقت بالعصر، فيزول الاشتراك. فكلامه في هذا الفصل الذي يليه على الاشتراك الضروري، فهما مشتركان بحسب وقتين، وهذا أوضح، فتأمله.
قوله: "ويستحب في العصر تأخيرها قليلاً في مساجد الجماعات كنحو ما يستحب في الظهر": قلت: اختلف المذهب في ذلك، فذهب جمهور أصحابنا إلى أن أداءها أول وقتها أفضل للفذ، والجماعة في الشتاء والصيف من غير تأخير. وقد روى عن مالك استحباب تأخيرها قليلاً للجماعة، قال أشهب: أحب إلينا
أن يزاد على القامة ذراع سيما في شدة الحر. قال ابن حبيب: يستحب يوم الجمعة تقديم العصر ليتعجل من يأتي الجمعة رواحه إلى أهله، وقال أبو حنيفة تأخيرها أفضل من تعجيلها، والمعتمد لنا العمل المتصل الدائم.
قوله: "وتأخيرها زيادة على ذلك مكروه": يريد ين يصلي عند الاسفرار، وقد قال عليه السلام:(تلك صلاة المنافقين) الحديث، وأما وقت المغرب فهو غروب الشمس، والإجماع منعقد عليه، واختلف المذهب هل لها وقت واحد أو وقتان، وفيه قولان مشهوران عن مالك نصًا واستنباطًا، والذي حكاه العراقيون من أصحابنا عن مالك أنه ليس إلا وقت واحد، وبه قال ابن المواز والشافعي، وقال أبو حنيفة: إن وقتها موسع إلى مغيب الشفق قال ابن مسلمة: أول وقتها غروب الشمس، ومن شاء تأخيرها إلى مغيب الشفق كان له ذلك، وغيره أحسن منه.
وجعل القاضي التأخير للمسافر الميل ونحوه من باب الرخص والأعذار، ورخص غيره الميلين ونحوه.
وسبب الاختلاف في ذلك اختلافهم في الطرق في حديث جبريل، ففي بعضها أنه صلاها في اليومين في الوقت الواحد، وفي بعضها أنه صلاها في وقتين، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم:(ووقته ما لم يسقط نور الشفق).
فرع: القائلون باتساع وقتها اتفقوا على أن تعجيلها أفضل، وحكى ابن حارث الإجماع على ذلك.
وحكى عن مسلم بن الحجاج النيسابوري الإمام صاحب المسند الصحيح أنه أخرها ليلة حتى بدأ النجم ففتح باب داره للعراء ورآى أنها مصيبة في الدين، وأعتق بعض السلف عن ذلك رقبة، وهذا يدل على أن التعجيل بصلاتها ثابت. ثم تكلم على وقت العتمة، وقد انعقد الإجماع على أن أول وقتها مغيب الشفق. واختلف في الشفق، والمشهور عن مالك أنه الحمرة،
وروى عن ابن القاسم في أسماع أنه البياض، والصحيح أنه مشترك لغة لا شرعًا.
واختلف المذهب في آخر وقتها، فقيل: ثلث الليل الأول وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، وروى عن مالك أن آخر وقتها نصف الليل قاله ابن حبيب، وهو أحد قولي أبي حنيفة، وقد روى عن مالك أن آخر وقتها قبل طلوع (الفجر) بأربع ركعات، وهو قول داود، ورواية ابن وهب.
وسبب الخلاف في ذلك اختلاف كثير الأحاديث منها حديث جبريل أنه صلاها بالنبي عليه السلام -في اليوم الثاني ثلث الليل ومبناه على قوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل) وقال عمر بن
الخطاب: فإن أخرت فإلى شطر الليل الحديث وقال عليه السلام: (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) الحديث. واختلفوا هل المستحب تعجيلها أو تأخيرها، وفي المذهب فيه قولان، فروى ابن القاسم عن مالك أن تعجيلها أفضل، وكره تأخيرها إلى ثلث الليل اعتمادًا على قوله عليه السلام -لما سئل عن أفضل الأعمال فقال:(الصلاة لأول وقتها) وهو قول الشافعي، وروى العراقيون من أصحابنا أن تأخيرها أفضل وبه قال أبو حنيفة اعتمادًا على قوله عليه السلام:(لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى آخر الليل) قال: ذلك حين أخرها ليلة حتى ذهب عامة الليل.
قوله: "ووقت (الصبح) طلوع الفجر الثاني": يعني الفجر الصادق، وأجمع جمهور العلماء على أن الفجر الكاذب المسمى ذنب السرحان لا مدخل له في حكم الصلاة، ولا الصيام، وقد قيل في ذلك: ثلاثة طوالع متوالية، فالحكم معلق على وسطها قياسًا على الغوارب، وقاس آخرون الغوارب على الطوالع، وهو قياس ضعيف لأن كلا الأصلين مختلف فيه، فالأصح ألا يقاس عليه.
قوله: "والتغليس بها أفضل": قلت: هذا مذهب مالك وأصحابه جميعًا، ولا خلاف عنه ذلك اعتمادًا على ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم -من حديث عائشة وغيرها، ولمداومته عليه، وهذا من أدل الدلائل على أنه أفضل، لأنه لا يداوم إلا على الأفضل، وقد روى أبو حنيفة وغيره أن الإسفار بها أفضل لقوله عليه السلام:(أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر) وتأويله أحمد بن حنبل على أن الأسفار طلوع الفجر وتعيينه. وهو بعيد. واختلف المذهب في آخر وقتها، فقيل: طلوع الشمس، وقيل: الإسفار البين وكلا القولين مستقر من أجوبة مالك فيمن رجا أن يدرك الماء قبل طلوع الشمس أنه يتيمم، فلو كان ما بعد الإسفار وقت اضطرار لما أخرت
الصلاة إليه، ويوجب التيمم محافظة على الوقت الاختياري قاله القاضي أبو الوليد. وفيه نظر. لأن الاضطرار مستقل بحكمه فلا يكون كمحل التوسعة. وروى ابن نافع عن مالك في المسافرين يقدمون الرجل يصلي بهم فيسفر بهم لصلاة الصبح قال: يصلي الرجل أول الوقت أحب إلي، وهذا يدل على أن وقت الإسفار وقت الاضطرار، قاله القاضي أبو الوليد أيضًا، وهو ضعيف، لأن الترجيح في محل الاختيار ممكن باعتبار شيئين يتواردان على ذلك المحل، فيكون أحدهما أولى بالاعتبار.
قوله: "وأما المثل في العصر، ومغيب الشفق في العشاء الآخرة فهو في الرفاهة والاختيار": إشارة إلى ما ذكر من جواز الجمع للمسافر في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء إذا جد به السير. وسنفصل ذلك في موضعه.
فصل
قال القاضي رحمه الله: "فأما أوقات الضرورة والتضييق فهي (لخمسة) للحائض تطهر" إلى آخره.
شرح: الأصل في هذه الأوقات قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث أبي هريرة وغيره: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» وفي بعض طرقه: «من أدرك ركعة من الصبح فقد أدرك الصبح ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» وقد اختلف قول مالك في هذا الحديث، فمرة حمله على العموم في أصحاب الضرورات وغيرهم، والمشهور عنه أنه مخصوص بأصحاب الأعذار جمعًا بين ظاهره، وظاهر قوله عليه السلام: «تلك صلاة
المنافقين يجلس أحدهم حتى إذا كانت الشمس بين قرن الشيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً) الحديث. وثبت الذم على التأخير، أو عليه مع غيره فدل على أن التضييق في المفهوم من ظاهر الحديث الأول منعه، فكأن ذلك قرينة دلت على أن الأول مخصوص بأصحاب الأعذار. وقد اتفق جمهور العلماء على أن تأخير العصر إلى الاصفرار مكروه، ونص المالكية على أنه مؤد حينئذ آثم، وفي إجماع الأداء والمأثم نظر، فإذا ثبت ما ذكرناه فقد اختلف المذهب في الركعة المشار إليها في هذا الحديث، فقيل: الركعة بسجدتيها، لأنه المفهوم الشرعي، وقيل: مجرد الركوع، وهو المفهوم اللغوي، والقولان في المذهب مبنيان على الاختلاف في (العرفين) المتعارضين أيهما يغلب، والظاهر تغليب العرف الشرعي على اللغوي، لأن تقديم الأحكام (الشرعية) يتنزل الخطاب مقتضى عرفه، وفي هذا الحديث دليل على أن الركعة أقل ما يكون بها المدرك مدركًا. وبه قال الجمهور من أهل العلم، وقال الشافعي وأبو حنيفة من أدرك (تكبيرة) قبل غروب الشمس فهو مدرك للعصر عند الشافعي بناء منه على أن أواخر الأوقات مشتركة. وفي حديث عائشة: (من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك
الصلاة) الحديث، وتفسير الراوي مرجوع إليه.
وذكر أصحاب الضرورات وهم ستة وصور العكس في قسمين منهم وهو قسم الطاهر تحيض، والمفيق يغلب، قال: ويمكن تصويره في الناسي، وبسط ذلك يطول، هذا أيضًا من المشكلات التي عادًة الطلبة يتذاكرون فيه.
قال القاضي رحمه الله: "وبسط ذلك يطول" إشارة إلى الناسي وحده ويمكن أن يكون إشارة إلى الجميع، ولم يذكر المسافر في أصحاب الأعذار، وذكره أصحابنا، ويتصور فيه العكس، فتصوير العكس في ثلاثة أقسام من أصحاب الأعذار، ونحن نبسط ذلك فنبدأ بالحائض. ولا شك أن (الحيض) مانع من الصلاة، فإذا ذهب المانع عنها، وبقي من النهار بقدر خمس ركعات فأكثر، وجب عليها الظهر والعصر لإدراكها وقتهما أربعًا للظهر، وركعة يدرك بها العصر لقوله عليه السلام:(من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب فقد أدرك العصر) فإن بقي مقدار أربع ركعات إلى واحدة (لم تسقط) عنها الظهر لأنها كانت في وقتها أيضًا ووجبت عليها العصر لإدراكها لها بركعة منها، فإن كانت مسافرة (فالتقدير) في حقها بثلاث ركعات، وعكس هذا أن تحيض الطاهر، وقد بقي من النهار مقدار خمس ركعات فأكثر، سقط عنها الصلاتان، لأنها حاضت في وقتهما، وأربع ركعات قبل طلوع الفجر في حق المسافر والحائض في الليل بخمس قبل غروب الشمس في صلاة النهار في حق الحائض، أو ثلاث في حق المسافر، فقد ظهر في الحائض الموجب والمسقط، وكذلك المغلوب يفيق وعكسه المفيق يغلب، والأمر في ذلك على
ما بسطناه، فالإفاقة موجبة، والإغماء مسقط، وقد بين القاضي أن مانع الانعكاس في حق الصبي حسي، وفي حق الكافر شرعي.
قوله: "وأخذ في حال التضييق بما يؤخذ به الكافر الأصلي": يعني من اعتبار الركعة الواحدة قبل الغروب للعصر، والخمس فما دونها، فجعل حكم المرتد إذا دعى إلى الإسلام كحكم الكافر الأصلي من حيث إنه لا يؤخذ بقضاء ما فاته، وهذه العلة موجودة في الحائض التي يتصور فيها العكس فعلى مقتضاها يجب تساويهما من جهة التغليب، ومن المعلوم أنهما مفترقان. وأما الناسي، فيتصور فيه صورتان: الأولى: أن يقال لم أدخله مع أصحاب الضرورات، ومن المعلوم أن القضاء واجب عليه أبدًا. الثانية: في تصوير العكس فيه. والجواب عن الأول أنه إنما أدخله فيهم ليبين حكم الأداء والقضاء، وذلك أنه إذا ذكر قبل غروب الشمس بمقدار خمس ركعات فما زاد وجب عليه الظهر، والعصر، وكانت أداء لا قضاء، وإن ذكر أربع ركعات فأقل، كانت الظهر قضاء والعصر أداء، وإن ذكر بعد غروب الشمس وجبتا عليه، وكان قاضيًا، فيشترك الناسي مع أهل الأعذار في أمرين: الأول: رفع الإثم وهو معنى عام الثاني: خصوص الأداء، فإذا ذكر بمقدار خمس ركعات فأكثر من صلاة النهار أو ثلاث في حقه إن كان مسافرًا فهو مؤد فيهما، وإن كان أقل من ذلك فهو قاض للأولى على ما ذكرناه، مؤديًا للثانية إن بقي لها مقدار ركعة فإن ذهب الوقت فهو كما قدمناه قاض فيهما، وينفصل الناسي عن أهل الأعذار بوجوب القضاء أبدًا من غير تقييد بوقت، فإن قيل: إذا وجب عليه الفعل مطلقًا، فما فائدة قوله:"قضاء أو أداء" قلنا: تظهر فائدته فيما إذا [تذكر] صلوات منسيات مع حاضرة الوقت، وكان الوقت ضيقًا فإن كانت أداء فهل يبدأ بالحاضرة أو بالمنسية، يجري فيه الخلاف المعلوم، ومشهور
المذهب أنه يبدأ بالفوائت إن كانت يسيرة، وإن أدى ذلك إلى فوات وقت الحاضرة وإن كانت الفوائت كثيرة بدأ بالحاضرة. وأما إذا كانت الصلاة قضاء فهو من باب ترتيب المتروكات بعضها من بعض، وقد وقع في المذهب أنها أداء في حق النائم والناسي مطلقًا لقوله عليه السلام:(فإن ذلك وقتها) وهذا حكم الناسي يذكر، وأما عكسه فهو الذاكر ينسى، ومعلوم أنه غير مكلف حال النسيان، فهو ينتظر الذكر، فإذا ذكر وجب عليه فعل الصلاة، وههنا ينظر هل ذكر بعد بقاء الوقت، أو بقاء بعضه، أو انقضائه جملة، ويترتب على ذلك هل هي قضاء أو أداء، ويجري على ما قدمناه إذا ذكر منسيات سابقة مع المنسية الحاضرة، والله المستعان بفضله.
وههنا فروع تتعلق بأصحاب الأعذار.
الفرع الأول: هل يعتبر وقت الركعة بعد زوال المانع فقط، أو بعد زوال المانع، وتحصيل الشرط من الطهارة، أو ستر العورة فيه قولان في المذهب في جميع أصحاب الضرورات، أحدهما: أن التقدير معتبر من وقت زوال المانع فقط، وقيل: هو (تحصيل) الشرط، ومبنى المسألة على الخلاف في الطهارة هل شرط في الوجوب أو شرط في الأداء. وأنكر بعض الشيوخ
الخلاف في الصبي والحائض بناء على أنهما غير مكلفين، والخلاف فيه عنه غير جار فيهما، وأجراه غيره في جميعهم، بناء على ما ذكرناه. وأصل المذهب أنه في بعضهم أشهر منه في بعض، والمشهور في الكافر تحصيل الشرط في حقه غير معتبر لاشتهار الخلاف فيه هل هو مكلف بفروع الشريعة أم لا؟ واختلف في المغمى عليه فهو عند مالك كالحائض وعند عبد الملك (كالكافر).
فرع: إذا وقع الخطأ في التقدير مثلاً أن تقدر الحائض أنه بقي من النهار خمس ركعات ثم تغرب الشمس قبل ذلك، فإنها تعمل على ما بينت في الوجود على التقدير، فإن أمكنها (قبل) الغروب فعلت، وإلا سقطت عنها الصلاتان، لأنها في وقتهما غير مكلفة، وكذلك الحكم في بقية أصحاب الأعذار، ولو قدر ضيق الوقت فكشف لها اتساع الوقت في الصلاة قطعت، وهل تقطع على شفع أو على وتر فيه قولان في المذهب، الأظهر أنها تشفع الركعة نافلة إن كان في الوقت سعة، وإلا قطعت على وتر [وصلت] صلاتها التي ذكرت وقتها.
فرع: إذا أحرمت بالعصر قبل الغروب بركعة، فلما كانت في آخر ركعة بعد غروب الشمس حاضت، فهل تقضي العصر أم لا؟ قال سحنون تقضيها لأنها حاضت بعد خروج وقتها، وقال أصبغ لا قضاء عليها،
والأول أظهر، لأن إدراك الوجوب حاصل بإدراك الركعة الواحدة.
فرع: إذا ظهرت الحائض بماء نجس لمتعلم بنجاستها فصلت الظهر والعصر لإدراكها وقتهما الضروري، ثم تبين لها ذلك بعد الصلاة، فهل يلزمها القضاء أم لا؟ أما إن كانت مجتهدة ففي وجوب القضاء عليها قولان مبنيان على الاختلاف في الاجتهاد، هل يرفع الخطأ أم لا؟ وإن كانت عامدة وجب عليها اتفاقًا.
قوله: "وما قصر عن ذلك فليس بإدراك": تحرزًا من مذهب المخالف. وكلام القاضي يقتضي أن تحصيل الشرط معتبر في حق الحائض والمغمى عليه، والصبي والكافر يسلم، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وأصل ابن القاسم أن الكافر تغلظ عليه، ويعتبر له من وقت الإسلام بخلاف غيره من أهل الضرورات، إذ الكافر غير معذور كما قال القاضي. وذكر الخلاف فيما إذا أدرك أربع ركعات قبل طلوع الفجر هل يصلي المغرب والعشاء فقط، وذلك بناء على الاشتراك أو نفيه، فمن جعل الوقت الآخر لصلاتين أسقط المغرب لفوات وقتها، ومن جعله مشتركًا أوجب عليه المغرب لإدراك وقتها لثلاثة والعشاء لإدراكها بواحدة وقد قال عليه السلام:(من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة).
قوله: "وأما المسافر ينسى في سفره الظهر والعصر": وهذا الفصل ظاهر، وحكم الذاكر بعد السهو اعتبار الوقت، والبناء عليه، اتساع أو ضيق فيصلي على نحو ما بقدره بعد انقضاء الوقت جملة قضاء على نحو ما أوجب عليه، وإن كان الوجوب صلاها حضرية، وإن كان مسافرًا صلاها سفرية، فإذا أراد تكميلها جاز للمسافر الذاكر في حال سفره التيمم على أصل المذهب.