الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الشركة
قال القاضي رحمه الله: "باب الشركة".
شرح: أجمع العلماء على أنها جائزة إذا وقعت على شرائط الصحة، والأصل فيها من الكتاب قوله سبحانه مخبرًا عن أهل الكهف:} فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة {] الكهف: 19 [فإن لم يكن المبعوث شريكًا، فالباعثون شركاء، ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم:(من أعتق شركًا له في عبد قوم عليه) الحديث. وهي قسمان: شركة أبدان، وشركة أموال. فشركة الأموال على قسمين: عنان ومفاوضة، فهي إذن أربعة أنواع، وأنكر
بعض المالكية شركة العنان، وروى عن مالك أنه سئل عن شركة العنان فقال: لا أعرفها، ولعله أنكر التسمية، وإلا فهي لفظة معلومة في اللغة وشركة (معروفة) عند العلماء. وقال الجوهري في الصحاح: "شركة العنان بفتح العين: أن يشتركا في شيء خاص دون سائر أموالهما كأنه عن لهما شيء فاشترياه مشتركين فيه وقيل هو مشتق من قولهم عناني الشيء إذا أخطر ببالك وأظهرته، حكاه القاضي أبو محمد، وقيل معناه تساوي الشريكين في التصرف كتساوي الفارسين في السير، فهي على هذا مشتقة من عنان اللجام بكسر العين فيه. وأنشد القاضي لبعض العرب:
وشاركنا قريشًا في علاه
…
وفي أحسابها شرك لعنان
وهي من العقود الجائزة، ولكل واحد منهما أن يفاصل شريكه (متى شاء) وهي عقد غير لازم مورث لانتقال الأملاك بالموت. ونتبع كلام القاضي:
قوله: "وضرب آخر غير جائز وهو شركة الوجوه": وفسر هذه
لشركة، وإنما امتنعت لأنها من أكل المال بالباطل، لأنها شركة بغير مال ولا صناعة، وإنما هي من باب أن كل واحد استعار وجه صاحبه (وجاهه) بشرط ضمان النقصان رجاء الربح.
وذلك غرر محض وأجاز أبو حنيفة هذه الشركة، وخالف في ذلك الجمهور.
قوله: "ويشترط الربح بقدره ثم يخلطاه مشاهدة أو حكمًا": وهذا تنبيه على مذهب المخالف في الفرعين:
الأول: اشترط مالك رحمه الله أن يكون العمل والربح على قدر رؤوس الأموال، وأجاز أبو حنيفة اختلافهما بأن يكون رأس مال أحدهما أكثر من الآخر، والربح دونه، وبالعكس تشبيهًا (بالقراض)، والعمدة لنا أن الربح ثمرة المال والعمل، ولما كان ثمرتهما وجب أن يكون تابعًا لهما كالخسران بدليل لو شرط أحدهما على الآخر جزءًا ينفرد به من الخسارة المقدرة في المال كان ممتنعًا، فكان حكم الربح كذلك، لأنهما فرعان عن مال الشركة، فوجب التساوي فيهما على قدر الملك كأجرة العبيد، وخراج العقار، وأثمان سائر المشتركات ونحوه هذا أصل المذهب، وروى (عن مالك) أنه إذا رضي صاحب الأكثر أن يكون له نصف الربح جاز إذا لم يكن حطيطة حطت من الربح لزيادة منفعة من شريكه مثل أن يكون ينتفع ببصره ونفوذ معرفته، لأن ذلك معروف محض إذا عرى عن المقابلة.
وإذا بنينا على وجوب التساوي في رأس المال والعمل والربح، (فانعقدت الشركة على خلاف ذلك فسخت ما لم تفت، فإن فاتت بالعمل
فالربح) والخسارة بينهما على قدر العمل ويرجع من قل (رأس) ماله على صاحبه بأجرة المثل في نصف الزيادة في العمل، إذ لولا هذا لكان تتميمًا للعقد الفاسد، ولا سبيل إليه.
الفرع الثاني: اشتراط الخلطة، وقد اختلف الفقهاء فيه فمنهم من أوجبه، ومنهم من أسقطه منهم أبو حنيفة القائل بأن الشركة (تصح)، وإن كان مال كل واحد على حدة، وفي مذهب مالك في اشتراطه قولان، فاشترطه سحنون، وغيره، وعليه جرى العمل، ولم يشترطه ابن القاسم، وأجاز الشركة، وإن بقى مال كل واحد منهما بيده، أو جعلاه على يد أحدهما أو على يد أمين.
وإذا بنينا على اشتراط الخلط فهو جائز حسًا أو حكمًا بأن يتسلطا يديهما عليه معًا، (وتغالي في ذلك) الشافعي، باشتراط الخلط حسًا، لأن يقع التناصح في العمل والتناصف في طلب الفضل.
قوله: "والمفاوضة أن يفوض كل واحد منهما إلى الآخر التصرف": وأجازها جمهور العلماء وعجبًا من الشافعي رحمه الله حيث منعها، حكاه عنه القاضي أبو محمد عبد الوهاب وغيره من ائتمنا وهي في المعنى
كالوكالة، يوكل كل واحد منهما صاحبه على التصرف في ماله على الإطلاق وهذا معنى المفاوضة.
قوله: "ولا يكون شركة إلا بما يعقد أن الشركة (عليه) ": يعني أن تفاضل رؤوس الأموال في هذه الشركة كما يجوز أن ينفرد أحدهما بمال لا يدخله في هذه الشركة، ومنع أبو حنيفة التفاضل في رؤوس الأموال في هذه الشركة والانفراد، ورأى أن بعضها يقتضي التساوي، وعمدتنا أنها شركة العنان، ويلزم أحد المتفاوضين ما عقده شريكه (أو حله) من بيع أو ابتياع أو وضيعة أو رضاء بعيب، أو إقالة، أو تولية أو شركة أو تأخير، ولا يجوز لأحدهما أن يضيع ويقارض ومنعه سحنون، وانظر هل يجوز أن يكاتب عبدًا (أو عبيدًا للتجارة) أم لا؟ والصحيح جوازه إذا اقتضاه النظر، وتبينت فيه المصلحة (وله أن يودع إذا ادعت إلى ذلك ضرورة، ولا يجوز أن يهب ولا أن يتلف شيئًا من مال الشركة، وإنما له التصرف فيه بالمصلحة) والنماء، أو مظنته، ولا ضمان على واحد منهما فيما تلف على يده من مال المفاوضة إلا بالتفريط، أو التعدي مثل أن يعامل بغير شهادة أو يبعثه في البحر في زمان العطب غالبًا، أو نجحوه مما تتبين في المفسدة، وتتعين فيه الخسارة، ولمن ابتاع من أحدهما الرجوع على صاحبه بالعيب وعلى الجملة، يتنزل كل واحد منهما منزلة صاحبه، وليس لأحدهما أن يحابى، فإن حابى ففي ماله، وكذلك لا يجوز له إقراره بمال من مال المفاوضة لمن يتهم عليه من أب أو ابن أو زوجة أو صديق ملاطف، ولكل واحد منهما أن ينفق على نفسه وعلى عياله من مال الشركة، وسواء كان عيالهما سواء، أو كان عيال أحدهما (كثيرًا) إلا أن يتفاحش الأمر، ويكثر عيال أحدهما بحيث يتلف
معظم المال، وكذلك حكم الكسوة، ولا تراجع بينهما في ذلك، لأنه مقتضى المفاوضة، ويجوز اشتراكهما في بلدين على أن يجهز أحدهما لصاحبه لرجاء المصلحة في ذلك.
قوله: "وأما شركة الأبدان فجائزة": إلى آخر الفصل (والتحصيل) فيه أن شركة الأبدان جائزة عند مالك وأبي حنيفة ومنعها الشافعي، والمعتمد لنا من وجوه:
الأول: اشتراك الغانمين في الغنيمة وهم إنما يستحقونها بالعمل، وفي الأثر أن عبد الله بن مسعود شارك سعدًا يوم بدر فأصاب سعد فرسين، ولم يصب ابن مسعود شيئًا فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما ذلك، ولأن العمل تجوز المفاوضة عليه، وكذلك الشركة (سيما أن) المقصود من شركة المال هو العمل، ورأى الشافعي أن القراض خارج عن الأصول، فلا يقاس عليه، مع أن الأعمال لا تنضبط فكانت من باب الغرر المنهي عنه شرعًا.
وشرط القاضي في هذه الشركة شرطين: اتفاق العمل والمكان وفي هذين الشرطين خلاف بين العلماء، فلم يشترط أبو حنيفة اتفاق الصنعة، واشترطه مالك خوفًا من القمار والغرر الذي يكون اختلاف الصنعتين، وكذلك اشترط أن يكون في موضع واحد لما في ذلك من انتفاء الغرر وهو قول ابن القاسم، وأجازه أشهب إذا كانا في حانوتين لحصول المقصود من اتفاق
الصنعة، ويجوز أن يلغي أحدهما لصاحبه ما كان تافهًا، وإن مرض أحدهما أو غاب الأيام اليسيرة لم يكن له الرجوع على صاحبه إلا أن تطول الغيبة، أو المرض، فله أخذ ما استفاد بعمله، وكذلك في شركة المفاوضة والعنان والاشتراك في الحمل على الدواب من باب شركة الأبدان، فإن كانت رقاب الدواب مشتركة فلا خلاف في جواز هذه الشركة، فإن لم يشتركا في رقاب الدواب فالمشهور جواز الشركة لأنها شركة بدن، والشاذ المنع لاختلاف الحمل، ودخول الخطر فيه.
قوله: "وتجوز في الاحتطاب والاصطياد": تنبيه على مذهب أبي حنيفة ولعله إنما منع ذلك لقوة الغرر فيه، وزيادة الخطر.
قوله: "ويجوز أن يكون رأس المال فيها عينًا وعرضًا": يتعلق به الكلام في رأس مال الشركة، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على جواز الشركة بالعين إذا كان من نوع واحد، وتحصيل القول في ذلك أن رأس المال إذا كان ذهبًا من أحدهما ودراهم من الآخر فالمشهور أن ذلك لا يجوز، لأنه صرف مستأخر في المعنى، ولأنه بيع وشركة في عقد واحد، والجمع بينهما ممتنع، والشاذ الجواز بناء على التناجز في المعنى.
وإذا بنينا على المشهور فوقعت الشركة على ذلك فسخت ما لم تفت بالعمل، فإن فاتت وجب التراجع، وقسم الربح على مقدار رأس المال، فإن اختلفت (السكة) بالجودة (والرداءة) فهل يجوز أم يكره، لأن ذلك قمار ومخاطرة قولان: الجواز اعتبارًا بالنفاق، والكراهة لما ذكرناه، فإن كان رأس المال طعامًا فلا يخلو أن يكون من نوع واحد أو من نوعين، فإن كان من نوع
واحد ففيه قولان: الجواز، والمنع، وجه الجواز أن اتفاق الصنف كالذهب والفضة من الطرفين، ووجه العمل أن الطعام تختلف فيه الأغراض، وتتفاوت الأثمان بخلاف النقدين، فيقع فيه التأخير، وهو ممتنع في الطعام، والمنع هو المشهور، وإذا امتنع في الصنف الواحد فهو من النوعين أحرى.
قوله: "وتنعقد على قيمته دون ثمنه": يريد أنه إذا أخرج أحدهما ثوبًا والآخر ثوبًا أو عرضًا آخر، انعقدت السكة بقيمة العرضين، وإن لم يذكرا الأثمان، ويكون رأس مال كل واحد منهما قيمة عرضه.
قوله: "كان العرض مما يتميز عينه (كالرقيق والحياة) (والثياب) أو ممن لا تتميز": فيه تنبيه على تفصيل الشافعي، فإن صريح مذهبه أن الشركة إن كانت عي أثمان العروض مما تتميز عينه صحت، فإن سكتا عن الأثمان لم تصح الشركة مع سكوتهما، وإن كانت مما لا تتميز صحت الشركة على القيمة.
وتحصيل قول مالك أنهما إن اشتركا وسكتا عن الثمن انعقدت الشركة بينهما على قيمة العرضين، لأنها معلومة عادة.
فرع: هل من شرط الشريكين في المال أن لا يبيع أحدهما إلا بمحضر صاحبه شرطه طائفة من العلماء، والجمهور لم يشترطه وهو الصحيح، لأنه مقتض للوكالة والائتمان.