الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق)
قال القاضي رحمه الله تعالي: "كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق": قلت: الغضب وضع اليد العادية، ورفع اليد المالكة على وجه القهر، وهو محرم بالكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه:{إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق} [الشورى:42] وقال تعالي: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة:188] والآيات الدالة على تحريمه كثيرة، وقال -صلي الله عليه وسلم-:(إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكن هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)، وانعقد الإجماع على تحريم الغصب، وأخذ المال بغير حقه مطلقًا، فإذا ثبت هذا تعين إتباع لفظ القاضي رحمه الله:"ومن أتلف مالاً لغيره ظلمًا لزمه بدل ما أتلف" وهذا كما ذكره
إلا أن قوله ظلمًا لا معني له، لأن الغرم واجب عليه على كل حال سواء كان الإتلاف ظلمًا أو تأويلاً أو خطأ، فتقيده بخصوصية الباب لا بخصوصية الحكم، وأطلق القاضي القول في التلف عمومًا فقال:"ومن أتلف" فدخل في عموم لفظه المكلف وغير المكلف، ولا شك أن حكم المكلف ظاهر في الغرامة والعقوبة، أما الغرامة فقد فسرها القاضي، قال علماؤنا: ويعاقبه الإمام على قدر اجتهاده بما يراه من أدب أو سجن إن كان مكلفًا، وأما غير المكلف يؤدب كما يؤدب الصبي في المكتب.
واختلف المذهب في الصغير الذي لا يعقل إذا تلف على ثلاثة أقوال: أحدهما: الأموال هدر، والدماء على العاقلة، والثاني: الأموال والدماء هدر كالعجماء، لأنه غير مكلف، والثالث: أن الأموال لازمة في مال، والدماء على عاقلته، وكذلك الجراحة إذا كانت الثلث فصاعدًا، وسواء كان التلف بمباشرة المتلف كالقتل والأكل والإحراق والهدم، أو بتسبيبه مثل: أن يفتح قفصًا فيطير منه طائر، أو يحفر بئرًا في محل (عام) فيهلك فيه هالك، أو يحل دابة من ربطها، فتذهب، أو عبدًا مقيدًا فيهرب، فيضمن في جميع ذلك، واختلف المذهب في فروع من هذا النمط، إذا فتح باب دار فيها دواب، فذهبت فهل يضمن أم لا؟ فيه خلاف عندنا، فقيل: هو ضامن مطلقًا، وقيل: إن كان في الدار أربابها لم يضمن، وإن لم يكونوا فيها ضمن، وقال أشهب: إن كانت الدواب مسرحة ضمنها، وإن كان رب الدار فيها، ثم قسم القاضي البدل قسمين: مثل، وقيمة، فالمثل في المكيل والموزون والمعدود كالبيض
والجوز ونحوه، والقيمة في العروض والحيوان (عندنا خلاف للشافعي وأبي حنيفة حيث أوجبوا في العروض والحيوان) المثل لا القيمة، إلا أن يعدم المثل والمعتمد لنا قوله-صلي الله عليه وسلم- (من أعتق شركًا في عبد قوم عليه قيمة عدل) الحديث. عدل النبي -صلي الله عليه وسلم- عن المثل إلى القيمة بيانًا للواجب، واعتمد الآخرون على مأخذين:
الأول: قوله سبحانه: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]
والثاني: قوله -صلي الله عليه وسلم- (قصعة بقصعة) الحديث، وهو ثابت في الصحيح، وجعله أصحابنا من قضايا الأعيان المخصوصة بمحالها، مع أن قضية القصة وقع فيها التراض، وإنما الخلاف في المشاحة والمخالفة، وقد قيل: إن القصعتين للنبي -صلي الله عليه وسلم- لأنه رب البيتين وإنما قال ذلك تطبيبًا للنفوس لا حكمًا جزمًا، وههنا فروع تتعلق بما ذكرناه.
الأول: الحلي هل هو من ذوات الأمثال، أومن ذوات القيم فيه قولان عندنا، الثاني:(الغزل من ذوات الأمثال، أو من ذوات القيم، قولان عندنا، والثالث): إذا تعذر المثل في ذوات المثل فقولان: الأول: أنه يصبر حتى يوجد، وليس له إلا ذلك، وهو قول ابن القاسم، وقال أشهب:
هو مخير بين الصبر، أو يأخذه (بالقيمة) الآن.
الفرع الأول: إذا كان المغصوب حيوانًا فوجده ربه بيد الغاصب (فله أخذه في كل مكان إذا هو غير محتاج إلى النقل، فإن كان مما يحتاج إلى النقل والتحويل فوجد ربه الغاصب) في غير بلد الغصب لم يكن لربه أن يأخذه إلا بالمثل في مكان الغصب هذا هو المشهور، والثاني: أن ربه مخير بين أخذه العين في المكان الذي وجده فيه أو المثل في مكان الغصب وهو قول أشهب، والثالث: أنه إن كان الموضع بعيدًا فالقول قول الغاصب، وإن كان قريبًا فالقول قول ربه حملاً على الظالم وهو قول أصبغ قال أصبغ: وبيع الطعام المغصوب قبل قبضه جائز كالقرض فلو غصبه طعامًا، واتفقا على أن يأخذ ربه ثمنًا نقدًا جاز، ولو أخذ طعامًا يخالفه لم يجز، لأنه ربا.
قوله: "والاعتبار في القيمة في حال الجناية" وهو كما ذكره، لأن الجناية عليه هي المتلفة المقصود منه، فلذلك اعتبرت القيمة يوم الجناية، وقيل يوم الحكم، وقيل: المعتبر أقصي قيمته يوم الغصب إلى يوم التلف.
واختلف المذهب فيمن أتلف سلعة وقفت على ثمن معلوم متقدر، هل يضمن المتلف القيمة وهو قول سحنون، أو الثمن الذي توقفت عليه وهو في العتيبة، أو الأكثر منهما قول عيسي بن دينار.
قوله: "ثم الجناية ضربان: منها ما يبطل قدرًا من المنفعة دون جلها" إلى آخره وهذا كما ذكره، أما ما لا يفيت المقصود ففيه ما نقص، وأما ما يفيت المقصود فقد اختلف الفقهاء فيه فقال مالك: ربه بالخيار كما ذكره
القاضي، وقال أبو حنيفة والشافعي: الواجب فيما يفيت المقصود ما بين القيمتين، والمعتمد أنه لما أتلف المقصود منه صار في المعني كتلف العين، إذ لا مقصود من الأعيان إلا المنافع.
وقسم الشيخ أبو الحسن اللخمي (التعدي إلى قسمين) يسير وكثير، وكلاهما على قسمين مبطل للغرض المقصود، وغير مبطل، فلا يضمن التعدي باليسير الذي لا يبطل الغرض، فإن كان ثوبًا رفاه، وإن كانت قصعة أصلحها، وعليه غرم ما نقصها العيب بعد الإصلاح، وأما اليسير المتلف للغرض فيه قولان قيل: يضمن قيمة الجميع إلا أن يشاء ربه أخذه، وأخذ قيمة النقص، والشاذ أنه ليس عليه إلا قيمة النقص فقط، ويجبر على ذلك من أباه منهما، والكثير الذي لم يتلف المقصود كاليسير المتلف للمقصود يوجب ضمن الجميع إلا أن يشاء ربه أخذ العين، وقيمة النقص فله ذلك.
قوله: "إما مشاهدة (وإما) عادة": أشار بالأول إلى قطع يده، أو كسر رجله، والثاني: إلى الركوب الذي يراه للجمال بقطع ذنبه أو أذنيه.
قوله: "ثم المغصوب مضمون باليد" وهذا كما ذكره عام في سائر المغصوبات عندنا سواء كانت مما ينقل ويحول أم لا؟ كالعقار، وقال أبو حنيفة: لا يضمن العقار بوضع اليد، وإنما يضمنه الغاصب، بأن يجني عليه بهدم أو فساد، والمعتمد لنا أن الغصب سبب للضمان فلا فرق بين (العقار) وغيره.
قوله: "وهو مضمون بقيمته يوم الغصب" وهذا كما ذكره لأن بالغصب قد تعلق بذمته.
قوله: " ثم لا يخلو رده من ثلاثة أحوال": إما أن يرده ناقصًا في بدنهن أو زائدًا فيه، أو على الحال الذي غصبه عليها، فإن رده زائدًا ألزم مالكه أخذه، فإن زاد عنده بسمن أو غيره، ثم ذهبت الزيادة، ورجع إلى حال حين الغصب فلا ضمان على الغاصب عندنا، وقال الشافعي: يرد إرش الزيادة والمعتد لنا أن العين المغصوبة رجعت إلى الصفة التي غصبت عليها، فيسقط عنه الضمان أصله إذا بقي على حاله، لم يزد (عليه) شيء فإن رده ناقصًا، فقد ذكرنا أن النقص على قسمين: يسير، وكثير، قال مالك في رجل أفسد لرجل ثوبًا فإن كان الفساد يسيرًا رأيت أن يرفوه، ثم يغرم ما نقص العيب بعد الفرو، وإن كان كثيرًا أغرمته قيمته يوم أفسده، قال ابن القاسم: فإن قال رب الثوب: لا أسلمه، وكان الفساد كثيرًا، ولكنه اتبعه بما أفسد فذلك له، قال ابن القاسم، ولقد كان مالك دهره يقول لنا في الفساد: يغرم ما نقصه، ولا يقول يسير ولا كثير حتى وقف بعد فقال: هذا القول في الفساد الكثير.
تنبيهات: في ثمانية أبي زيد في الفرس الجميل تفقًا عينه، أن عليه (قيمة) ما نقصه العيب، وإن فقأ عينيه معًا ضمن قيمة جميعه إلا أن يشاء ربه أخذ قيمته، ولو ضرب (ضرع) بقرة لا تراد إلا للبن فأفسد ضرعها ضمن قيمتها، واختلف إذا فقأ عينًا، أو قطع يدًا ففي المجموعة عن مالك أنه
يضمنها، وقال ابن القاسم: في العين الواحدة (والإصبع الواحدة) عليه قيمة النقص، وفي كتاب ابن حبيب إن كان صانعًا فعليه قيمة النص، وقد ذكرنا أنه إذا قطع ذنب بغلة القاضي أو من في معناه أو أذنيها، أو رماها فعرجت أنه يضمن جميعه، وعن مالك أنه لا يضمن إلا قيمة النقص فقط، وقيل: يضمن الجميع، إذ فسادا لأذنين بخلاف الذنب، فيضمن فيه قيمة النقص فقط، وقع ذلك في كتاب ابن حبيب لأن العيب في الأذنين أفحش، ولو حلق رأس محرم مكرهًا أطعم عنه لأنه أدخله في ذلك، فإن كان فقيراً افتدي المحرم ورجع على الحالق إذا أيسر، ويغرم الجارح أرش الطيب ولا يرجع به إنه برأ على غير شين، (وقيل: لا شيء على الجارح من أجر الطبيب، وهو على المجروح، فإن بريء على غير شين) لم يكن على الجارح شيء.
قوله: " فإن كان من قبل الله تعالي لا يفعل من الغاصب لم يكن للمالك التابع الغاصب بشيء من (قبله) " وهذا كما ذكره، لأن الغاصب كان ضامنًا لها يوم الغصب فحدث العيب من قبل الله سبحانه على أصل مضمون فيبقي على أصله، فإن اختار المالك أخذ العين فقد رضي بعيبها، وإن لم يرض سلمها، ورجع بالقيمة وليس له التمسك وأخذ (إرش العيب)، إذا ليس لغاصب في ذلك أثر، فإن كانت الجناية يفعل من الغاصب فقولان، قال ابن القاسم: ربه بالخيار بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه وما نقصته الجناية، وقال سحنون: المعتبر ما نقصته الجناية يوم الغصب، وقال أشهب: بالخيار بين أن يضمنه القيمة يوم الغصب أو يأخذه ناقصًا، ولا شيء له في
الجناية وهو قول ابن المواز.
قوله: "ولا ضمان على الغاصب في زيادة إن طرأ عنده، ثم (تلفت) في بدن أو قيمة"، وهذا تنبيه على خلاف الشافعي، وقد ذكرناه.
قوله: "ولا له في رده زيادة قيمة (بتعليم) صنعة، أو حوالة سوق": وهذا هو المشهور، وقال ابن القاسم: إذا غصب ثوبًا فصبغه فربه بالخيار بين أن يأخذ قيمته يوم الغصب، وبين أخذ الثوب، ثم إذا أخذه فهل يدفع للغاصب قيمة الصبغ أم لا؟ قال (أشهب): لا شيء له في حد الصبغ، وقال غيره: يدفع له قيمة الصبغ، وإن نقصه الصبغ، فله أخذ قيمته يوم الغصب، أو أخذه بغير أرش، ولو غصب طيناً فضربه لبنًا رجع عليه بمثل الطين، وإن غصب شاة فذبحها فلربها أخذها مذبوحة، وما نقصها الذبح، ولو ذبحها وشواها ضمن لربها قيمتها، ولو غصب نقرة فصاغها حليًا ضمن مثلها، ولا شيء له غير ذلك على الأشهر، وقال ابن الماجشون: له أخذ العين في ذلك كله لأن الظالم أولى ما حمل ويرجع عليه بما زاده، فعله فيها إذا تبينت الزيادة، ولو غصب زيتًا فخلطه بمثله صار شريكًا بمليكته، وإن خلطه بأدني منه فهو فوت، وعلى الغاصب مثله، واختلف المذهب في حوالة السوق، وفي هذا الباب هل هي فوت أم لا؟ مثل أن تكون قيمته يوم الغصب ألفًا، ثم عاد إلى خمسمائة، والمشهور أنه لا التفات إلى ذلك، وليس له إلا
العين، وذكر ابن شعبان عن ابن وهب وأشهب وعبد الملك، أن علي الغاصب أرفع القيم، وللمغصوب منه أن يأخذه بذلك، إذا هلك، لأن عليه أن يرده كل وقت، قال: وكذلك إن كانت قيمته خمسين، ثم بلغت ألفاً، ثم عادت إلى خمسين فالقيمة عندهم أرفع القيم.
قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: "يجعله أرفع القيم مع وجود العين أو عدهم، قال: وأري (أن العبد) إن كان عبد قنية فله عبده لا غير، وإن كان للتجارة لزمه أرفع القيم"، وقال مالك: في الغاصب والسارق إذا حبسه عن أسواقه ومنافعه، ثم رده بحاله لم يكن لربه أن يضمنه، وإن كان مستعيرًا، أو متكاريًا ضمن قيمته، قال ابن القاسم: ولولا ما قاله مالك لجعلت على السارق مثل ما أجعل على المتكاري وأضمنه القيمة إذا حبسها عن أسواقها.
قوله: "ولا أجره على الغاصب في المدة التي (حبس) فيها العين المغصوبة" وهذا كما ذكره لأنه إنما غصب الرقبة فوجبت (عليه) قيمتها بالغصب داراً فأغلقها، أو أرضًا فبورها، أو دابة فوقفها عليه الإجارة، لأنه منعه ذلك.
قوله: "فأما إن انتفع به، أو اغتل ففيه خلاف" وهذا كما ذكره، وفي
المذهب في هذه المسألة خمسة أقوال، فروي أشهب وعلى بن زياد عن مالك أنه يغرم الغلة أي صنف كان المغصوب اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم-:(ليس لعرق ظالم حق) وذكر القاضي أبو الحسن بن القصار عن مالك رواية أنه لا يغرم مطلقًا عكس الرواية الأولى اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم-: (الخراج بالضمان) والرواية الثالثة (أنه) يغرم غله الرباع والغنم والإبل، ولا يغرم غله العبيد والدواب، وهي إحدى روايتي ابن القاسم عن مالك قال (أيضًا): ويغرم ما استغل، ولا يغرم ما استعمل، وقال ابن المعدل: يغرم غله ما لا يسرع إليه كالدور والأرضين، ولا يغرم ما يسرع ذلك إليه، لأن الديار مأمونة فكأنه لم يضمن شيئًا بخلاف غير المأمون فيسقط عنه الكراء فيه من أجل ضمانه له، ومدار المسألة على التردد بين مفهوم الحديثين، والتفريقات استحسانات، قال ابن حبيب: إذا باع الغاصب أو وهب غرم الغلة التي اغتل المشتري والموهوب له، فإن كان الغاصب معسرًا رجع (به) على الموهوب له إن كان حيًا، وعلى وارثه إن كان ميتًا، لم يرجع على المشتري.
فرع: إذا حكمنا على الغاصب (برد الغلة) فهل يرجع بما أنفق على العبد والدابة وغيرها من علف، وسقي، وعلاج أم لا؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يرجع بذلك لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرار) والثاني: أنه لا
شيء له لقوله -صلي الله عليه وسلم- (ليس لعرق ظالم حق)، والثالث: أنه إن كان ربه ممن يلي هذه الأمور بنفسه لم يرجع عليه الغاصب بشيء، وإن كان ممن يحتاج فيه إلى استئجار رجع عليه الغاصب فيما تولاه بإجارة المثل، لأنه صون ماله، وكذلك إذا أنفق على ما لا غله له كالصغير الذي لا يبلغ الخدمة، أو الدابة التي لا يمكن ركوبها، فهل يرجع على صاحبها بشيء من النفقة أم لا، قولان.
واختلف المذهب أيضًا فيمن غصب خرابًا فأصلحه واغتله هل للمغصوب منه جميع الغلة، أو قدر ما ينوب الأصل قبل الإصلاح قولان عندنا.
قوله: "وإذا غصب ساجة وبني عليها لزمه ردها، وإن تلف بناؤه": والساجة: الخشبة ونبه بهذه المسألة على خلاف أبي حنيفة حيث قال: لا يقلع الخشبة ولصاحبها قيمتها لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا ضرر ولا ضرر) والمعتمد لنا قوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا يحل ال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس) وقوله -صلي الله عليه وسلم- (علي يد رد ما أخذت).
قوله: "وإن أدرك المالك الأرض وفيها زرع للغاصب فله قلعة إلا أن يكون وقت الزرع قد فات" وهذا كما ذكره، أما إذا لم يفت أبان الزراعة فلمالك الأرض أن يقول: أنا أزرع أرضي، ولا أخذ منه بدلاً، وأما إذا فات
إبان الزراعة ففيها روايتان أحدهما: أن له قلعة لقوله -صلي الله عليه وسلم- (ليس لعرق ظالم حق) والآخر: أن ليس له قلعة، وله على الغاصب كراء الأرض لقوله -صلي الله عليه وسلم- (لا ضرر ولا ضرار).
قوله: "وإذا وجد المغصوب بعد أخذ قيمته كان للغاصب إلا أن يكون أخذاه" وهذا كما ذكره لأن القيمة قد أوجبها الحكم وقيل (لربه) الرجوع إلى أخذ العين، وأما إذا أخفاها الغاصب قاصدًا الرفع للقيمة فلا خلاف أن ربه أحق به، ثم ذكر تضمين فاتح القفص، وقد تقدم أن المسبب في هذا كالمباشر، ثم ذكر الخلاف في قيمة ما لا يحل بيعه كالخمر والخنزير، وفيه قولان مشهوران.
فصل
قال القاضي رحمه الله: ومن ابتاع أمة فأولدها، ثم استحقت (فولدها) حر".
وهذه المسألة قد اختلف فيها قول مالك، ونزلت به حين استحقت أمولده إبراهيم، وتحصيل القول في ذلك: أن الولد بلا خلاف ليس للمستحق أخذه البتة، لأن الواطئ وطئ بوجه صحيح معتقد الملك فدخل على حرية ولده مستنداً إلى أصل الملك، فلا كلام في ذلك، وهل للمستحق عن الولد قيمة أم لا؟ قولان، عن مالك أحدهما: أن يأخذ قيمته لأنه ولد أمة أخذها
فلما تعذر أخذه شرعًا وجب الانتقال إلى قيمته، والثاني: أنه لا يأخذ قيمته، وهو الذي رجع إليه مالك، واستقر عليه قوله اعتمادًا على ما ذكرناه من أنه مستند إلى أصل الملك، وأنهم ولدوا في ضمان الأب بعد ثبوت حرمة الأم، ووجوب قيمتها عليه، وأما الأم فهل له أخذ عينها أم ليس له إلا قيمتها فيه أيضًا قولان، عن مالك أحدهما: أن له أخذ عينها قياسًا على رد عتقها لأنه غير (مالك) في نفس الأمر حقيقة، والثاني: أنه يأخذ قيمتها، وإليه رجع مالك حين نزلت به (وبه أخذ) ابن كنانة، وابن أبي حازم، وابن دينارن وابن الماجشون، والمغيرة، اعتباراً بولدها لما ذكرناه من مراعاة أصل الملك.
وفصل الشيخ أبو الحسن اللخمي فقال: إن كان الأب ممن له قدرة فعليه لمستحقها قيمتها، ويجبر على ذلك من أباه، وإن كان لا قدر له أخذ مستحقها عين الأمة لا قيمتها، وإذا أوجبنا القيمة، فمتي تكون، ثلاثة أقوال:
الأول: أنها تجب يوم الحمل، والثاني: أنها تجب يوم الولادة.
والثالث: أنها تجب يوم الحكم، واختلف في فروع تتعلق بذلك:
الأول: إذا رضي المستحق بأخذ القيمة، وأراد الواطئ تسليمها فهل يجبر الواطئ على دفع القيمة أم لا؟ قولان عندنا: أحدهما: أن الوطء لا يجبر على دفع القيمة وهو قول أشهب، والثاني: أنه يجبر على ذلك، والقول قول المستحق وهو قول ابن القاسم، وفصل الشيخ أبو الحسن اللخمي فقال: إن كان الولد حيًا، وعليه في تسليمها معرة أجبر الأب على دفع القيمة، وإن كان الولد ميتًا أو ممن لا قدر له لم يجبر.
الفرع الثاني: إذا استحقت الأمة في هذه الصورة وهي حامل جري فيها ما تقدم من الأقوال، وإن قلنا: إن المستحق أخذ عين الأمة أخرت
حتى تضع حملها فيأخذها حينئذ ويجري في الولد ما تقدم من الخلاف، وإن قلنا: إنه يأخذ قيمتها فقط، وليس له أخذ عينها أخذ قيمتها على ما هي عليه، ولا ينتظر الوضع.
الفرع الثالث: إذا ماتت الأم قبل المحاكمة فالصحيح أن القيمة لا تسقط، وتكون على حكم أم الولد من يوم الحمل على أحد الأفول وعلى (القول الآخر) أنها معتبرة يوم الحكم ينبغي سقوطها، وهو تخريج المتأخرين.
الفرع الرابع: إذا أوجبنا على الأب قيمة (الأمة) فكان معسرًا اتبعه المستحق قيمتها متي أيسر وهل يلزم الولد أن يدفع للمستحق قيمة نفسه إن كان أبوه معسرًا أم لا؟ قولان عندنا، قال ابن القاسم: يغرم قيمة نفسه، ولا يرجع على الأب إن أيسر، وقال أشهب: لا شيء على الابن، لأن حريته مقتضي الأحكام، وهل يقوم الولد بما له أمر لا يعتبر ماله في القيمة قولان حكاهم الشيخ أبو الحسن، ففي العتيبة عن ابن القاسم يقوم الولد بغير مال، وقال (المغيرة) والمخزومي: يقوم بماله، فإن كانا معسرين اتبع المستحق أولاهما أيسر بقيمة الأمة، قال في الكتاب: وإن كانا مليين فذلك على الأب، ولا يرجع به الأب على الولد، وهذا الذي ذكرناه فيما إذا وطئها بالملك فولدت، ثم حدث الاستحقاق فإن كان الولد من زنا فلا خلاف أنه رقيق، فللمالك أخذه، وأخذ الأم، وإن كان وطئها بنكاح وهو عالم أنها أمة فكذلك أيضًا لأنه بتزوج الأمة دخل على رق الولد، إذا الولد للفراش إجماعًا، فإن غرت الأمة من نفسها وتزوجها على أنها حرة فإذا هي رقيق فولدت فلا خلاف أن الولد حر، لأنه دخل على ذلك، وعليه قيمته لسيد الأمة، وللسيد أخذها، لأن غرورها لا يزيل ملكه عنها، وحكي الشيخ أبو القاسم بن
الجلاب أنه ليس لسيدها إلا قيمتها، وهذا الذي ذكرناه من وجوب قيمة الولد إنما يتصور إذا كان ممن لا يعتق على المستحق، فإن كان الواطئ ابنًا أو أبًا ممن يعتق ولده على المستحق فهل يلزمه قيمة الولد أم لا؟ قولان، الجمهور على أن لا رجوع له بقيمة الولد على الواطئ لأنه إذا وجب عليه عتقه كان أخذ القيمة عنه غير جائز، ويرجع بالصداق على من غره لما في ذلك من التفرقة عليه ولا يرجع بقيمة الولد إذا أخذت منه على من غره، لأن الغرر لم يتعلق بالولد، وإنما يتعلق بالاستمتاع.
قوله: ولا يلحق النسب بالغاصب": قلت: وهذا كما ذكره، لأنه زان، وقد تقدم حكمه، ثم ذكر مسألة من بني أرضًا أو غرسنا، ثم جاء مستحقها، وفصل القول في ذلك تفصيلاً حسنًا جارياً على المذهب، فأما الغاصب مخير كما ذكره القاضي بين أن يأمر الغاصب بالقلع، أو يدفع له قيمة ذلك مقلوعًا، لأن عرق الغاصب لا حرمة له، إذا هو عرق ظالم، ولا مقال للغاصب إذا قال أريد عين مالي ولا أريد قيمته، لأن المالك يقول: لا أدعك توعر أرضي بتخريبها وقلع غراساتها فرجح قول المالك على قول الغاصب، وإنما وجبت قيمته مقلوعًا، لأن تبقيته (غير مستحقة) عليه.
قوله: "بعد حط أجرة القلع" هو كما ذكره لأن علي الغاصب تسليم الأرض إلى المالك فارغة كما كانت حين الغصب، والمشتري من الغاصب العالم فإن غاصب، فإن كان الباني قد بني أو غرس بوجه شبهة بدأ المستحق بالخيار لكونه أقوي سببًا فيعطي المستحق للباني قيمة بنائه قائمًا بخلاف الغاصب، لأن الغاصب متعد في البناء، وهذا بني بشبهة وإذا بذل القيمة لزم الباني أخذها، لأن الضرر قد زال عنه بأخذ القيمة، فإن أبي الثاني من أخذ القيمة انتقل الخيار للمستحق، فإن أبيا كانا شريكين كما ذكره القاضي.