الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب المساقاة
قال القاضي رحمه الله: "باب المساقة وكراء الأرض والمزارعة وما يتعلق بذلك".
شرح: المساقاة عند جمهور أهل العلم جائزة خلافًا لأبي حنيفة، ومعتمد الجمهور ما وراه عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها وقال لهم: أقركم ما أقركم الله) ورأى أبو حنيفة أنها خارجة عن الأصول من أوجه:
الأول: المزابنة لأن فيها قسمة التمر بالتمر متفاضلًا، وهي بيع الخرص.
والثاني: المخابرة: وهي كراء الأرض بما يخرج منها.
والثالث: بيع ما لم يخلق.
والرابع: إجارة مجهولة فلما خالفت الأصول جعل قضية أهل خيبر مخصوصة، ورأى أنهم عبيد ملكهم صلى الله عليه وسلم وأرضهم بحكم الفتح فأقرهم على حكم العبيد، وأجرى لهم شطر التمر رزقًا لهم كما تجرى السادات بدليل قوله:(أقركم ما أقركم الله) فلو كان عقدًا صحيحًا لقيده بالأجل وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم كان يبعث عبد الله بن رواحة الأنصاري يخرص عليهم فيقول لهم إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي فكانوا يأخذونه)، وهذا يعطي حكم الشركة مع أن الأئمة أبا بكر وعثمان فعلًا ذلك، ولا مخالف لهما من السلف، وقياسًا على القراض لاشتراكهما في دعوى الضرورة إليهما وهو مظنة الترخيص، ويتعين الكلام في محلها، وبه بدأ القاضي ولا خلاف عندنا أنها جائز في الأصول كلها، وفي الشجر اعتمادًا على فعله صلى الله عليه وسلم لأنه ساق أهل خيبر على ما فيها من زرع وشجر، فلذلك أجازها مالك في المباقل والمقاثي والزرع إذا عجز عن ذلك صاحبه.
وهل تجوز في الثمرة بعد الطيب في ذلك قولان منعه ابن القاسم
إذ لا ضرورة حينئذٍ، وأجازه سحنون، وفي البقول (إذا نبتت) قبل أن تستقل: قولان عندنا: الجواز نظرًا إلى سبب الرخصة التي هي دعوى الحاجة والمنع قصرًا للرخصة على محلها. قال علماء المالكية: يشترط في الأصل التي تقع المساقاة عليها ثلاثة شروط:
الأول: أن تكون مما لا تختلف ثمرتها احترازًا مما له بطون كالورد والقضب والقرط.
والثاني: أن تكون مما يمنع بيعها احترازًا مما حل بيعه، فلا تجوز المساقاة فيه، إذ لا ضرورة إلى المساقاة، وأجاز ذلك سحنون كما ذكرناه، ورأى ذلك إجارة بنصفه.
والشرط الثالث: وهو مخصوص بالزرع (بشرطين:
الأول: أن يعجز ربها عنها).
والثاني: أن تكون ظاهرة قد عجز ربها عنها أما ظهورها فمشترط بلا خلاف، وفي اشتراط العجز عنها خلاف عندنا، المشهور ما ذكرناه من اشتراطه، لأن (بوجوده) تتحقق الضرورة المقتضية (للرخصة).
قوله: "وهي عقد لازم" قلت: بخلاف القراض وهل تنعقد بغير لفظها أم لا؟ قولان عندنا المشهور أنها لا تنعقد إلا بلفظ المساقة، وقال محمد بن
المواز وسحنون تنعقد بكل لفظ من ألفاظ الإجارة، ثم ذكر القاضي العمل الذي يوجبه عقد المساقاة على العامل وهو معلوم بالعادة، وهو عمل يده ونفقته على نفسه، وعلى دواب الحائط ورقيقه، كانوا له أو لرب الحائط، وعليه السقى والإبار والزبر، والتذكير وسرو الشرب، وهو تنقية الحياض، وشد الحظار، وهو تحصين الحائط، (وخم) العين وهو كنسها ونحو ذلك مما يوثر في الثمرة، وينقضي بانقضائها، وأما ما لا يتعلق بالثمرة، ويبقى بعد زوالها كحفر الآبار، وإنشاء الغراسة، وبناء بيت الاحتراز ونحوه فلا يقتضيه العقد، وهو يجوز اشتراطه أم لا؟ نص القاضي أبو محمد وغيره من المالكية أن اشتراط ذلك لا يجوز، وحكى القاضي أبو الوليد بن رشد أنه يدخل في المساقاة بالشرط لا بالعقد، ومن هذا القسم إنشاء ظفيرة للماء، والظفيرة ما حول النخل، وقيل: هي موضع الماء كالصهريج، وقيل: هو الشجرة يغرسها، والصحيح من المذهب أن هذه الأشياء التي تبقى بعد (انقضاء المساقاة) لا يقتضيها العقد، ولا يدخل فيه، ولا يجوز اشتراطها لأن ذلك زيادة، وينفرد بها رب المال، تخرج المساقاة عن بابها إلى باب الإجارة المجهولة، وبيع الثمار قبل بدو صلاحها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر ولم
يشترط عليهم من ذلك شيئًا، ولم (يلزمهم) عليه السلام لهم مؤونة، وما كسر من آلات الحائط، أو مات من الحيوان، أو غار من العيون أو انهار من الآبار، فعلى رب الحائط إصلاحه ليتمكن العامل من العمل، وإذا وجبت على العامل الآلات والدواب والدلاء وغير ذلك فاشترطها على رب الحائط، فهل يجوز ذلك أم لا؟ أما ما كان من ذلك من الحائط فيجوز للعامل اشتراطه، وأما ما لم يكن في الحائط فهل يجوز أن يشترطها العامل على رب الحائط أم لا؟ قولان عندنا المشهور أنه لا يجوز، وأجازه ابن نافع وهو قول الشافعي.
واختلف المذهب فيما رث من دلو أو حبل أو سانية بحيث لا ينتفع به هل يكون خلفه على رب الحائط، أو على العامل قولان عندنا (وكذلك اختلف المذهب هل يجوز لرب الحائط أن يشترط إخراج ما في الحائط من دولب أو رقيق أم لا؟ فيه قولان عندنا) المشهور جواز ذلك، والشاذ منعه.
قوله: "وانتهاؤها إلى الجذاذ": لأن بالجذاذ حصلت المنفعة، ولم يبق محل للعمل إلا أن تنعقد على أعوام، فتلزم إلى انقضائها.
قوله: "والمساقاة على جميع أنواع الشجر جائزة": يريد النوعين من شجر السقي والبعل ونبه على خلاف الليث وغيره فإنه منع المساقاة في البعل، إذ السقي بالماء هو العمل الأغلب المقصود في (الغلات)، وقال
داود: لا تكون إلا في النخل، وقال الشافعي: لا تكون إلا في النخل والكرم، والجمهور على جوازها في الشجر المسقي والبعل لدعوى الحاجة إليها في جميع ذلك.
فرع: يجوز أن يساقيه سنين ما لم تكثر، قيل لمالك: عشرة أعوام فأنكر التحديد.
قوله: "وإذا أخرج الحائط خمس أوسق بين رب المال والعامل ففيه الزكاة": وهو معتبر بالقراض، لأنه مال واحد بخلاف الخلطة، لأن العامل لا يستحق شيئًا إلا ببدو الصلاح، (وببدوه تجب) الزكاة فيتناولها الوجوب، وهي على ملك صاحب الأصل.
قوله: "وليس لأحدهما زيادة شرط على الآخر" يعني: مثل أن يشترط أحدهما على الآخر زيادة دراهم، أو شيئًا خارجًا عن المساقاة لا يتعلق بصلاح الثمرة، وأجاز اشتراط الزكاة على أحدهما بخلاف القراض، قال القاضي أبو محمد في المعونة، لأن ذلك جزء معلوم، وهذه العلة جارية في القراض، والمعنى فيهما واحد، ثم ذكر حكم البياض يكون في الحائط.
وتحصيل القول فيه أنه يستحب لرب الحائط أن يلغيه للعامل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ساقى أهل خيبر ألغى لهم البياض الذي كان لهم فيها، ولم ينقل أنه منع اليهود منه، ولا استثناه لنفسه، ولا طلب أجرة منهم عليه، فإن لم يلغه رب الحائط للعامل، واستثناه لنفسه، فإن كان على أن يعمله بنفسه أو بماله ولا يتولى المساقى من عمله شيء، ولا يناله سقي الحائط للعامل فهذا
لا خلاف في جوازه بناء على أصل الملك، فإن سكتا عنه فهو لرب الحائط بحكم الملك، وروى عن مالك أنه يلغي للعامل، فإن اشترطه رب (الحائط) لنفسه على أن على العامل سقيه وعلاجه، لم يجز سواء كان بذره من عنده أو من عند رب الحائط، لأنه اشتراط زيادة على المساقاة، (وذلك إخراج لها عن مورها، وإن اشتراط دخوله في المساقاة)، فإن كان أكثر من الثلث لم يجز أن يدخل في المساقاة، لأنه من باب اجتماع الشركة والمساقاة، وإن كان أقل من الثلث فاشترطه العامل جاز بشرط أن تكون قيمته الثلث فأقل من نصيب العامل عن ابن حبيب، أو من الجميع على القول الثاني الواقع في كتاب محمد، فإن كان قيمته أكثر من ثلث نصيب العامل، أو من ثلث الجميع لم يجز اشتراطه، لأنه حينئذٍ يصير معتبرًا لا ملغي، فإن اشترط دخوله في المساقاة في محل الجواز جاز، وكان حكمه حكم التجزئة في المساقاة، فإن شرط رب الحائط على المساقي أن يزرعه من عنده، ويعمله بيده، وما حصل بينهما جاز، وإذا أجزنا إدخاله في المساقاة إذا كان يسيرًا، (فاشترطه) صاحب الأرض، وهو أكثر من النصف، فهل يجوز أم لا؟ كرهه أصبغ ونص على كراهته القاضي أبو محمد، وأجازه غيره، وإنما اعتبرنا الثلث، لأنه حينئذٍ يصير تبعًا كمسالة الدار فيها شجرة يستثنى المكتري ثمرتها قبل طيبها، فيجوز إذا كان قيمة ثمرتها الثلث فدون، (لأن ذلك ينزلها منزلة) التبعية، فإن زادت قيمتها على الثلث، لم يجز، وكان من باب شراء الثمرة قبل (بدو صلاحها)، وبقيت مسائل تتعلق بالمساقاة:
المسألة الأولى: المساقاة على حوائط كثيرة مختلطة الثمار جائز على الأجزاء (المتفقة) والمختلفة إذا تعددت العقود، فإن كان ذلك في عقد واحد جاز على الأجزاء (المفقة)، ولم يجز على المختلفة لما فيها من المقامرة، ودليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى أهل خيبر على اختلاف حوائطهم مساقًا واحدًا، ولم ينقل عنه خلاف ذلك، فأقر ذلك سنته.
المسألة الثانية: إذا وقعت عقدة المساقاة فاسدة وجب فسخها قبل الشروع في العمل، فإن فاتت بانتهاء العمل، أو بالشروع في العمل فهل الواجب فيها أجرة المثل، أو مساقاة المثل مطلقًا، أو الأقل من المساقاة المثل أو أجرة المثل هذه الثلاثة الأقوال في المذهب، وهي مبنية على ما قدمناه في القراض وفي المذهب قول رابع أن منها ما يرد إلى مساقاة المثل، وذلك في المساقاة في حائط قد أطعم، وفيما إذا اشترط العامل على رب المال أن يعمل معه، في المساقة والبيع، وفيما إذا ساقاه في حائط سنة على جزء، وآخر على جزء غيره. (وفيما عداهما يردان إلى آجرة المثل).
المسألة الثالثة: إذا اختلفا في الجزء الذي وقعت عليه المساقاة، فالقول قول العامل إذا أتى بما يشبه، لأن مؤتمن كالقراض.
المسألة الرابعة: إن القسمة بني المساقي ورب الحائط إن كانت كيلًا فهي جائزة وهل تجوز القسمة بينهما بالخرص أم لا؟ ثلاثة أقوال في المذهب. الجواز مطلقًا اعتمادًا على فعل عبد الله بن رواحة. والثاني المنع (حذرًا) من المزابنة، والثالث أنه ممنوع في الربوي من الثمار جائز في غري الربوي.
فصل
قال القاضي رحمه الله: "وكراء الأرض جائز للزرع بما عدا الطعام" إلى آخره.
شرح: كراء الأرض جائز بالدنانير والدراهم وسائر العروض والحيوان (وسائر الأثمان) ما عدا الطعام. والدليل على ذلك ما رواه رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض ببعض ما يخرج منها فأما بالذهب والفضة فلا بأس به) وهو معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة (أي) كرائها بالطعام، والمخابرة كراؤها ببعض ما يخرج منها، وأما الدور والحوانيت وغير ذلك فيجوز كراؤها بالطعام وغيره إجماعًا، وإذا أجزنا كراءها فهل يجوز النقد (في كراء الأرض أم لا؟ أما المامون منها فيجوز النقد) فيها. ولا يجوز في غير المأمون خوفًا من أن يكون تارة بيعًا، وتارة سلفًا، وهو نص القاضي وغيره من أئمتنا.
فرع: يجوز كراء الداء سنين كثيرة كالعشرة الأعوام ونحو ذلك مما يؤمن فيه التغيير غالبًا، وكذلك يجوز كراء أرض المطر، وأرض السقي بالعيون والآبار والأنهار السنين كالعشرة الأعوام ونحو ذلك، وقال ابن الماجشون: لا يجوز كراء أرض المطر إلا لعام واحد، ويجوز كراء أرض السقي بالعيون الثلاثة الأعوام والأربعة، ويجوز كراء أرض الأنهار والآبار عشرة أعوام ونحوها، وكل هذا مبني على استحسان ومصالح، ثم تكلم على حكم الشركة
في الحرث وهي جائزة إجماعًا، واختلف المذهب هل هي من العقود الجائزة أو اللازمة، وبالأول قال الجمهور قياسًا على القراض، وهي رواية ابن كنانة عن مالك، قال ابن رشد: وبه جرى العمل بقرطبة وبالثاني قال ابن الماجشون وسحنون قياسًا على الإجارة اللازمة بنفس العقد، ولملاحظة هذا الأصل، اختلف المذهب أيضًا هل يلزم فيها التكافؤ والاعتدال وهو المشهور أو لا يلزم فيها إلا السلامة من كراء الأرض بالطعام فقط، وأم الاعتدال فيها على هذه الرواية فليس بشرط، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم تغليبًا لحكم الإجارة، وإذا فرعنا على المشهور من اعتبار الشرطين التكافؤ والسلام من كراء الأرض بالطعام فهل يجوز اشتراط الحصاد والدرس والتذرية على العامل أم لا؟ قولان عندنا منعه سحنون، وأجازه غيره من الأندلسيين، (وبهذا) جرى العمل عندهم، حكاه ابن القاسم في وثائقه.
فرع: إذا دفع رب الأرض حظه من الزريعة على أن يخرج العامل مثله فزرع نصيب صاحب الأرض، ولم يزرع نصيبه من غير عذر، فالزرع كله لرب الأرض، وعلى العامل خدمته وله الأجرة، فإن لم يزرع حظه ولاحظ صاحب الأرض حتى فات الإبان لزم العامل لرب الأرض (كراء) نصفها مع نصيب قيمة عمله ومؤنة حصاده ودرسه، قاله ابن لبابة.
فرع: هل يجوز لرب الأرض أن يشترط على الشريك أن يطرح الزبل في الأرض أجازه أهل المذهب بشرطين:
أحدهما: أن تكون الأرض مأمونة.
والثاني: أن تبقى الأرض بين مدة ينقضي فيها الانتفاع بذلك الزبل.
فرع: إذا ادعى العامل أن رب الأرض لم يدفع له الزريعة، فالقول قول
(رب المال) لأنه مدعى عليه.
فرع: اختلف المذهب في الشركة الفاسدة إذا فاتت لمن تكون الإصابة فقيل لصاحب البذر، وعليه كراء المثل، وقيل: لصاحب الأرض، وقيل: لمن اجتمع له (شيئان) فأكثر، وذكر سحنون عن النبي صلى الله عليه وسلم:(أنه قال الزرع لصاحب الزريعة) وهو قول مالك في رواية ابن غانم.