المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب البيوع قال القاضي رحمه الله: ((كل بيع فالأصل فيه الجواز - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ٢

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌ الإيلاء

- ‌ الظهار

- ‌[اللعان]

- ‌باب في العدة والاستبراء وما يتعلق بذلك

- ‌باب الرضاع وما يتعلق به

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب الإجارة

- ‌باب القراض

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الشركة

- ‌باب الرهون

- ‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

- ‌باب الصلح والمرافق وإحياء الموات

- ‌باب الوديعة والعارية

- ‌(كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق)

- ‌باب في الحوالة والحمالة

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الإقرار

- ‌باب اللقطة والضوال والآباق

- ‌كتاب الشفعة والقسمة

- ‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

- ‌فصل والدية تختلف باختلاف حرمة المقتول ودينه

- ‌فصل: وتجب بالجناية على العبد قيمته لا دية

- ‌((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد))

- ‌كتاب الحدود

- ‌كتاب القطع

- ‌كتاب العتق والولاء وما يتصل (به)

- ‌فصل"والولاء للمعتق إذا كان عنه

- ‌فصل"الكتابة جائزة ولا يجبر السيد عليها إن طلبها العبد

- ‌فصل"والتدبير إيجاب وإلزام

- ‌كتاب الأقضية والشهادات

- ‌كتاب الأحباس والوقوف والصدقات والهباتوما يتصل بذلك

- ‌كتاب الوصايا والمواريث والفرائض

- ‌كتاب الجامع

الفصل: ‌ ‌كتاب البيوع قال القاضي رحمه الله: ((كل بيع فالأصل فيه الجواز

‌كتاب البيوع

قال القاضي رحمه الله: ((كل بيع فالأصل فيه الجواز إلا ما تعلق به ضرب من ضروب المنع)): إلى آخر الفصل.

شرح: البيع في اللغة نقل الملك بعوض، وهو في الشرع كذلك، ويزاد فيه:((على وجه الشرع)) تحرزًا من البيع الفاسد، واختلف المتأخرون من شيوخنا في (البيع) الفاسد هل ينقل الملك أم لا؟ والصحيح (أنه) لا ينقله شرعًا، لأنه لو نقل الملك لترتبت (عليه آثاره) فحينئذ يخرج عن كونه فاسدًا وهو (إفساد للأغراض) الشرعية. وإطلاق القاضي (القول أن كل بيع) فالأصل فيه الجواز))، مستفاد من قوله تعالى:{وأحل الله البيع وحرم الربو} [البقرة: 275]. وقد اختلف العلماء في هذه الآية هل هي عامة، وهو الصحيح، أو مجملة، وفيه نظر، لأن المجمل

ص: 893

(هو) ما لا يفهم معناه من لفظه ويفتقر في البيان إلى غيره، وذلك منتف في هذه الآية، مع أن أصل الملك يبيح عموم التصرف وصحة المعاوضة بحكم الأصل، (فقرر الشرع هذا الأصل) وأجراه على عمومه إلا ما قام فيه مانع.

وحصر القاضي رحمه الله أسباب الفساد في خمسة أنواع، وفسر ما يرجع إلى صفة العقد بالربا ووجوهه، والغرر وأبوابه، وفسر ما يرجع إلى الحال ببيع الإنسان على بيع أخيه، وبيع النجش، وبيع (تلقي) الركبان وبيع الحاضر للبادي، والبيع وقت النداء، وجميع هذه الأقسام داخلة تحت ما يرجع إلى الصفة وهو (في) جميعها متحقق، مفهوم إلا فيما يرجع الفساد إلى وقته، فلو جعل فساد الوقت عبارة عن القسم الخامس وأفرده به لكان وجهًا، لأن الحال لازم للوقت وجزء منه إلا أن يرى الحال (وقت وزمان)، والزمان والوقت بمعنى واحد، أو هو حال، وماض، ومستقبل، فيصدق على الحال أنه وقت.

قوله: ((فأما ما يرجع إلى المبيع (فلكونه) مما لا يصح بيعه وذلك كبيع الحر)): إلى آخر التمثيل قلت: وهذا كما ذكره، ولو تعرض لبيان شروط المعقود عليه (فيصح العقد عند وجوده وينتفي عند انتفائه لكان وجهًا، وقد اشترطوا في المعقود عليه أن يكون متملكًا) طاهرًا منتفعًا (به) معلومًا

ص: 894

مقدورًا على تسليمه. واختلق الفقهاء هل من شرطه أن يكون ملكًا للعاقد أم لا؟ وسنذكره عند بيع الفضولي.

فقولنا: ((متملكًا)): احترازًا مما لا يجوز (تملكه) كالحر، وقد انعقد الإجماع على تحريم بيعه، فإن وقع فهو فاسد مفسوخ، ويؤدب فاعله إلا أن يعذر بالتأويل، وكذلك الخمر والخنزير، والأصل في ذلك ما خرجه أهل الصحيح من حديث جابر (بن عبد الله) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي به السفن وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، قال: لا هو حرام)(ثم) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فأجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها).

فهذا نص في تحريم بيعها، والانتفاع بثمنها، وقد انعقد الإجماع على أنها نجسة، ولم يخالف في ذلك إلا من شذ منهم محمد بن عمر بن لبابة من المالكية، وانعقد الإجماع (أيضًا) على تحريم بيع

ص: 895

الخنزير لحمه وشحمه وسائر الأجزاء التي (تقبل) الحياة إما (على وجه) التعبد، وإما لأنه نجس العين كما يقوله الشافعي، وابن الماجشون، وسحنون من أصحابنا.

وقولنا: ((وسائر الأجزاء التي تقبل لحياة)): (تحرزًا من الشعر، فإن ابن القاسم أجاز الانتقاع بشعر الخنزير لأنه لا تحله الحياة) ومنعه أصبغ لعموم التحريم، ولم يخالف في تحريم شحم الخنزير إلا من لا يعد قوله (خلافًا). وحكى الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وغيره من علمائنا الإجماع على أن الشحم كاللحم في التحريم.

واختلف المذهب إذا أتلف المسلم للذمي خنزيرًا، أو خمرًا، أو صليبًا، والمشهور أنه يغرم قيمة ذلك عندنا لأنه يتملك، ولذلك قيد القاضي فقال:((في حق المسلم)) والشاذ أن كله لا قيمة (له)، ولا يغرم عنه شيئًا وهو الأصح من طريق النظر، لأنه حكم بين مسلم وكافر فيحكم فيه بحكم الإسلام لا يوجب لهذه المحرمات قيمة، ولا ثمن.

تكميل: قسم شيوخنا النجاسات (على) قسمين: متفق عليه كأرواث

ص: 896

بني آدم، ومختلف فيه كأرواث الدواب، وقد اختلف المذهب في جواز بيع ذلك، فروى ابن القاسم عن مالك المنع من بيع العذرة، وقال ابن الماجشون لا بأس ببيعها، لأنها من منافع الناس. وإذا اختلفوا في العذرة فالخلاف في أرواث الدواب أولى، والخلاف في ذلك منصوص، وفيه قولان: الجواز والمنع قال أشهب المشتري في (الزبل) أعذر من البائع، وقال ابن عبد الحكم هما سواء، ولم يعذر الله أحدًا فيما حرم عليه.

تنبيه: إذا اجتمع القول في (بيع الأزبال) كان فيه ثلاثة أقوال (أحدها): (الجواز مطلقًا زبل ابن آدم، وزبل الدواب)، و (الثاني) المنع مطلقًا (وهما) مبنيان على اعتبار الضرورة أو نفيها، والثالث جواز ذلك في أزبال الدواب للاختلاف في نجاستها دون أرواث بني آدم للإجماع على نجاستها وصح عن ابن عمر أنه كره أكل البقول التي تتغذى بالزبل، والخلاف في ذلك جار على حكم النجاسة، (هل ينقلب عينها) وفيه قولان في المذهب.

ص: 897

مسألة: اختلفوا في بيع الزيت النجس، فمنعه الشافعي مطلقًا وهي رواية ابن حبيب عن مالك وأصحابه، وقال ابن وهب يجوز بيعه إذا بين البائع ذلك للمشتري، وبه قال (أبو حنيفة) وقيل يجوز بيعه من غير المسلم، وقيل يجوز بيعه إذا طهر بالغسل وقد اختلفت الرواية هل تطهر بالغسل أم لا؟ فروى ابن نافع عن مالك أن يطهر (بالغسل)، وفي الواضحة والمستخرجة عن ابن القاسم (نحوه)، وقد قيل إنه لا يطهر. قال ابن القاسم فيمن فرغ جرار سمن في زقاق ثم وجد منها فارة يابسة، ولا يدري (في) أي الزقاق فرغها، أنه يحرم أكل جميع الزقاق، ويحرم بيعها، فاستقرأ منه (بعض شيوخنا) أنه لا يطهر بالغسل، ويعارضه ما وقع في المستخرجة من رواية موسى عن ابن القاسم في اللحم يطبخ (بالماء النجس)، قال يغسل اللحم ويؤكل، وروى أشهب عن مالك أنه لا يؤكل. وكذلك اختلفوا في جواز الاستصباح بالزيت النجس، (فروى) عن علي، وابن عباس، وابن عمر أنهم أجازوا بيع الزيت النجس (وأن) يستصبح به، وهي رواية أصبغ عن

ص: 898

مالك في غير المساجد، وأجازوا أيضًا أن يعمل (منه الصابون)، (وبه قال) الشافعي، وأجاز غيره الاستصباح به في المساجد وغيرها بشرط التحفظ، والجاري على الأصل منع الانتفاع به مطلقًا، وهي رواية عبد الملك وغيره عن مالك، قال عبد الملك، ولو طرح في الكرياس للانتفاع به لكرهته لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع (النجس) وذلك أصل في منع (الانتفاع بالنجاسات) مطلقًا، وكذلك اختلفوا أيضًا في لبن الآدمية إذا حلب، فأجاز مالك والشافعي حلبه، قياسًا على إباحة شربه والانتفاع به، وعلى لبن سائر الأنعام، وقال أبو حنيفة: الأصل أنه محرم تابع للحم، وإنما أبيح لضرورة الأطفال إليه، فإذا انتفت هذه الضرورة كان محرمًا كاللحم، وقالوا (في ذلك): حيوان لا يؤكل لحمه، فلم يجز بيع لبنه، أصل ذلك الخنزير، وقد ذكرنا الخلاف في جلود الميتة هل يطهرها الدباغ طهارة عامة أو خاصة، وعلى ذلك (ينبني) جواز بيعها والصلاة عليها، واستعمالها في المائعات، وقد استوفينا ذلك، والمعول عليه عند ابن القاسم أن طهارتها مخصوصة، فمقتضاها

ص: 899

امتناع بيعها، وكذلك اختفلوا أيضًا في (عظام) الميتة فأجاز مطرف وابن الماجشون بيع أنياب الفيل سلقت (أم لا)، وأجاز أشهب إذا سلقت، ومنع ابن القاسم بيعها، (والتجارة فيها)، والامتشاط بها، والادهان بمداهنها لنجاسة أصلها (بدليل تحريم) الانتفاع ببيع الخمر وشحوم الميتة. وقولنا:((منتفعًا به)) (احترازًا ممن لا منفعة فيه) فلا يصح بيعه لأنه من أكل المال بالباطل، وكذلك ماله منفعة محرمة كالمزمار، والعود فلا خلاف في امتناع بيعه، لأن المنفعة محرمة شرعًا كالموجودة حسًا فإن كسر جاز بيعه مكسورًا (إن كان) كسرًا بينًا، ولو اختلفت منافع المبيع لاعتبر منها الأرجح الذي يتعلق الغرض به غالبًا، فإن كان فيه منفعتان معتبرتان مقصودتان إحداهما محللة والأخرى محرمة، حرم بيعه تغليبًا للمنفعة المحرمة، وكذلك لو كانت هي المقصودة فهي بالمنع حينئذ أحرى، واختلفوا إذا كانت المنفعة (محرمة) إلا أنه لا يعلم هل هي مقصودة أو مطروحة فمنهم من كرهه نظرًا إلى المنفعة المحرمة) ومنهم من أجاز بيعه تمسكًا بالأصل) والوقف (أولى احتياطًا)، ومن هذا المعنى اختلافهم في (جواز) بيع المريض والحامل المخوف عليهما. واتفق المذهب على أنهما إذا كانا في حد السياق فبيعهما غير جائز، وحكى

ص: 900

فضل في اختصار الواضحة أن الحامل إذا جاوزت ستة أشهر لا تباع حتى تضع، فإن بيعت حينئذ فبيعها فاسد، وحكى غيره أن الحامل إذا أشرفن على الولادة فبيعها باطل. وتحصيل القول فيها على مذهب مالك أنهما إذا بلغا حد السياق، ولم يجز بيعهما، وإن بلغا حد الخوف عليهما ولم يبلغا حد السياق فهل يجوز بيعهما أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب حكاهما الشيخ أبو الطاهر. وذكر القاضي رحمه الله خشاش الأرض والكلاب وما لا منفعة فيه، وليس ذلك على عمومه، أما خشاش الأرض فمنه ما ينتفع به في الأدوية المحللة وغيرهما، وهذا لا (يختلف) في جواز بيعه، وأما الكلاب فعلى قسمين مأذون في الانتفاع به، وغير مأذون، فغير المأذون في الانتفاع به لا يباع ولا يستأجر. اختلف (المذهب) فيما يجوز اتخاذه هل يجوز بيعه أم لا؟ فيه) قولان في المذهب، وكذلك اختلفوا في جواز بيعه (لمن أراد أكله على القول بإباحة أكله، فمن جاز أكله أجاز بيعه، ومن منعه منعه. وأصل)

ص: 901

مذهب الشافعي المنع من بيعه مطلقًا لأنه نجس العين محرم الأكل (الثبوت نهيه) صلى الله عليه وسلم عن بيعه، وأجاز أبو حنيفة بيعه مطلقًا كان مأذونًا، أو غير مأذون فيه، بناء على أنه طاهر العين مباح الأكل تقديمًا للقياس على خبر الواحد، (واعتضادًا بظاهر الحصر) في قوله تعالى:{قل لا أجد في ما أوحي محرمًا على طاعم يطعمه} الآية [الأنعم: 145]. وكذلك اختلفوا أيضًا في جواز بيع السنور، والجمهور على جواز بيعه، ومنعت من ذلك طائفة من أهل العلم (اعتمادًا) على النهي الثابت عن ثمنه خرجه مسلم وهو إفراده. وقد ذكرنا الخلاف (في لبن الآدمية) هل هو طاهر العين وهو مذهب الجمهور، أو نجس العين، إلا أن الشرع عفا عنه للضرورة إليه، وهو قول أبي حنيفة، وأجاز ابن القاسم تذكية السباع لأخذ جلودها، وبيعها بعد دباغها بناء (على) أن دباغها طهور، وقال ابن حبيب بيع جلود السباع والصلاة عليها حرام.

وقولنا: ((معلومًا)): احترازًا من بيع المجهول ويجب أن يتعلق العلم بعين المبيع، وقدره، وصفته. وقولنا:((مقدور على تسليمه)): احترازًا من بيع السمك في الماء، والطائر في الهواء، أو العبد الآبق والبعير الشارد، والجنين

ص: 902

في بطن أمه، وقد تدخل هذه الأقسام (تحت) الشرط الذي قبله، ويختص هذا القسم بما لا يمكن تسليمه لحق الآدمي كالرهن يباع، فبيعه موقوف على إجازة المرتهن، وكذلك العبد الجاني يبيعه سيده بعد علمه بالجناية فالخيار فيه للمجني عليه في إجازة البيع أو رده، فإن دفع الأرش للمجني عليه لزم البيع، وإن أبى سيده من الأرش توقف إجازة البيع على المجني عليه، وللسيد (إسلامه) في الجناية بعد أن يعقد البيع فيه، ويحلف أنه لم يرد حمل الجناية (عليه)، فإن تمسك المبتاع بالبيع، وقال أنا أدفع أرش الجناية كان له ذلك، وانظر بماذا يرجع على البائع، والمنصوص أنه يرجع عليه بالأقل من الأرش، أو الثمن، ولو باعه سيده ثم أراد المشتري أن يرده بعيب الجناية كان له ذلك، إن كانت الجناية عمدًا إلا أن يبينها عليه، وإن كانت جناية خطأ فظاهر الرواية الرد وهو قول ابن القاسم، وقال غيره: لا يرد بعيب (جناية الخطأ) وهو كعيب ذهب، ومما يدخل تحت إمكان) التسليم العمود يبيعه صاحبه، وعليه بناء (له) فأجاز مالك بيعه، واشترط فيه الشيوخ شرطين أحدهما أن يكون البناء الذي على العمود تافه (القيمة)، فإن كان (له ثمن كثير)، وقيمة غالية، وأدى النقص إلى (إفساد المال) فسد البيع في العمود.

(والثاني أن يؤمن على العمود التغيير بالنقص حذرًا من الغرر والمجهلة).

ص: 903

وقوله: ((وأما ما يرجع إلى المتعاقدين فمثل أن يكونا أو (أحدهما) مما لا يصح عقده)): وهذا كما ذكره، ولم يختلف العلماء أن بيع الصغير والمجنون باطل لعدم التمييز، واختلفوا في بيع السكران، فروى ابن نافع عن مالك أنه منعقد، والجمهور على أنه غير منعقد إذا كان سكره متحققًا، بحيث لا يعقل، والجمهور على أنه غير منعقد إذا كان سكره متحققًا، بحيث لا يعقل، واختلفوا هل يحلف (على) أنه لم يعقل (البيع) أم لا؟ نص الشيخ أبو إسحاق (على) أنه يحلف على ذلك وهو عندي إنما (يتجه) فيمن (يشكل) أمره، وأما الطافح الذي ذهب تمييزه بالكلية فلا معنى لتحليفه، وقد ذكرنا الخلاف

ص: 904

هل يشترط (ملك) العاقد لما عقد عليه أم لا؟ وعبر عنه الفقهاء ببيع الفضولي، واختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب، فمنعه الشافعي في البيع والشراء ورأى أنه فاسد لا يجوز بإجازة المالك، وأجازه أبو حنيفة في البيع دون الشراء، وفي مذهب مالك (قولان فيه) المشهور (فيه) جوازه إذا أجازه المالك وحكى الشيخ (أبو إسحاق) أنه لا يجوز وإن أجازه المالك كقول الشافعي، (والعمدة) لنا حديث (عمرو بن الجعد) وذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع له دينارًا وقال له: استر لنا شاة، فاشترى له شاة بدينار، ثم باعها بدينارين، فاشترى بدينار شاة أخرى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بارك الله لك في صفقة يمينك، فكان لو اشترى التراب لربح فيه)

ص: 905

(كتبه المؤلف بخط يده في الحاشية. وهو حديث ثابت) ففيه الحجة على الشافعي وأبي حنيفة، واتفقوا على (أن) إسلام المشتري ليس بمشترط إلا في اشتراء العبد المسلم، والمصحف وكتب السنة، فلا يجوز اشتراء الكافر لها، فإن اشتراها فقال أكثر أصحاب مالك ينقض بيعه شراؤه، وقع في كتاب ابن شعبان وابن حبيبي، (وروى) ابن القاسم عن مالك أنه لا ينقض البيع ويباع عليه العبد والمصحف، وقد قيل يباع عليه (العبد) المسلم، ويفسخ شراؤه المصحف وفي معناه كتب السنة، فإذا أخرج ذلك عن مالكه إخراجًا صحيحًا ناجزًا (جاز)، واختلفوا في مسائل:

المسألة الأولى: إذا أسلم عبد لذمية فوهبته لولدها الصغير من زوجها المسلم ردت الهبة، وأجبرت على بيعه، لأن لها الاعتصار هذا هو المشهور، والشاذ أن الهبة لا ترد. وبنى الإمام أبو عبد الله المازري هذا الخلاف على (الخلاف في) المذهب فيمن ملك أن يملك هل يعد مالكًا أم لا؟.

والمسألة الثانية: إذا اشترى المسلم عبدًا نصرانيًا من نصراني فأسلم في

ص: 906

يد المشتري ثم اطلع على عيب يوجب الرد، فهل يتعين الرجوع بقيمة العيب أو يكون له الرد بالعيب (فيه) قولان في المذهب وإذا فرعنا على إزالة الرد بالعيب جبر النصراني على إخراجه عن ملكه ببيع أو نحوه من الفوتات، وانظر هل يكفي في ذلك ارتهانه من مسلم، المنصوص أنه لا يكفي، ويباع عليه بعد رهنه لأن في تتميم الرهن استدامة (الملك) لكافر على المسلم، وإذا حكمنا عليه ببيعه، فاختلف المذهب على قولين، فقيل يعجل الحق للمرتهن إلا أن يأتي برهن ثقة قاله ابن القاسم، وقال سحنون يعجل (المرتهن) سواء أتى برهن (أم لا)؟ ولا يقبل (منه) رهن آخر، والأول أعدل.

المسألة الثالثة: إذا مات النصرانية قبل إخراج العبد عن ملكه أمر وارثه بما كان يؤمر به الموروث من غير تأخير إلا بحسب الإمكان لمنع استدامة ملك الكافر (للمسلم)(بلا زمان قلت) أو كثرت.

والمسألة الرابعة: إذا أوجبنا على الكافر إخراج العبد المسلم أو المصحف عن ملكه فباعه على الخيار، فالمشهور من المذهب أنه لا يجوز، ويجبر على أن يبت البيع فيه، لأن انتقال الملك في أيام الخيار غير محقق (بينهما) إن كان الخيار للبائع، وربما يتخرج (فيه) الخلاف على اختلافهم في بيع الخيار، هل هو على العقد حتى ينحل أو على الحل حتى ينعقد.

ص: 907

والمسألة الخامسة: إذا باع النصراني عبده النصراني من نصراني على الخيار، فأسلم العبد (في أيام الخيار) استعجل الأمر من صاحب الخيار، وبيع (الخيار) على أحدهما لا محالة، فإن كان المشتري مسلمًا والبيع على الخيار فهل يمهل حتى (تمضي) أيام الخيار (أو يستعجل ما عقده، فيه خلاف، ظاهر الكتاب أنه يمهل حتى تمضي أيام) الخيار منعقدًا، إذ لو كان منحلاً، وأمهلنا الأمر إلى انقضاء أيام الخيار لاستدام ملك النصراني على العبد المسلم، والصحيح أنه يستعجل ما عنده من إمضاء أو رد ولا ينتظر (إلى انقضاء) أيام الخيار لما في ذلك من التعرض لاستدامة الملك المحرم، واختلفوا إذا كان البائع مسلمًا، والعبد والمشتري نصرانيين، والخيار للبائع، فأسلم العبد (في أثناء ذلك) هل يكون للبائع إمضاء البيع أم لا؟ وفيه قولان جاريان على الخلاف في المرتقبات متى تعد حاصلة هل من يوم توقعها أو من يوم وجودها، ومن ذكر بيع الخيار إذا أمضى هل يعد كأنه لم يزل ماضيًا من حين العقد، أو بعد، كأنه ابتدأ إمضاءه (الآن)، فمن اعتبر حال العقد أجاز للبائع إمضاء البيع، (ومن اعتبر المآل منع من ذلك).

المسألة السادسة: إذا كان المشتري والعبد كافرين، والبائع مسلم جاز البيع بشرطين

ص: 908

الأول: اتفاق دينهما في الكفر. والثاني: أن يسكن المشتري بالعبد بلاد المسلمين، وفيهما تفصيل، أما إن كانا مختلفين في الدين كالنصراني يشتري العبد اليهودي، أو بالعكس فهل يمنع من ذلك أم لا؟ فيه خلاف، والمشهور أنه لا يمنع من ذلك، ومنع منه سحنون وابن وهب لما بينهما من العداوة والبغضاء، فيكون ذلك إضرارًا بالعبد، وقد نهت الشريعة عن الإضرار مطلقًا، وكذلك اختفوا (إذا كان العبد من) المجوس، أو الصقالبة، أو السودان فأراد الكتابي شراءه، ففي المذهب (فيه أربعة أقوال:

الأول: الجواز مطلقًا في الصغير والكبير (لأن الكفر كله ملة واحدة).

والثاني: المنع مطلقًا في الصغير والكبير خوفًا من الإضرار المطلوب زواله شرعًا وهو قول (ابن عبد الحكم).

والثالث: الكراهية قال في الكتاب ما علمته حرامًا وغيره (أحسن) منه.

والرابع: جوازه إن كان العبد كبيرًا، لأنه مالك لنفسه مميز لمصالحه فيقدر على رفع الضرر عنه بخلاف الصغير، وقع في العتبية عن مالك (قال) فإن اشترى الصغير فسخ البيع.

المسألة السابعة: إذا كان العبد صغيرًا لا دين له فهل يجوز بيعه من الكافر أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب أجازه محمد، لأنا لسنا على يقين

ص: 909

من إسلامه (ومنعه في الكتاب لما نرجوا من إسلامه)، ولو قيل إنه معتبر بدين أبيه لكان (جاريًا)(على أصل) المذهب.

قوله: «أو غير عالم بالمبيع» : يدخل تحته وجوه منها بيع الغائب المجهول الصفة وبيع الجنين والثمار قبل طيبها.

وقوله: «أو محجور عليه» : يعني السفيه والمحجور عليهم قسمان (منهم) من حجر عليه لحق نفسه كالصغير غير البالغ والبالغ المبذر لماله ومنهم من حجز عليه لحق غيره كالمريض والعبد والمرأة.

قوله: «والحجر يؤثر في منع البيع تارة وفي وقفه أخرى» : هذا اللفظ قد اختلف فيه شيوخنا في المذكرات في معناه، وجرت العادة بين المذاكرين بالنظر في مفهومه ويمكن فيه وجوه، أحدها أن يتنزل على صورتين بالنسبة إلى نوع واحد من نوع المحجور عليه، فالحجر يؤثر في منع البيع تارة، المعنى أنه يمنع الإقدام على إنشاء عقد البيع والشراء، ويؤثر في الوقف أخرى إذا وقع البيع من المحجور فباع، أو ابتاع فينظر حينئذ من له نظر في فعله هل هو صلاح فيمضيه أو سفه فيرده، وهذا النظر لا يتحقق إلا في عقد موقوف لا في (مبتوت) الرد، وقد نص علماءُ المالكية على أن العبد والسفيه والمرتد في أيام الاستتابة لا يجوز لهم الإقدام على البيع، ولا يجوز للمشتري الإقدام على الشراء منهم، فإن وقع البيع الممنوع إنشاؤه (يعرض) للنظر وهذا كقولنا لا يجوز الإقدام على الصلاة في الدار المغصوبة، فإن وقعت الصلاة (فيها) فما حكمها، نظر آخر هذا الذي ظهر لي، وعليه كتب اعتمدتهم وقت (الإقراء)

ص: 910

لهذا الكتاب، وأشار بعض المذاكرين إلى أن الحجر المؤثر في الوقف هو الحجر على المريض في حالة الخوف عليه، وعلى ذات الزوج فإذا (باعها) وحابيا فيما زاد على الثلث فبيعها موقوف، ولا يحرم عليهما الإقدام على البيع.

وفي الواضحة قال ابن القاسم قال مالك: بيع المريض وشراؤه جائز، وإن كان فيه محاباة (ففي) الثلث، قلت فإن زادت المحاباة على الثلث فالبيع موقوف، وانظر هل يجوز أن يقع من المريض عقد الصرف أم لا؟ لأنه منظور فيه هل فيه محاباة أم لا؟، ونص أصبغ على جواز الصرف منه، قال: لأنه لم يرد به التأخير، وأشار بعضهم إلى أن الحجر الذي يؤثر في منع البيع تارة إذا كان بيعه ظاهر الفساد، وواقع على غير السداد، فالبيع في هذا مفسود من غير احتياج إلى نظر، وفي الوقف أخرى إذا احتمل البيع الصلاح والسداد، أو كان غالبه السداد فينظر فيه حينئذ وهذا معلوم كما ذكرناه أنه ينظر في موقوف لا في مردود، أشار بعضهم إلى أنه يتنوع بحسب نوع المحجور فيؤثر الحجر (في المنع) في حق من جر عليه لحق نفسه ويؤثر الوقف فيمن حجر عليه لحق غيره.

وبين القاضي الفساد الراجع إلى الصفة بأمثلة ذكرها مفصلة، (وسنتبع) ترتيبه.

قال القاضي رحمه الله: «المبيعات ثلاثة أنواع» : إلى آخر الفصل.

شرح: هذه الأنواع الثلاثة راجعة إلى قسمين، إذ لا واسطة بين الحاضر والغائب، والسلم داخل في (بيع) الغائب إلا أنهم (أفرادوه) لاختلاف

ص: 911

(أحكامه) وتباين (فروعه).

ومقصود هذا الفصل الكلام على بيع الغائب، وقد أجمعت الأمة على جواز بيع الحاضر المرئي، واختلفوا في بيع الغائب، فمن العلماء من منعه على الإطلاق وصف أو لم يوصف، وعليه مناظرة الشافعية، ومنهم من أجازه ومنهم من منعه من غير صفة على خيار الرؤية، وعليه مناظرة الحنفية، فإذا رآه المشتري، فإن شاء أنفذ البيع، وإن شاء رده، وكذلك المبيع على صفة المشتري في خيار الرؤية عندهم وإن وافق الصفة، واضطرب مذهب مالك في ذلك.

وتحصيل المشهور منه أن أعيان الغائبة عن موضع العقد على ثلاثة أقسام: بعيدة جدًا غير مأمونة كإفريقية من خراسان. وقريب جدًا يمكن الإطلاع عليها، ومتوسطة. فالقسم الأول لا يجوز بيعه على الصفة، واختلفوا في المتوسطة الذي يمكن الاطلاع عليه من غير مشقة، ففي المذهب فيه قولان: والمشهور المنع فيما عدا البرنامج (والشاذ الجواز مطلقًا في البرنامج) وغيره وهو الذي يسميه الفقهاء بيع الحاضر على الصفة، وقد روي عن مالك الجواز في بيع الغائب في غير صفة على شرط خيار الرؤية، وأنكره القاضيان: أبو الحسن، وأبو محمد وغيرهما عن المذهب، وزعموا أنه لا يوجد في مذهب مالك، وإنما هو قول أبي حنيفة والمعتمد لنا في جواز بيع الغائب على الصفة من وجوه:

ص: 912

الأول: ما رواه ابن المسيب قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وددنا أن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما تبايعا حتى نعلم أيهما أعظم جدًا في التجارة فاشترى عبد الرحمن من عثمان فرسًا بأرض له أخرى بأربعين ألفًا، أو بأربعة آلاف.

الثاني: ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم (لا تصف المرأة المرأة لزوجها حتى كأنه ينظر إليها) أخبر أن الوصف يقوم مقام الرؤية، والبيع على الرؤية جائز (فكذلك الوصف) واعتمدوا من طريق المعنى على أن الصفات (مبينة) للموصوف ضابطة له، فانتفى به الغرر فكان جائزًا تمسكًا (بمقتضى) عموم قوله تعالى:{وأحل الله البيع حرم الربا} ورأى الشافعي أن الغرر لا ينتفي إلا بالرؤية، وأن الصفة لا تقوم مقامها، وقد أشار بعض الشافعية إلى الاحتجاج بقولهم:«ليس الخبر كالعيان» وبقضية موسى بن عمران صلوات الله على نبينا وعليه، وذلك أنه لما سمع الكلام طلب العيان، فدل على أن العيان هو المقصود)، وهذا عندي خارج عن المقصود، وإذا

ص: 913

بنينا على المشهور أن بيع الحاضر على الصفة لا يجوز، فلا بد من معرفة الحضور المانع من البيع على الصفة. فأجازوا في الكتاب بيع ما كان على يوم، وبيع البرنامج. وقال في مختصر ما ليس في المختصر: لا يباع سلعة حاضرة ولا غائبة على مسيرة يوم على الصفة، ولا على البرنامج، واختلفوا في السلعة الحاضرة في البيت هل يجوز بيعها في السوق على الصفة، والمشهور المنع لانتفاء المشقة بالرؤية، وكذلك وقع في كتاب محمد، والشاذ جواز بيع ذلك، إذ قد يكون في رؤيتها مشقة، وهذا (الخلاف) في حال. وإذا بنينا على جواز بيع الغائب على الصفة، فالمقصود منه ينحصر في (ثلاثة) فصول:

الأول: في ذكر أنواع المبيعات والصفات الحاضرة لها.

والثاني: في صفاتها.

والثالث: في حكم النقد فيه).

الفصل الأول: في ذكر أنواع المبيعات والصفات الحاضرة لها، والمبيع على ضربين: عقار، وحيوان، (فالحيوان) يجوز بيعه على الصفة إن كان قريب الغيبة، فإن كان بعيد الغيبة فهل يجوز معه بيعه على الصفة أم لا؟ قولان في المذهب مبنيان على الخلاف في الالتفات إلى الطوارئ والمترقبات، (وأما العقار) فالأصح جوازه في المأمون الذي تغير كالأرضين فلا يختلق أن طول الغيبة لا تؤثر فيها، بخلاف الدور، والحوانيت، والمبنيات كلها، وأما غير العقار فيجوز بيعه على الصفة إذا كانت غيبته قريبة مما لا يختلف فيه المبيع غالبًا، وذلك يختلف بحسب أحوال المبيعات، واختلفوا في حد القرب فقيل البريد، وقيل البريدين، وقيل نصف اليوم (وقيل اليوم) وقيل اليومان، وهذه

ص: 914

الأقوال كلها واقعة في المذهب. وأما الصفات الحاضرة فهي المقصودة في المبيع التي تختلف الأغراض والأثمان باختلافها، فبذكرها يقل الغرر، أو يعدم.

فرع: اشترط في (العتبية، وفي) كتاب محمد أن يكون الواصف غير البائع لتطرق التهمة إليه واشترط المتأخرون أن يكون المشتري عارفًا بما وصف له.

فرع: لو اختلف في الصفة التي وقع العقد عليها لكان القول قول المشتري لأنه المدعى عليه الغرم، فإن اتفقنا على الصفة، واختلفا في كون المبيع كذلك، (رجع فيه القول) إلى أهل المعرفة.

قوله: «ولا يجوز بيعها بغير صفة إلا أن تكون على رؤية متقدمة» : إلى آخره، وهذا كما ذكره، والرؤية المتقدمة في المأمون من التغير كالرؤية الحاضرة.

فرع: اختلف أهل المذهب إذا تبايعا على رؤية متقدمة قريبة ثم تنازعا في بقاء المبيع عليها، أو تغييره هل يكون القول فيه قول البائع، أو قول المشتري (فيه) قولان لابن القاسم وأشهب، (فأصل ابن القاسم القول قول المشتري، لأنه الغارم، وقال أشهب) القول قول البائع لأن المشتري مقر مدع، وهذا حيث تنتفي القرائن المصدقة، وكذلك لو تنازعا في سلامتها حين العقد فهل القول قول البائع أو قول المشتري (فيه) قولان في المذهب.

ص: 915

قوله: «ولا خيار (للمبتاع) إن جاءت على الصفة» : وهذا كما ذكره (وخالف) فيه أبو حنيفة كما حكيناه عنه، (وعمدتنا) أن موافقة الصفة كالعيان، فإذا لزما لبيع بالعيان لزم بالصفة المطابقة.

قوله: «وضمناها من البائع إلا أن يشترطه (عل المبتاع) في ظاهر المذهب» : وهذا هو (القول) الثاني. وقد اختلف المذهب في ضمان المبيع (على) الغائب على أربعة أقوال، قيل ضمانه من البائع مطلقًا إلا أن يشترط ذلك (على) المبتاع، وقيل (على) المشتري إذا أدركته الصفقة سالمًا إلا أن يشترطه على البائع، وقيل (على) البائع إلا في الديار والعقار، وفرق ابن حبيب بين (ما يجوز فيه النقد وما لا يجوز ذلك فيه)، فجعل الضمان فيما يجوز فيه النقد من العقار وغيره من قريب الغيبة من المشتري، وفي غير العقار مما لا يجوز النقد فيه من البائع فجعل الضمان تابعًا لجواز النقد، وهذا القول أعم من الذي قبله، لأنه في هذا القول ألحق ما يجوز النقد فيه من غير العقار بالعقار. وسبب الخلاف هل القبض شرط من شروط صحة العقد (أو حكم) من أحكامه، وليس (في هذه) المسألة دليل

ص: 916

لفظي سوى قوله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) وجه الاستدلال (به) أن الخراج قبل القبض للمشتري، فكان الضمان منه.

الفصل الثالث: في حكم النقد في بيع الغائب، وقد قدمنا أن (البيع) على قسمين: مأمون، وغير مأمون، أما المأمون فهل يجوز النقد فيه بشرط أم لا؟ (قولان) المشهور جوازه بشرط وبغير شرط، ومنعه أشهب بشرط ومبنى الخلاف على (الخلاف في) اعتبار الطوارئ وأما الرقيق والحيوان (وغيره) من غير المأمون فلا يجوز النقد فيه بشرط، وهل يجوز بغير شرط أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب، وظاهر كلام القاضي جوازه بغير شرط مطلقًا في المأمون، وغير المأمون، وإنما امتنع النقد في هذا الباب، لأن المبيع إن سلم كان المنقود ثمنًا، وإن تلف كان سلفًا فيكون المنقود تارة بيعًا، وتارة سلفًا، وهو منهي عنه.

ص: 917

قوله: «ويجوز بيع البرنامج» : قد ذكرنا اختلاف العلماء في جواز بيع البرنامج، والمشهور من مذهب مالك جوازه اعتمادًا على ما شاهده في المدينة من العمل الجاري عليه، وأنه لم يزل حينئذ من بيوع الناس، وسيجيء حكم السلم بعد هذا.

فصل: «والبائع جائز منجز أو بشرط الخيار» : إلى قوله: «إذا دخل على بيع الناس المعتاد» .

شرح: اختلف العلماء في بيع الخيار فأجازه الجمهور، ومنعه الثوري وابن أبي شبرمة وطائفة من أهل الظاهر، وعمدة الجمهور حديث حبان بن منقذ، وفيه:(ولك الخيار ثلاثًا) ولهم فيه مطعن من وجهين:

الأول: من (جهة) إسناده، والثاني: إنه مخصوص به لما شك إلى النبي صلى الله عليه وسلم (أنه يخدع في البيوع، واحتج الجمهور أيضًا بما رواه ابن عمر

ص: 918

عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا إلا بيع الخيار) ولهم في الاحتجاج به مطعن قال أصبغ فالخيار لهم في الصحيح معنان فتأوله الثوري على المقصود أن يقول أحدهما لصاحبه بعد العيد، اختر وقد جاء ذلك مفسرًا في الحديث، ومعمول به من السلف، وذكر القاضي أن الخيار على قسمين:(حكمي، وشرطي) فالحكمي أقسام (ثلاثة):

الأول: الخيار في المبيع يوجد معيبًا.

والثاني: الخيار في المبيع على الصفة يوجد مخالفًا.

والثالث: (الخيار) في المبيع تقع في المغابنة (الكثير) الفاحشة غير المعتادة.

وحكى القاضي أبو محمد في القيام بالغبن روايتين عن المذهب: إحداهما: أنا لبيع لازم، ولا خيار للمغبون، لأنه مفرد، والثاني: أن للمغبون الخيار إذا دخل على البيع كالعيب، وحكى في غير التلقين روايتين:

إحداهما: نفي القيام مطلقًا.

والثانية: أن لا خيار له إذا كان من أهل الرشاد والبصر بتلك السلعة، فإن كانا، أو أحدهما بخلاف (ذلك) فللمغبون الخيار.

ص: 919

وتحصيل القول فيه على مذهب مالك أن المغبون إما أن يكون عالمًا بالقيمة، أو جاهلاً بها مستسلمًا لبائع، أو جاهلاً محانكًا في الثمن، فالأول لا مقال له لأنه في المعنى واهب للزيادة، وأما المستسلم الذي لا يعرف القيمة فلا خلاق أن له القيام بالغبن إذا غره البائع وخدعه لقوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن الخلابة، وعن إضاعة المال.

وأما الجاهل بالقيمة المحانك في تقدير الثمن غير المستسلم للبائع فهل يتوجه له القيام بالغبن أم لا؟ (فيه) قولان في المذهب، هذا ما أشار إليه أبو عبد الله وغيره من (المحققين) المتأخرين، وظاهر كلام القاضي في التلقين (أن مورد) الخلاف في القيام بالغبن عام لا يختص مستسلم، ولا عالم، ورآى (أئمتنا) أن الخلاف في القيام بالغبن إنما يجري فيما عدا المزايدة والإشهار، وأما ما دخل السوق ووقعت فيه الشهرة والمزايدة فلا قيام فيه بالغبن، أما من لم ير القيام بالغبن فعول على أن المغبون مفرط، لأنه قادر على أن يوكل من يبيع له أو يبتاع، فهو بمنزله من وهب جزءًا من ماله، ومن جعل له الخيار عول على قوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} وعلى قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي شكا إليه أنه يخدع في البيوع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(إذا بعت فقل لا خلابة) وعلى نهيه صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، ونهيه عن الضرر

ص: 920

والضرار، ولأنه غبن في الأثمان، فتعلق الخيار به، كتلقي الركبان.

فرع: اختلف القائلون بإثبات القيام بالغبن في حده، فمنهم من (قيده) بالثلث حكاه القاضي أبو محمد، ومنهم من أحاله على العادة، فما علم أهل العادة أنه غبن رجع به. وقال القاضي في المعونة مثل أن يبيع ما يساوي ألفًا بمائة، أو يشتري ما يساوي مائة بألف.

قال القاضي رحمه الله: «فأما خيار الشرط فلا يثبت بمقتضى العقد» : إلى آخر الفصل.

شرح: وهذا كما ذكره، والخيار يكون في ثلاثة أمور إما في التروي في الثمن وإما في (العزم على الأخذ) أو الترك، وإما في اختيار المبيع، وكل ذلك لا يثبت إلا بشرط وقال ابن حبيب: بإثبات خيار المجلس بمقتضى العقد، وإن لم يكن شرط وهو قول الشافعي اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم:(المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا) والجمهور على أن المراد (الافتراق

ص: 921

بالإيجاب) والقبول باللفظ. واحتج عليه القاضي أبو محمد بقوله تعالى: {يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود} ولأنه عقد معاوضة، فلم يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح، ولأنه لو كان ثابتًا بمقتضى العقد لبقي بعد الافتراق (كخيار) العيب، ولما أجاز أيضًا أن يشتري الأب لابنه الصغير من نفسه، لأن مفارقة الإنسان لنفسه لا تصح، وللحرز من مذهب ابن حبيب والشافعي، نبه القاضي بقوله:«ومجرد القول المطلق كاف في لزومه» .

قوله: «ويجوز شرط الخيار لمن شرطه من المتعاقدين» : قلت لقوله صلى الله عليه وسلم، واشترك الخيار ثلاثًا ولم يفرق بين المتابعين وغيرهما ممن يجعلان ذلك إليه، لأن المقصود من الخيار، التأمل والاختبار، والاسترشاد والاستبصار، وكل واحد من المتابعين محتاج إليه.

قوله: «ولا حد في مدته» : قلت الخيار على قسمين مطلق ومقيد، أما المطلق فقد اختلف الناس فيه، فقال الثوري والحسن بن جني وجماعة من أهل العلم بجواز اشتراط الخيار المطلق، ويكون لمشترطه أبدًا، وقال مالك بجوازه، ويضرب السلطان فيه أجل المثل، وقال الشافعي: الخيار المطلق باطل، فإن وقع مطلقًا في حين العقد فهو فاسد. وقال أبو حنيفة: الخيار المطلق باطل إلا أنه إن (وقع) الخيار في الثلاثة الأيام من الخيار المطلق جاز البيع، وإن مضت الثلاثة الأيام فسد البيع، وأما الخيار المقيد بالأجل، فقد

ص: 922

اختلف الفقهاء فيه، فقال الشافعي وأبو حنيفة (أجل الخيار إلى ثلاثة أيام لا يجوز أكثر من ذلك، وقال أحمد وأبو يوسف) ومحمد بن الحسن يجوز الخيار لأي مدة اشترطه، وبه قال داود، وقال مالك رحمه الله هو بحسب المبيعات تابع لما تدعو إليه الحاجة وتقتضيه الضرورة، والأجل في ذلك على ثلاثة أقسام: جائز هو ما تدعو إليه الضرورة، ومكروه: وهو الزيادة اليسيرة على ذلك، وممنوع: وهو الزيادة الكثيرة، واتفق (مذهب مالك) رحمه الله على أن المدة في ذلك تختلف باختلاف المبيعات كما ذكرناه، ففي الثوب يوم ويومان وثلاثة أيام، ولا يجوز (استدامة) لبسه فيها، وفي العبد والجارية (خمسة أيام) والجمعة، ويجوز اشتراط استخدامه فيها، والفرق بينهما ظاهر، وفي الدار الشهر ونحوه، وقال ابن المواز: الأجل في العبد الأربعة الأيام والخمسة، ولا أفسخه في العشرة، وأفسحه في الشهر، (وأجاز) ابن القاسم (في العبد عشرة أيام)، وقد روى (عن مالك) انه أجاز فيه الشهر فما دونه رواه عن ابن وهب، وأباه ابن القاسم وأشهب. وأما الدابة ففي المدونة أنها تركب اليوم ونحوه، وأجاز أن يشترط أن يسير عليها البريد والبريدين، وأجاز مالك

ص: 923

في الواضحة (الشهر ونحوه) في الدار، لأنه يحتاج إلى النظر في حيطانها وأساسها ومرافقها واختبار جيرانها، وفرق بعض المتأخرين بين أن يكون مشتري الدار من الجيران أو غيرهم، فإن كان من الجيران لم يمكن من سكناها لعلمه بجيرانها، وإن كان من غير (الجيران) جاز له اشتراط سكناها الشهر والشهرين.

فرع: إذا زاد في مدة الخيار على (الأمد المعتاد) فسخ البيع، فإن أسقط الزيادة ففيه قولان: المنصوص أن العقد باطل لا يصح بإسقاط الزيادة، وخرج أبو عبد الله المازري الصحة (من) مسألة السلم فيمن أسلم في تمر سلمًا فاسدًا، فلما فسخ عليه، وقضى له برأس المال فهل له أن يأخذ به تمرًا مثل المسلم، فيه قولان: المشهور المنع لأن فيه تتميمًا للعقد الفاسد فهو كالزيادة التي (يريد) إسقاطها، لأن إسقاط الزيادة تمسكًا بالسلعة، وهو مقتضى الشرط فكأن الإسقاط لم يفد شيئًا، وقيل إن له الإسقاط ويصح البيع.

فرع: لو تبايعا على (البت) وتناقدًا فقد أجاز في الكتاب أن يجعل أحدهما (الخيار لصاحبه) قال (الشيوخ) إنما يجوز إذا (لم) يسترجع الثمن ليلاً يأخذ سلعة بالخيار عن الثمن الذي صار دينًا فيكون دينًا بدين، وأصل ابن القاسم منعه.

فرع: إذا اشترط المشتري سكنى الدار فسكنها هل عليه كراء أم لا؟

ص: 924

الصحيح أنه بائع لما (دخل) عليه، فإن سكنها من غير اشتراط ولا بيان فلا كراء، لأن سكن اختيارًا، وفصل فيه عض المتأخرين (وقال) إن كان الساكن في مسكن يسكنه بملك أو كراء، ولم يخله أو يكره من غيره، فلا كراء، لأن هذا اختبار محض لا انتفاع، وإن كان في داره فأكراها، أو في دار غيره فسقط عنه الكراء في مدة انتقاله، وأكراها في تلك المدة فعليه الكراء.

تنبيه: حكى الشيخ أبو محمد بعد الحق في الدابة اليومين والثلاثة كالثوب قال: وإنما شرط في المدونة اليوم في الركوب، وأما الفاكهة كالبطيخ والقثاء، فقال في الكتاب إن كان الناس (يستشيرون) في مثل هذا ففيه الخيار بقدر الحاجة، ولا يغيب المبتاع على شيء مما لا يعرف بعينه من الفواكه وغيرها، لأنه يصبر تارة بيعًا، وتارة سلفًا إن أراد رده.

قوله: «وإذا اختلفا في الرد والإمضاء فالقول قول مختار الرد» : وهذا كما ذكره لأن مختار الإمضاء قد أسقط حقه في لفسخ، وبقى (حق) الآخر فلا يسقط بإسقاط غيره.

قوله: «ويقوم الوارث (فيه) مقام الموروث» : يعني أن (خيار)

ص: 925

المبيع يورث وبه قال مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة إذا مات من له الخيار، ثم البيع، ولا خيار للورثة، لأن مشيئة الإنسان واختياره (صفة) قد هلكت بهلاكه، قلت: أنواع الخيار مختلفة، فأما خيار الرد بالعيب وخيار استحقاق (الغنيمة قبل القسم)، خيار القصاص، (فقد) اتفق الفقهاء الثلاثة مالك وأبو حنيفة، والشافعي وأصحابهم على ثبوته للورثة، واتفقوا أيضًا على أن الخيار في اعتصار الهبة، وفي الطلاق واللعان (أنه) غير موروث، ومعنى خيار الطلاق أن يقول الرجل لرجل آخر طلق امرأتي متى شئت فيموت الرجل المجعول له الخيار فلا يتنزل (الورثة) منزلته إجماعًا. واختلفوا في خيار المبيع وخيار الشفعة والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى:{ولكم نصف ما ترك أزواجكم} [النساء: 12] فهم، وقوله صلى الله عليه وسلم:(من ترك مالاً أو حقًا فلورثته) ولأنه حق مالي فجاز أن يورث

ص: 926

كسائر الحقوق ورأى أبو حنيفة أن الورثة إنما تتعلق بالأموال دونا لحقوق والأحكام، وقاس خيار البيع، وخيار الشفعة على خيار الاعتصار وغيره مما سلمه الخصم، وقاس المالكية والشافعية خيار البيع وخيار الشفعة على خيار الرد بالعيب. وإذا فرعنا على أنه موروث فاختلف الورثة فأراد بعضهم الإمضاء، وبعضهم الفسخ لم يكن لهم التبعيض كما لم يكن لوليهم، فإما رضوا (بالإمضاء، أو بالفسخ أجمع).

قوله: «ويحكم بالإمضاء في كل تصرف يفعله المالك في ملكه لا يحتاج في اختبار المبيع عليه» : قلت: الأفعال الواقعة (على) أعيان الممتلكات منها ما يشترط المالك في صحة وقوعها شرعية، وذلك أنواع: منها العقود الواقعة فيها بعوض كالبيع، والإجارة، والكتاب، أو بغير عوض كالهبة والصدقة والتدبير والإعتاق المعجل، ومنها الاستمتاع والتلذذ وغير ذلك من أنواع المباشرة، ومنها ما لا يقع شرعًا بحال، سواء وقعت في مملوك للفاعل، أو في غير مملوك كالجنايات ونحوها، ولما كان الرضى معنى (قلبيًا استدللنا) عليه بالآثار الظاهرة، وحكم هذه الأفعال التي ذكرنا مختل، والضابط الكلي فيما (يقطع) به الخيار (أن يقال): إنه ينقطع بأحد ثلاثة أشياء قول، أو فعل، أو ترك أما القول فظاهر وهو النص على إسقاطه، وأما الترك فإمساكه عن القول، أو الفعل (الدالين) على تعيين أحد الوجهين إلى أن تنقضي مدة (أيام) الخيار، فإذا انقضت ولم يظهر (منه) قول، أو فعل كان ذلك دليلاً على تعيين أحد الوجهين، فإن كان الخيار للبائع والسلعة في يده فذلك دليل على اختياره الفسخ، وإن كانت في يد المشتري كان تركه للرد

ص: 927

على ربها دليلاً على التمسك والرضا بها، وأما الفعل فهو على ثلاثة أقسام إما أن يدل عادة على الرضا والإمضاء، أو على الرد والإباء، أو يكون محتملاً، فمع ظهور الدلالة على أحدهما يمضي حكم ذلك، ومع الاحتمال يرجع إلى الأصل وهو ثبت الخيار بالأصل، فلا يسقط بالاحتمال.

تكميل: الأفعال على ثلاثة أقسام منها ما يعد رضا بالإجماع، ومنها ما لا يعد رضا (بالإجماع)، ومنها ما فيه خلاف، فالأول كالعقود المفوتة بعوض أو بغير عوض كالبيع والصدق والهبة والعتق ونحوها، وكالفعل الذي يشترط (فيه) الملك في صحة وقوعه شرعًا كالقبلة واللمس للذة والوطء والاستيلاد والتزويج، فهذا لا خلاف فيه أن يعد رضا، (وقيل إن تزويج الأمة رضا بخلاف العبد، فإن كان ذلك من البائع والخيار له دل على الرد، وإن كان من المشتري دل على الرضا، وأما ما لا يعد رضا بالإجماع) فهو اختبار الأعمال بالاستخدام وجناية الخطأ، وذلك لا يعد رضا إجماعًا، والقسم المختلف فيه الإجارة والرهن، وإسلامه للصناعة، وسوم السلعة، وجناية العمد، وتجريد الجارية وهذه الأقسام كلها مختلف فيها، ومذهب ابن القاسم أن ذلك كله دليل على الرضا قاطع للخيار وقال أشهب لا يكون ذلك اختيارًا، ويحلف في ذلك كله بالله ما كان مني رضى. وقد ألحق بعضهم قسم التزويج في العبد والأمة بهذا القسم المختلف فيه. قال ابن القاسم ولو سلكت الدابة أو ودجها، أو سافر عليها لكان رضى، وجعل بعض الشيوخ الاختلاف بين ابن القاسم وأشهب في هذه المسألة خلاف في شهادة لا في فقه، فمن جعل هذه الأفعال قاطعة غير محتملة جعلها رضى، ومن لم تشهد العادة عنده بأنها دلائل قاطعة استحلفه وهو قول أشهب. قال ابن القاسم

ص: 928

ليس تجريد الجارية اختيارًا إلا أن يقصد التلذذ، أو ينظر إلى الفرج (بعينه).

قال سحنون كل ما يعد من المشتري رضى فهو من البائع (ردًا) إذا كان له (خيار فسخ). قال الشيخ أبو (الحسن) هذا غير مطرد، لأن الغلة للبائع، فإذا سلمه للصناعة أو أجره فلا يكون ذلك فسخًا لأن له أن يقول إنما أردت الغلة، قال الشيخ أبو الطاهر: وهذا يختلف بحسب الأحوال، فتطويل مدة الإجارة وخروجها عن حد أمد الاختيار دليل على قصد الرد.

فرع: إذا ابتاع عبدًا بأمة بالخيار ثم اعتقهما معًا في مدة الخيار، نفذ عتق الأمة، لأنها ملكه، فحينئذ (يرد) العبد على سيده فلا ينفذ عتقه.

قوله: «وتلفه من البائع إن كان في يده» إلى آخره. قلت: اختلف الناس في (ضمان) المبيع على الخيار فقال الشافعي في أشهر قوليه ضمان من المشتري مطلقًا لأيهما كان الخيار وقال أبو حنيفة ضمانه من مشترط الخيار)، فإن اشترطاه فضمانه من البائع، لأنه ملكه بحق الأصل، وقد روى عن أبي حنيفة أنه إذا كان الخيار للمشتري فلا ضمان على البائع لخروجه عن ملكه بإثبات البيع من جهته، ولا على المشتري لاشتراطه الخيار، بل هو موقوف. واختلف قوله مالك في ذلك، فقيل ضمانه من البائع

ص: 929

مطلقًا، فالمشتري أمين فيما غاب عليه (وما لا يغب عليه)، وبه قال الليث والأوزاعي، وهذا بناء على أنه على الانحلال، وسواء كان الخيار لهما، أو لأحدهما، وقد روى عن مالك أن ضمانه من المشتري إن كان في مدة ضمان العوارض، فلا يضمن ما لا يغاب عليه، ويضمن ما يغاب عليه، إذا لم تقم بينة على التلف، فإن قامت البينة على ذلك ففيه قولان (بين) ابن القاسم وأشهب، فإن كان في يد البائع فضمانه منه اتفاقًا.

فرع: إذا وجب الضمان بالتلف فهل يغرم الثمن، أو الأكثر من الثمن أو القيمة قولان في المذهب مبينان على تغليب حكم البيع، أو التعدي، وقد اختلف المذهب في بيع الخيار هل هو على الحل، واشتراط الخيار فيه تتميمه، أو على العقد واشتراط الخيار فيه لفسخه بعد انعقاده. والظاهر أن الضمان من البائع من حيث كان العقد غير لازم فلم ينتقل ملك البائع عن المبيع حقيقة، كما لو باع البائع ولم يقبل المشتري، وأما من جعل ضمانه من مشترط الخيار فإنما نظر إلى أن اشتراط الخيار إن كان من البائع فالملك باق له، فالضمان (عليه)، وإن كان الاشتراط من المشتري فقد صرفه البائع عن ملكه وقد بقي معلقًا حتى ينقضي الخيار وهو أحد قولي (الحنفية)، وإنما يدخل في (ملك) المشتري إذا اشترط الخيار، لأن اشتراطه قد منع من دخوله في ملكه. وقول الحنفية أنه معلق لا يتجه لأنه لا ينفك عن ضمان، فإما البائع وإما المشتري، فإن انتفى (الضمان) عن البائع بحصول البتات من جهته تعين تضمين المشتري تشبيها له بالعقد اللازم (فيه)،

ص: 930

وفيه نظر، إذ لا يقاس موضع الخلاف على موضع الاتفاق.

فروع تتعلق بالخيار، واختلفوا في النقد في (بيع) الخيار بغير شرط، والمشهور جوازه، وأما اشتراطه فممنوع في الأجل القريب والبعيد لاحتمال أن يكون تارة بيعًا تارة سلفًا.

فرع: إذا بينا على أن ضمانه من البائع فالخراج له لقوله صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) واختلف قول ابن القاسم وأشهب فيما إذا بيعت أمة على الخيار، فولدت في مدة الخيار، وأمضى من له الخيار البيع، فقال ابن القاسم وأشهب فيما إذا بيعت أمة على الخيار، فولدت في مدة الخيار، وأمضى من له الخيار البيع، فقال ابن القاسم الولد للمشتري: بناء على أنه ليس بغلة إذ هو كالجزء منها، وقال أشهب: هو للبائع كالغلة واللبن، واتفقوا على أن الصوف للمبتاع لأنه مشتري.

فرع: إذا قلنا إن الولد للبائع فهو بيع حصلت فيه تفرقة فهل يفسخ أم يجبران على الجمع بينهما (فيه) قولان في المذهب مبينان على ما أوجبته الأحكام، هي يجعل كما دخلا عليه أم لا؟ وإذا أجبرناهما على الجمع فهل المقصود الجمع بينهما في ملك واحد، أو في حوز واحد (فيه) قولان.

فرع: إذا وهب للعبد مال من أيام الخيار فقال في الكتاب هو للبائع، وقال بعض الشيوخ إلا أن يكون المشتري قد استثنى ماله، (فالمال) الذي وهب له للمشتري بخلاف المال يوهب للعبد المرتهن فهو لسيده غير داخل في الرهن.

ص: 931

فرع: إذا جن من له الخيار نظر (له السلطان) في الإمضاء، أو الرد، وأما المغمى عليه فقال ابن القاسم: يوقف الأمر حتى يفيق، وقال أشهب: ينظر له السلطان كالمجنون، وهو (خلاف في شهادة) هل يدوم الإغماء أم لا.

فرع: اختلف المذهب إذا اشترى سلعة على (خيار) فلان ففي المذهب فيه خمسة أقوال أحدهما أنه حق لمشترطه فقط دون صاحبه، ودون (المشترك رضاه)(وقع) في الواضحة، (وقيل): إنه حق لمن (جعل) له الرضا وللباقي من المتبايعين دون مشترط ذلك، وقيل: بالتفرق بين البائع والمشتري، فإن اشترى ذلك البائع فله (الاستقلال بالإمضاء) أو الرد، وإن اشترطه المشتري توقف فعله على رضا من اشترط رضاه، وقيل: إنه حق للبائع والمشتري دون من اشترط رضاه، وقيل: إن كان اشتراط رضى الأجنبي من المتبايعين جميعًا، ولهما في ذلك غرض صحيح فهو كوكيل لهما، فليس لأحدهما عزله عن ذلك لتعلق حق خصمه بذلك، وليس لأحدهما أن يرد أو يمضي دونه، وهذا هو اختيار بعض المتأخرين، وهو اختيار بعض شيوخنا إذا ظهر أحد القصدين، فإن لم يظهر أحدهما فظاهر الكتاب إسقاط الرد، وقال ابن حبيب ليس له ذلك.

قال القاضي رحمه الله: «بيع الربا غير جائز، والربا ضربان تفاضل ونساء» : قلت: وهذا كما ذكره، وقد انعقد الإجماع على تحريم الربا قال الله

ص: 932

تعالى: {وأحل الله البيع وحرم الربا} وثبت من حديث عبادة بن الصامت قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح سواء بسواء عينًا بعين فمن زاد أو استزاد فقد ربا، وإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)، (وهذا نص في منع لتفاضل في الصنف الواحد، ومنع النسيئة في الصنفين).

(قال القاضي): «والربا تفاضل ونساء» : يعني به (الربا) الشرعي الثابت تحريمه بالنص وإلا فالربا اللغوي أعم من ذلك، لأنه عبارة عن الزيادة، وانعقد الإجماع على تحريم النساء في هذه الأصناف المعدودة في حديث عبادة. وأجمع الجمهور على تحريم النساء في هذه الأصناف المعدودة في حديث عبادة. وأجمع الجمهور على تحريم التفاضل في الصنف الواحد منها، وقد كان ينقل عن ابن عباس:(أن لا ربا إلا في النسيئة) اعتمادًا على ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ربا إلا في النسيئة) وأجاز ابن

ص: 933

علية التفاضل والنسيئة في هذه الأصناف الربوية إذا اختلف الصنفان ما عدا الذهب والفضة، فإنهم اتفقوا على تحريم النساء (فيه)

قوله: «والتفاضل على وجهين تفاضل في العين وتفاضل في القيمة» هو كما ذكره، وقد مثل كل واحد من القسمين، وكذلك قال أهل المذهب: التوليج على قسمين، توليج في الأعيان، وتوليج في الأثمان، وكلاهما موجب للرد.

قوله: «فالتفاضل في العين يحرم» (يريد) الربوي من المطعومات والعين مسكوكًا أو غير مسكوك، وجمهور الفقهاء على أن الحكم معلق بمعاني هذه الأشياء المعدودة في حديث عبادة بن الصامت وأبي سعيد لا بأسمائهما، وقال قوم: إن الحكم معلق بأسمائهما، ومقصور عليها وهما صنفان منهم نفاة القياس، ومنهم القائلون بإثبات القياس إلا أنهم عدموا في هذا المحل النوع المعتبر منه، ولم يروا قياس الشبه حجة، وهؤلاء الذين قصروا الحكم عليها

ص: 934

قائلون بنفي القياس (رأوا أن) ذلك من باب الخاص، ورأى الجمهور أن ذلك من باب (الشبهة على العلة) فيلحق المسكوت (عنه) بالمنطوق به إذا كان في معناه بناء على إثبات قاعدة القياس، وقد اختلف (القائلون بالتعليق) في علة الربا، ولهم في ذلك مسالك. ونبدأ بعلة النساء للإجماع على امتناعه، وقد اختلف الناس في ذلك، واتفق مذهب مالك رحمه الله وجميع أصحابه على أن العلة في ذلك الطعم مطلقًا في النصف والصنفين، ولذلك حرموا النسيئة في الصنفين، وأجازوا التفاضل (فيهما)، فالطعم (بالإطلاق) علة (منع) النسيئة في المطعومات عندنا وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم:(الطعام بالطعام مثلاً بمثل يدًا بيد والتعليق بالمشتق كاف في التعليل، إلا أنه يلزمهم على مقتضاه الاكتفاء بذلك في امتناع التفاضل وهم غير قائلين به، وأما العلة في امتناع التفاضل فللمالكية فيها ثلاث طرق: أحدها: اعتبار الاقتيات والادخار معًا، والثانية: اعتبار الاقتيات فقط، وهو اختيار القاضي أبي إسحاق، واعتبر بعضهم الادخار فقط، وأضاف القاضيان أبو (الحسن) وأبو محمد إليهما وصفًا ثالثًا: وهو كونه متخذ للعيش غالبًا، وأضاف بعضهم كونه مصلحًا للأقوات، اعتبر بذلك الملح فيها وهو مصلح للأقوات وإنما خصوا الأقوات، لأن طلب قانون العدل فيها أعم، وحفظ المعاش فيها ألزم لحاجة جميع الناس إليها، وجعل بعضهم الادخار مكملاً للعلة، لا شرطًا ولا

ص: 935

جزاءً، وأجرى حكم الربا في النادر الادخار كما أجراه في المعتاد، وقال الشافعي:(العلة) في ذلك الطعمية، وقالت الحنفية: المعتبر الكيل والوزن، وقال ابن الماجشون: المعتبر المالية (بالربا) فالربا ممتنع عنده في جميع الأموال حياطة لها، وتحرزًا من المغابنة، وبه قال بعض المتابعين، وقال بعضهم المعتبر المالية في الأجناس التي يجب فيها الزكاة فقط، وقال ابن المسيب:(العلة) الطعم والكيل، وهو جمع بين قولي الشافعية، والحنفية، واتفقوا كلهم على أن العلة في الذهب والفضة كونهما أثمانًا للمبيعات، وقيمًا للمتلفات وأرواشًا للجنايات وهذه تسمى بالعلة القاصرة، وكل طائفة تمسكت بطريق من الاستنباط، أما المالكية قالوا له كان المقصود الطعم وحدة للزم الاكتفاء بصنف واحد، ولما وقع التعديل دل على أن المقصود التنبيه بكل واحد منها على ما في معناه فاشتركت كلها في الاقتيات، والادخار، والطعمية، والكيل، والوزن، والمالية، واختص البر والشعير بكونهما أصول الأقوات، فوقع التنبيه بهما على ما في معناهما من القطاني والسلت، ونبه بالتمر على جميع الحلاوات كالسكر والعسل والزبيب، ونبه بالملح على جميع التوابل المتخذة لإصلاح الطعام، وأما الشافعية فعولوا على تعليق الحكم بالوصف المشتق، وذلك دليل العلة اعتمادًا منهم على

ص: 936

قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا مثلاُ بمثل يدًا بيد)، (فكان الطعام علة كالسرقة المرتبة عليها القطع في قوله تعالى:{والسارق والسارقة} الآية) وعول الحنفية على قوله صلى الله عليه وسلم: في بعض طرق حديث (عبادة) وكذلك ما يكال، أو يوزن، وأما ابن الماجشون فرأى أن المقصود هو العدل في المبيعات، وحفظ الأموال ليلاً يغبن بعض الناس بعضًا فكان ذلك عامًا في جميع الأموال، ولما كان نفي الغبن، وتحصيل قانون المماثلة والعدل منها (حصرها) الجمهور في الأقوات فقط، لأن الحاجة إليها أهم والمنفعة (بها أعم)(وأنها متقاربة) المنافع المقصود لا يختلف كل الاختلاف، فلذلك كان المطلوب فيها التماثل.

تنبيه: اختلفوا في تعيينا لقياس الذي (يقع به) إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به في حديث عبادة فبعضهم جعله قياس شبه، وجعله بعضهم قياس المعنى فألحق الزبيب بالتمر، لأنه في معناه، وهو قول القاضي أبو بكر بن الطيب، عول على قياس المعنى من حيث كان قياس الشبهة عنده ليس بحجة.

وإذا فرعنا على مذهب مالك رحمه الله وجب تحصيل الربوي من غير الربوي، ومعتمد مذهب مالك أن المطعومات على ثلاثة أقسام: قسم ربوي

ص: 937

بلا خلاف، وقسم ليس بربوي بلا خلاف، وقسم مختلف فيه، فالأول ما اجتمع في الأوصاف الثلاثة (وهو) كونه مقاتًا مدخرًا متخذًا للعيش غالبًا. والقسم الثاني: غير الربوي هو ما لم يحصل فيه واحد منهما كالخص والهندبا والبقول.

والقسم المختل فيه هو ما وجد فيه بعض الصفات دون بعض، والخلاف في ذلك خلاف (في) شهادة، وتنحصر أصول ذلك في مسائل: المسألة الأولى: (اختلفوا في البيض، والمشهور أنه ربوي، وقال الشيخ ليس بربوي).

المسألة الثانية: اختلفوا في التوابل هل هي ربوية أم لا؟ وفي المذهب فيها قولان، وإذا قلنا إنها ربوية فهل هي من جنس واحد، أو أجناس مختلفة (قولان في المذهب) والمختار أنها أجناس مختلفة لاختلاف منافعها وتباين الأغراض (فيها)، ولأنها لا تتمازج في منبت ولا في محصد، قاله القاضي أبو الوليد.

المسألة الثالثة: اختلفوا في الفواكه كالتفاح والكمثرى والمشمش

ص: 938

(ونحوه هل هو ربوي أم لا؟ قولان) في المذهب.

المسألة الرابعة: البلح وهو الرطب قبل طيبه هل هو (علف، أم طعام ربوي، قولان) عندنا والمشهور أنه ربوي.

المسألة الخامسة: ما لا يمر من الرطب، ولا يتزبب من العنب قولان (والمشهور) أنه ربوي.

المسألة السادسة: اختلفوا في اللبن المخيض، والمشهور أنه ربوي لأنه (قوت غالب) الأعراب وقيل إنه ليس بربوي، واتفقوا على أن الحليب ربوي، لأنه فيه (سمن)، والسمن، والإدام ربوي.

المسألة السابعة: (اختلفوا في الحلبة) هل يجري فيها الربا أم لا؟ ثلاثة أقوال فيها قيل إنها ربوية وقيل (إنها) ليست بربوية، وقيل: اليابسة ربوية بخلاف الخضراء.

ص: 939

المسألة الثامنة: اختلفوا في الماء العذب، وجمهور أهل العلم أنه ليس بربوي، وقد استقرئ من قول ابن نافع: أنه ربوي لأنه مشروب متطعم، وبه قوام الأجسام، وربما كانت الحاجة إليه في بعض الأوقات أشد من الحاجة إلى الطعام، فإن أجرينا فيه الربا، فانظر:(هل يجوز) بيع (دار بدار) فيهما عينان تجريان. فيه نظر مبناه على الإتباع هل هي مقصودة أم لا؟ قولان ذكرهما الإمام.

أبو عبد الله، وإنما خصوا (العذب) لأن المالح ليس بمشروب، وقد وقع في بعض الروايات أن الماء ربوي، وظاهره العموم، وقال بعض المتأخرين الرجوع في مثل هذه المسائل إلى العوائد، وهو المفتي أن يحيل عليها، وأن الخروج عن العادة في ذلك وهم.

قال القاضي رحمه الله: «وكل (مسمى) مما يحرم التفاضل فيه فإنه صنف منفرد بنفسه لا يضم إليه سوى أنواعه إلا الحنطة والشعير والسلت فإنها صنف واحد، (واختلف قوله) في القطنية» قلت اتفق المتقدمون من أهل المذهب على أن القمح والشعير والسلت صنف واحد قال الإمام أبو عبد الله لا يختلف المذهب في ذلك، ورأى الشيخ أبو القاسم السيوري

ص: 940

ومن نصر قوله من المتأخرين أن الشعير والقمح (صنفان) وهو أصل مذهب الشافعي، والمعتمد لنا من وجوه:

الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: (الطعام بالطعام مثلاً بمثل) واسم الطعام يشملها قاله القاضي أبو محمد.

الثاني: ما رواه مالك في موطئه أن سعد بن أبي وقاص علف حماره فقال لغلامه: خذ من حنطة أهلك، فاتبع بها شعيرًا (ولا تأخذ إلا مثلها، وعن عبد الرحمن بن الأسود ومعيقيب الدوسي مثله، وروى مسلم: (أنه أرسل غلامه بصاع قمح فقال بعه واشتر به شعيرًا فذهب الغلام وأخذ صاعًا وزيادة بعض صاع، فلما جاء معمر أخبره بذلك فقال لم فعلت ذلك انطلق فرده، ولا تأخذ إلا مثلاً بمثل). ففي هذا دليل قاطع على أنهما جنس واحد.

واعتمدوا من طريق المعن على أنها متقاربان في المنبت والمحصد

ص: 941

(والمقصود) والاقتيات والرفاهة الحاصلة فالحنطة غير مقصودة قصدًا شرعيًا، وربما (ألحقت) بالمكروهات، ولم يكن غاب قوت بالحجاز إلا الشعير فلتفت مالك إلى عوائدهم الغالبة، واعتمد الشافعي على (تقديرها) في حديث عبادة بن الصامت، وذلك دليل على اختلاف أجناسهما لاختلاف أسمائها وصفاتها، واختلفوا هل (يلحق) بالقمح والشعير والسلت العلس وهو الأشقالية أم لا؟ قولان في المذهب أنه ير ملحق بها، وألحقه ابن حبيب، وكذلك الأرز والذرة والدخن ألحقها ابن وهب بالسلت والشعير الحنطة، والمشهور من المذهب خلافه، وقد بينا أن ذلك اختلاف في شهادة. وإذا فرعنا على أن هذا غير ملحق، فهل يكون أجناسًا مختلفة أو جنسًا واحدًا (قولان في المذهب المشهور أنه أجناس مختلفة، وقيل إنها جنس واحد حكاه القاضي أبو الوليد رواية، وحكى القاضي الخلاف في القطاني هل هي جنس واحد أو أجناس مختلفة) وفي مذهب فيه ثلاثة أقوال فقيل: إنه جنس واحد وقيل: أجناس مختلفة، وقيل: إنه جنس واحد في الزكاة احتياطًا، ومختلفة في البيوع. واخلفوا في أجناس (القطنية) هل هي جنس واحد أو أجناس مختلفة، وذلك مع تسليم كونه أصولها واحدة.

قال القاضي رحمه الله: «واللحوم ثلاثة أصناف» : قلت: اختلف الناس في اللحوم على ثلاثة مذاهب، فقال أبو حنيفة: هي أجناس مختلفة والتفاضل فيها

ص: 942

جائز إلا في الجنس الواحد منها فقط، وقال الشافعي هي جنس واحد، وجعلها مالك ثلاثة أجناس، فلحم ذوات الأربع جنس واحد، ولحم الطير كله جنس، وقد روى عنه أن الجراد صنف رابع، قال الإمام أبو عبد الله: والمعروف من المذهب أن بيع بعضه ببعض متفاضلاً جائز، وذكر ابن حارث عن سحنون أن التفاضل فيه ممتنع، لأنه مما يدخر وييبس، واعتمد مالك على أن (هذه الأشياء أجناس مختلفة فلحم كل جنس تابع) لجنسه، وعول الشافعي على اتفاق الاسم، والمنفعة المقصودة غالبًا مع (عموم) قوله صلى الله عليه وسلم:(الطعام بالطعام مثلاً بمثل يدًا بيد).

قوله: «وما غيرته الصنعة من المأكول صار (كجنس آخر)» يريد أن اختلاف المنافع والصنائع المقصودة تصير جنس الواحد جنسين، والضابط أن الصنعة إن كثرت جدًا، وأخرجت المصنوع (عن أصله) فهي معتبرة، وإن قلت فهي غير معتبرة، والجمهور أن طحن الحبوب وعجنها (بعد الطحن) لا يخرجها عن (أصلها) لقلة الصنعة في ذلك، فإن اختبز الحنطة أو أقليت فهل يكون ذلك صنعة أم لا؟ (قولان) المشهور أن الخبر والقلي صنعة،

ص: 943

واختلف المتأخرون هل يجز بيع الخل بالزبيب، والثمر بالعنب والمشهور جواز ذلك بناء على أن الصنعة فيه ناقلة، ومنعه أبو زيد في الثمانية، ورأى أنه من باب المزابنة، وإذا ليس فيه إلا تفريق الأجزاء [فهو] يشبه الطحن. وجعل القاضي الخبز والطبخ (والتخليل)(صنعة)، ويريد الطبخ بالإبزار، وأما السبق (بالماء) وحده، فهل هو صنعة أم لا؟ فيه قولان، المشهور أنه ليس بصنعة، والتجفيف بالشمس، أو بالنار لا يعد صنعة ناقلة.

فرع: إذا قلنا إن طبخ اللحم صنعة فهل المعتبر الطبخ فقط، أو اللحم والمرق فيه قولان في المذهب مبنيان على اختلاف في شهادة، وبناه الإمام أبو عبد الله على الإتباع هل هي مقصودة أو ملغاة.

فرع: اختلف المذهب في بيع الدقيق بالحنطة مثلاً بمثل. وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال: الجواز مطلقًا. والثاني المنع مطلقًا، لأن القمح يختلف ريعه، والثالث جاوزه وزن التحقيق المماثلة لا كيلاً فروى عن مالك جواز القمح بالدقيق في اليسير بين الجيران لضرورة، وكذلك اختلف قوله في العجين بالعجيب والخبز بالخبز متماثلاً فيه قولان عن مالك، المشهور جوازه متماثلاً لحصول المساواة، والشاذ منعه لاختلاف العجين في التعجين بالماء، وهو من باب اعتبار الربا المتوهم، وفيه خلاف، وعبارة شيوخنا في ذلك الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل.

ص: 944

فرع: في الجاف بالجاف، والمشهور جوازه، وقال ابن حبيب: لا خير في القديد بالقديد لاختلاف اليبس، وكذلك المبلول بالمبلول لاختلافه.

فرع: اختلفوا في مد القمح ومد دقيق بمد قمح ومد دقيق، أو في مد قمح ومد شعير بمد قمح ومد شعير، والمشهور المنع، وأجازه محمد إذا تبين الفضل، وذكر القاضي في صرة التفاضل المعنوي أن يبيع صاعًا معقليًا وصاعًا دقل بصاعي برني فالتفاضل بينهما حاصر في المعنى لاختلاف المعنى وهو ممتنع محققًا سواء كان ربا أو متوهمًا، لأن قاعدة المذهب أن توهم الربا كتحققه.

قال القاضي «فأما النساء فهو على ضربين» :

شرح: قد ذكرنا أن النساء محرم في المطعومات، وفي النقدين مع (التماثل) والتفاضل وأما في غير المطعومات وغير النقدين فتحريم النسيئة في ذلك مع التفاضل (في الجنس الواحد) مثل أن يبيعه ثوبًا بثوبين إلى شهر، فذلك سلف بزيادة، وإن باعه كثيرًا بقليل فهو ضمان بجعل، (وأصل مذهب ملك رحمه الله سد الذرائع) وحمل الناس على التهمة، واعتبار ما مذهب ملك رحمه الله سد الذرائع) وحمل الناس على التهمة، واعتبار ما

ص: 945

يدخل اليد، وما يخرج منها، ولذلك ينظر إلى (أفعال) المتعاقدين، وما يخرج من أقوالهما لا إلى نفس الأقوال، وخالف الشافعي في هذه القاعدة، (ودلائل) المذهب معلومة مبناها على اتهام الناس، والاحتياط للدين.

قال القاضي رحمه الله: «فضل والمزابنة» : قلت اشتقاق المزابنة من الزبن وهو الدفع، لأن كل واحد من المتبايعين يريد مدافعة صاحبه ومغابنته، وهي جارية في الربويات وغيرها من الجنس الواحد، ويجمعها بيع معلوم بمجهول، (أو مجهول بمعلوم، أو مجهول بمجهول) من جنسه، فإن كان المبيع من جنس الربويات كان فيه الربا والمزابنة، وإن كان من غير الربويات كانت فيه المزابنة فقط لاحتمال أن يكون أحدهما أكثر من الآخر، وذلك كاف في التحريم، فإن تحققت الزيادة، (وتبين التفاضل) في غير الربويات جاز، وخرج بتحقيق الزيادة عن باب المزابنة، وأجاز بيع الرطب بالرطب مع (اختلاف) الرطوبة، وقد ذكرنا الخلاف فيه، وأصل المذهب أن التساوي فيما يطلب فيه شرعًا، التساوي مطلوب في الحال والمآل، لذلك قلنا إن ما تقع فيه المعاوضة إما أن يكونا رطبين أو يابسين أو أحدهما رطبًا والآخر يابسًا، فإن كان رطبين فلا يخلو أن تكون الرطوبة هي غاية طيبها أم بعدها غاية أخرى فإن كانت (تلك) الرطوبة في الغاية فلا خلاف (في المذهب) في

ص: 946

جواز ذلك مثلاً بمثل لأن التساوي المطلوب حاصل كالزيتون بالزيتون، (والملح بالملح)، وإن كانت بعدها غاية أخرى، ففي المذهب فيه قولان أجازه مالك، ومنعه عبدا لملك، وذلك كالرطب بالرطب والعجين بالعجين، وإن كانا يابسين جاز متساويًا (وإن كان ربويًا) أو مطلقًا إن كان غير ربوي يدًا بيد وإن كان أحدهما رطبًا والآخر يابسًا فهو الذي نص عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبر فيه المآل فقال صلى الله عليه وسلم:(وقد سئل عن (بيع) الرطب بالتمر (قال) أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذن) وهذه أول مسألة سئل عنها أبو حنيفة حين دخل بغداد، وأخطأ النص وعدل إلى القياس، وقال: إن كانا جنسين جاز متفاضلاً أو متساويًا، وإن كان جنسًا واحدًا جاز التساوي في الحال، وغفل عن اعتبار المآل، وخالفه في ذلك صاحباه، وهذا الحكم عندنا جاز في كل رطب بيابس من جنسه، وأجاز القاضي اللبن باللبن إذا كانا حليبًا أو مخيضًا، وأما الحليب بالمخيض أو المخيض فلا يجوز، لأن ذلك داخل في باب المزابنة.

فرع: إذا وجب اعتبار المماثلة وفقد المكيال والميزان رجع إلى التحري، وجرى مجرى الكيل والوزن. واختلفوا في فروع.

ص: 947

الأول: إذا أجزنا التحري (في اللحم) فهل يتحرى اللحم نقيًا من العظم ويقدر قدره بعد (زوال) العظم منه أو لا يلتفت إلى العظم، ولا يعتبر قولان في المذهب والمشهور نفي الالتفات إليه، لأنه موجود في أصل الخلقة، وبه قوام اللحم فأشبه النوى، والقول الثاني: أنه يزال فيتحرى اللحم دونه حكاه الشيخ أبو إسحاق، وكذلك اختلفوا في قشر البيض هل يعطي حكم العدم فلا يدخل في التحري ويراعي ويقدر إسقاطه قولان أيضًا، وهذا بناء على أن البيض ربوي، وعلى جواز بيع بعضه ببعض تحريًا، وقد ذكرنا الخلاف فيهما.

فرع: اختلفوا في الجلد هل يعتبر نزعه إذا تحرينا لحم الشاة المذبوحة بمثلها أم لا؟ قولان:

أحدهما: أن الجلد ساقط غير معتبر كالقشر، وقيل: إنه معتبر، وفي المذهب (قول آخر) أنه لا يجوز التحري في الشاتين المذبوحتين حتى يستثنى (

) كل واحد منهما جلده بنفسه، لأنه سلعة ولحم بسلعة ولحم فصار كذهب وسلعة بذهب وسلعة، والمذهب منعه.

فرع: إذا أجزنا (الخبز) بالخبز تحريًا فهل يتحرى الدقيق أو رطوبة الخبز ويبوسته في المذهب قولان، ورواية المتقدمين تحري الدقيق، ورأى القاضي أبو الوليد أنه إنما يتحرى الخبز في نفسه كالدقيق.

قال القاضي رحمه الله: «فصل الأعيان المبيعة ضربان طعام وغير طعام» :

شرح: تكلم في هذا الفصل على بيع الطعام قبل قبضه، وقد ثبت عن

ص: 948

النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن ذلك وأرخص في الإقالة والشركة التولية. وثبت عنه- صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما لم يقبض، وربح ما لم يضمن وقد اختلف العلماء في تفسير نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، فروى محمد بن المواز عن مالك، وأكثر أهل المدينة أنه مخصوص بالطعام المشترى كيلاً لا جزءًا لأن

ص: 949

الجزاف يدخل) في ضمان المشتري بنفس التسليم والقبول. وقال جمهور أهل المذهب إنه عام في الطعام وغيره. (وصورة ربح ما لم يضمن) أن يبيع الرجل ملك غيره بغير إذنه، ثم يشتريه البائع من مالكه الأول بدون ما باعه به، وذلك ممنوع، لأنه من ربح ما لم يضمن.

واتفق مالك، وأكثر أصحابه على القبض مشترك في الطعام فقط، فلا يباع (الطعام) قبل قبضه، ويباع ما عداه قبل القبض، وقال عبد العزيز بين أبي سلمة، وعبد الملك بن حبيب القبض شرط في جواز كل مكيل أو موزون، لأن فيه حق التوفية كالطعام وسوى القاضي (بين) ما ينقل وما لا ينقل في جواز بيع ذلك قبل قبضه تنبيهًا على مذهب أبي حنيفة لأنه اشترط القبض في كل مبيع سوى العقار فقط، وقول القاضي:«ما لم يعرض فيه (مانع)» فيه إشكال. (وقراءته) غير مرتبة فذكرت فيه أنه إشارة إلى أصل المذهب في حماية الذرائع، وذلك فيما إذا اشترى سلعة فلا يجوز له أن يبيعها من بائعها قبل قبضها بأكثر من ثمنها خيفة من أن تصير السلعة محللة (وكأنها لغو، يدفع) في المعنى) عشرة في خمسة عشر وهو محرم، لأنه ربح في السلف، فمنع بيع ما عدا الطعام في هذه الصورة قبل

ص: 950

قبضه لعارض وهو قصد الربا (أو توهمه)، وكذلك إذا بيع (ذلك) قبل قبضه بأي وجه من وجوه الربا كالدين بالدين، أو البيع والسلف فيمنع في غير الطعام لعارض، وكذلك إن عرض في الطعام نحو ذلك، فيحرم لعلتين، إذ الحكم الشرعي قد يكون معللاً بعلل كثيرة، وإنما قصر مالك الحكم على الطعام فقط لأنه المنصوص عليه في الحديث. فدل على أن ما عداه بخلافه، وإذا قلنا إن المنع مقصور على جنس الطعام فهل هو عام في جنسه، أو مخصوص بالربوي دون ما عداه في المذهب قولان أحدهما انه عام في الربوي وغير الربوي، وروى ابن وهب وابن نافع عن مالك أنه مخصوص بالربوي فقط، والأول أصح تمسكًا بمقتضى (عموم) لفظ الطعام إلا أن يثبت التخصيص بدليل، وإذا قلنا إنه مخصص بالأطعمة (كلها) فهل ما كان من الأدوية والعقاقير (داخل) في ذلك أم لا؟ وقد اختلفت الرواية في الكزبور (والكروياء) والفلفل وما في معناهما من التوابل هل يلتحق بالطعام أو بالأدوية قولان في المذهب، ففي المدونة إلحاق ذلك بالأطعمة، وفي مختصر ابن شعبان إلحاقه (بالعقاقير) والأدوية، وكذلك اختلفوا في الحبة الحلوة والحلية، فابن القاسم ألحقها بالأطعمة، وألحقها أصبغ، ومحمد بالأدوية، قال سحنون

ص: 951

وأجمعوا كلهم على أن الزعفران ليس بطعام، والخردل طعام وهذا فيه نظر.

فرع: إذا قلنا أن القبض شرط في بيع الطعام فقط فهو جار فيما فيه (حق التوفية) وأما الجزاف فاختلفوا في جواز بيعه قبل قبضه، فأجازه مالك والأوزاعي لأنه داخل في ضمان المشتري بنفس العقد بخلاف ما فيه (حق) توفية، ومنع ذلك أبو حنيفة والشافعي لعموم نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيعه قبل قبضه، (ومبنى) الخلاف على تخصيص العموم بالقياس المظنون العلة.

قوله: «إلا أن يكون على غير وجه المعاوضة» قلت الطعام إما أن يثبت من معاوضة أو من غير معاوضة، أو متردد بينهما، والمعاوضة تنقسم على ثلاثة أقسام:

الأول: معاوضة يقصد فيها المغابنة والمكايسة كالبيع والإجارة والمهور والصلح، والمال المضمون بالتعدي والخلع ونحو ذلك، فلا خلاف في المذهب أن هذا النوع لا يباع قبل قبضه.

والثاني: المعاوضة متخصصة للمكارمة والرفق كالقرض والبدل فلا خلاف في المذهب في جواز بيع هذا الطعام قبل قبضه، واختلفوا فيما

ص: 952

(يصح) فيه كلا الوجهين كالشركة، والإقالة، والتولية، فأصل المذهب جواز الإقالة» من الطعام قبل قبضه (لما ثبت) من (مراسيل) ابن المسيب أنه صلى الله عليه وسلم:(نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والإقالة والتولية) وذلك لأنها جارية مجرى المعروف، وخارجة عن باب المكايسة إلى باب (المعروف) والمكارمة. وقد اختلف المذهب في الإقالة هل هي حل للبيع أو ابتداء البيع، والأول أصح، (وأما الإقالة في الطعام مما) ثبت من غير معاوضة كالهبة والصدقة والميراث، ولا خلاف في المذهب في جواز بيعه قبل قبضه لخروجه عن مورد النص، وأما ما ثبت للأجناد في بيت المال من الطعام فهل يجوز لهم بيعه قبل قبضه (لأنه) كالهبة أو يمنع ذلك تغليبًا لحكم المعاوضة لأنهم إنما يستحقونه عوضًا عن خروجهم للغزو وذبهم عن المسلمين قولان فيه في المذهب.

فرع: إذا ملك طعامًا بهبة، أو صدقة جاز بيعه قبل قبضه كما ذكرناه، فإن ابتاع طعامًا (قبل قبضه) جاز له أن يهبه قبل قبضه، ولا يجوز لمن صار

ص: 953

إليه أن يبيعه (قبل قبضه) لأنه قائم مقام الواهب.

فرع: إذا قلنا بجواز الإقالة من الطعام، وكان رأس المال عينًا مما يقضي فيه بالمثل فهل تجوز الإقالة فيه على مثل رأس المال لا على عينه، منعه ابن القاسم لاحتمال خروجه عن باب المعروف إلى باب المعاوضة برد المثل، ورأى أن حقيقة الإقالة رد الأعيان نفسها أجازه أشهب لأن المثل كالعين، ومبنى المسألة على الدنانير والدراهم هل تتعين أم لا؟.

فرع: إذا اشترى طعامًا فأشرك فيه قبل قبضه أو ولاه ففي المذهب في ذلك قولان الظاهر الجواز كالإقالة، لأن مورد النص عدل بدليلهما والشاذ اختصاص الجواز بالإقالة فقط دون الشركة والتولية، وهو ضعيف بالنظر إلى مقتضى الدليل اللفظي.

فرع: إذا أشرك في البعض، أو أقال في البعض لم يجز، لأن التبعيض يخرجه عن حقيقة باب المعروف ولو قبض بعضه وبقي بعضه جاز تولية ما قبض (والشركة) فيه دون من لم يقبض، لأن قصد المعروف في ذلك ظاهر، فإن أشرك فيما قبضه، وفيما لم يقبض لم يجز لخروجه عن باب المعروف إلى باب المكايسة، وفي ذلك خلاف في المذهب.

قال القاضي رحمه الله: «وكل مبيع هلك قبل قبضة فهو من المشتري إن كان متعينًا متميزًا» : إلى آخر الفصل.

شرح: أصل المذهب أن العقد على الحاضر ينقل الضمان فيه إذا لم يكن في المبيع حق توفيه. وحكم العهدة غير ناقض لهذه القضية الكلية لأنه خارج عن القياس فهل يشترط فيه التمكين (وأن يمضي زمان يمكن التسليم

ص: 954

فيه، أو يكتفى بلفظ التعاقد والإيجاب قولان في المذاهب ونصوص المتقدمين أن العقد في ذلك كاف في نقل الضمان، وأما الجزاف يباع على الكيل فلا يدخل في ضمان المشتري إلا بالقبض، واختلف (المذهب) في (المكيال والميزان) يهرق بنفس امتلائه هل يكون من البائع، أو من المشتري قولان.

قوله: "وبيع الطعام وسائر المكيلات جزافا": قلت الضابط: (فيما يجوز) بيعه جزافًا، إن كل ما (يكون) المقصود منه جملة لا آحاد أعيانه جاز بيعه جزافًا، وكل ما يكون المقصود آحاد أعيانه، فلا يجوز بيعه جزافًا، وتفصيل ذلك أن المكيلات والموزونات يجوز بيعها جزافًا. وأما المعدودات، فإن قلت أثمانها جاز بيعها جزافًا، وإن كثرت أثمانها، واختلفت آحادها اختلافًا كثيرًا كالجواهر والثياب، لم يجز بيعها جزافًا، وأما العين فهل تباع جزافًا أم لا؟ فيها تفصيل إما أن تكون مصوغة، أو مسكوكة، (فإن كانت مصوغة)، فانظر هل المقصود آحادها، أو جملتها، وذلك إحالة على شهادة وإن كانت مسكوكة فلا يخلو أن يكون التعامل فيها وزنا، أو عددًا، فإن كان التعامل فيها عددًا ففي جواز بيعها جزافًا قولان في المذهب التحريم، وهو المشهور، وحكى القاضي أبو الحسن فيه الكراهة لقلة الغرر، وتماثل الآحاد، وإن كان التعامل فيها وزنًا فيها يجوز بيعها جزافًا أم لا؟ قولان في المذهب: الجواز، والمنع، واختلفوا هل منع كراهة، أو تحريم.

ص: 955

قوله: "ومن شرط جواز (بيع الجزاف) تساوي المتعاقدين في الجهل بمقداره": قلت: وهذا كما ذكره لأنه إذا علم أحدهما مقداره (غلب القمار) والمخاطرة، وقد اختلف المذهب في (هذا الأصل)، وهو علم أحد (المتعاقدين هل يؤثر في فساده أم لا؟ ويجوز بيعه على تصديق البائع نقدًا، ومنعه في بيع النسيئة خوفًا من تطرق الربا إليه لاحتمال أن يجد) نقصًا في الكيل قيتركه رجاء الصبر عليه، فيكون (مرة) عليه سلفًا جر منفعته.

قال القاضي رحمه الله: "بيع الثمار بعد بدو الصلاح جائز مطلقًا"

شرح: بيع الثمار إما أن يكون قبل بدو الصلاح، أو بعده، فإن كان بعده فلا خلاف في جوازه مطلقًا، وإن كان قبله فلا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن (يشترط) التبقية، (أو يشترط القطع، أو يكون عاريًا من الشرطين، فإن اشترط التبقية) فلا خلاف في المذهب في فساد البيع لخوف العاهات والغرر، فإن تطوع المشتري بالقطع فسد البيع (لا محالة اعتبارًا بحكم انعقاده، وإن) شرط القطع جاز البيع بلا خلاف عندنا، وفي العقد المطلق روايتان: الفساد، والصحة، رواية البغداديين عن المذهب الفساد، وهو اختيار الشيخ أبي محمد بن أبي زيد، وأبي إسحاق التونسي، واختار الشيخ أبو الحسن

ص: 956

اللخمي، والشيخ أبو القاسم بن محرز الصحة، ويجبر المشتري على القطع، واستقرئ ذلك في الكتاب. وأختلفوا في فروع:

الأول: إذا اشترى الشجرة في صفقة، ثم اشترى الثمرة (في صفقة) قبل طيبها، صح البيع وذلك كما لو اشتراهما في صفقة واحدة، لأن الثمرة تبع، ومنع ذلك ابن عبد الحكم، والمغيرة، وابن دينار.

فرع: إذا اعتبرنا بدو الصلاح فهو معتبر في كل نوع يطيب بعضه، وهل يتعدى إلى الحوائط المتعددة له، لأنها في حكم الحائط الواحد لإمكان هدم الجدار، أو يعتبر كل واحد من الحوائط بحكم نفسه قولان في المذهب (وأصل المذهب) إجراء ذلك في النوع الواحد مطلقًا لتقارب الوقت غالبًا، واختلفوا هل يباع نوع بطيب آخر أم لا؟

والجمهور أن كل نوع معتبر بنفسه، وشد الليث وغيره فجعل طيب نوع جاريًا في غيره وسار إليه.

فرع: إذا قلنا إن طيب بعض النوع معتبر في باقي ذلك النوع فهم فيما يتقارب زمانه، وأما الباكور الذي لا يتقارب زمانه، فلا يباع جميع النوع بطيب أوله لتباعد الزمان.

فرع: إذا كانت الأشجار مما يطعم بطنين في سنة واحدة، ففي جواز بيع البطن الثاني ببدو صلاح الأول روايتان: الظاهر، المنع، وظاهر كلام

ص: 957

القاضي جوازه، ويكون للمشتري إلى آخر إبانه، واشترط أصحابنا في (بيع) بطون الموز أن يضرب الأجل لآخره، (لأنه يبقى سنين عديدة فيحتاج إلى مدة معلومة)، وأجاز مالك أن يباع أول بطن من القرظ والقضب ونحوه بطيبه، واختلفوا هل يجوز اشتراط الخلفة أم لا؟ وتحصيل المذهب في ذلك أنها إن كانت غير مأمونة فلا يجوز اشتراطها بلا خلاف، وإن كانت مأمونة فهل يجوز اشتراطها أم لا؟ قولان في المذهب فإذا أجزنا اشتراطها، فهل يشترط خلفات معدودة أو يجوز اشتراطها إلى أن تفنى قولان في المذهب المشهور اشتراط العدد وأجاز الشيخ أبو القاسم بن الجلاب اشتراطها إلى أن تفنى.

قوله: "ولا يجوز شراء الكتان إذا استثنى البائع حبه، ولا القرظ واستثنى برسيمه".

وهذا كما ذكره، وهو مبني على أصلهم في المستثنى هل هو مبقى على ملك للبائع أو [الـ] مشتري والأصل مختلف فيه، وبيع الحنطة في سنبلها ممنوع، لأنه بيع ما لم تعلم صفته، وأجاز بيع الباقلاء، والجوز، واللوز، في قشره جريا على العادة واختلفوا في جواز بيع السنبل مع حبه فأجازه جمهور العلماء من أهل المدينة، ومنعه الشافعي لأنه من باب الغرر كبيع

ص: 958

الزرع في تبنه بعد درسه، (وأجاز مالك بيعه في تبنه بعد درسه) جزافًا، والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور ما رواه نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض وتأمن العاهة، نهى البائع والمشتري"

قوله: "ومن باع أصل نخل وفيها ثمر مؤبرة فثمرها للبائع": قلت: اختلف الفقهاء في الثمار هل تتبع الأصول أم لا؟ فقال أبو حنيفة الثمرة للبائع قبل الإبار وبعده، ولا تتبع الأصول عنده بحال، وقال ابن أبي شبرمة هي للمشتري مطلقًا أبرت أم لا، وهذا بناء على (نفي) التبقية المحضة، وفرق مالك بين أن تؤبر أم لا؟، فإن أبرت فهي للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، وإن لم تؤبر فهي للمشتري بالعقد من غير شرط اعتمادًا على ما رواه ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع).

ص: 959

فرع: اختلفوا إذا أبر بعضها دون بعض، (تحصيل) مذهب مالك أنهما إن كانا متساويين أعطى كل واحد منهما حكمه، وإن كان إحداهما تبعًا فهل يعطى حكم نفسه أو حكم متبوعه قولان. (كما حكى) القاضي، وإبار الزرع فركه، وقيل: ظهوره، وبالأول قال ابن القاسم.

قوله: "والزرع الصغير (إذا لم يظهر) إذا بيعت الأرض وسكت عنه، فقيل للبائع، وقيل للمشتري"، قلت: إذا أطلق لفظ البيع في الأرض فقد نصوا على أن البناء والشجر مندرج تحت الأرض، واتفقوا على أن الظاهر من الزرع الذي أفرك، أو قارب الإفراك غير داخل. واختلفوا في الذي لم يظهر لصغره، أو فيما ظهر ولم يتبين ظهوره، وفي الحجارة هل تندرج) تحت لفظ الأرض أم لا؟ والمعول عليه أنها إن كانت مخلوقة في الأرض اندرجت، واختلفوا إن كانت مدفونة لدافن، والخلاف فيه مبني على الخلاف فيمن ملك ظاهر الأرض هل يملك باطنها أم لا؟ قولان، وكذلك لفظ البستان تدخل فيه الأشجار، ولفظ الدار لا يتناول المنقولات وإنما يندرج تحت (الثوابت)

ص: 960

كالأبواب والأشجار، (والرفوف) والسلاليم المبنية بالمسامير، وبالطين دون المحلولة، وسنذكر حكم مال العبد في التبعية، (وأصل المذهب) أنه لا يتبع إلا بالشرط.

قوله: "وبيع الثمار على رؤوس النخل جائز فإن استثنى بعضه فعلى وجهين"، قلت: اتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يبيع الرجل ثمر حائطه، ويستثنى ثمر نخلات معينة. واختلفوا هل يجوز أن يستثني منه كيلاً معلومًا، فمنع من ذلك فقهاء الأمصار لانه من باب الثنيا فاتقوا فيه الغرور (لأنه استثناء) مكيل من جزاف، وأجازه مالك وأهل المدينة في الثلث فما دونه، ومنعوه فيما فوق الثلث، وكذلك اختلفوا في الصبرة تباع جزافًا هل يجوز أن يستثني منها كيلاً معلومًا، فمنعه الجمهور، وأجازه مالك، كالنخل، وأجاز أيضًا استثناء الجلد والسواقط من الأطراف التي لها قيمة يسيرة من الحيوان الذي لا يجوز ذبحه، واختلفوا في استثناء ما له قيمة، والمشهور المنع، وأجاز ابن حبيب أن يبيع الشاة، ويستثني الرأس والأكراع، واختلف قول مالك إذا استثنى منها أرطالاً معلومة، فروى عنه

ص: 961

ابن وهب منع ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنه أجازه في الأرطال اليسيرة فقط (والجمهور) على الامتناع كالصبرة (وثمرة) الحائط يستثني منها مكيله.

قال القاضي رحمه الله: "فصل في العرية": اختلف أهل اللغة لم سميت بذلك، فقيل: لأنها عريت من الثمن، وقيل: لإعراء النخل عن الثمرة بالهبة، وقيل: لإعرائها من المساومة عند البيع، وقيل: هي مشتقة من قولهم عروت الرجل إذا قصدته تلتمس معروفه، والعرية في الشرع إعطاء الثمرة على وجه مخصوص، وقال القاضي: العرية أن يهب الرجل ثمرة نخله أو نخلات من حائطه لرجل قال الأبهري: وهي من فعل المعروف، واتفق العلماء على أنها خارجة عن الأصول مستثناة من أصول ممنوعة، واختلفوا في وجه الرخصة فيها، فقال مالك: الرخصة فيها للمعري خاصة من وجوه، لأنه فيها أنواعًا من المزابنة والتفاضل في الحال والمئال والتسمية (وبيع الطعام بالطعام إلى أجل)، وقال الشافعي الرخصة فيها للمعري، ولغيره من كل من أراد شراؤها للضرورة (إلى أكل الرطب، وقال أبو حنيفة: الرخصة فيها

ص: 962

من حيث إن فيها رجوعًا في الهبة على صفة مخصوصة) إذا كان الموهوب لم يقبضها، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية أن تباع بخرصها تمرًا يأكلها أهلها رطبًا وفي هذا دليل على أن الرخصة فيها عامة لأن كل من اشتراها فهو من أهلها، وقيل: هو للمعري فقط، وإذا قلنا بمذهب مالك فلها خمسة شروط:

الأول: أن تزهى.

والثاني: أن تكون أقل من خمسة أوسق روايتان للشك الواقع في الحديث المتضمن جوازها، ولا خلاف في امتناع ذلك في الزائد عليها.

والثالث: أن يشتريها بالتمر، فإن اشتراها بالعين فهل يجوز يجوز أم لا؟

قولان المشهور المنع قصرًا للرخصة على موردها، والشاذ الجواز ملاحظة لمعنى الترخيص وهو قول (المخالف).

والرابع: أن تكون التمرة مؤجلة إلى الجذاذ فإن عجلت بشرط لم يجز، ولو تطوع بتعجيله بعد العقد جاز، وإنما اعتبرت هذه الشروط لأن باب الرخصة أن تقصر على ما وردت عليه، ولا يخرجها عن ذلك، وأوجب الشافعي أن يعطي التمر نقدًا فإن أخرت لم يجز عنده، فإذا ثبت جوازها فهي مقصورة على النخل والعنب عند مالك، وروى عنه أنها جائزة فيما ييبس ويدخر كالجوز واللوز والتين (والفستق) وغيره، واختلف المذهب في وضع

ص: 963

الجوائح فيها على قولين قال ابن القاسم فيها الجائحة. وقال أشهب ليس فيها جائحة.

تنبيه: عجبًا (من أبي حنيفة كيف جوز) العرية وجعلها من (أصول) مستثناة في النهي عن الرجوع في الهبة، ولم يقع فيها استثناء من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يجعلها مستثناة مما استثناه الرسول صلى الله عليه وسلم. وههنا فروع تتعلق بالعرية:

الأول: إذا تعددت الحوائط فأعراه من كل واحد منها قدر خمسة أوسق فما دون، فهل يجوز أن يشتري من كل واحد خمسة أوسق اعتبارًا له بحكم نفسه، أو يجعل جميعها كالحائط الواحد فلا يشتري من جميعها إلا خمسة أوسق فيه ثلاثة أقوال بين المتأخرين فاختار الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وتلميذه أبو بكر بن عبد الرحمن أنها كالحائط الواحد، ورآى الشيخ أبو الحسن بن القصار أن لكل واحد منها حكم نفسه، فيشتري من كل واحد منها خمسة أوسق، وفرق الشيخ أبو القاسم بن الكاتب قال: إن كانت العواري كلها بلفظ واحد، في زمان واحد، فالحوائط المختلفة كحائط واحد، وإن كانت في أوقات مختلفة بألفاظ مختلفة أعطى كل واحد حكمه.

المسألة الثانية: شراء المعري بعض عريته هل يجوز أم لا؟ فيه قولان مبنيان على تحقيق العلة.

المسألة الثالثة: إذا أعرى جماعة شركاء في حائط واحد عرية فهل يجوز لأحدهما أن يشتري حظ الآخر من العرية أم لا؟ قولان، منعه ابن الماجشون

ص: 964

لخروجه عن محل الرخصة، وأجازه غيره.

المسألة الرابعة: اختلفوا في زكاة العرية والهبة، فقيل: على الموهوب والمعرى، (وقيل: على المعري)، وكذلك اختلفوا في السقي، فقيل: على المعرى، وقيل: على المعري، وقال: محمد لا خلاف أن السقي على المعرى، والخلاف صحيح مبناه على لفظ العرية هل يقتضي التزام الزكاة، والسقي أم لا؟ وهو الصحيح.

المسألة الخامسة: اختلفوا في حوز العرية، فقيل: الإبار، وقيل: تسليم الرقبة قاله أشهب في كتاب محمد، وقال ابن حبيب: لا يتم حوزها (إلا باجتماع أمرين أن يكون في النخل ثمرة، وأن يقضيها الموهوب).

قال القاضي: "والجوائح (موضوعة) " إلى آخره.

شرح: اختلف الناس في وضع الجوائح فقال مالك: وأصحابه بوضعها، (وأنكرها) أبو حنيفة، والشافعي، والثوري، والليث، والدليل على وضعها ما خرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اتباع تمرًا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئًا فبم يأخذ أحدكم من

ص: 965

مال أخيه) الحديث، ومن طريق المعنى أنه مبيع بقى على البائع فيه حق توفيه السقي، فكان ضمانه منه كالصبرة تشتري على الكيل، وضعف الشافعي حديث جابر، وكان يقول أنه اضطرب في ذكر الجوائح فيه، قال: فإن ثبت حديثه وجب وضعها في القليل والكثير. واحتج من أسقط القضاء بحديث أبي سعيد الخدري قال: أجيح رجل في ثمار ابتاعها، وكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(تصدقوا عليه فتصدقوا عليه فلم يبلغ وفاء دينه فقال صلى الله عليه وسلم لغرمائه خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك) ولحكمه صلى الله عليه وسلم بالجائحة، وزعم بعض أهل العلم أن الأمر بوضعها كان قبل النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وتأول مالك وأصحابه حديث أبي سعيد على أن البائع عديم، أو على أن المقدار الذي أصيب من التمر حينئذ لا يقضى فيه بالجائحة لقلته، أو على أن تكون الجائحة أصابت الثمرة بعد طيبها وبعد جذاذها، ولا يقضى بالجوائح التي تصيب حينئذ، وهذه تأويلات لا عاضد لها.

فصل: إذا ثبت القضاء بالجوائح فذهب معظم الثمرة لزم المشتري بقية الثمرة بحصتها من الثمن بخلاف الطعام يشتري على الكيل، ثم يذهب معظمه فلا يلزم المشتري باقية، لأن الجوائح معتادة في الثمار، فالمشتري قد دخل

ص: 966

عليها بخلاف الاستحقاق، أو نقص الطعام، فإذا تقرر ما ذكرناه، فالقول في الجوائح ينحصر في فصول:

الفصل الأول: فيما يعد جائحة وما لا يعد.

الفصل الثاني: في محلها في المبيعات.

والفصل الثالث: في قدرها.

والفصل الرابع: في زمان القضاء بالجائحة.

والفصل الخامس: في كيفية الرجوع.

فأما الأول فيما يعد جائحة، فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال ابن القاسم الجائحة ما لا يستطاع دفعه وإن علم به، وقال مطرف وابن الماجشون الجائحة ما أصيب الثمرة من السماء، وأما ما كان من صنع الآدمي فليس بجائحة.

وتحصيل (المذهب) فيها على أنها (على وجهين أحدهما أن تكون من فعل الله تعالى، والثاني من فعل الآدمي فالأول) على وجهين إما أن تكون من قبل الماء، أو من قلته، فإن كان من قبل الماء) وقلته كالعطش، فاتفقوا على أنها جائحة، وهذا القسم من أقسام الجوائح. اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة على القضاء بها، ويوضع قليله وكثيره بلا خلاف عندنا (وإن كان) من قبل الماء لكثرته فهو نوع من العفن. قال ابن القاسم يوضع قليله وكثيره وأما ما كان من فعل الله، وليس من قبل الماء كالبرد الشديد، والحر، والريح، والعفن والجراد، وانكسار الأشجار فلا خلاف عندنا أنها جائحة. وأما ما كان من فعل الآدمي فلا يخلو أن يكون مما يستطاع دفعه

ص: 967

كالسارق، أو مما لا يستطاع دفعه كالجيش، والخلاف في القسمين منصوص في المذهب، ومذهب ابن القاسم أن الجيش والسارق جائحة، وقال صلى الله عليه وسلم:(أرايت إن منع الله الثمرة) وظاهر ذلك اختصاصها بالأمور السماوية، وهو قول مطرف وابن الماجشون.

الفصل الثاني: في محلها وهي (جارية) في الثمار بلا خلاف، وهل تجري في البقول، سيأتي القول فيه، وتحصيل القول الكلي فيها أنها جارية في كل ما يحتاج إلى بقائه في أصوله لتمام إصلاحه، واستكمال طيبه كالتين والعنب، والخوخ، والزيتون، والرمان، والياسمين، والورد، ونحوهما ما له ساق (ثابت) وأما ما لا يحتاج إلى بقائه في أًوله (كالتمر اليابس، والزيتون المستكمل فلا جائحة اتفاقًا، لأن طيبه قد كمل، واختلف الرواية في قسم ثالث دائر بين القسمين وهو ما احتيج إلى بقائه في أصله لحفظ) نضارته لا لتمام صلاحه (هل يقضى فيه بالجائحة أم لا؟، فروى أصبغ عن ابن القاسم ما يدل على أنه لا جائحة فيه بناء على أن المراعى كمال الصلاح)، ومقتضى رواية سحنون أن الجائحة موضوعة فيه، واختلفوا في البقول هل توضع فيها الجائحة أم لا، قولان مشهوران، في المذهب وإذا قلنا إنها توضع فيها، فهل هي معتبرة فيها بالثلث كالثمار أم توضع في قليلها وكثيرها قولان مشهوران أيضًا.

الفصل الثالث: في قدرها، والمعتمد عليه في مذهب مالك أنها

ص: 968

(إنما) توضع إذا بلغت الثلث (فإن قصرت عنه فلا توضع وقد ذكرنا الاتفاق في العشر، والاتفاق في البقول، وإذا قلنا باعتبار الثلث) فهل المقصود ثلث القيمة، أو ثلث المكيلة فيه تفصيل، تحصيله أنه إن كان مما يحبس أوله على آخره، وتختلف قيمته بحسب أوله وآخره، فالمعتبر فيه ثلث القيمة اتفاقًا، (وإن تساوى) ولم يكن مما يحبس أوله على آخره، فهل المعتبر ثلث المكيلة، أو ثلث القيمة قولان في المذهب والصحيح من مذهب ابن القاسم اعتبار ثلث المكيلة، ومذهب أشهب اعتبار ثلث القيمة، لأنها المقصود من المكيلة. واختلفوا في فروع:

الأول: إذا كانت الثمار أجناسًا مختلفة فوقعت الجائحة فهل يعتبر كل جنس على حدته، أو تكون الجائحة المقدرة بالثلث معتبرة بالجميع قولان في المذهب، وهل يعتبر في ذلك ثلث المكيلة أو ثلث القيمة، فيه أيضًا ما قدمناه.

فرع: إذا تزوج امرأة بثمرة فأجيحت فهل يقضي بالجائحة في ذلك البيع أم لا؟ لأنه من عقد معاوضة ومكارمة قولان. قال ابن القاسم: لا جائحة فيه، وقال ابن الماجشون: فيه الجائحة كالرد بالعيب، وقد ذكرنا الخلاف في العرية هل يقضي فيها بالجائحة أم لا؟ على قولين في المذهب.

الفرع الثاني: إذا باع ثمر حائطه، واستثنى منه مكيلة معلومة، ثم أجيحت الثمرة فهل توضع من العدد المستثنى بقدره أم لا؟ فيه قولان في المذهب.

(قال ابن وهب لا يوضع من ذلك قيلاً أو كثيرًا، وروى ابن القاسم وأشهب أنه يوضع عنه بقدره) وقال ابن القاسم مرة أخرى إن قصرت الجائحة عن

ص: 969

الثلث لم يوضع (عن المشتري) شيئًا، وإن بلغت الثلث وضع عن المشتري بقدره.

الفرع الثالث: إذا اشترى الأصل والثمرة في صفقة واحدة فلا جائحة، لأن الثمرة تبع، ويجري الخلاف فيها على الخلاف في الاتباع (هل يراعى) وإن اشترى الأصل، ثم اشترى الثمرة فإما أن تكون بعد بدو الصلاح أو قبله، فإن كان بعد بدو الصلاح فالعقد صحيح، وفي وضع الجائحة قولان مبنيان على الاتباع، وإن كان قبل بدو الصلاح ففي صحة العقد قولان: الظاهر الفساد، ومن (أجاز ففي) وضع الجائحة حينئذ قولان، وإن اشترى الثمرة أو لا، ثم (أتبعها) الأصل نظرت فإن كان الشراء قبل طيب الثمرة فالبيع فاسد، ولا جائحة حينئذ إلا أن يشتريها على القطع، ثم يتبعها الأصل من غير تراخ، فالتبقية جائزة، وإن كان بعد طيبها، فالجائحة موضوعة فيها (لأنها مقصودة).

قال القاضي رحمه الله: "قد بينا (تحريم) التفاضل في الجنس الواحد".

شرح: تكلم في هذا الفصل على (جمل) من أحكام الصرف، وهو مشتق من الصريف، وهو الصوت وسمى بذلك لتصويت (النقد عند

ص: 970

طرحهما). وذكر أهل العلم أن هذه اللفظة لم تقع في كتاب ولا في سنة، إلا في حديث عبادة بن الصامت (التمس مني صرفًا).

والصرف في الاصطلاح: عبارة عن بيع أحد النقدين بخلافه. فإن بيع بمثله فهو مبادلة إن كان عددًا، أو مراطلة إن كان وزنًا بالصنجة أو الكفة. والأصل في وجوب التناجز في الصرف ما رواه مالك عن نافع عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضه على بعض). وقال في الفضة: نحوه: (ولا تبيعوا غائبًا بناجز) وقال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب إلا ها وها مثلاً بمثل) وقد

ص: 971

اتفق العلماء على أن الإشارة بقوله: (ها وها) إلى سرعة المناجزة، وهل ذلك عبارة عن المجلس أم لا؟ اختلف العلماء فيه، فقال أبو حنيفة والشافعي: إذا تعاقدا وطال الأمر بينهما في المجلس من غير تقابض، فالعقد (بينهما) جائز، وذلك تناجز ما داما في المجلس لم يفترقا وهؤلاء جعلوا التناجز عبارة عما يكون في المجلس وإن طال، وقل مالك إن طال الأمر بينهما في المجلس من غير تقابض فسد الصرف (سبب الخلاف اختلافهم) في قوله:(ها وها) واختلفوا إن كان التأخير غلبة هل يفسخ الصرف أم لا؟ فيه قولان في المذهب، واتفقوا على فساده إذا وقع التأخير اختيارًا. وههنا فروع تتعلق بالمتاجرة.

فرع: اختلفوا في المواعدة في الصرف على ثلاثة أقوال في المذهب:

الأول: المنع قال أصبغ في ثمانية أبي زيد، فإن وقع ذلك فسخ قياسًا على المواعدة (على النكاح) في العدة. والثاني: الجواز مطلقًا (قاله) ابن نافع في السليمانية، قال ما علمت أحدًا أكرهه، وليس كالمواعدة في العدة لأن تتميم العقد في النكاح محرم، وتتميم العقد في الصرف هو المقصود (فافترقا وامتنع) الإلحاق، والثالث الكراهية هو المشهور عن مالك، وهو اختيار ابن القاسم مراعاة للخلاف.

ص: 972

والمسألة الثانية: اختلفوا في الخيار في الصرف، وفيه قولان في المذهب: المشهور، المنع والشاذ الجواز، حكاه أبو اسحاق بن شعبان في الزاهي عن المذهب، وبه قال (أبو زيد) وغيره من المخالفين ومبناه على الخلاف في بيع الخيار هل هو على الحل أو على العقد؟

المسألة الثالثة: الوكالة على العقد والقبض جائز وعلى القبض فقط، وعلى العقد فقط ممنوع إل أن يكون الموكل حاضرًا وقت القبض فهل يجوز توكيله على القبض بمحضره أم لا؟ قولان (في المذهب) المشهور اشتراط قبض الموكل نفسه، والشاذ جواز قبض الوكيل بحضرته وهو خلاف في حال.

قوله: "ولا تجوز فيه (نظرة ولا) حوالة ولا حمالة" وهما كما ذكره لأن ذلك داع إلى التراخي فإن أعطى الحميل فيه على الاستحقاق جاز،

ص: 973

وأما أخذ الحميل بأحد النقدين ممنوع، واختلف المذهب هل من شرط التناجز أن يفترقا بعد التقليب أم لا؟ المشهور أنه شرط، وإن افترقا على غير تغليب ففي كتاب محمد الصرف منقوض، وإن وجدها خيارًا، وروى عن مالك الصرف جائز إذا كانت خيارًا، وكذلك اختلفوا هل يجوز الصرف على التصديق والمشهور المنع بناء على اعتبار المثال، وأجازه أشهب.

فرع: هل من شرط التناجز حضور النقدين أم لا؟، واختلف المذهب فيه على قولين وتنبني عليه فروع:

الأول: صرف ما في الذمة، والصرف على الذمة، أما صرف ما في الذمة ففيه اختلاف مشهور، وتحصيل القول فيه أن ما في الذمة إما أن يكون (حالاً أو مؤجلاً، وإما أن يكون من جانب واحد أو من جانبين؟، فإن كان حالاً من جانب واحد فقولان: الأشهر، الجواز، والشاذ المنع، وإن كان حالاً من جانبين ففيه قولان أيضًا وهو من نوع المقاصة والاقتضاء، وإن كان مؤجلاً فالمشهور منعه مطلقًا كان) من جانب واحد، أو من جانبين، وأجازه الشيخ أبو اسحاق بن شعبان لأنهما متناجزان في المعنى، وأما الصرف على الذمة فصورته أن يتعاقدًا على الصرف، ويستسلف كل واحد منهما ما عقد عليه، وهو ممتنع إن كان ذلك من الجانبين للتراخي الممتنع في عقد

ص: 974

الصرف وإن استسلف أحدهما، وكان نقد الآخر حاضرًا ففي المذهب قولان: الجواز، والمنع مبنيان على علم أحد المتبايعن بالفساد هل يفسد العقد أم لا؟

فرع: اختلفوا في صرف المغصوب على ثلاثة أقوال منهم من جوزه في المسكوك والمضروب وغيره، ومنهم من منعه مطلقًا، ومنهم من أجازه في المسكوك دون المصوغ، ومبنى الخلاف على الخلاف في الدنانير والدراهم هل تتعين أم لا؟ ولا خلاف في المذهب أنها تتعين إذا ظهر (قصد) التعين، وكذلكط اختلفوا أيضاً في جواز صرف (الرهن* والمستعار (والمستودع) على قولين: الجواز، والمنع.

قوله: «فإن تقابضا نقودًا أحدهما رديًا أو زائغًا فأراد رده بطل الصرف، وله أن يمسكه ولا (يبطل الصرف)» وهذا كما ذكرناه، وتحصيل القول فيه أنه لا يخلو إما أن يقوم بزائف أم لا؟ فإن قام به فهل يجوز له البدل، ولا ينتقض الصرف أو لابد من انتقاضه فيه قولان في المذهب المشهور الانتقاض، (وأجاز) الليث، وابن وهب، وأشهب رواية عن مالك (البدل، وقال

ص: 975

أحمد) يكون شريكًا له بمقدار الزائف، وإذا قلنا (بالانتقاض) فهل ينتفض جميعه، أو ينتقض منه مقدار الزائف فقط، فيه خلاف في المذهب والشهور أنه ينتقض جميعه، وقيل: ينتقض منه ما قابل الزائف وحده، وقيل: ينتقض ما قبل دينارًا واحدًا إن قابله النقض، فإن زاد انتقض على صرف دينار انتقض منه صرف دينارين، وهذا إذا سمى لكل دينار ثمنًا، (فإن لم يسم لكل دينار ثمنًا) انتفض الصرف كله، وهو اختيار الشيخ أبي القاسم بن الجلاب وابن أبي زمنين (والشيخ أبي إسحاق والشيخ أبو القاسم بن محرز)، والقاضي أبو الوليد، وقيل: إذا كان النقض يسيرًا انتفض منه ما قابله وحده أو ما قابل دينارًا واحد على قول آخر، وإن كان النقض كثيرًا انتقض جميعه، وقيل: إن وجد النقص بعد (المفارقة) والطول انتقض الصرف كله، وإن وجده بالحضرة فلم يرض به فله البدل ناجزًا، ولا ينتقض الصرف، ومبنى المسألة على الخلاف في العقدة إذا اجتمعت حلًالا وحرامًا هل يفسخ جميعها أو يفسخ منها ما قابل الحرام فقط، وأما لو رضي بالزائف فلم يقم به فروي ابن وهب وابن عبد الحكم عن مالك أن الصرف (لا ينتقض) وروى ابن المواز عنه أن الصرف منتقض، وقد روى عنه التفرقة بين اليسير والكثير، فأجازه في اليسير، ومنعه في الكثير.

وإذا فرقنا بين اليسير والكثير، فقد اختلف في حد اليسير فقيل

ص: 976

الدانق، وقيل: ما تختلف (به) الموازين، واختلف في النحاس، والرصاص، هل يجعل كالمغشوش أو كالعدم إذا كان التعامل معه متعذرًا البتة، واختلفوا إذا قال له بعد العقدة زدني، هل تعد هذه الزيادة هبة محضة، أو ملحقة بالصرف فلها حكمه فيه قولان. وثمرة هذا الخلاف إذا وجد الزيادة زائفًا هل له رده أم لا؟ قولان، وإذا قلنا: بالرد انتقض الصرف على المشهور من أقوال المتأخرين، وقال سحنون: القيام كالرد، ولابد من فسخ الصرف، وإا أجزنا (المصالحة) عن الرد، فيختلف هل يجوز بكل شيء نقدًا أو إلى أجل أو يشترط فيها النقد وأن يكون من جنس ما يباع به النقد فيه قولان في المذهب المشهور اشتراط ذلك، والشاذ عدم اشتراطه.

قال القاضي رحمه الله: «ويجوز اقتضاء الذهب من الرق والورق من الذهب إذا حلا» : قلت: هذا الذي ذكره (بناء) على الأصل الذي حكيناه عن المذهب أن صرف ما في الذمة جائز إذا كان حالًا، وهو مشهور المذهب وجعلوا حلوله على المشهور محضوره من الجهتين، واشترط القاضي حلولهما معًا وهو المشهور. وتحصيل المذهب في اقتضاء أحدهما عن الآخر أنهما إن كان حالين فقولان: الجواز، وهو المشهور، والمنع وهو الشاذ، وإن لم يحلًا معًا فقولان المشهور المنع والشاذ الجواز، وكذلك إذا حل أحدهما دون الآخر ففيه الخلاف الذي ذكرناه.

وصح عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما منعا اقتضاء أحدهما عن

ص: 977

الآخر حلا أو لم يحلا اعتمادًا على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد وغيره: (ولا تبيعوا غائبًا بناجز) وأجازه أبو حنيفة وإن لم يحل الأجل نظرًا إلى المتاركة الناجزة، وفي حديث ابن عمر قال:(كنت أبيع الإبل بالبقيع أبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم وأخذ الدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ بالدنانير، فسألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا بأس به إن كان بسعر يومه) خرجه أبو داود في السنن.

قوله: «ولا يجوز في الذهب بالذهب (أو) الفضة بالفضة أن يكون مع أحدهما غيره قليلًا كان أو كثيرًا» إلى آخره.

شرح: وهذا كما ذكره وعقد هذا الباب على مذهب مالك أن كل جنس فيه الربا إذا بيع بمثله فلا يجوز أن يكون مع أحد الجنسين غيره، ولا معهما جميعًا سواء كان ذلك الغير مما فيه الربا، أو مما لا ربا فيه، وأجاز ذلك أبو حنيفة وغيره، فيجوز على نص مذهبه أن يباع (صاع) من ثمر وثوب صاعي تمر، وقابل الصاع بالصاع، والثوب بالصاع الآخر، وكذلك أجاز دينارًا ودرهمًا بدينارين على المقابلة (الحكيمة)، وهو ممتنع على مذهب مالك، لأنه تفاضل معنوي كما نص عليه القاضي والدليل على ما (ذهب إليه القاضي) ما رواه فضالة بن عبيد قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم يوم

ص: 978

خيبر) بقلادة فيها ذهب وخرزًا ابتاعها بتسعة دنانير، فقال صلى الله عليه وسلم:(لا حتى تميز بينهما) فقال: إنما أردت الحجارة فقال: لا حتى تميز بينهما) وهذا نص في محل الخلاف).

قال القاضي رحمه الله: «ولا يجوز دينار ذهب عال ودينار دون بدينارين (وسط)» : وهذا كما ذكره القاضي ون ذلك داخل تحت التفاضل المعنوي، وأصل المذهب أن المبادلة في النقدين يطلب فيها التساوي، ولها بعد ذلك وجهان: إما العدد، وإما المراطلة، والتسوي هو الأصل فيهما من غير زيادة ولا نقصان، كانت الزيادة من جنس ما تراطلًا به، أو من غير جنسها لأنهم أجازوا أن يبدل الناقص بالوازن على وجه المعروف والرفق في اليسير دون الكثير مع تساوي الفضتين، أو الذهبين، وإنما خصوه باليسير بناء على أن العادة تقتضي المسامحة في اليسير دون الكثير، ولم يختلف (المذهب) أنه ممتنع في الكثير، واختلف في حديث اليسير، فقال بعض المتأخرين في ضبط ذلك أما الثلاثة دنانير فيجوز قولاً واحدًا، وأما فوق ستة دنانير فيمتنع قولًا واحدًا، وما بين ذلك ففيه قولان الجواز والمنع والتحديد بناء على العادة.

قال القاضي رحمه الله: «الدينار والدينارين في حد اليسير وقيل الثلاثة» : وفي كتاب محمد الستة دنانير، واختلفوا في حد النقص أيضًا

ص: 979

فقيل: (الدانق)، وقيل: الدانقان وهو خلاف في حال.

فرع: إذا اشترطنا تساوي النقدين فكان الأنقص أطيب امتنعت المبادلة اتفاقًا لخروجها عن باب المعروف إلى المكايسة، وإن كان الأرجح أفضل فقولان: الجواو لابن القاسم، لأنه أبلغ في المعروف، والمنع لمالك لأمرين أحدهما الرجوع إلى حكم الأصل، ومقتضاه مع التفاضل بين الذهبين، فخرجت الصورة المتفق على جوازها، وهي مع تساوي النقدين، ورجع ما عداها إلى حكم الأصل، (وثانيهنا اعتبار المثال) لاختلاف نفاق السكة في (المثال)، فيتوهم فيه المكايسة، وكذلك روى عن مالك منع اقتضاء السمراء من المحمولة، واقتضاء القمح من الشعير قبل الآجل إذا كان من قرض اعتبارًا بالمثال، والصح جوازه.

قوله: «وتجوز المراطلة وهي الذهب بالذهب متماثلاً في الميزان بغير صنجة» وهذا كما ذكره، لأن المطلب من التماثل حاصل باستواء المكفتين، واختلفوا في فروع:

الأولى: اختلف المتأخرون في المراطلة بالمسكوك قبل أن يعلمك وزنه، وفيه قولان: المنع، لنه جزاف، والجواز اعتبارًا بتساوي الكفتين.

الفرع الثاني: اختلفوا في السكة والصياغة هل (هي معتبرة في المراطلة

ص: 980

كما في الاقتضاء، لأنهما مقصودان، أو غير معتبرة قولان بين المتأخرين، فإن اعتبرناها امتنع مراطلة المسكوك والمصوغ بغيره من التبر والمسكوك، وإن لم نعتبرها أجزنا ذلك، والأول أصح لأنها مقصودة فيدخل ذلك تحت التفاضل المعنوي كسلعة وفضة، بسلعة وفضة.

الفرع الثالث: إذا اختلفا في الجودة والرداءة، واختلطا في الكفتين امتنعت المراطلة وإن انفردا فكان الرد~ كله في كفة واحدة، والجيد في كفة أخرى، جازت المراطلة لحصول التساوي وزنا.

قوله: «ولا يجوز أن ينضم إلى الصرف عقد بيع إلا في (اليسير) يكون تبعًا» قلت: اختلف (المذهب) في اجتماع الصرف والبيع على ثلاثة أقوال: المنع مطلقًا في اليسير والكثير، والثاني الجواز مطلقًا في اليسير والكثير، وهو قول أشهب، واستقرأه اللخمي من كتاب محمد، والثالث جوازه إن كان أحدهما يسيرًا، ولا يجوز ذلك في الكثير، وذلك النكاح والبيع والقراض والمساقاة، وهذه العقود المختلفة الأحكام على القولين المشهور المنع، والشاذ الجواز، وإذا قلنا بالمنع فله علتان أحدهما أنه معلل باعتبار المثال لإمكان الاستحقاق، فيقع التأخير في الصرف، والثاني: أنه معلل بتناقض الأحكام وإذا فرعنا على اعتبار الجواز في اليسير فكان البيع، والصرف في دينار واحد، فهل يطلب فيه أن يكون أحدهما تبعًا للآخر أم لا؟ قولان في المذهب المشهور أنه لا يعتبر ليسارة الدينار في نفسه، وقيل: إنه معتبر، وإذا قلنا بالاعتبار، فما مقدار اليسير، قال في كتاب محمد الثلث فما

ص: 981

دونه، قال القاضي أبو محمد الدرهم فما دونه، وقال: في موضع آخر نصف الدرهم، وحصله بعض المتأخرين قال: إما أن يكون الصرف إلا فيما دون الدينار، فإن كان البيع أكثر، والصرف أقل فلا خلاف أنه لا يجوز أن يكون الصرف تبعًا أو البيع تبعًا، وإن كان الصرف أكثر والبيع تبعًا جاز، واختلفوا في قدر ذلك فمنهم من اعتبر أن تكون قيمة العرض أقل من صرف دينار كما يعتبر في الدراهم قدر ذلك، وهو اختيار الشيخ أبي موسى بن مناس، واعتبر بعضهم الثلث حكاه الشيخ أبو القاسم بن محرز، وقال بعضهم دون الثلث، وقال: بعض العراقيين من المالكية النصف تبع، وبالزيادة عليه يخرج من حد البيع، وهذه (الروايات) منصوص عليها في اعتبار التبعية في السيف المحلى، وهي جارية في هذا المحل).

قال القاضي رحمه الله: «ومن باع بنقد أو (اقترض) ثم بطل التعامل به لم يكن (له) عليه غيره إن وجد وإلا فقيمته إن فقد» : قلت: وهذا كما ذكره أن المراعى هو النقد الذي وقع التعامل به، فإن عدم ذلك انتقل إلى قيمته، واختلف قوله مالك في الفلوس، والصحيح أنها كالدراهم إذا تعامل الناس (بها، إذ) الحكم ليس متعلقًا (بعين) النقدين، بل (بالمقصود) منها وهو متساو، ثم ذكر شراء تراب المعادن، وشراء تراب (الصواغين).

وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فمنع الشافعي الوجهين، وأجازه

ص: 982

غيره فيهما، ومالك رحمه الله (فصل)، فأجاز شراء تراب المعادن ومنعه في الصواغين، لأنه غالبه الخطر والغرر بخلاف تراب المعادن.

قال القاضي رحمه الله: «يجمع بين الغرر ثلاثة أوصاف» ، إلى آخر الفصل.

شرح: وقع في هذا الموضع روايتان: الرواية الصحيحة: "يجمع بين الغرر ثلاث أوصاف"(وفي رواية: "يمنع بين الغرر لثلاث أوصاف) والرواية الأولى أحسن في المعنى، والمقصود حنيئذ ضبط أنواع الغرر وهو مقتضي الفصل. وجعل القسم الثالث وهو الخطر عين الثاني وهو الجهل، ونوع قسم الجهاز (أنواعًا) والخطر راجع إلى الجهل، فأما المغايرة بينهما فلا تتحقق على ما وصفنا، وأشار القاضي إلى أن كثيرًا منها تتداخل.

قوله: «فأما ما يرجع إلى تعذر التسليم فكالآبق والضالة والشرد والمغضوب» إلى آخر التمثيل أم العبد الآبق، والبعير الشارد فيمتنع بيعه مع جميع ما مثل به من ذلك، لما ذكره من تعذر التسليم والجهل بصفة المبيع، لأن ذلك كله مجهول الصفة إلا المغضوب في بعض أحواله، فإنه قد يكون حاضراً مرئياً، فإن كان الآبق (معلوم الصفة)، معلوم المكان (مثقفاً) فيه

ص: 983

بحيث لا يمكن فراره فتبايعاه فهو حينئذ من باب بيع (الغائب)، فيشترط فيه ما يشترط في الغائب المبيع على الصفة، فانظر كيف رجعت الأنواع الثلاثة إلى قسم الجهل، وإن اختلفت أنواعه واعتباراته.

قوله: «وبيع الأجنة واستثنائها» :أما بيعها فظاهر المنع وأما استثناؤها فممتنع بناء على أن المستثنى مبيع لا مبقى على ملك البائع.

قوله: «وحبل الحبلة» وهو نتاج ما تنتجه الناقة، وهو أيضاً ممتنع للتعذر والجهل معاً، وقد صح النهى عن بيع حبل الحبلة. واختلف العلماء في تأويله، فقيل: كان أهل الجاهلية يجعلونه أجلًا، فيقولون أبيعك بكذا إلى أن تنتج الناقة، وتنتج نتاجها، وقيل: هو بيع نتاج النتاج، فكانوا يجعلونه مبيعاً لا أجلًا، وكلا الوجهين محرم، والمضامين بيع ما في ظهور الفحول، والملاقيح بيع ما في ظهور الإناث، هذا هو المشهور من أقوال العلماء وهو قول (مالك) وعكسه آخرون.

قوله: «وأما ما يرجع إلى الجهل فيتنوع» وجميع هذه الأنواع التي مثل بها (ظاهرة المنع) وأما قوله: بعتك ما في كمي فالجهل فيه بالذات والصفة ظاهر.

قوله: «بعتك ثوابًا في بيتي» فهو كالأول في الجهل، (ويخالفه) من

ص: 984

حيث أن الجهل في الصورة الأول متعلق بذات المبيع وصفته، وفي القسم الثاني بصفته كما أشار إليه فإن قال له: بعتك ثوبًا في بيتي على صفة كذا فهو منوع، لأنه من باب بيع الحاضر على الصفة وعندنا قولان في جواز بيع الحاضر على الصفة، والمشهور امتناعه، لأن الرجوع إلى الصفة إنما (أحزناه) لتعذر الرؤية في الغالب بخلاف الحاضر.

قوله: «ومنعه البيعتان في بيعة» : وهذا راجح إلى الجهل بذات المبيع (وثمنه وقد صح نهى النبي صلى اله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة".

قوله: «ومنه بيع الحم في جلده» : راجع إلى الجهل بصفة المبيع، وذلك شرط الخيار المتد)، لن المبيع قد تغير صفته مع طول المدة غالباً.

قوله: «وأما الخطر فبيع لا مرجى سلامته كالمريض في السياق، وما لا يدري أيسلم أم يتلف» : ومثل ذلك بالثمرة قبل بدون صلاحها، وقد أشار - صلى اله عليه وسلم - إلى على ذلك فقال:"أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأكل أحدكم مال أخيه"والمراد شراؤه على التبقية، وأما شراؤها قبل طيبها على الجذ، والمنع تغليبًا لحكم الإبقاء إذ هو المقصود الأغلب في الثمار، وفسر القمار بيع الملامسة وهو أيضاً راجع إلى الجهل (بصفة المبيع)، وفصل القمار عن

ص: 985

الخطر، وجعله هنا قسمًا متميزًا بنفسه عن الخطر، وجعلهما في أول القسم قسمًا واحدًا، وفسر بيع الحصاة، وهذا كلها بيوع ثبت النهى عنها، وكانت معلومة في الجاهلية، وهي (تنيف عن الثلاثين) بيعاً فاطلبها في (كتاب شرح) الأحكام.

قوله: «تأكد الغر لكثرة أسبابه ظاهر» : وانظر هل يلزم (تأكد) التحريم أم لا؟ ومبنى المسألة على نظر أصولي وهو هل ما يقال هذا أوجب من هذا، أو هذا أحرم من هذا أم لا والصحيح أنه (مقول) من جهة كثرة المحرمات، وباعتبار كثرة الزواجر، وتعد الأوامر وتضاعف الثواب (والعقاب) لا باعتبار نفس الحقيقة إذ المعقول من الواجب والحرام شرعًا لا يختلف.

قال القاضي رحمه الله: قوله: «وأما ما يرجعل إلى الحال فبيع الإنسان على بيع أخيه» .

شرح: روى مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تلقوا الركبان للبيع ولا بيع بعضكم على بيع بعض ولا تناجشوا ولا تصوروا بالإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر)

ص: 986

ولا خلاف بين العلماء في صحبة نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وفي الصحيح من طريق آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((لا يبع) أحدكم على بيع أخيه ولا يسم على سومه، ولا يخطب على خطبته) وقد اختلف العلماء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم:(لا بيع أحكم على بيع أخيه) فقال: مالك وأبو حنيفة المعنى لا يسم على سومه ورداص معنى قول صلى الله عليه وسلم: (لا بيع أحدكم على بيع أخيه) إلى معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يسوم أحدكم على سوم أخيه، وذلك إذا ركن البائع إلى (السائم) ولم يبق بينهما إلا اختبار الذهب، أو اشتراط العيوب أو البراءة، ولهذا كره بعض أهل العلم بيع المزايدة في إلحاقه خوفًا من الوقوع في لك، وقال الشافعي: معنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن أن بيع البعض على بعض البعض إذا تم البيع بينهما باللسان، ولم يفترقا بالأبدان فأما آخر هو أن يعرض عليه سلعة هي خير منها. وقال الثوري: معنى النهى عن ذلك أن لا يطرأ رجل آخر على المتابعين قيل تمام البيع، فيفسد البيع بينهما، وهو راجع إلى ما ذكرناه، وفسره الشيخ أبو القاسم فقال: "ولا يجوز أن يبيع الرجل على بيع الرجل

ص: 987

وذلك أن يوقف السلعة فيركن المشتري إليه، فيأتي رجل آخر فيعرض عليه سلعة مثل تلك السلعة بأدنى من ثمنها ليفسد على البائع ما شرع فيه من البيع ولا يجوز أن يسوم على سوم أخيه، وذلك أن يدفع في السلعة ثمناً، ويركن البائع إلى عطيته فيأتي رجل آخر فيزيد للبائع إلى عطيتع فيأتي رجل آخر فيزيد للبائع في ثمنها ليفسد على المشتري"، واختلف العلماء فيهذا البيع إذا وقع، فقال قوم من أهل العلم: فمن فعله أساء ويستغفر الله وليتب، وليعرض السلعة على الذي داخل عليه فيها، فإن أراد أن يأخذها بالثمن الذي اشتراها به فليسلمها له. وقال داود وأصحابه إن وقع ذلك فسخ على كل حال، إذ النهى يقتضي فساد المنهي عنه، وهو الذي حكاه القاضي عن المذهب في البيع والنكاح، وروى عن مالك أن البيع يفسخ ما لم يفت وكذلك النكاح، وأنكره ابن الماجشون في البيع وقال: إنما قال ذلك مالك في النكاح واخنتلف العلماء هل يدخل الذمي تحت هذا النهى أم لا؟ قال الجمهور: لا فرق في ذلك بين الذمي وغيره، وقال الأوزاعي: لا بأس بالسوم على سوم الذمي، إنما ذلك للمسلم.

قوله: «ومنه بيع النجش» أيضاً من الفساد الراجع إلى حال العقد كالأول والنجش في اللغة: الزيادة، وقال بعض أهل اللغة النجش مدح الشيء وإطراؤه، فمعناه لا يمدخ أحدكم السلعة ويزيد في ثمنها، وهو لا يريد شراءها، وقال بعضهم؛ أصل النجش في اللغة تنفير الوحش من مكان إلى مكان، ومعناه

ص: 988

في البيع: تنفير الناس عن شيء ما إلى غيره، وقال بعض اللغويين: أصل النجش الختل، ومنه قيل للصائد ناجش لأنه يختال الصيد، ويحتال عليه، والنهي عن هذا البيع لما فيه من الفساد والضرر وسواء كان الناجش من سبب البائع ممن دسه يريد نفعه، أو ممن لا يريد الإضرار بالمشتري، وإن لم يقصد نفع البائع. واختلف العلماء في هذا البيع إن وقع أيضاً، فقالت طائفة من العلماء: هو مفسوخ لصحة النهي عنه، والنهي يدل على فساد النهى عنه وهذه رواية ابن الجهم (والقزويني) عن مالك، وبه قال أهل الظاهر، وقال أبو حنيفة: الناجش آثم، والبيع تام.

قال الإمام عبد أبو عبد الله المشهور من مذهب مالك أنه ليس بمفسوخ كالمصراة، لأن علة النهى (معقولة)، وللمشتري الخيار بين الرد وأخذها يفيتهما ما لم تزد على الثمن وسئل مالك عن ثلاثة (شركاء في سلعة) أرادوا التفاضل فيها، فقال أحدهم لآخر: امسك عن الزيادة فيها إذا تقاومناها ليقتدي بك الثالث، وهو بيني وبينك، فنهى عن ذلك، ورآه في معنى النجش، وأجازه أصبغ وابن حبيب ولم يجعلاه نجشاً، ولا في معناه، لأن النجش

ص: 989

هو الزيادة، وها (إمساك) لا زيادة.

وقوله: «ومنه تلقى السلع قبل أن تورد للأسواق» وصح أيضاً النهي عن ذلك، وقد اختلف العلماء في نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك هل هو لحق أهل السوق، أو لحق البائع خوفاً أن يغنيه، (أو حق عام بأن يبيعه) ويسترخص في الشراء منه، فقال مالك: لحق أهل السوق، وقال الشافعي: هوم حوطة على البائع، فإن قيل: يلزم على مقتضي قول الشافعي: أن يكون نهيه صلى الله عليه وسلم (عن التلقي) معارض لنهيه عن أن يبيع الحاضر للبادي، (إذ علة النهى عن التلقي أن لا يغبن البدوي، وعلى البيع عن بيع الحاضر للبادي أن لا يستقصى للبادي) بحيث يسترخص منه، قلنا: أجاب عنه علماؤنا رضي الله عنه، فقالوا المصلحة الراجحة العامة أولى من المرجوحجة الخاصة وبيان ذلك أن مصلحة التلقي خاصة للمتلقي، وليس مصلحته بأولى من مصلحة البائع للبادي فتعين النهى لمعنيين: الأول: رجحان جانب أهل السوق واعتبار مصلحتهم أولى. والثاني: مقابلة مصلحة المشتري المتلقي بالبائع المتلقي فحيث تساوي (النظر في) مراعاة ذلك، فإن مراعاة صاحل الملك أولى تغلبياً للأرجح، ولما كان في مباشرة

ص: 990

البدوي للبيع بنفسه سبيل إلى الرخص على أهل السوق، ورجح جانبه على جانب البائع البدوي، لأن الأشياء عندهم بغير ثمن فقويت المصلحة الراجحة في المجلس، (وعاد) الأصلان إلى معنى واحد. وقد اختلف العلماء في حكم التلقي إذ وقع بعد اتفاقهم على النهي عند ابتداء، وأن فاعله إن عاد إليه بعد النهي أدب، فروى ابن حبيب أن السلعة تنزع من يده، وترد (على بائعها وهو اختيار ابن المواز) وروى عن ابن القاسم أنه يؤدب وتنزع السلعة من يده وترد لأهل السوق، فيشترك فيها أهل السوق من أهل الحاجة إليها من التجار وغيرهم، فالربح له والوضيعة عليه، وروى عن ابن القاسم أنه يؤدب ولا تنزع السلعة من يده، فإذا حصل ذلك، قلت: هل تنزع السلعة من يده أم لا؟ فيه قولان عندنا، وإذا قلنا أنها تنزع فهل ترد إلى البائع أو إلى أهل السوق قولان عندنا أيضاً، ومبنى ذلك على اختلافهم في علة النهى هل هي حق للبائع أو لأهل السوق.

فرع: اختلف المذهب في حد التلقي ففي الواضحة عن مالك لا تلقي السلع وإن كانت على مسيرة يوم أو يومين، وعن مالك أيضاً أنها تتلقى فيما كان بعيداً، وهو ما زاد على الميل، وقيل: عنه ما زاد على الفرسخين فلا بأس بالتلقي فيه، وجعل في (حد) اليسير.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا

ص: 991

تلقوا الجلب فمن تلقى منه شيئاً فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتي السوق وهذا حديث متفق على صحته، (ومقتضي القول به).

قوله: «ومنع بيع الحاضري للبادي» : قلت صح النهى عن ذلك أيضاً، قال ابن وهب: ومن فعل ذلك زجر، ولم يبلغ به الأدب، وإنما ذلك ليتمكن غبنه، إذا هو جاهل بالأسعار فيترك أهل الحاضرة لاسترخاص منه، والارتفاق به، إذ الأشياء تأتيهم عفواً بخلاف أهل (الحاضرة).

واختلفوا في البادي المراد في الحديث، هل كل وارد على مكان، ولو كان من أهل المدينة، وقيل: المراد به سكان البوادي فقط، والتفسيران في المذهب وعندنا فروع: مختلف فيها):

الأول: لا خلاف عندنا أنه لا يبيع حاضر لبادي، وهل يشتري الحضري للبدوي أم لا؟ فيه قولان فقيل: لا يشتري له كما لا يبيع له ليتمكن للحضري غبتة ترجيحاً لأهل الحواضر في ذلك عليهم، وقيل: يشتري له، لأن علة النهى (في البيع) منتفية (في الشراء له) وهو قول ابن حبيب.

الفرع الثاني: هل يخبر الحضري البدوي بالقيمة ينصحه، ويشير عليه إذا

ص: 992

استشاره أم لا؟ فيه قولان، فروى عن مالك أنه لا يشار على أهل البادية في بيع سلعهم التي يأتون بها إلى الحاضرة، ولا يخبرون بالسعر، وجعل إخبارهم بالسعر كالمشورة، والمشورة كالبيع، وروى عنه جواز ذلك، لنه مقتضى النصيحة الإيمانية والأخوة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم:(الدين النصيحة) وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه، وفي حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا بيع حاضر لبادي ذروا الناس يرزق الله بعضهم من بعض).

الفرع الثالث: إذا وقع هذا البيع المنهي عنه، هل يفسخ أم لا؟ قولان مبنيان على النهي هل يدل على فساد المنهي عنه.

قوله: «ومنه البيع يوم الجمعة بعد النداء» : وهذا البيع أيضاً منهي عنه لقوله تعالى: {وذروا البيع} واختلف المذهب في فروع:

الأول: هل يفسخ هذا البيع أم لا؟ فالمشهور أنه يفسيخ مطلقاً، وعن ابن الماجشون يفسخ في حق من اعتاد ذلك وتكرر منه، وفي المجموعة لا يفسخ.

الفرع الثاني: ما في معنى البيع كل مشغل كالنكاح والإجارة على المشهور.

الفرع الثالث: إذا قلنا بفسخة فذلك ما لم يفت، فإن فات فهل يمضى بالثمن، إذا هو فاسد في الثمن، أو بالقيمة خوفاً من تتميم البيع الفاسد، فيه قولان عندنا.

الفرع الرابع: إذا فات وكضى بالقيمة، فمتى يقوم هل بعد الصلاة، وهو

ص: 993

وقت الإباحة، أو وقت البيع بناء على تقدير (الجواز) لإمكان اختلاف القيم قولان عندنا، وثمرة ذلك إذا اختلفت القيمة في الزمانين.

قال القاضي: رحمه الله: «وبيع الأعمى وشراؤه جائز» .

شرح: الأعمى يمكنه العلم (بالبيع) ذات وصفه من طريق الإخبار، فإذا حصثل عنده العلم بالمبيع جاز العقد اعتباراً بالحصحي بجامع العلم، وهذا (هو المشهور)(وقد) قال أشياخنا كل من صح منه عقد السلم صح منه بيع الأعيان كالبصير.

قوله: «ومن زاد في سعر إخراج من سوق المسلمين إلا أن يلحق بالناس» إلى قوله: " وبيع العربان على وجهين" يتعلق بذلك حكم الحكرة والتسعير، والأصل في التسعير ما رواه أبو هريرة قال:(جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله سعر لنا فقال: بل ادعو الله، فجاء رجلفقال: يا رسول الله سعر لنا فقال: بل الله يخفض ويرفع، وإني لأرجو أن ألقي الله وليس لأحدعندي مظلمة) وفي حديث آخر أنه قال حين سأله:

ص: 994

(إن الله هو القابض والباسط المغلي، وإني لأرجو أن ألقي الله، وليس لأحد عندي مظلمة ظلمته إياه في عرض ولا مال).

قال علماؤنا: والتسعير على وجهين أحدهما إن حط من (سعر) الناس أمر أن يلحق بسعرهم، أو يقوم من السوق، والثاني أن يحد لأهل السوق سعراًيبيعون عليه لا يتجاوزونه بع جمع أهل السوق (ومعاونهم)، واتفاق الجمهور على (الزيادة) في سعر ذلك، فالول في قسمي التسعير (غير جائز، والأصل في) ذلك قصة عمر بن الخطاب مع حاطب بن أبي بلتعة حين مر به وهو يبيع زبيباً له بالسوق فقال له عمر: (إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا) قال عيسى بن دينار: كان حاكب يبيع بدون سعر الناس، وهذا السعر المعتبر المجهول أصلاً يرجع إليه الناس، وهو سعر جمهور الناس لا ما ينفرد به الواحد أو العدد يسير، فيرجع الواحد والأقل للجمهور، ولا ينعكس الحال، وهل ذلك عام في كل المبيعات أو مخصوص، وقال ابن حبيب: ذلك في المكيل والموزون مأكولاً (كان أو غير مأكول دون غيره من المبيعات التي لا يكال ولا يوزن فإنما اختص المكيل والموزون) لأن الرجوع فيه إلى

ص: 995

المثل، فالمصلحة فيه تقتضي حمل الناس فيه على سعر واحد بخلاف (ما يرجع إلى) القيم لاختلاف الأغراض فيه ما لم يكن متماثلاً، وهذا حكم (غير) الجالب، (وأما الجالب) إلى السوق الذي ليس من الباعة الملازمين له (المترسمين)، به فهل يمنعون من النقص كما يمنع الباعة أم لا؟ وفي كتاب محمد لا يمنع الجالب أن يبيع في السوق دون بيع الناس ليتسامح (فيكثر الجلب) وقيل: هم كأهل السوق مطلقاً، وقيل: كأهل السوق إلا في القمح، والشعير فيسامحون فيه خاصة لعموم الضرورة إليه. قال المصنف: قد فسر الأشياخ قول القاضي رحمه الله: «ومن زاد في سعر على وجهين» أحدهما أن يبيع أغلى من أهل السوق، والثاني أن يبيع أرخص من أهل السوق إضراراً بأهل السوق، والتفسير الأول هو الصحيح، وهو الجاري على قضية حاطب بن أبي بلتعة.

والقسم الثاني من قسمي التسعير وهو أن يحد لأهل السوق حداً فهذا هو الذي اختلف فيه العلماء، فقال بمنعه عبد الله بن عمر بن الخطاب، وولده سالم والقاسم بن محمد والجمهور، وهو مذهب مالك الصحيح الذي لا شك فيه، ورخص فيه سعيد بن المسيب، وربيعة، ويحي بن سعيد وروي أشهب في العتبية عن مالك أنه لا بأس إذا سعر عليهم على قدر شرائهم فقال مالك لا بأس) به ولكني أخاف أن يقوموا من السوق، واحتج الجمهور بحديث أبي هريرة الذي قدمناه، وراعى في رواية أشهب المصالح

ص: 996

العامة، وأما الجالب فلا (يسعر) عليه، (وبيع كيف يشاء.

قوله: «والحكرة ممنوعة» الأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحتكر إلا خاطئ) وقال عمر بن الخطاب: (لا حكرة في سوقنا) رواه مالك في موظئه.

وحقيقة الاحتكار: هو إدخار المبيع وطلب الربح فيه بانتقال الأسواق. واللحكرة حالتان: يمنع في إحداهما وهي إذا كانت في وقت الضيق والضرورة فيمنع المحتكر (من الشراء) حينئذ من السوق، وإذا أضر ذلك (بالناس) إلا في مقدار قوته، فإنه مضطر إليه فلا يمنع منه، وتجوز في حال الكثرة، والسعة، وروى ابن المواز عن مالك أنه سئل عن التربص بالطعام وغيره رجاء الغلاء فقال: ما علما فيه نهى، ولا أعلم به بأساً يحبس إذا شاء، ويبيعه إذا شاء، ويخرجه إلى أي البلاد شاء، وقيل: لمالك فيمن يبتاع الطعام، فيجب غلاءه قال: ما من أحد يبتاع طعاماً أو غيره إلا ويجب غلاءه، قال مالك: ومما يعيبه من مضى ويرونه ظلماً منع الاحتكار إلا لم يكن مضراً بالناس ولا بأسواقه، وذلك سواء عندنا في الطعام وغيره. وروى ابن حبيب عن مالك أن احتكار الطعام يمنع في وقت الضيق والسعة، وهذا فيمن صار إليه الطعام

ص: 997

بابتياع، وأما من صار إليه بزراعة أو غيرها فلا خلاف في أنه لا يمنع احتكاره.

فصل: إذا احتكر من منعناه الاحتكار، فهل يأمر الإمام ببيعه، ويجبرهم على إخراجه في وقت الغلاء الشديد، اختلفت الرواية فيه، فروى عن مالك أنه أنكر ذلك، وقال ما سمعته، وعنه رواية أخرى أنه لا يخرج عليهم ويباع من أهل الحاجة إليه بمثل ما اشتراه، وإن لم يعلم شراؤه فيسعره يوم احتكاره، وجميع ما يحتاج الناس إليه في ذلك سواء يمنعون من احتكاره وقت الضيق والضرورة.

قال القاضي رحمه الله: «وبيع العربان على وجهين» إلى آخر الفصل، ترجم مالك رحمه الله ما يكره من بيع العربان وروى من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان وفسره مالك بالوجه الممنوع الذي ذكره القاضي.

وإن وقع البيع على ذلك فقال عيسى بن دينار: يفسخ فإن فات كانت فيه القيمة، وأما الاحتساب بالعربان إذا مضى البيع فجائز كما ذكر القاضي إلا أنه يشترط أن يجعل العربان على يد غير البائع، أو يد البائع مختوماً خوفاً من أن يكون (النقد) تارة ثمناً وتارة سلفاً.

قوله: «والدين بالدين ممنوع إذا كان من الطرفين» تحرزاً بقوله: "إذا كان من الطرفين" من السلم.

ص: 998

قوله: «وما كان خارجاً عن أصله» إلى آخره إشارة إلى (الرخص إذ) لا يقاس عليها ولا يتعدى بها (محلها).

وذكر المستثنيات من قواعدها وهي ظاهرة كما ذكره كالإقالة والشركة والتولية والحوالة والعرية والسلم. وفي مراسيل ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وأرخص في الشركة والإقالة والتولية) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع) وفي حديث ابن عباس: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند الإنسان وأرخص في السلم).

قوله: «وإذا باع مالك غيره» يتعلق به بيع الفضولي، وهو عندنا موقوف على الإذن، جائز بإجازة المالك، وقال الشافعي: هو عندنا فاسد،

ص: 999

والدليل (للإجازة) حديث عروة الباقي حين دفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ليشتري به شاة، فاشتري به شاة، ثم باعها بدينارين، فابتاع بأحدهما شاة فجاء بالدينار والشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه صلى الله عليه وسلم وبارك له في صفقة يمينه) ولو كان فاسداً لفسخه. ذم ذكر مسألة النصراني يسلم عبده، أو يشتري عبداً مسلماً، والأمر فيهما ظاهر، والأصح في المسألة الثانية فسخ العقدة لوقوعها فاسدة.

قال القضي رحمه الله: «فصل ومن ابتاع سلعة على السلامة فظهر بها عيب» إلى قوله: «ولا يجوز لبائع السلعة (المعينة) أن يكتم عيبها» .

شرح: الأصل في وجوب الرد بالعيب الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله سبحانه: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر) وقد أجمع علماء الأمصار على من اطلع على عيب قديم في المبيع فله الرد على ما يأتي تفصيله، وذلك في عقود المعاوضة كالبيع، والنكاح، فيثبت في ذلك حكم الرد بالعيب بلا خلاف (وأما عقود المكارمة كالهبة والصدقة فلا يثبت فيها حكم الرد بالعيب بلا خلاف)، واختلف المذهب في هبة الثواب فقال: عبد الملك بن الماجشون: لا يرد الموهوب له فيها بعيب، لأن مبناها على المكارمة، وقال المغيرة:(له الرد بالعيب) المفسد دون ما عداه لأن العيب المفسد متلف للمقصود حكاه القاضي أبو الوليد.

ص: 1000

ولا بد من ذكر العيوب التي توجب الرد فنقول الأصل أن المشتري إذا ظهر على عيب يوجب الرد فهو مخير بين الرد والإمساك، فإن رده أخذ ثمنه الذي دفع، وإن أمسك فلا شيء له ولا يجبر على أرش العسيب من أباه إذا كان الرد ممكناً ولم يحدث معنى مفوناً إلا في العقار على ما سنذكره، فإن تراضيا على الأرش مع إمكان رد العين جاز، لأن ذلك حق لهما، فإذا اتفقا على ذلك فلا مانع منه (وانفرد) ابن شريح من علماء الشافعية فقال: ليس لهما اختيار في ذلك وهل هو كالحقوق المالية كخيار الشفعة وغيره.

قوله: «ولا غيره» : تلفيف، إذا لا محل للغير.

قوله: «ولا يلزم بذل الأرش ولا أخذه بالتراضي» : أبدل البذل من الأرش بدل اشتمال وأطلق القاضي القول في جميع المبيعات جرياً على مذهب البغداديين من أصحاب مالك، لأنهم جعلوا العقار والحيوان والعروض في ذلك سواء، والمشهور من مذهب مالك الذي عليه (أكثر) أصحابه التفريق بين العقار وغيره، فقالوا إن للمشتري التمسك بالمبيع من العقار وأخذ إرش العيب اليسير، ولا يقع الرد فيه بالعيب اليسر إلا أن يختاراه معاً، (ويتفقا عليه) ويتراضيا به، وإن كان العيب كثيراً فهو مخير بين الرد والإمساك ولا شيء له. واختلف نظر المتأخرين في تحديد اليسير، فقيل: ما نقص عن الثلث، وقيل: السدس، وقيل:(ما لا يأتي) على معظم الثمن. وأما

ص: 1001

الحيوان فهو فيه مخير بين أن يرد، أو يتماسك، ولا شيء له، واختلف الرواة في العروض، فالمشهور أنها كالحيوان، والشاذ أنها كالأصول وهو اختيار كثير فقهاء الأندلسيين.

قوله: «فإن فات ذلك لم يكن إلا الأرش» وهو كما ذكره، ثم بين أنواع الفوت فذكر منها فوت المبيع بالموت، والزمانة، والهرم، وفواته بتلف الملك كالعتق، والتدبير، والاستيلاء، والكتابة، واختلف المذهب في مسائل:

المسألة الأولى: البيع هل هو فات أم لا؟ وعندنا فيه ثلاثة أقوال أحداها: أنه (ليس هو) فوتاً مطلقاً، ولا رجوع له بقيمة العيب. والثاني: أن له الرجوع بقيمة العيب. والثالث: إنه إن نقص من ثمنه لأجل العيب رجع على البائع بالنقص وإلا فلا، وبسط القول فيه بعض أشياخنا فقال: لا يخلو؟ أن يبيعه من بائعه، أو من غيره، فإن باعه من غير بائعه ففيه الثلاثة الأقوال الاتي قدمناها، وإن باعه بأقل، رجع عليع بالأقل من أرش العيب أو بقيمة الثمن، وإن باعه منه بأكثر. (فالزيادة) للمشتري إن كان البائع مدلساً، وإن لم يكن مدلساً وقع التراجع، وانفسخ البيعتان، وعاد المبيع إلى ملك الأول.

المسألة الثاني: وظء الجارية هل هو فوت يوجب له الرجوع بقيمة العيب كسائر المفوتات أم لا؟ اختلف العلماء فيه، والمشهور من مذهب مالك أنه ليس بفوت، وقال أبو حتنيفة: هو فوت يمنع الرد، ويوجب له الرجوع بقيمة العيب، وهي رواية ابن وهب، وابن نافع، وأصبغ في البكر والثيب، وعلى المشهور بني القاضي رحمه الله مذهبه قال:(ووطء للثيب لا يمنع الرد وكذلك وطء البكر") وإنكا الوطء في الثبت كالقبلة واللمس بخلاف الوطء

ص: 1002

في البكر، لأنه قطع عضواً منها، فله الرد، وعليه رد ما نقصها الوطء كسائر العيوب الحادثة عنده، وصريح مذهب الشافعي أن وطء البكر يمنع الرد.

المسألة الثالثة: اختلف المذهب في (العيوب) النفسانية كالآبق والسرقة هل يفيد الرد بالعيب أم لا؟ فالذي حكى القاضي عن المذهب أن الإباق فوت خلافاً للشافعي، لأن الرد ينعدم معه، ويجعله في حكم الغائب المفقود.

المسألة الرابعة: إذا اشترى شيئاً على السلامة، ثم أجره أو رهنه، ثم اطلع على عيب قديم فمذهب ابن القاسم أنه يرد بالعيب (متى) عاد إلى يده، وقال أشهب: إذا لم يخلصه من الرهن، أو الإجارة معجلاً لطول مدة الإجارة أو الرهن، وبعد أجلها، كان له أرش العيب، وهو اختيار ابن حبيب، وقال ابن القاسم إذا قرب ذلك كالشهر ونحوه فله الرد، فإن فات ملكه بهبة، ثم اطلع على عيب، فالمنصوص أنه يرجع بقيمة العيب، لأنه إنما يشتري على الصحة قال مالك: إذا فات المبيع بشيء من وجوه الفوت كان فيه قيمة العيب.

المسألة الخامسة: إذا حدث في المبيع تغير عين المقصود منه، وصيره كأنه ليس العين المبيعة، كان ذلك كتلف العين المعيبة للرد، فإن حدث فيه ما أثر فيه، إلا أنه لم يغير المقصود منه فليس بفوت، والمشتري بالخيار بين أخذ قيمة العيب القديم، أو رد ما (نقصه) العيب الحادث عنده، واختلف المذهب فيب الرمد، والحمى، والوعك، هل يفيت الرد وكذلك العمى والشلل، وقطع ذنب بغلة الركوب، وعجف الدابة، وهرم العبد، أو الأمة وتزويج الأمة هل يمنع جميع ما ذكرناه الرد إلحاقاً له بما يتلف المقصود أو لا يمنع الرد، وعليه

ص: 1003

إذا أراد الرد رد ما نقصته هذه العيوب، والصحيح أن هذا كله ممنوع، فما أتلف كالعمى منع الرد، وما غير الصفة ولم يتلف المقصود، فله الرد، وعليه (رد) ما نقص، فإن شك التمسك وأخذ قيمة العيب فله ذلك، وكذلك نقصان القيمة كحوالة الأسواق، والهزال لا يفيت الرد في هذا الباب (على المرضى). وههنا فروع: إذا اختلف البائع والمشتري فقال البائع للمشتري رد المبيع مع قيمة النقص الحادث، وأبى المشتري إلا أخذ قيمة العيب القديم، فهل القول قول المشتري، أو قول البائع، قولان في المذهب حكاهما القاضي أبو الوليد وغيره مبنيان على مراعاة الأصل (والمثال)، والكمشهور أن القول قول المشتري، لأن البائع إما مفرط إذا لم يكشف عن العيب، وإما مدلس فكأنه طلب حل البيع، (المنعقد)، ولا سبيل إليه إلا بالتراضي.

قوله: «وكذلك إن تصرف في المبيع» : قلت تصرفه في المبيع بعد علمه بالعيب له ثلاثة أحوال حال الاختيار، وحال الاضطرار، (وحال الاختبار) بلا خلاف في تصرف الاختيار أنه يبطل الرد، ولا يبطله حال الاختبار بلا خلاف.

واختلفوا في حال الاضطرار على قولين كما حكاهما القاضي:

أحدهما: أنه مسقط للرد لأنه تصرف بعد العلم بالعيب، والاضطرار لحق نفسه لا لحق البائع.

والثاني: أن ذلك لا يسقط الرد، لأنه في حكم (المكره).

فرع: الاستعمال القاطع للرد بالعيب (بعد) الاطلاع على العيب هو

ص: 1004

الاستعمال المقتضي نقصًا في المبيع كلبس الثوب، ووطء الجارية البكر والثيب، إذ الوطء إنما يباح فيمن (يستقر) ملكه، وأما من يريد نقض (البيع) فيه فلا يجوز له وطؤها حينيذٍ، واختلفت الرواية في العبد والدابة هل يمنع من استخدام العبد، وركوب الدابة أم لا؟، فالمشهور أنه يترك استعمال ذلك، وقال ابن حبيب لا يمنع من استخدام العبد وركوب الدابة، لأنه من باب الخراج بالضمان، فإن كان المبيع عقارًا فهل يخليه إذا أراد (الرد) بالعيب أم لا؟ المنصوص أنه لا يخليه، بل له الانتفاع به، وهو ينازع البائع، لأن ذلك خراج محض، وهو (مانع) للضمان، هذا نص الرواية.

قوله: "وإذا ابتاع رجلان عبدًا" إلى آخره. ذكر في هذه المسألة قولين أحدهما قول ابن القاسم أن لمن شاء منهما الرد، لأن البائع دخل على التبعيض حين العقد فكأنهما صفقتان. والثاني: قوله أشهب: أنه ليس له الرد مع اختلافهما، فإذا اختار الرد خير (شريكه)، وليس لأحدهما التبعيض على البائع، إذ المبيع شيء واحد ولو اشترى سلعةً على الخيار فمات، فأراد بعض الورثة الرد، وبعضهم الإمضاء لم يكن لهم التبعيض، لأن البائع لم يدخل في هذه الصورة على التبعيض، وهي مسألة القياس والاستحسان.

قوله: "وإذا نما المبيع على المبتاع، ثم أراد رده" إلى آخره. الطارئ على المبيع قد يكون نقصًا وقد تقدم، وقد يكون زيادة، وهي على قسمين: منفعة، أو غلة، وعين، وعطف الغلة على المنفعة بواو الجمع. إما كقوله:(أقوى وأفقر بعد التهم)، وإما أن تكون المنفعة ما سكن، والغلة ما اغتل من خراجٍ وغيره فأما المنفعة فلا خلاف في المذهب أنها ترد، ولا يرد شيء

ص: 1005

مما استغل، لأنه خراج، والخراج بالضمان على مقتضى ما رواه عروة عن عائشة (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قضى بأن الخراج بالضمان) إن كانت الزيادة عينًا فلا تخلو أن تكون ولادة، أو نتاج أو غيره، فإن كانت ولادة فالمشهور أن الولد كعضوٍ من أعضائها ليس بغلةٍ فيرد مع أمه.

والقول الثاني: أنه غلة ويجبر نقص التزويج الحادث عنده بزيادة الولد، وروي ذلك عن ابن القاسم. وعندنا رواية ثالثة أنه لا يرد مع أمه، ولا يجبر به العيب الحادث، وعليه رد ما نقصه العيب الحادث مع رد الولد، لأنه كعضوٍ من أعضائها، وقال الشافعي: الولد للمشتري كسائر الغلات اعتمادًا على قوله- صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان) والنتاج حكمه كالولادة وغاير القاضي- رحمه الله بين (النتاج والولادة)، وإنما يفترقان لأن النتاج لا يستعمل عرفًا في الآدميات، وإنما يستعمل للناقة، وقد يستعمل لسائر الماشية، والولادة تستعمل في جميع الحيوانات وربما استعمل في الشجر مجازًا، فإن كان النماء ليس ولادة ولا نتاج فهو أنواع:

الأول: كالثمار، ولا يخلو أن تكون موجودة حين العقد أم لا؟ فإن حدثت بعد العقد فهي للمشتري بلا خلافٍ كالخراج والغلة، وإن كانت موجودة حين العقد، إما أن تكون مأبورة أم لا؟ فإن كانت (غير مأبورة فهي له، كما لو حدثت عنده، ولا يرد عنها شيئًا إذا اختار الرد)، وإن كانت مأبورة ففي هذه الصورة قولان المشهور أن لها قسطًا من الثمن فيردها مع الأصل وهو قول ابن القاسم، والشاذ أنه لا ترد الثمرة أبرت أم لا؟ لأنها بيع وغلة، وإذا أوجبنا عليه الرد على المشهور فتلفت الثمرة بغير فعله، فله الرد، ولا شيء عليه في هلاك الثمرة، لأن ذلك كموت ولد الجارية الحادث

ص: 1006

عنده، وإن كان هلاك الثمرة بفعله غرم مكيلتها اعتبارًا بالأجنبي. وإذا أوجبنا عليه رد الثمرة فله قيمة السقي والعلاج مطلقًا، وقيل: ما لم يزد على الثمرة، لأنه إنما أوجب له قيمة السقي في عين الثمرة لا في ذمة البائع.

والثاني: الألبان والسمون، ولا خلاف أنها غلة للمشتري لا يرد عنها شيئًا سواء كان ذلك موجودًا يوم العقد أو غير موجود، لأنه تبع غير مقصود بالبيع.

والثالثة: الصوف إن حدث بعد العقد فلا خلاف أنه له، وليس عليه رده، سواء كان قائمًا بيده أو فائتًا، فإن كان موجودًا يوم الصفقة تام الخلقة فهل (يردها) لأنه له قسطًا من الثمن أم لا؟ قولان مذهب ابن القاسم أنه يردها معها وإن جزت، وقال أشهب لا يرد الصوف مطلقًا سواء كان حادثًا أو يردها معها وإن جزت، وقال أشهب لا يرد الصوف مطلقًا سواء كان حادثًا أو موجودًا حين العقد تامًا أو غير تام، لأنه تبع، وقول ابن القاسم: تشهد له العادة.

والرابع: الزيادة المتصلة كالصبغ والرقم في الثوب، وذلك لا يمنع الرد، ويوجب للمشتري الخيار في التمسك والرجوع بقيمة العيب أو الرد، ويكون شريكًا للبائع بما زادت الصنعة في ثوبٍ فقط، ومن هذا النمط السمن. اختلف المذهب فيه على قولين وجوده كعدمه، ولا يثبت به الخيار للمشتري، وليس له إلا التمسك أو الرضا بالعيب من غير أرش، وقيل: يثبت له بالخيار بين أخذ الإرش أو الرد.

وقد ذكرنا الخلاف في الهزال وههنا فروع:

إذا كان له الرد فصرح به، ثم هلك المبيع قبل الوصول إلى يد البائع، فاختلف المذهب في ضمانه على ثلاثة أقوال:

ص: 1007

أحدها: أن ضمانه من البائع بناءً على أن الرد بالعيب نقض بيع.

والثاني: أنه من المشتري بناءً على أنه ابتداء بيع.

والثالث: أنه إن حكم الحاكم بالرد فمن البائع، وإلا فمن المشتري.

قال القاضي رحمه الله: "ولا يجوز لبائع السلعة (المعيبة) أن يكتم (عيبها) " إلى قوله: "والبيع جائز مساومةً ومرابحةً".

شرح: الغش محرَّم شرعًا، لأنه من أكل المال بالباطل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تصروا الإبل والغنم) الحديث. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلٍ يبيع طعامًا فسأله كيف يبيع فأخبره فأومأ إليه أن أدخل يده فيه. فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول فقال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» .

واختلف العلماء في تأويله، فقال بعضهم المراد به تكفير المستحل له، وقال بعضهم هو على معنى التغيظ كقوله صلى الله عليه وسلم:(أيما عبدٍ ترك الصلاة فقد كفر) وقال بعضهم معناه: ليس على مثل سنتنا وطريقتنا.

ص: 1008

والتصرية: حقن اللبن في الثدي أيامًا ليوهم البائع المشتري أن ذلك الحيوان غزير اللبن. واختلف العلماء في البيع الواقع على صفة الغش كالتصرية ونحوها، فقال بعضهم: إن ذلك يمنع صحة العقد، فإذا وقع البيع على الغش فهو فاسد، وقال أبو حنيفة: ليس التصرية عيبًا، وقال مالك والشافعي والجمهور: التصرية عيب وغش، والبيع معها صحيح، وللمشتري الخيار تمسكًا بمقتضى نص تخييره صلى الله عليه وسلم المشتري في حديث المصراة الثابت الصحيح حيث قال:«فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر» فأثبت له الخيار، فدلَّ على أن العقد صحيح، قال أبو حنيفة: حديث المصراة خارج عن الأصول من أوجه:

الأول: إنه معارض لقوله- صلى الله عليه وسلم: (الخراج بالضمان).

والثاني: إن فيه الطعام بالطعام نسيئة، وهو محرم إجماعًا.

والثالث: إن فيه المزابنة وهي بيع (المعلوم بالمجهول).

والرابع: إن فيه نقض الأصل، لأن الواجب في المتلف، إما المثل وإنما القيمة ولا واحدٍ في هذا المحل.

والخامس: إن فيه بيع الطعام قبل قبضه. إلى غير ذلك من الوجوه التي فارقها بها الأصول، فقدمت عليه، وبه قال أشهب: من أصحابنا، ولا شك في فساد قولهما، لأنه) أصلٌ بنفسه، فلا يتحكم فيه على الشارع.

ص: 1009

قوله: "والقول في الموضعين قول من قوي سببه منهما مع يمينه" يعني: أنه إن ثبت قدمه فهو من البائع، وإن ثبت حدوثه (بالمشاهدة، أو بالبينة) فهو من المشتري، (وإن وقع الشك فالأصل الصحة فهو من المشتري) ويحلف البائع وقوي السبب بالمشاهدة (أو الشهادة، و) في حال الاحتمال باستصحاب حال (السلامة)، وإذا وجب اليمين في هذه الصورة، فهل يحلف على العلم في العيب الخفي والظاهر أو على البت في الظاهر، وعلى العلم في الخفي. اختلف في ذلك ابن القاسم (وأشهب) فمذهب ابن القاسم الفرق بين الظاهر والخفي، ثم ذكر العيوب الموجبة للرد وأنها ما أثرت نقصًا في المبيع، أو في الثمن، أو في التصرف، أو خوفًا في العاقبة، وهذه الأقسام متداخلة:

فالأول: هو (نقص ذات المبيع) منه ما يؤثر في نقص الثمن كقطع عضوٍ من أعضائه، ومنه (ما لا يؤثر) في بعض الأحوال كالخصة فإنه ربما يزيد في الثمن، ولعله أراد بالنقص في التصرف إذا قطع بعض الآلة البدنية التي تعينه على التصرف، إذا بنينا أن هذا يكون على الثمن بالنقص والعيب المخوف عاقبته هو ما تؤمن عودته من الأورام الذاهبة بعد حدوثها (لإمكان عودتها)، ومثله

ص: 1010

القاضي في المعونة بالزوجة في العبد، والزوج في الأمة، فإن الطلاق لا يسقط (الرد) فيهما، وجعل الخصى مما ينقص في الثمن، وذلك يختلف بحسب الأمصار والعوائد والأحوال، وأما الدين في (غير) سفه، فلا يرد به إذا قضاه العبد، لأنه برده قد سقط. ومثل نقصان الأحكام الشرعية فيعود ذلك بنقص الثمن. وعطف القاضي الجذام والبرص على العمى والعور لا على نقصان الأحكام بالجنون. قال صاحب العين: الزعر في شعر الرأس وفي ريش الطائر. قلت وفرق في ذلك إذا ذهب أطوله وبقى أقصره وأردؤه.

فرع: وجود الزنى في العبد والأمة، قال مالك والشافعي هو عيب، لأنه نقصان في الخلق الشرعي الذي هو العفاف. وقال أبو حنيفة ليس بعيب.

فرع: التأنيث في الذكر، والتذكير في الأنثى عيب عندنا، والبول في الفراش عيب عند مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: ترد به الجارية دون العبد، وهو نظر حسن لأن الجارية قد تراد للنوم معها في فراشٍ واحد.

فرع: الحمل في الرائعة فيه، وفي الوخش قولان مبنيان على العادة.

فرع: اختلف المذهب في ارتفاع الحيض هل هو عيب أم لا؟ قولان

ص: 1011

عندنا المشهور أنه عيب في العلي، والاستحاضة عيب في الوخش وغيره، وقد قيل في العلي خاصة.

فرع: الشيب الكثير في الرائعة عيب، واختلف المذهب في اليسير فيها على قولين وليس بعيبٍ في الوخش عندنا.

فرع: الخفاض عادة (نساء) العرب، فعدمه في العلي من رقيق العرب عيب، وليس بعيبٍ في رقيق العجم، لأنهم لا يعرفونه قاله القاضي أبو محمد.

ومثل القاضي أبو محمد ما يتقي علاقته بالزوج والزوجة والاستدانة في سفهٍ ولم يمثل ما تؤمن عودته، ولعله أشار إلى الأورام، وبياض العين ونحوه.

قوله: "وعهدة الثلاث لازمة في الرقيق": واختلف الفقهاء في القضاء بالعهدة، ومعنى العهدة أن يشتري عبدًا أو أمةً فما حدث فيه من فوت عين، أو من عيبٍ عند المشتري في الثلاثة الأيام فهو من البائع، وعهدته عليه، فإن شاء المشتري أخذ بجميع الثمن، وإن شاء رده على البائع، ولا شيء عليه فيما حدث عنده فإن هلك عنده في الثلاثة، أو في عهدة السنة من عيوبها الخاصة فهو من البائع، وقد قال مالك: ومن اتبعه. وعلى منع القول به قال أكثر فقهاء الأمصار ورأوا أن كل عيبٍ حدث بعد قبض المشتري فعهدته عليه.

ص: 1012

واعتمد مالك في العمل عليها في الأمرين: النص والعمل، أما النص فما رواه الحسن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: (عهدة الرقيق ثلاثة أيام) وروى قتادة عن الحسن مرسلًا أن النبي- صلى الله عليه وسلم قال: (لا عهدة بعد أربع) وفي هذين الحديثين مقال لأهل العلم بالإسناد.

وصح أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه قضى بالعهدة، فقال: ما أجد لكم شيئًا أوسع مما جعل النبي- صلى الله عليه وسلم لحيان بن منقذ، فإنه جعل له عهدة ثلاثة أيام فيما اشترى إن رضي أخذ، وإن سخط ترك، وقال محمد بن يحيى بن حبان: ما جعل ابن الزبير عهدة الرقيق ثلاثة أيام إلا لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم لمنقذ بن عمرو أنت بالخيار ثلاثًا وروى مالك أن أبان بن

ص: 1013

عثمان، وهشام بن إسماعيل كانا يذكران الرقيق في عهدتهما وخطبتهما عهدة الرقيق ثلاثة أيام من حين يشتري العبد أو (الوليدة)، وبه قال عمر بن عبد العزيز وأبو الزناد، والزهري، والفقهاء السبعة الأعلام بالمدينة، وعلموا بها في المدينة، (واستمروا) عليها، وروى الشافعي عن ابن جريح قال: سألت ابن شهاب عن عهدة السنة قال: ما علمت فيها أمرًا سالفًا، وهي على قسمين: صغرى، وكبرى، فالصغرى عهدة الثلاث وهي صغرى في الزمان، كبرى في الضمان، وهي من جميع العيوب الحادثة فيها عند المشتري، والكبرى: عهدة السنة من العيوب الثلاثة: الجنون والجذام والبرص، وهي كبرى في الزمان، وصغرى في الضمان، وما حدث فيها من غيرها من العيوب فهي من المشتري تمسكًا بالأصل، وهي في الرقيق فقط، لأنه يكتم عيبه، فيستظهر على البائع فيه بثلاثة أيامٍ للإمكان أن (يظهر عيبه) المكتوم كأيام الخيار، والاستبراء والتصرية التي نص الشارع عليه الصلاة والسلام عليها في حديث المصراة، وجعلت السنة للعيوب الثلاثة، لأنها قد تظهر في بعض الفصول

ص: 1014

الأربعة من السنة، وإذا ثبت القول بها تعين النظر في مسائلٍ (تتعلق)، بها.

المسألة الأولى: محلها، ولا خلاف في القضاء بها في كل بلدٍ جرت العادة بالقضاء بها فيه، وهل يقضي (بها) في البلاد التي لم يعرفوها أم لا؟ اختلفت الرواية في ذلك عن مالك، فروى المدينون عنه القضاء بها في كل بلدٍ علموا بها أم لا، واعتادوها أم لا، ويحكم بها علة من علمها، أو جهلها وروى المصريون عنه أنه لا يقضي بها حيث لم تجر العادة بها.

المسألة الثانية: في تداخل العهدتين، اختلف المذهب على قولين: المشهور من المذهب نفي التداخل، وأن عهدة السنة بعد عهدة الثلاث، وبه قال الفقهاء السبعة، والشاذ عهدة الثلاث داخلة في عهدة السنة.

المسألة الثالثة: (اختلف المذهب) في ابتداء عهدة الثلاث، قال ابن القاسم: لا يحسب يوم العقد نهارًا كان العقد، أو ليلًا، والابتداء عنده من أول النهار، والثاني من يوم العقد، وقال سحنون: الاعتبار من حين العقد إلى مثله من الزمان، وهذا أعدل.

المسألة الرابعة: الضمان في العهدتين من البائع على الصفة التي ذكرناها، والنفقة والكسوة عليه والغلة له على مقضى الضمان، إلا أن المذهب على خلاف ذلك، وفي العهدة الصغرى النفقة والكسوة على البائع والضمان منه، واختلف المذهب في الغلة، والمشهور أنها للمشتري وفيه نظر، لأنها

ص: 1015

تابعة للضمان كما ذكرناه، (ورأى) بعض المتأخرين أن الغلة للبائع (بالتبعية) للضمان، وحكاه عن المذهب هذا حكم العهدة في الصغرى، وأما النفقة والكسوة في العهدة الكبرى فعلى المشتري، والغلة له، والضمان عليه إلا في العيوب الثلاثة فقط. هذا (التحصيل).

المسألة الخامسة: النقد المشترط في عهدة الثلاثة غير جائزة لتردده بين البيع والسلف وهل يجوز بغير شرطٍ أم لا؟ فيه خلاف في المذهب، ويجوز في عهدة السلف القضاء به على من أباه اعتبارًا بالمصلحة، ومراعاةً للحاجة إلى الأثمان.

المسألة السادسة: إذا طرأ على المبيع عيب ولم يعلم (أكان) حدوثه في العهدة، أو بعدها، ففيه روايتان: فقال ابن القاسم هو من المبتاع حتى يعلم أنه أصابه في العهدة اعتبارًا بأصل السلامة وقال ابن نافع هو من البائع حتى يعلم أنه سلم في أيام العهدة اعتبارًا بأصل الضمان فتقابل هذين الأصلين وقع الخلاف في ترجيح أحدهما على الآخر.

المسألة السابعة: إذ وجبت العهدة بالعادة، أو بالاشتراط فللمشتري إسقاطها لأن ذلك حق له، فله القيام به وإسقاطه، فإن أسقطه سقط، فإن أحدث في المبيع ما يمنع الرد، ويقتضي الرضى به كالعتق، ثم حدث في العهدة عيب في عهدة الثلاث قولان، قال سحنون العهدة ثابتة، والعتق نافذ، ويرجع بقيمة العيب، وفي كتاب محمد تسقط بقيمة العهدة، ولا رجوع له، وهذا الحكم في عهدة السنة أيضًا.

قوله: "ويجوز البيع بشرط البراءة في الرقيق دون غيره": اختلف

ص: 1016

المذهب في بيع البراءة على ستة أقوال:

الأول: جوازه فيما يعلم به البائع من العيوب في الرقيق خاصة، لأنه يكتم عيبه.

والثاني: جوازه في الرقيق، وسائر الحيوان، إذ لا يكاد يحاط بعيوبه.

والثالث: جوازه في الحيوان والعروض، وسائر المبيعات، وهو نص ابن وهب، وابن كنانة.

والرابع: إنكاره، ولا يتنفع باشتراط البراءة مطلقًا، ولا يبرأ البائع إلا من العيوب التي علمها واشتراطها على المشتري.

(الخامس: إنكاره إلا فيما خفف السلطان فيه، وفي بيع المواريث لقضاء الديون).

والسادس: إنكاره إلا فيما كان من العيوب لا يتجاوز قيمته ثلث (قيمة) المبيع، وهو قول المغيرة، والمخزومي، قال بعض الشيوخ المتأخرين: لم يختلف قول مالك في جواز بيع البراءة من البيع باليسير، ولا في بيع البراءة في بيع السلطان، ولا في سقوط العهدتين في بيع البراءة، فأما من أجاز مطلقًا فوجهه أن القيام بالعيب حق المشتري، فإذا أسقطه البائع بالبراءة، ورضي المشتري بذلك سقط كسائر الحقوق المالية، وأما من منعه مطلقًا فلأنه من باب الغرر والجهالة، إن لم يعلم البائع عيبًا، وإن علمه وكتمه برئ منه فهو غش. وأما من أجازه (مطلقًا) في الرقيق خاصةً، فلأنه يكتم

ص: 1017

عيبه خوفًا من أن يزهد فيه، وأما من أجازه في سائر الحيوان فلما ذكرناه من أنه لا يكاد يحاط بعيوبه (فيعقد) البائع فيه، ويصدق فيما يدعيه من جهل العيوب التي فيه. وروى مالك- رضي الله عنه أن عبد الله بن عمر باع غلامًا له بثمانمائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه لعبد الله بن عمر: بالغلام داء لم تسمه فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى على عبد الله أن يحلف: لقد باع العبد وما به من داءٍ يعلمه، فأبى عبد الله أن يحلف فارتجع العبد، وصح أن زيد كان يجيز بين البراءة، وإذا ثبت ما ذكرناه، فهل يجوز أن يبيع البائع على البراءة بحدثان ملكه، وإن لم يختبر المبيع، أو لا يجوز بيعه على البراءة إلا بعد الاختبار قولان: المشهور من المذهب اشتراط الاختبار، قال مالك: التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامة الرقيق عندهم قال: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلًا لا تنفع البراءة، وقال بعد الملك تنفعهم البراءة وههنا فروع تتعلق بما ذكرناه:

فرع: روى ابن القاسم أنه إذا باع السلطان عبدًا على مفلس، فللمشتري أن يرده بالعيب وهو يؤخذ منه أن بيع السلطان ليس ببيع براءة، وحكى بعض أشياخنا أن المذهب لم يختلف أن بيع السلطان بيع براءة، باع للمفلس، أو لقضاء الديون عن الميت، أو على الغائب، وكذلك الوصي إذ باع للإنفاق على يتيمه، فبيعه بيع براءة على المشهور.

فرع: إذا فرعنا على المشهور من المذهب أن بيع السلطان بيع براءة،

ص: 1018

فاشترى منه رجل ظانًا أن المبيع مال السلطان، وأنه ليس (بنائبٍ) فيه عن المفلس، ثم اطلع على عيبٍ فهل له القيام به أم لا؟ قولان: أحدهما أنه لا مقال، لأن بيع السلطان لا يكاد يخفى لاجتماع الناس إليه (واحتيالهم فيه غالبًا). والثاني أن له القيام بالعيب.

قوله: "والعبد يملك ملكًا ناقصًا": وهذا أصل مذهب مالك كما (ذكره) أن العبيد مالكون خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، والدليل لنا قوله سبحانه:{وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} [النور: 32]. وصفهم الله سبحانه بالفقر، والغنى وهما من صفات المالكين، وقال تعالى:{أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعامًا فهم لها مالكون} [يس: 71](نبه) جميع العقلاء حرهم وعبدهم على معرفة الصانع، ووصفهم بأنهم مالكون. وقال- صلى الله عليه وسلم:(من باع غلامًا وله مال) وهذا لأم مالك.

والأصل في الكلام الحقيقة لا المجاز ولأنه يملك المنافع كوطء زوجته وغير ذلك فكذلك الأعيان، ولا خلاف أن لسيده انتزاع ماله إلا أن يتعلق به حق غيره كالمأذون له في التجارة.

ثم ذكر حكم مال العبد في التبعية وهو في البيع للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع اعتمادًا على نص الحديث، فإن اشتراطه المبتاع جاز وكان تبعًا له، وهو يجوز أن يشتري نصفه أو ربعه أم لا؟ قولان في المذهب: الجواز قياسًا

ص: 1019

على الكل، والمنع لأن القصد إلى التجزئة دليل على أنه معتبر لا تبع، وما له في العتق تابع له، وقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من أعتق عبدًا وله مال فماله له إلا أن يستثنيه سيده) والأصل أنه مالك للسيد، فلا يخرج منه إلا بدليل، وذكر الخلاف في الهبة والصدقة وإسلامه في الجناية هل يتبعه ماله أم لا؟ قولان والصحيح أنه غير تابع، لأن انتقال الملك لا يكون بالشك.

قوله: "ولا تجوز التفرقة بين الأم وولدها": قلت: الأصل في منع التفرقة قوله- صلى الله عليه وسلم: (لا توله والدة عن ولدها) وقوله- صلى الله عليه وسلم: (من فرق بين الأم وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة) وانعقد الإجماع على تحريمه، وإذا كان التفريق محرمًا فالجمع واجب، وهل المقصود الجمع في الملك الواحد، أو في البلد الواحد قولان عندنا (وإذا وقع البيع على التفرقة على مراعاة النهي هل يفسخ، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو يفسخ، ويجبران على الجمع فيه قولان عندنا) مبنيان على الاختلاف في النهي كما ذكرناه، وفي حد التفرقة روايتان في المذهب أحدهما الأثغار، والثاني البلوغ، وفي المذهب رواية شاذة بنفي التفرقة مطلقًا تمسكًا بعموم اللفظ.

قوله: "ولا يجوز في الأب" قلت: لأن النص لم يتناول إلا الأم لما لها من الشفقة والحنان فلا يستضر بمفارقة الأب كالأم.

قوله: "والتصرية عيب" التصرية في اللغة: الجمع يقال صريت الماء في

ص: 1020

الحوض أي جمعته فيه، قال تعالى:{فأقبلت امرأته في صرةٍ} [الذاريات: 29] أي في جماعةٍ من النساء، وقد قدمنا الكلام في حكم المصراة، وبقيت فروع تتعلق بذلك:

الأول: إذا اطلع على عيب المصراة فله الرد به كما ذكرناه إلا أن يرضى بذلك، فلا يرد وهو إن علم أنها مصراة فله الرد به كما ذكرناه إلا أن يرضى بذلك، فلا يرد وهو إن علم أنها مصراة قبل الحلاب أو بعده، وله إذا حلب مرة أن يهمل حتى يحلب مرة أخرى ليعلم مقدار حلبها، فإن حلبها ثالثة فهل له أن يرد بعد الحلبة الثالثة، وهو مقتضى الحديث، أو ليس له الرد، لأنه إذا اختبرها (بالثانية) ثم حلبها الثالثة فهو رضى، قولان عندنا مشهوران ففي كتاب محمد له أن يرد إن شاء ولو حلب الثالثة، (وقال ابن القاسم: لا يرد إذا علم التصرية بالحلبة الثانية).

فرع: أوجب الشارع- صلى الله عليه وسلم رد صاعًا من تمر. وفي بعض طرق الحديث: (صاعًا من طعام)، وفي بعضها:(صاعًا من سمراء) وكل ذلك دفعًا للخصومة، ولو أراد رد اللبن (بعينه) لم يجز لأنه بيع الطعام قبل قبضه، وإنما نبه- صلى الله عليه وسلم على التمر، لأنه غالب قوتهم حينئذٍ.

فرع: إذا قدرنا أن قيمة الصاع تزيد على قيمة الشاة فهل يقضى عليه بالصاع أم لا؟ ظاهر المذهب أنه يقضى عليه".

فرع: إذا كانت شياه كثيرة مصراة فهل يكتفي بصاعٍ واحدٍ لجمعيها أو بصاعٍ لكل واحدة. (اختلف فيه المتأخرون، فقال ابن القاسم بن الكاتب بتعديد الصيعان، وقال أحمد بن خالد: يكتفى بصاعٍ

ص: 1021

واحد".

فرع: إذا رضى بعيب التصرية ثم رد بعيب غيره فهل يقضي عليه برد الصاع أم لا؟ قال أشهب: يرد الصاع، وقال محمد: لا يرد قصرًا للحديث على ما ورد، حكاها المتأخرون من الأشياخ.

قوله: "وإذا فات المبيع في البيع الفاسد ضمنه المبتاع"، وهذا كما ذكره أن المبيع بيعًا فاسدًا يضمنه المشتري بالقبض، لأنه قبضه بشبهة العقد، ولم يقبضه على حكم الأمانة ويفسخ (ما دام) قائمًا، فإن فات بعيبٍ في البدن، أو عقد، عتق، ونحوه أو حوالة سوق وتعذر فسخه رجع فيه (بقيمة) المثل فيما له مثل، أو القيمة في ذوات القيم، وسواء كان المبيع مجمعًا على فساده، أو مختلفًا فيه، فإنه يضمن بعد الفوت القيمة، وفي المذهب رواية شاذة أن المختلف فيه إذا فات أمضى بالثمن لشبهة الاختلاف.

قال القاضي- رحمه الله: "والبيع جائز مساومةً ومرابحةً" إلى آخر الفصل كلا البيعتين جائز شرعًا لدخول النوعين تحت عموم قوله سبحانه: {وأحل الله البيع وحرم الربا} (وفي) المرابحة (وجهان)، وكلاهما صحيح جائز، ثم أحسن البيان، وحاصل الأمر فيه على ثلاثة أقسام: منها ما يحسب، ويحسب ربحه وهو ما أثر في المبيع بزيادةٍ كالخياطة والصبغ، ومنها ما يحسب ولا يحسب له ربح، وهو غير المؤثر كحمل المبتاع من بلدٍ إلى بلد، وكراء

ص: 1022

البيوت، ومنها ما لا يحسب ولا يحسب ربحه كالسمسرة والدلالة والشد والطي، وفرق القاضي بين الدلالة والسمسرة جريًا على عرفهم، وهما في عرفنا سواء، ذكر اختلاف المتابعين، والأصل في هذه المسألة ما ثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع ويترادان) وفي حديث ابن مسعود: (تحالفا وتفاسخا). وتحصيل مذهب مالك فيه أنهما إذا اختلفا في مقدار الثمن ففي المذهب فيه خمسة أقوال:

الأول: القول قول المشتري بوجود العقد لأنه الغارم. قال الإمام أبو عبد الله: ذكر اللخمي في معياره أن بعض الأصحاب ذكر عن السيوري أنه وقع في الواضحة أن القول قول المشتري بنفس العقد، وهو قول أبي ثور.

(والثاني: أن التحالف والتفاسخ مطلقًا فات المبيع أو لم يفت، إذ لا ترجيح، وكل واحد منهما مدعٍ ومدعى عليه).

والثالث: التحالف والتفاسخ ما لم يفت المبيع، فإذا فات فالقول قول المشتري ترجيحًا بالفوات، لأنه الغارم حينئذٍ ما لم يقبض المشتري المبيع بان به أو لم يبن.

والفوت يكون بتغير السوق وزيادة المبيع (ونقصانه)، وإن اختلفا في جنسه مثل أن يقول:(أحدها) بعتك بدينار، وقال الآخر بثوب، فلا خلاف في هذا أنهما يتحالفان ويتفاسخان، ولو اختلفا في النوع فقال: أحدهما بعتك

ص: 1023

بقفيز (قمح)، وقال الآخر بقفيز شعير فهو (كالاختلاف) في المقدار، وقيل: كالاختلاف في الجنس، وإذ أوجبنا التحالف فمن المبدأ باليمين ثلاثة اقوال:

أحدها: تبدئة البائع. لأن أصل الملك له.

والثاني: تبدئة المشتري، لأن البائع قد وافقه على البيع، وإنما خالفه في الثمن.

والثالث: التقارع بينهما، واختاره بعض المتأخرين، أو أهل التبدئة من باب الأولى أو من باب الأوجب، وحكى الشيخ أبو الحسن اللخمي وغيره فيه قولان، ولو نكلا عن اليمين قولان أيضًا:

أحدهما: أن القول قول البائع (لابن حبيب)، وقيل يترادان:(لابن القاسم) حكاهما القاضي، وإذا تحالفا انفسخ البيع، فإذا أراد أحدهما أمضى ما قاله صاحبه، فهل له ذلك، ويجبر عليه من أباه، لأنه مقتضى الإقرار بالعقد أم لا؟ لأنه قد انفسخ بالتحالف، وهذا كأنه ابتداء بيع قولان عندنا.

وبدأ القاضي من مسائل بالاختلاف في الصحة والفساد (ولا شك أن الأصل الصحة فمن ادعاها رجح قوله بادعاء حكم الأصل، ويحلف لنفي دعوى خصمه إلا أن يكون الفساد) غالبًا على البياعات، ففيه حينئذٍ اختلاف في المذهب. قال سحنون: القول حينئذٍ قول مدعي الفساد، وإن اختلفا فما ينفي اللزوم مثل أن يدعي أحدهما (الخيار، والآخر، البت)،

ص: 1024

فالقول قول مدعي البت، لأنه الأصل. وقال أشهب: القول قول مدعي الخيار، وحكى الأشهر من المذهب في الاختلاف في المقدار، وقد ذكرنا ما فيه.

قوله: "وإن كان (اختلافهما) في قبض الثمن". قلت: قد يختلفان في قبض الثمن، وقد يختلفان في قبض المثمون، فإن اختلفا في قبض المثمون رجع إلى العادة، فإن أشكل الأمر فإن الأصل أن الثمن) والمثمون باقيان بيد أربابهما، إلا أن يثبت الانتقال؟ ولو قيل: إن أصل العقد (يقتضي) التمكين والتقابض فالقول قول مدعيه لكان صوابًا، فإن أشهد المشتري على نفسه بقبض الثمن فهل يكون إشهاده شهادة على قبض المثمون أم لا قولان عندنا، وما شهدت فيه العادة باستعجال القبض غالبًا نحو البقل واللحم والصرف، فالقول قول مدعي العادة إذا قبض المشتري سلعته، وبان بها، وإن قبضها وهي بيده، ولم يبن بها ففي هذه الصورة قولان: المشهور القول قول البائع، لأنه مدعي عليه القبض، والشاذ أن القول قول المشتري لأنه غارم، وطول الزمان شاهد على صحة دعوى القبض، ولو اختلفا في تعجيل الثمن أو تأجيله رجع إلى العرف، فإن لم يثبت ففيه قولان حكاهما القاضي رواية ابن وهب أن القول قول المشتري، ورواية غيره أن القول قول البائع، والصحيح أن الأصل التعجيل فالقول قول مدعيه.

واختلف المذهب في العرف هل هو (كشاهدين أو) كشاهدٍ فيحلف مدعيه أم لا قولان عندنا.

قال القاضي- رحمه الله: "فصل ولا يجوز لمن وطئ أمة الفصل" إلى آخره.

ص: 1025

شرح: من أراد بيع أمة وطأها وجب على البائع الاستبراء عندنا لاحتمال أن تكون حملت منه فيكون قد باع ولده (وأم ولده)، ومدخلًا للشبهة في نسبه، والنسب أوجب ما احتيط له، وقال أبو حنيفة والشافعي الاستبراء في هذه المسألة واجب على المشتري مستحب للبائع وهو ضعيف، والصحيح وجوبه على كل واحدٍ منهما، إما على البائع فلما ذكرنا، وإما على المشتري فلقوله- صلى الله عليه وسلم:(لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض). قال القاضي أبو محمد وغيره من أئمتنا، ولا يحل للمشتري مقدمات الوطء مطلقًا من اللمس للذةٍ وغير ذلك إلا بعد تحقق الاستبراء لاحتمال أن تكون أم ولد البائع.

قوله: "والاستبراء حيضة" قلت: لأن البراءة تحقق بها مع أن مقتضى قوله- صلى الله عليه وسلم: (حتى تحيض) وذلك يصدق على الواحدة، واتفاق على المتبايعين على استبراء واحد جائز كما ذكره القاضي لحصول الغرض المقصود من البراءة، ويكفي في صحة الاستبراء قولها، لأن النساء مؤتمنات على أرحامهن إلا أن يدعين ما لا يشبه بحال، ثم ذكر حكم القافة عند الالتباس فيها إذا وطأها وأتت بولدٍ يمكن لحوقه بهما، والقافة عند العرب قوم كانوا يعملون المشابهة، وقد اختلف العلماء في الحكم بها، وقضى بها جمهور الفقهاء من المدنيين، والشاميين وغيرهم، ونهى عن الحكم بها العراقيون، والدليل لمالك وسلفه من وجوه: الأول: حديث عائشة- رضى الله عنها-، قالت دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم مسرورًا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمع ما قاله مجزز المدلجي

ص: 1026

لزيدٍ وأسامة: ورأى أقدامهما فقل إن هذه الأقدام بعضها من بعض)، فسرور رسول الله- صلى الله عليه وسلم بذلك يدل على أنه حق لا باطل كما يقول العراقيون وكان المشركون يطعنون في نسب أسامة، لأنه أسود، وأبوه أبيض.

الدليل الثاني: قوله- صلى الله عليه وسلم في قصة هلال بن أمية (إن جاءت به على نعت كذلك فهو لشريك). وقد تقدم الحديث وعمل به عمر بن الخطاب بمحضر الصحابة، لا مخالف له وجرى العمل به المدينة فكان حجة، وإذا ثبت الحكم بالقافة تعين النظر في مسائل:

الأولى: محلها: ومحلها عند مالك اليمين؟ وهل يقضي بها في النكاح أم لا؟ قولان في المذهب، المشهور أنه لا يقضى بها فيه، وقال ابن وهب يقضى بها في النكاح، وهو قول الشافعي.

المسألة الثانية: هل يكتفي بقائفٍ واحد، أو لابد من قائفتين قولان عندنا مبنيان على الاختلاف في القافة هل هي حكم أو شهادة.

المسألة الثالثة: إذا قضى القائف بالاشتراك في الولد الواحد، فقد اختلف الفقهاء فيه، وفي المذهب فيه ثلاثة أقوال:

ص: 1027

أحدها: أن يؤخر الصبي حتى يبلغ ويقال له وال أيهما شئت اعتمادًا على قول عمر بن الخطاب (للغلام وال أيمما شئت) كما رواه مالك في موطئه.

والثاني: أنه يلحق بأقواهما شبهًا.

والثالث: أن يكون ابنًا لهما قاله أبو ثور، وروي ذلك عن سحنون وغيره من أهل المذهب وبه قال من السلف عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما، وهي بنوة شرعية لا بنوة طبيعية، ولا يكون الولد ابنًا لأبوين طبعًا. قال سبحانه:{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى} [الحجرات: 13]، وقال:{أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان: 14]، وقال تعالى:{ووصينا الإنسان بوالديه حسنًا} [لقمان: 14].

وفي المذهب قول رابع أنه لا يكون ابنًا لواحدٍ منهما، إذ لا يلحق النسب بالشك، وقد قال بعض أهل العلم بإلحاق الولد: بالقرعة اعتمادًا على ما رواه (الشعبي) عن زيدٍ بن أرقم قال: كان علي- رضي الله عنه (باليمن) فأتى امرأةً وطأها ثلاثة أناسٍ في طهرٍ واحد فسأل كل واحدٍ أن يقر لصاحبه بالولد فأبى فأقرع بينهم ولضى بالولد للذي أصابته القرعة رواه الثوري بإسناده.

ص: 1028