المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها) - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ٢

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌ الإيلاء

- ‌ الظهار

- ‌[اللعان]

- ‌باب في العدة والاستبراء وما يتعلق بذلك

- ‌باب الرضاع وما يتعلق به

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب الإجارة

- ‌باب القراض

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الشركة

- ‌باب الرهون

- ‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

- ‌باب الصلح والمرافق وإحياء الموات

- ‌باب الوديعة والعارية

- ‌(كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق)

- ‌باب في الحوالة والحمالة

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الإقرار

- ‌باب اللقطة والضوال والآباق

- ‌كتاب الشفعة والقسمة

- ‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

- ‌فصل والدية تختلف باختلاف حرمة المقتول ودينه

- ‌فصل: وتجب بالجناية على العبد قيمته لا دية

- ‌((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد))

- ‌كتاب الحدود

- ‌كتاب القطع

- ‌كتاب العتق والولاء وما يتصل (به)

- ‌فصل"والولاء للمعتق إذا كان عنه

- ‌فصل"الكتابة جائزة ولا يجبر السيد عليها إن طلبها العبد

- ‌فصل"والتدبير إيجاب وإلزام

- ‌كتاب الأقضية والشهادات

- ‌كتاب الأحباس والوقوف والصدقات والهباتوما يتصل بذلك

- ‌كتاب الوصايا والمواريث والفرائض

- ‌كتاب الجامع

الفصل: ‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

قال القاضي رحمه الله: "القصاص واجب في القتل وما دونه من الجراح": الأصل في وجوب القصاص في النفس والجرامات الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه:{أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} [البقرة: 178] الآية وقوله: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة: 179]، وقوله:{ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطنا} [الإسراء: 33]، وقوله سبحانه:{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إن شاء قتله، وإن شاء عفا وأخذ الدية) وقال صلى الله عليه وسلم لأنس بن النضر: (يا أنس كتاب الله القصاص) وانعقد الإجماع على مشروعيته لظهور المصلحة فيه، وحفظ

ص: 1205

القاعة به وهي الحياة التي أشار إليها القرآن وقصدتها العرب في أمثالها بقولهم: القتل أنفى للقتل، والقائل الذي يجب القصاص منه وهو العاقل البالغ المختار للقتل المباشر له، والقائل الذي يجب القصاص منه وهو العاقل البالغ المختار للقتل المباشر له، وسنفسر هذه الضوابط بعد. واشترط القاضي رحمه الله في وجوب (القصاص) ثلاثة شروط: أحدهما: أن يكون دم المقتول غير ناقص عن دم القاتل، ويدخل تحت هذا التقييد نوعان: المساواة والأرجح احترازًا من محل الشبهة الواجب فيه تغليظ الدية والثلث أن يكون القتل طارئًا على من حياته معلومة احترازًا من الجنين إذا سقط بضرب أمه فلا قصاص فيه، لأن حياته غير معلومة كما نص عليه القاضي في آخر الفصل، وانظر فيما إذا ضرب رجل رجلاً فأنفذ مقاتله ثم جاء آخر فأجهز عليه، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة، فقال مالك: يقتل به، الثاني دون الأول، لأن فعل الإزهاق مرتب على فعل الثاني، وقيل: يقتلان جميعًا حكاه أبو الوليد بن رشد رواية عن المذهب، وحكي رواية ثالثة عن المذهب أنه يقتل به الأول ويؤدب به الثاني بناء على أن من أنفذت مقاتله في حكم الميت، (وكذلك) لا يرث، ولا يورث رواه أبو زيد عن ابن القاسم.

قوله: "وتكافؤ الدماء يعتبر بأمرين" قلت: هما الحرية والدين، وفسر (الحرمة) بالحرية والرق وهو كما ذكره، وضابط التكافؤ الذي بني عليه راجع إلى تساويهما، أ، رجحان دم المقتول على دم القاتل وأعطى كلامه حصول هذا المعنى وهو (صورة) اشتراط مكافأة دم القاتل لدم المقتول

ص: 1206

ونقصان دم القاتل عن دم المقتول عدم الزيادة، فعدم زيادة دو القاتل عن دم المقتول مستلزم للمكافأة، أو النقصان (ففي كلامه) تكرار من حيث إن أول الكلام قد استقل بإفادة مقصده، قال: وتفصيل هذه الجملة أن الحر لا يقتل بالعبد المحض، ولا بمن فيه بقية رق مطلقًا، وهذا (مذهب مالك) الذي لا اختلاف عنه فيه، وبه قال الشافعي، والليث، وأحمد، وأبو ثور اعتمادًا على دليل (خطاب) قوله سبحانه:{الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} [البقرة: 178] وقال داود: يقتل الحر بالعبد مطلقًا سواء كان عبد نفسه أو عبد غيره اعتمادًا على (عموم) قوله سبحانه: {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} وعلى قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم) الحديث، وفرق أبو حنيفة فقال يقتل بعبد غيره، ولا يقتل بعبد نفسه، ولا حجة له في النظر.

(وأجمعوا كلهم) على أن العبد يقتل بالحر، وكذلك الأنقص بالأعلى، والمدبر والمكاتب، والمعتق بعضه والمعتق إلى أجل، وأم الولد كالعبد المحض سواء، بدليل نقصان طلاقهم وحدودهم، ومنع شهادتهم إجراء لهم مجرى العبيد.

ص: 1207

قوله: "ولا يقتل مسلم بكافر قصاصًا": وهذا صريح مذهب مالك رحمه الله اعتمادًا على قوله عليه السلام: (لا يقتل مسلم بكافر) واحترز بقوله: (قصاصًا) من أن يقتله غيلة مراعاة على ماله فهل يقتل به أم لا؟ فيه قولان عندنا المشهور أنه يقتل به اعتمادًا على حديث عبد الرحمن بن البيلماني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قتل رجلاً من أهل القبلة برجل من أهل الذمة قتلة غيلة) ثم نص على أن الرق كله حكم واحد فيقاد لبعضهم من بعض كالمدبر بالمكاتب، والمعتق (بعضه بالعتق) إلى أجل، وكذلك سائر أنواع الكفر لتساوي الجميع في نقض الرق والكفر.

فرع: يقتصر الأعلى من الأدنى مثل أن يقتل العبد الحر، أو الكافر المسلم، فإن جرح الكافر المسلم، أو العبد الحر جرحًا يقع فيه القصاص، فهل يقاد به أو يرجع فيه إلى الدية قولان حكاهما القاضي، ومشهور المذهب

ص: 1208

التفريق بين النفس والأطراف، فيقع القصاص في النفس دون الأطراف، وانظر الفرق بينهما، ومقتضى الدليل أنهما سواء.

قوله: «وإذا صادف القتل تكافؤ الدماءين القاتل والمقتول لم يسقط القصاص بزواله من بعد» : الضمير في قوله: «بزواله» عائد على التكافؤ، لأن دم النصراني مكاف لدم النصراني، فإذا أسلم القاتل زال التكافؤ إلا أن القصاص ثبت قبل زواله، فترتب عليه حكمه، وكذلك إذا أعتق العبد.

قوله: «إلا أن يراعى في قتل الأب بابنه أن (يقول) عمدًا محضًا لا شبهة فيه ولا احتمال كإضجاعه وذبحه» قلت: اختلف العلماء هل يقتل الأب بالابن فذهبت طائفة إلى أنه لا يقتل به مطلقًا على أي وجه من وجوه العمد قتله، وهو قوله قول جمهور أهل العلم، وبه قال أشهب، وقال مالك: يقتل به إذا أضجعه وذبحه. واعتمد الجمهور على حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقام الحدود بالمسجد، ولا يقاد بالولد الوالد) ورأى مالك رحمه الله أن العمد {إنما} يتحقق في مسألة (الإضجاع) ونحوه، وما عداه لا يكون عمدًا لما للأب شرعًا من السلطنة على تأديب ولده، ولما عنده من المحبة الطبيعية المانعة من تعمد القتل غالبًا إلا في قتل تلك الصورة فلما تحقق عنده العمد فيها وقع القصاص كعموم القصاص بين المسلمين، وروى يحيى بن سعيد أن رجلاً من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنًا له بالسيف،

ص: 1209

فأصاب ساقه فانبرى جرحه فمات فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب فأخبره، فقال له: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر أخذ تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة، وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول، فقال: ها أنا ذا، فقال: خذها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(ليس لقاتل شيء).

فرع: لا اختلاف عندنا أن الأم والأب في ذلك سواء، واختلف المذهب في الجد هل هو كالأب في هذا المعنى أم لا؟ قولان، قال الشيخ أبو الحسن: ويتنزل منزلة الأب أبوه، ومنزلة الأم أمها عند ابن القاسم، ووقف في الجد أبي الأم، الجدة أم الأب، وقال عبد الملك: تغلط في الأجداد والجدات، وقال سحنون: اتفقوا على أنها تغلط في الجد والجدة للأم واختلفوا في الجد للأم، والصحيح أنهم آباء وأمهات لغة وشرعًا.

قوله: "وأما الأعداد فإن الجماعة تقتل بالواحد" وهذا صريح مذهب مالك رحمه الله ولا خلاف فيه عندنا نظرًا إلى المصلحة، وتغليبًا لحكمة مشروعية القتل المشار إلى ذلك بقوله سبحانه:{ولكم في القصاص حيوة} وأجمع جمهور الصحابة عليه، وذكر محمد بن المواز أن عمر بن الخطاب قتل سبعة بواحد كان أحدهم عينًا، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به، وقتل علي بن أبي طالب ثلاثة بواحد، وقال ابن عباس تقتل المائة بالواحد.

ص: 1210

قوله: "إلا أن يكون القتل ثبت بقسامة": بناء على المشهور أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد، وسنذكره بعد، وحكي ابن المنذر وغيره الإجماع على أن الذكر يقتل بالأنثى، ومراده إجماع الجمهور، وإلا فقد صح عن علي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن البصري وغيرهما أنه لا يقتل الذكر بالأنثى اعتمادًا على دليل الخطاب من قوله سبحانه:{والأنثى بالأنثى} .

قوله: "والمريض الذي لم يبلغ السياق": وانظر هذا التقييد، ومن قتل مريضًا قتل به فأي معنى للتقييد وقد ذكرنا مسألة من أجهزة على من أنفذت مقاتله.

قال القاضي رحمه الله: "وأما قتل العمد المراعى في وجوب القصاص فهو خالف الخطأ" قلت: القتل نوعان: عمد، وخطأ، وقد اختلف أهل العلم في نوع ثالث، وهو شبه العمد، وفيه روايتان عن مالك أحدهما إثباته وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، والثاني نفيه، قال في المدونة: شبه العمد باطل لا أعرفه وإنما هو عمد، أو خطأ، وجمع القاضي رضي الله عنه في قيدين: أحدهما أن يقصد القتل، والثاني أن تكون الآلة ممن يقتل غالبًا، والمثقل، هو (كل) ما ليس له حد وهو كالمحدد في وجوب القود عندنا، وقال أبو حنيفة، لا يقاد من المثقل، وعمدتنا حديث اليهودي الذي رضخ رأس الجارية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برضخ رأسه.

ص: 1211

وألحق القاضي رحمه الله الممسك للقتل بالقتل، وقد صح أن فعل المسبب كفعل المباشر وإذا صح أن عمر بن الخطاب قتل ستة وعينًا، كان الممسك أولى بالقتل من العين، وعجبًا من الشافعي، وأبي حنيفة حيث قالا لا قتل على الممسك.

قوله: "فأما إن حصل أحدهما (مع عدم) الآخر مثل أن يقصد الضرب دون القتل" إلى آخره قلت: العمد ما قصد فيه الضرب والقتل معًا، والخطأ ما لم يقصد به واحد منهما، فإن قصد الضرب دون القتل فهو المتوسط بينهما، فإن كان على وجه الغضب والثائرة وجب به القود، وإن كان على وجه اللعب، أو الأدب ففيه قولان: أحدهما: إيجاب القود به، والثاني تغليظًا

ثم تكلم على حكم الإكراه على القتل وتحصيل القول فيه أن المكره إن كان كالآلة بحيث لا يبقى له كسب ولا اختيار البتة، فلا شيء عليه، وإن كان معه ضرب من الاختيار فهل يقتل الآمر، أو المباشر اختلف الفقهاء فيه، ومشهور المذهب ما ذكره القاضي أن الآمر إن كان ذا سلطان قتلا جميعًا، وإن لم يكن ذا سلطان قتل المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر نحو المحرم يأمر محرمًا أن يقتل صيدًا، فالجزاء على القاتل دون الآمر، قال ابن القاسم: ومن أمسك رجلاً لآخر فقتله، فإن أمسكه وهو يرى أنه يقتله قتلاً به جميعًا، قال غيره كمحرم أمسك صيدًا لمحرم فقتله فعليهما الجزاء، قال ابن القاسم، وإن ظن أنه يضربه كضرب الناس قتل القاتل، وبولغ في عقوبة

ص: 1212

الممسك وسجن ولم يقتل. والقول الثاني: أنهما يقتلان جميعًا أحدهما بالمباشرة، والآخر بالسببية، وهو الأشد في النظر اعتمادًا على حديث عمر بن الخطاب في السنة وهذا إجراء، قال ابن القاسم: إذا أمر السيد عبده أو الظالم (يأمر) بعض أعوانه بقتل رجل ظلمًا، فإنه يقتل الآمر (والمأمور) قال ابن القاسم: وأما الأب يأمر ابنه أو المعلم يأمر بعض صبيانه، فإن كان المأمور منهم (غير) محتلم، فالقتل على الآمر، وعلى عاقلة الصبي نصف الدية، وإن كثر الصبيان فالدية على عواقلهم، ومن قال لرجل اقطع يدي أو افقأ عيني، أو عين عبدي، فعلى المأمور العقوبة، ولا غرم عليه في الحر ولا في العبد.

ثم تكلم على ما إذا اشترك في القتل مكلف، وغير مكلف، ومذهب مالك أنه يقتل المكلف، ويكون على غير المكلف نصف الدية على العاقلة، لأن عمد الصبي كالخطأ، وهذا إذا تعمد الصبي والمكلف قتله، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا قود على المكلف، ويرجع إلى الدية لإمكان (أن يكون) إزهاق الروح عن غير المكلف، فيبطل القود بالشبهة، واعتمد مالك على الاحتياط للدماء والتغليط في صيانتها، فجعل الاشتراك لا يغير الحكم الثابت في حال الانفراد كاشتراكه المكلفين في العمد.

فرع: قال ابن القاسم، ولو كانت رمية الصبي خطأ، ورمية المكلف عمدًا فمات منهما جميعًا، فأحب إلى أن تكون الدية عليهما لا أدري من أيهما مات، قال أشهب عن مالك عمد الصبي وخطؤه سيان،

ص: 1213

قال غيره: عمد الصبيان والمجانين خطأ على عواقلهم، ولا خلاف عندنا أن السكران كالصاحبي في حكم القتل بنا على لزوم أفاله، ثم تكلم على الشرط الثالث وهو العلم بحياة المقتول، وقد قدمناه.

قال القاضي رحمه الله: "فأما ما دون النفس فضربان قطع وجرح" إلى آخره.

شرح: ذكر في هذا الفصل الجراحات العشر، وأوصلها بعضهم إلى أحد عشر، وبعضهم إلى ثلاث عشرة، زاد فيها الدامعة واللامة، وقد فسرها القاضي بأسمائها، وأشار إلى اشتقاقها، ومن أهل العلم من قال السمحاق هي البضاعة، وتفريق القاضي أصح إن شاء الله، وتكلم بعد على أحكامها، واشترط في وجوب القود بكل ذلك أربعة شروط، وأشار بقوله:"بكل ذلك" إلى الضربين اللذين ذكر في أول الفصل حيث قال: "وأما من دون النفس فضربان قطع وجرح والجراح ضربان ضرب فيه القصاص، وضرب لا قصاص فيه".

الشرط الأول: تكافؤ الدماء، فإن حصل التكافؤ من الطرفين وجب القصاص في محله، فإن لم يحصل فله حالتان إحداهما أن يكون دم الجارح أرجح من دم المجروح، كالحر يقطع يد العبد: أو المسلم يقطع يد الكافر فلا خلاف في انتقاء القصاص في هذه الصورة كانتفائه في النفس، وعليه في العبد ما نقص من قيمته، والحالة الثانية أن يكون دم الجارح أنقص من دم المجروح، كالعبد يقطع يد الحر، والكافر يقطع يد المسلم، فحكي القاضي وغيره في هذه الصورة روايتان: إحداهما: نفى القصاص، لأن المراعي: التكافؤ من الطرفين، ولم يحصل لأن عضو العبد أو الكافر ليس بمكافئ لعضو الحر المسلم، فكان كيد الأشل بيد الصحيح، والثاني: وجوب القصاص اعتبارًا بالنفس

ص: 1214

(وههنا) تنبيه لفظي (ومعنوي) يتعلق بكلام القاضي، قد قدمنا عليه (الكلام)، حيث اشترط التكافؤ قبل، وتحصيله أن القاضي اشترط التكافؤ، وذكر قسمين أثبت بمقتضى لفظه التكافؤ فيهما، ونفاه بقوله:"أن يكون دم الجارح مكافئًا لدم المجروح" يفهم منه أن التكافؤ التساوي من الطرفين، لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، وهو أيضًا مقتضى لفظ المتضايفين، فقوله بعد:"ودم المجروح غير مكافئ لدم الجارح" نفى المكافئات التي أثبتها بظاهر لفظه لا بحقيقة قصده.

وتضمن هذا القسم الثاني أن دم الفاعل أعلى من دم المفعول به، وإذا عدلنا إلى لفظ المفاعل لأنه أعم من لفظ الجارح هنا. وصور في هذا القسم المثاليين المذكورين، الكافر يقطع يد المسلم، والعبد يقطع يد الحر.

ثم قال بعد: "فقي في هذين القسمتين" فأشار بقوله: "في هذين" لما صور في المثال في القسم الثالث فقط، كان الخلاف في محله، وكذلك في المعونة، وكذلك نقله غيره من أشياخ المذهب، ونفي القسم الثالث على هذا التأويل عاريًا عن الحكم، إذ لم يذكر فيه إلا محض التمثيل، وفي هذا تسامح، وإن أشار بقوله "هذين" إلى الصور الأربع التي هي اثنان في الحقيقة المذكورتان في القسمين الثاني والثالث، كان في الكلام نظر، إذ لا خلاف عندنا في القسم الثاني أن الأطراف تابعة للنفس، وكما أنه لا يقتل المسلم بالكافر، فكذلك لا تقطع يد المسلم إذا قطع يد الكافر، ولا يد الحر إذا قطع يد العبد، فكلام القاضي في هذا الموضع فيه تأمل جرت عادتنا بالتنبيه عليه عند المذكرات، وقد بسطه في المعونة وقال (ما نصه): "وإذا جرح الكافر مسلمًا، أو قطع طرفه لم يقتص منه، وكانت له عليه الدية وقيل: يجتهد السلطان في ذلك، ويحتمل على هذه الرواية القود، وإذا جرح العبد حرًا، أو

ص: 1215

قطع يده لم يستقد منه ويحتمل على ما قدمناه أن يقاد منه.

تكميل: تحصيل القول في التكافؤ إن قتل المكافئ المكافئ فلا إشكال، وكذلك الحكم في الأطراف فإن قتل الكافر المسلم، أو العبد الحر أو قطع طرف من أطرافه لم يقع القصاص عندنا بينهما في النفس ولا في الأطراف اتفاقًا، فإن قتل الكافر المسلم، أو العبد الحر وقع القصاص بينهما في النفس، فيقتل به إجماعًا وهل يقع القصاص بينهما في الأطراف مثل أن يقطع له يد أو رجل أو يفقأ له عينًا فيه قولان كما حكاه القاضي وغيره، ومشهور المذهب في هذه الصورة الفرق بين النفس والأطراف (ليقع القود في النفس) فيرجع في الأطراف إلى الدية، وقد قدمنا أن مقتضى الفقه إلحاق الأطراف بالنفس.

قوله: "والثاني أن يكون (الجرح) لا يعظم الخطر فيه ولا يغلب الخوف منه": وهذا أيضًا من شروط الحكم بصحة القصاص أعني تأتي المماثلة، والأصل في ذلك قوله سبحانه:{والجروح قصاص} .

قوله: "كالموضحة فما قبلها" يعني: أن القصاص يتصور في الدامية والخارصة والسمحاق والباضعة والمتلاحمة، والملطاة، والموضحة، لتأتي المماثلة، في ذلك غالبًا.

قوله: "فإن كان مما يغلب خوفه، ويعظم خطره فلا قصاص (فيه)، وفيه الدية حالة في مال الجاني كالمأمومة والجائفة والمنقلة على خلاف فيها خاصة" قلت: تفصيل هذه الجملة أن المأمومة والجائفة لا أعلم خلافًا في

ص: 1216

المذهب أن لا قود فيهما قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس في المأمومة

ولا في المنقلة قود) وهذا نص في الباب مبناه على ما ذكرناه من تعذر المماثلة (واختلفت الرواية عن مالك في المنقلة والهاشمة عمدًا، وهل يقاد منهما أم لا على قولين مبناهما على المماثلة) هل هي محققة فيهما، وروى مالك عن ربيعة أن ابن الزبير أقاد من المنقلة، وكذلك لا قود في كسر الفخذ لما ذكرناه، واختلفت الرواية عن مالك في كسر غير الفخذ هل يقاد منه أم لا؟ قولان مبنيان على ما ذكرناه. وههنا فروع:

الأول: الموضحة التي توضح العظم، وتكون في الوجه والرأس، وهل تكون في سائر الجسد أم لا فيه اختلاف، والمعتمد عليه أنها مخصوصة بالوجه والرأس، قال ابن وهب عن مالك الموضحة في الرأس والوجه من اللحي الأعلى فما فوقه، وليس في الأنف موضحة، ولا في اللحي الأسفل، وفيها الاجتهاد، قال ابن القاسم: في الخد الموضحة، وإن كانت في سائر الجسد ففيها حكومة قال غيره معنى الموضحة من جهة اللغة: أما أوضح العظم، وهذا المعنى محقق في كل عضو من أعضاء الجسد، ولا خلاف أن فيها القصاص إن كانت عمدًا، وإن كانت خطأ ففيها نصف عشر الدية لقوله -صلى اله عليه وسلم-:(وفي الموضحة خمس من الإبل).

ص: 1217

الفرع الثاني: إذا برئت عن شين، قال مالك: يزاد فيها بقدره، لأنه نقص أحدثته جناية الجاني، وقال أشهب: لا يزاد لها شيء لقوله -صلى اله عليه وسلم-: (وفي الموضحة خمس من الإبل).

الفرع الثالث: اختلف المذهب في عقل ما لا قود فيه من الجراح كالمأمومة والجائفة على ثلاث روايات: أحدها أنها على العاقلة، لأن المستحق بها المال فهي كالخطأ، والثانية أنها في مال الجاني، لأن العاقلة إنما حملت الدية للعجز عنها بخلاف الأرواش، والرواية الثالثة أنه يبدأ بمال الجاني، فإن كان فيه وفاه، وإلا كان الباقي على العاقلة.

الفرع الرابع: دية الخطأ مؤجلة على العاقلة في ثلاث سنين، واختلفت الرواية في بعض الدية هل تنجم أو لا؟ فقيل عن مالك لا ينجم إلا الدية الكاملة، وروى عنه التنجيم، واختلف عنه في صفة التنجيم في البعض فقيل هو لاجتهاد الإمام، وقيل: النصف والثلثان في السنتين، والثلث في السنة.

الفرع الخامس: اختلفت الرواية في دية العمد إذا وقع العفو على الدية، أو على القول بتخيير أولياء الدم هل تكون حالة في مال الجاني أو مؤجلة، فالمشهور أنها حالة في مال الجاني إلا أن يشترط الأجل. وفي كتاب محمد إنها منجمة في ثلاثة سنين كالخطأ.

الفرع السادس: الدية المغلظة على الجاني على مشهور المذهب، والقول الثاني: أنها على العاقلة قال عبد الملك: هي حالة، وقال ابن

ص: 1218

القاسم: على العاقلة مؤجلة، ثم رجع فقال على الجاني حالة في ملئه وعدمه وهو الصحيح.

الفرع السابع: إذا كانت عمدًا، وقصاص كالمسلم يقتل الكافر فهل هي حالة أو مؤجلة فيه قولان في المذهب.

قال القاضي رحمه الله: "والثالث أن يكون مما (تتأتى) فيه المماثلة": إلى قوله: "ولا يقاد من قطع أو جرح إلا بعد اندماله".

شرح: اشتراط المماثلة ثابت لأنه معنى القصاص لغة وشرعًا، إذ مقتضاه أن يحدث عليه مثل ما جنى فإن تعذرت المماثلة تعذر القصاص.

قوله: "وذلك يكون بثلاثة (شروط) ": الإشارة بقوله: "وذلك" إلى التعذر الذي هو مصدر دل عليه الفعل.

الوجه الأول: إن تعذر المماثلة لمعنى يعود إلى الفعل لعدم إمكان التساوي فيه كالشلل وما يضطرب من الكسر، وذهاب (بعض) السمع، وقطع ما يمنع (بعض) الكلام من اللسان، فلا قصاص في هذا لما ذكرناه من عدم إمكان التساوي. قال أشهب عن مالك فيمن عض إنسانًا في لسانه فقطع منه ما (يمنعه به) الكلام شهرين، ثم تكلم ونقض كلامه قال: أحب إلى أن لا قود فيه، لأني أخاف أن يذهب من كلامه أكثر من ذلك، أو أن يذهب جميع الكلام، وقال في المجموعة القصاص في كل جرح، إلا فيما أجمع العلماء على أنه لا قصاص فيه كالمأمومة والجائفة، وكسر الفخذ، وكسر الصلب، قال ابن المواز: ولا قصاص في عظم العنق والفخذ والصلب وشبه ذلك من المتألف، وفي المجموع عن مالك إن أمكن القود في اللسان ففيه القود إذا كان يستطاع ولا يخاف عليه، قال أشهب: أجمع العلماء على

ص: 1219

أن لا قود في المخوف قال: واللسان عندي مخوف، فلا قود فيه، وفي المجموعة والموازية عن مالك من ضرب رجلًا فأشل يده ففيه القود يضربه كما ضربه، فإن شلت يده، وإلا فعقلها في مال الضارب، قال أشهب: ولا قصاص في عظام الصدر لأنه متلف، ورواه ابن المواز، ولابن القاسم قول آخر أنه يسأل عنه أهل المعرفة، ولا قود في رض الأنثيين ولو قطعهما أو أخرجهما عمدًا فعليه القصاص، قال ابن القاسم: لا أدري المعنى في قوله مالك: في رض الأنثيين إلا أني أخاف أن يكون رضهما متلفًا، وكذلك ما علم أنه متلف وقول القاضي:"وما يضطرب من الكسر" يقتضي تنويع الكسر إلى نوعين يتصور القصاص في أحدهما دون الآخر، وهو المضطرب، وقد صح أن عمر بن عبد العزيز أقاد من كسر العظام ما ليس بمتلف، وقال به ابن شهاب وربيعة وغيرهما. قال مالك: في الموازية والمجموعة الأمر المجمع عليه في كسر اليد والرجل القصاص، قال أشهب: وما علمت من منع منه إلا أهل العراق قالوا إذا لا يستوي الكسران، قال أشهب عن مالك في (قصبتي) اليد القصاص إن أستطيع ذلك. قال القاضي أبو محمد في المعونة لا قود في كسر الفخذ وفي غير الفخذ، روايتان مبنيتان على إمكان المماثلة.

فرع: مما لا يقاد منه أيضًا لعدم المماثلة اللطمة والضربة بسوط أو عصا، ونتف اللحة (والشارب)، وأشفار العينين وشعر الرأس، وفي المجموعة من نتف لحية رجل، أو شاربه، أو رأسه فعليه العقوبة والسجن، ولا قود فيه، قال ابن القاسم: فيه الأدب، وقال أشهب: فيه القصاص وكذلك قال في أشفار العينين، وإذا قلنا فيه القصاص (فقال أصبغ: فيه

ص: 1220

القصاص) بالوزن وعاب ذلك غيره.

فرع: إذا وجب القصاص في الجراح وغيرهما فمن الذي يباشره بيده أما في الجراح فلا خلاف أنه ليس للجروح أن يباشره بنفسه ويدعى لذلك من له بصر بالقصاص (وقال مالك) وليس كل أحد يحسن القصاص وأجرته على الذي يقتص منه، وهل لولي المقتول أن يتولى القتل بيده أم لا؟ قولان: المشهور أن له ذلك، وينهى عن التشويه والمثلة، قال أشهب: ليس له ذلك مخافة أن يتعدى ويقطع أعضاءه ويمثل به.

قوله: "والثاني يعود إلى فقد المحل كالأعمى يقلع عين البصير": قال الشارح رضي الله عنه ولا خلاف في تعذر القود في هذه الصورة، ويرجع إلى الدية اضطرارًا، وكذلك يتعذر في القسم الثالث إذا عفا بعض الأولياء لتعذر تمييز حقه كما ذكره.

قوله: "والرابع أن لا يتعقبه قتل المجروح أو غيره" هذا راجع إلى الشروط في وجوب القود وسقط فيه حكم القصاص الأدنى لدخوله تحت القصاص الأعلى كالطهارتين إلا أن يقصد بالجرح التمثيل والتشويه فتجتمع عليه العقوبتان، فيجرح ثم يقتل، ولا خلاف عندنا في هذه الصورة، وسواء قتل المجروح أو غيره، لأن القتل لا يتبعض، وهذا صريح مذهب مالك الذي لا اختلاف فيه فيما أعلم إلا ما وقع في (المدونة) عن مالك أن يجرح ثم يقتل، وهذا الرواية في غير الممثل العابث.

وقال الشافعي وأبو حنيفة يتعدد الواجب بتعدد الموجب، فيجرح ثم يقتل تنكيلًا وعقوبة وتوفيه للقصاص مقتضاه، ثم حكى اختلاف المذهب في

ص: 1221

لواجب بقتل العمد هل هو القصاص فقط، وهو اختيار أشهب وابن وهب، وبه قال ابن المسيب (ويحيى بن سعيد) وربيعة وغيرهم من السلف، ومقتضى الأحاديث الصحيحة تخيير الولي، قال محمد بن المواز لم يختلف قول مالك أن الجراح بخلاف القتل، فإذا أراد المجروح العفو على أخذ الأرش، لم يجبر الجارح عليه، والفرق بينهما أن الجارح بامتناعه من الأرش يريد استبقاء المال لنفسه، والقائل يريد استبقاء المال لغيره فهو مضار بامتناعه من الدية قال أشهب: وعليه (يدل) مقتضى قوله سبحانه: {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء: 29].

قوله: "ويجب القصاص في الحل والحرم، وقع القتل فيه أو في غيره ولجأ إليه": وهذا مذهب مالك والشافعي خلافًا لأبي حنيفة القائل بأن الحرم محرم، ولا يقتل من لجأ إليه، ولكن يضيق عليه فلا يطمع عنده، ولا يسقى حتى يضطر إلى الخروج منه، وبه قال عمر بن الخطاب، وقال رضي الله عنه:(لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما تعرضت إليه) لقوله عليه السلام: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس). وهو مقتضى قوله سبحانه: {ومن دخله كان أمنا} [آل عمران: 97]، والصحيح الاعتماد على قوله صلى الله عليه وسلم:(في الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًا بجزية أو بخربة) على كلتا الروايتين الصحيحتين الواقعتين في الصحيح للبخاري كما قيدناه عن أشياخنا رحمهم الله.

ص: 1222

قال القاضي رحمه الله: "ولا يقاد من قطع أو جرح إلا بعد اندماله" إلى آخر الفصل.

(شرح: ذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يقاد من الجرح إلا بعد اندماله). وقال الشافعي: يقاد منه في الحال، والمعتمد لنا ما خرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن جابر بن عبد الله أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقيد فقال له حتى يبرأ فعجل فاستقاد فعنتت رجله وبرئت رجل المستقاد منه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ليس لك شيء إنك أبيت. وذكر أسد بن موسى في حديث جابر قال: قال رسول الله -صلى اله عليه وسلم-: (يستأنى بالجراحات سنة) وذكر الدارقطني من حديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من الجرح حتى يبرأ). والعلة في ذلك أنه قد يؤول إلى النفس، قال محمد بن المواز: وروى ذلك عن أبي بكر رضي الله عنه، وفي كتاب ابن المواز أنه ينتظر البرء والاندمال من غير توقيت سنة ولا غيرها وهو ظاهر كلام القاضي. وروى ابن وهب وابن القاسم في السن تصفر، والعين تدمع، والشجة والكسر، والظفر يؤخر ذلك كله سنة قياسًا على المعترض، قال أشهب: إن مضت السنة والجرح بحالة عقل مكانه. قال المغيرة: لم أسمع في ذلك توقيتًا، وفرق ابن المواز بين العين وغيرها فاعتبر في العين تمام السنة، وفي غيرها البرء من غير توقيت وإنما قلنا

ص: 1223

بوجوب الانتظار إلى الاندمال فترى ما جرح العدوان فلا يخلو أن يبلغ النفس أو ما دونها، وإن بلغ ما دون النفس، وكان عمدًا اقتص من عينه دون سرايته، وإن بلغ النفس وجب القصاص في النفس، ويسقط حكم الجرح كما قدمناه لدخول القصاص (الأدنى تحت الأعلى إلا أن السراية إن كانت في الحال وجب القصاص في النفس بغير قسامة، وإن كانت بعد أيام وجب القصاص بعد القسامة) فيحلف الأولياء أن من جرحه مات، ويقتلونه. هذا حكم السراية في جرح العدوان وأما سراية القصاص، فهل هي مضمونة أم لا؟ اختلف الفقهاء فيها فعندنا، وعند الشافعي أنها غير مضمونة إلا أن يتعمد المقتص العدوان، فتكون سرايته مضمونة، فإن كان المجروح، أو وليه، ففي ماله. وإن كان أجيرًا أمينًا من أهل البصر كانت من باب غلط الطبيب والخاتن، وقال أبو حنيفة سراية القصاص مضمونة والدليل لنا أنه قصاص استحق عليه لسبب كان منه فلم يضمن أصله القطع في السرقة. وههنا فروع:

الأول: إذا أخطأ متولي القصاص فزاد، أو نقص غير قاصد للعدوان هل يلزمه حكم الزيادة أم لا اختلف المذهب فيه بناء على الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ والمعتمد عليه في المذهب ما رواه أبو زيد عن ابن القاسم أنه إذا بلغ ذلك ثلث الدية فعلى العاقلة، وإن قصر ففي ماله فإن نقص لم يكرر القصاص، وفي الموازية والعتبية من رواية أصبغ عن ابن القاسم إن علم النقص قبل أن ينبت اللحم، ويندمل الجرح، أتم ذلك، وإن طال الأمر فلا شيء عليه فيه لا اتهام ولا دية، وقال غيره: إن كان يسيرًا فلا يقاد، ولو كان بحضرة ذلك، وإن كان كثيرًا اقتص له منه تمام حقه قبل البرء، فإن طال فله ما بينهما من الدية، قال مالك: إن برئ المستقاد منه ومثل بمجروح أو برئت

ص: 1224

جراحه على عيب أو نقص أو عقل، فإن المستفاد منه لا يكسر ثانية، وبعقل له بقدر ما نقص قال وأنه أمر مختلف فيه، وهذا أحب ما فيه إلي.

فرع: لو شجه موضحة عمدًا فأذهب العقل أو السمع فدية العقل أو السمع في مال الجاني قاله ابن القاسم وأشهب: وفي الموازية عن أشهب دية العقل ففيها ديتان دية الخطأ في ماله ودية السراية على العاقلة.

قوله: "والمماثلة في القصاص معتبرة في ثلاثة أشياء أحدها في صفة الفعل": وهذا والذي بعده متفق على اعتباره، ومعنى الأول أن الجناية إن كانت جرحًا كان القصاص كذلك، وإن كانت قطعًا فكذلك اعتبار بالمحل مثل أن يفقأ عينه اليمنى، وليس للجاني العين اليمنى، فللمجني عليه دية عينه، لتعذر القصاص لتعذر محله قاله مالك فتعلقت الجناية (البدنية) بالمال لتعذر تعلقها بالبدن، ومن (هذه الأسولة) الأعور يفقأ عين الصحيح عمدًا فالصحيح (أن المجني عليه) بالخيار بين القود أو الدية، إذا كانت الباقية مثل المفقوءة في كونها يمنى أو يسرى، قال ابن المواز، اختلف الناس في ذلك، فقال ابن القاسم وعبد الملك وأكثر أصحابنا ما ذكرنا من تخيير المجني عليه بين القصاص ونصف الدية، وقضى به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ويحيى بن سعيد وغيرهم، وإليه رجع مالك وروى ابن القاسم وعيسى بن دينار عن مالك ليس المجني عليه إلا القصاص، وروى ابن حبيب أن مالكًا رجع إلى هذا، فإن كانت عينه الباقية يمنى وفقأ يسرى عين الصحيح، فقال ابن المواز رجع أصحابنا على أن لا قصاص، وغنم له نصف الدية.

قوله: "والثالث فيما يستوفي به القصاص": وهو الآلة وهذه المسألة مشهورة الخلاف، فقال (فريق) من العلماء لا قود إلا بحديدة، وهو قول

ص: 1225

أبي حنيفة، وقال مالك: المرء مقتول بما (به) قتل ولكل واحد سلف من الصحابة والتابعين، والعمدة لنا الكتاب والسنة، أما لكتاب فقوله سبحانه:{وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} [النحل: 126] وأما السنة فحديث (العرنيين) الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا) وحديث اليهودي الذي رضخ جارية من الأنصار على أوضاح لها، فرضخ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه خرجه والذي قبله البخاري. وههنا فروع:

الأول: من قتل بالنار هل يقتل بها أم لا؟ اختلف المذهب فيه، والمشهور عن مالك أنه يقتل بالنار وروى ابن المواز (أنه لا يقتل بالنار من قتل) بها لقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يعذب بالنار إلا رب النار) وروى أن علياً رضى الله عنه أتى بزنادقة فحرقهم بالنار فسمع بذلك عبد الله بن عباس فقال: اما لو كنت لما حرقتهم بالنار لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يعذبوا بالنار) ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) ورفع إلى مالك أن يهوديًا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأملى على بعض طلبته أن يكتب: يقتل ولا يستتاب فكتب طالبه من قبل رأيه: ويحرق بالنار، ثم عرضه على مالك فاستصوبه.

ص: 1226

ولو غرقه في الماء غرق، فإن كان ممن إذا كتف لم يغرق وثقل بشيء ينزله إلى القعر حتى يموت، واختلف إذا قتله بالسهم هل يقاد منه بالسهم، وكذلك إذا قتله (بالرمي) بالحجارة فالمشهور أنه يقتل بالسهم، وبالحجارة، وقال ابن الماجشون هو من التعذيب فلا يقتل بذلك ولكن بالسيف.

قوله: "إلا (في) موضعين" أحدهما: أن يكون معصية كاللواط، ولا خلاف بين المسلمين في امتناع المماثلة في هذه الصورة. والثاني: أن تكون الآلة معذبة كالعصا والسكين الكالة، وفي هذا القسم خلاف ففي المجموعة عن مالك من قتل بعصا قتل بها، قال ابن القاسم: يضرب بالعصا حتى يمو، قال غيره يؤمر بالاجتهاد في الضرب، ولا يقتل بالتطويل عليه والتعذيب.

قوله: " (إلى) ما هو أوحى": أي أسرع في الإزهاق، ثم ذكر القاضي أن الزمان والحال معتبران في مواضع الضرورة كالمريض والحامل وشدة البرد، والدليل عليه تأخيره صلى الله عليه وسلم المرجومة إلى الوضع كما ثبت في الصحيح.

فصل

قال القاضي رحمه الله:"والواجب بالقتل وما دونه من الجراح ثلاثة أشياء": ذكر في هذا الفصل موجبات القتل والجراح، وحصرها في ثلاثة: القصاص، والدية، والحكومة وعفو الولي وهو معلوم الجواز فالقصاص بالعمد المحض، ومواضع الدية أربعة كما ذكره القاضي الخطأ المحض والعمد المحض إذا تعذر القود فيه بعفو الأولياء، ومثل فعل الأب بابنه

ص: 1227

إذا حذفه فقتله كما فعل قتادة المدلجي حيث حذف ابنه بالسيف فأصاب ساقه فبرئ جرحه فمات. وقد تقدم ذكره.

وهذا إذا زعم الوالد أنه أراد تأديبه، وأشبه دعواه فتلزمه الدية المغلظة. قال القاضي رحمه الله:"ويلحق بذلك شبه العمد عند من أثبته" قلت: وهو ما قصد به الضرب دون القتل، والرابع فما لا قود فيه من جراح العمد، فالمتالف الذي يخشى السراية من القصاص فيها، وأما ما لا قود فيه من قتل العمد فهو الكافر يقتله المسلم لعدم التكافؤ كما ذكرناه وكلام القاضي في هذا الفصل ظاهر لا إشكال فيه.

قوله: "والدية ثلاثة أنواع إبل وذهب وفضة": وهذا تنبيه على خلاف الشافعي إنه أنكر دية الذهب والورق، وجعل على أهل الذهب والورق قيمة إبل الدية، والمذهب ما ذكرناه.

قوله: "ويؤخذ كل نوع منها من أهله الذي يكون (غالب) أموالهم لا يؤخذ (سوى هذه) " ونبه بقوله: "لا يؤخذ غير ذلك" على مذهب أبي حنيفة ومحمد بن الحسن القائلين أنه يؤخذ من أهل البقر ماءتا بقرة، ومن الغنم ألف شاة، ومن أهل الحلل مائة حلة يمانية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بذلك. ثم ذكر أن الديات على ثلاثة أقسام: مخمسة وهي دية الخطأ ففي النفس مائة من الإبل خمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون، وخمس بني لبون، وخمس حقاق، وخمس جداع. ودية العمد المحض أربعة ينقص عن الخطأ بنو لون. ودية شبه العمد مثلثة: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة حوامل في بطونها أولادها. ثم ذكر الخلاف هل تغلط الدية على أهل الذهب والورق أم لا؟ والصحيح أن التغليظ شرع فلا يثبت إلا حيث أثبته الشارع، وهو في قضية المدلجي في الإبل بالسن فقط. والقول الثاني: أن التغليظ في المذهب

ص: 1228

والورق، وهذا جنوح إلى مذهب الشافعي القائل إن الدية على أهل الذهب والورق هي قيمة المائة من الإبل بلغت ما بلغت. وثانيهما: أن ينظر ما بين دية الخطأ والتغليظ فيجعل جزءًا زائدًا على دية الذهب والورق.

قوله: " (تغليظ) في الجراح كالقتل إذ كان مما فيه القود" يريد إذا كان (الجرح) مما فيه القود، فاسم كان عائد على الجرح، وذلك أن الجراح كما قدمناه على قسمين: قسم فيه القصاص وهو الذي تغليظ فيه الدية، وقسم لا قصاص فيه، ولا تغليظ وصفة التغليظ أن ينظر الواجب في الجرح، فإذ كان ثلث الدية أو (غيرها) أخذ ذلك المجروح على صفة (دية) التغليظ مثلثة، فالتغليظ فيها بالسن كما كان في الدية الكاملة.

قوله: "وتحمل العاقلة دية الخطأ": وهذا كما ذكره، وإما ذلك رفقا بالجاني لما كان فعله خطأ ولا تحمل دية العمد ولا اعتراف به ولا الصلح.

(فرع: لو أقر بالقتل خطا ففيه روايتان، إحداهما: لا شيء عليه، ولا على العاقلة، والثانية: أنها عليه لا على العاقلة، إلا أن ترضى العاقلة).

فرع: لا تحمل العاقلة من دية الجراح إلا الثلث فصاعدًا، وما قصد عن الثلث فهو في مال الجاني لأنه في حيز القليل، وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة من الدية ما بلغ نصف العشر فصاعدًا، وقال الشافعي: تحمل

ص: 1229

العاقلة قليل الدية وكثيرها، ولأجل هذا الخلاف نبه القاضي عليه.

قوله: " والاعتبار بثلث دية المجروح وقيل غيره": هذا فرع مختلف فيه عندنا، فروى أشهب عن مالك في المجموعة والعتبية أنه ينظر إلى دية المجني عليه أو الجاني، فإذا بلغت الجناية ثلث دية أحدهما حملته العاقلة، وقال ابن القاسم، قال ابن كنانة لمالك الذي كنا نعرف من قوله أن الاعتبار في ذلك بدية المجروح، فأنكر ذلك مالك، وحكى القاضي وغيره أن مشهور المذهب اعتبار ثلث دية الجاني لا المجني عليه وهو الأظهر من مذهب ابن القاسم وقوله القاضي، وقيل: غيره إشارة إلى ما ذكرناه من الخلاف.

قوله: "والعاقلة العصبة الأقرب فالأقرب": وهذا كما ذكره، ولا حد لعددهم، ولا لعدد (ما) يؤخذ منهم، وإنما في الديوان من كل مائة درهم دهم، ونصف العطاء، والمعتبر في ذلك يوم قسمة الدية لا يوم الجناية على الملئ بقدره، وعلى المعسر بقدره، وههنا فروع:

الأول: هل يعقل أهل البدو مع أهل الحضر لأنه لا يستقيم أن يكون في دية واحدة إبل وعين وقاله ابن القاسم وقال أشهب، وابن وهب، وعبد الملك، يشتركون جميعًا في الدية، ويضم القبائل بعضها إلى بعض في الدية، ولا يعقل أهل مصر أهل الشام، ولا أهل الشام مع أهل مصر، وفي كتاب ابن سحنون عن أبيه ويضم عقل إفريقية بعضهم إلى بعض من طرابلس إلى طبنة

ص: 1230

وهي على الأحرار البالغين المياسر، قال ابن الماجشون: لا شيء على المعدم، قال ابن القاسم، ولا على المديان وقال أصبغ: يعقل السفيه مع العاقلة، وقاله ابن القاسم: في العتبية، ويعقل المولي الأعلى المولى الأسفل وهل يعقل المولى الأسفل المولى الأعلى فيه روايتان في المذهب، واختلف هل يؤدي الجاني مع العاقلة، قال في المجموعة وغيرها هو في العاقلة، قال بعض الأشياخ: وهذا استحسان وليس بقياس، وقال في غيرها لا يدخل معهم، ولا يدخل النساء والصبيان والمجانين في العقل، قاله مالك: قال الأشياخ: خمسة أصناف يعقل عنهم ولا يعقلون الصبيان والمجانين والنساء والفقراء والمديان وإذا مات بعض العصبة بعد توزيع الدية عليهم، قال سحنون: إذا قسمت صارت كدين ثابت (على الميت، فتؤدي من ماله، وقال أصبغ: الجميع على باقي العاقلة قال ابن الماجشون: إذا مات أو أفلس بعد التوزيع فهو دين ثابت) عليه، وإذا كان بعض العاقلة أهل عمود، وبعضهم أهل ورق وذهب كان الأقل تبع للأكثر.

قوله: "واختلف في جراح العمد الذي لا قود فيها": وفي مثل فعل الأب بابنه فقيل: في مال الجاني حالة، وقيل: على العاقلة حالة، وقدمنا الكلام فيه.

قوله: "ومن قتل نفسه فدمه هدر": هو مذهب مالك، وقال الأوزاعي وابن حنبل: إن جنى على نفسه خطأ فالدية على العاقلة يدفعونها إلى ورثته. والصحيح أن الجاني على نفسه لا يحمل عنه أحد. وههنا فروع:

الأول: إذا وضع سيفًا بطريق أو غيره يريد قتل رجل بعينه فعطب فيه

ص: 1231