المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد)) - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ٢

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌ الإيلاء

- ‌ الظهار

- ‌[اللعان]

- ‌باب في العدة والاستبراء وما يتعلق بذلك

- ‌باب الرضاع وما يتعلق به

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب الإجارة

- ‌باب القراض

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الشركة

- ‌باب الرهون

- ‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

- ‌باب الصلح والمرافق وإحياء الموات

- ‌باب الوديعة والعارية

- ‌(كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق)

- ‌باب في الحوالة والحمالة

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الإقرار

- ‌باب اللقطة والضوال والآباق

- ‌كتاب الشفعة والقسمة

- ‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

- ‌فصل والدية تختلف باختلاف حرمة المقتول ودينه

- ‌فصل: وتجب بالجناية على العبد قيمته لا دية

- ‌((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد))

- ‌كتاب الحدود

- ‌كتاب القطع

- ‌كتاب العتق والولاء وما يتصل (به)

- ‌فصل"والولاء للمعتق إذا كان عنه

- ‌فصل"الكتابة جائزة ولا يجبر السيد عليها إن طلبها العبد

- ‌فصل"والتدبير إيجاب وإلزام

- ‌كتاب الأقضية والشهادات

- ‌كتاب الأحباس والوقوف والصدقات والهباتوما يتصل بذلك

- ‌كتاب الوصايا والمواريث والفرائض

- ‌كتاب الجامع

الفصل: ‌((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد))

قوله: ((كان القتل بانفراد، أو بالاشتراك)) يعني: إذا قتل جماعة رجلًا مؤمنًا خطأ فعلى كل واحد منهم كفارة عندنا، وقال بعض العلماء: تجزئ عن الجميع كفارة واحدة لقوله تعالى:} ومن قتل مؤمنًا خطًأ {فعم الاشتراك والانفراد وهذه الصفة عتق أو صيام لا إطعام فيها، وقد تقدم الكلام في شروط الرقبة، وأن من شروطها أن تكون (مؤمنة) سليمة من العيوب ليس فيها شرك ولا عقد حرية.

قال القاضي رحمه الله: ‌

((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد))

قلت: اتفق العلماء على أن الردة محبطة للعمل بنفسها، لكن اختلف الناس، والمذهب هل تبطل الأعمال بنفس الردة، وهو الذي حكاه القاضي عن المذهب أو بشرط الوفاة عليها، ومن مذهب مالك فيه قولان: مشهورهما ما حكاه.

فمن اعتمد على قوله تعالى:} لئن أشركت ليحبطن عملك {قال بالمشهور، ومن اعتمد على قوله تعالى:} ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر {الآية فشرط الوفاة على الكفر في إحباط العمل، وتظهر فائدة هذا الخلاف فيما تركه من الصلوات في حال كفره هل يلزمه قضاؤه إذا عاد إلى الإسلام وهل يبطل حجة وطلاقه الثلاث أم لا؟ وكل هذه المسائل قد اختلف العلماء فيها ومذهب مالك أنه لا يقضي ما ترك من الصلوات في حال ردته إذا عاد إلى الإسلام لقوله سبحانه:} قل للذين كفروا إن ينتهوا {الآية، وقال الشافعي: يقضي ذلك اعتمادًا على استمرار الخطاب الأول ويلزمه إعادة الحج، وحجته الأولى غير مجزئة عن حجة الفريضة لرجوعه إلى الإسلام، ويبطل طلاقه الثلاث عند ابن القاسم، وعند غيره لا يبطل وحكمه أن يستتاب خلافًا لقوم

ص: 1255

من أهل العلم اعتمادًا على حديث عمر حين بلغه أن مرتدًا قتل قبل الاستتابة، قال: اللهم إني لم أحضر، ولم أمر ولم أرض إذ بلغني فإن تاب قبلت توبته)) لقوله سبحانه:} قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم {الآية ولقوله سبحانه:} وهو الذي يقبل التوبة عن عباده {الآية، ومن العلماء من قال: لا يستتاب ولا تقبل توبته إن تاب، لقوله صلى الله عليه وسلم:(من بدل دينه فاقتلوه) وهذا حكم مطلق، وهل تدخل المرأة إذا ارتد في عمومه أم لا؟ اختلف الفقهاء فيه، فقال الجمهور أنها داخلة تعلقًا بظاهر العلوم، وقال أبو حنيفة: إذا ارتدت المرأة لم تقتل اعتبارًا من الأنوثة العاصمة من القتل لنهيه صلى الله عليه وسلم: (عن قتل النساء والصبيان) فخلاف خصوصية المحل، وإذا قيل: لم يورث لأنه كافر والمسلم لا يرث كافرًا فماله فيء لجماعة المسلمين. وقال أبو حنيفة يورث عنه ما كسب قبل ردته، وهل يكون ماله فيئا بنفس الردة، أو بعد القتل فيه خلاف مشهور أنه (يتوقف) على القتل لا على الكفر، وإذا انتقل الكافر من كفر إلى كفر لم يقتل إذ ليس بمرتد شرعًا بناء على أن الكفر كله ملة واحدة عندنا خلافًا للشافعي، ولا خلاف عندنا أن الزنديق يقتل وهو الذي يظهر الإسلام ويعتقد الكفر، وكان يسمى منافقًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل توبته إذ لا يعلم صحتها، وقال الشافعي: تقبل توبته

ص: 1256

كما قبل النبي صلى الله عليه وسلم (إسلام) المنافقين، وحكى الشيخ أبو الوليد وغيره عن ابن عبد الحكم وأصبغ أن الزنديق يستتاب. ثم ذك حكم الساحر، وقد اتفق أهل السنة على أنه حق، وله حقيقة في نفسه وتأثير في الأديان وأحوال النفس كالحب والبغض خلافًا لمن أنكره، وقال قوم: ليس له حقيقة، وقد جاء بذكره الكتاب والسنة الصحيحة، قال الله العظيم:} وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت {الآية إلى قوله:} وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر {وهاروت وماروت بدل من الملكين لا مضاف إلى بابل، لأن ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخل عليه الألف واللام انجر وغلظ فيه الشيخ أبو عبد الله الكناني (القابسي) الأصولي فأعربه مضافًا، وغلظ فيه أبو الحسن بنخروف النحوي (ولم يرجع إليه، لأنه كان

ص: 1257

ضعيف البضاعة في علم العربية، وكان ابن خروف يقرأ عليه الإرشاد لأبي المعالي وهو يقرأ على ابن خروف النحو) فجرى بينهما هذا الوضع.] سمعت ذلك من الأستاذ أبي عبد الله بن هشام النحوي وشارح الإيضاح عفا الله عنا أجمعين [. وفي قوله:} فلا تكفر {تأويلان، وقيل المعنى، فلا تكفر بتعليمه، وقيل:(بعلمه) لا بتعليمه، وقد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم (بنات أسد ابن أعصم) فكان يخيل إليه أن فعل الشيء ولم يفعل في مشط، ومشاطه تحت رعوفه في بئر ذروان خرجه مسلم والبخاري وغيرهما من أئمة الدين. وأجمع العلماء على أن الإجارة عليه حرام وعمل ما يبطله والإجارة عليه جائز، قال ابن المسيب لأنهم إنما يريدون الإصلاح قال ابن المسيب: فأما ما ينفع، فلم ينه عنه، وأجمع العلماء على أنه إن عمله، وقتل

ص: 1258

به، فإنه يقتل به، فإن عمله ولم يقتل به فهل يقتل أم لا الجمهور من العلماء على أنه يقتل بعمله سواء قتل به أم لا هذا إذا كان الساحر مظهرًا للإسلام، لأن الله سبحانه سماه كفرا لاعتقاده أن ذلك من فعله، وأنه قادر عليه، ومذهب أهل الحق أن الله سبحانه هو المنفرد بالقدرة عليه، فإن كان الساحر ذميًا فهل يقتل أم لا؟ اختلفت الرواية فيه عن مالك فروى ابن سحنون عن أبيه أنه يقتل أضربه أم لا إلا أن يسلم، وقال مالك: لا يقتل إلا أن يدخل سحره ضررًا على المسلمين فيكون ناقضًا للعهد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل أسد بن الأعصم ولا بناته. وههنا فروع:

الأول: هل يستتاب الساحر أم لا؟ المشهور أنه لا يستتاب قاله مالك، وقال ابن عبد الحكم وأصبغ: الزنديق والساحر يستتبان، فإن تابا وإلا قتلا، وبه قال الشافعي.

فرع: إذا لم يباشر السحر بنفسه، ولكنه ذهب لمن يعلمه له لم يقتل ويؤدب (أدبًا شديدًا) نص عليه محمد ابن المواز.

فرع: إذا سحر العبد والأمة سيدها وثبت ذلك عند السيد قطعًا، فقال أصبغ ليس لسيده قتله، ولا يلي قتله إلا السلطان، وروى أن حفصة أم المؤمنين قتلت جارية لها سحرتها.

فرع: إذا قتل الزنديق، أو المرتد، أو الساحر فهل على قاتلهم شيئًا أم لا؟ قال ابن المواز: لا شيء على قاتل الزنديق من دية ولا قصاص على عاقلة المرتد. واختلف في الدية، وقال ابن القاسم: عليه دية أهل الدين الذي ارتد إليه، وقال مرة أخرى في المرتد ديته دية المجوسي في العمد والخطأ. وقال

ص: 1259

سحنون: لا دية له في عمد أو خطأ، وكذلك اختلف إذا قطع له عضو هل يكون فيه أرش أم لا؟ بناءً على قتله هل فيه الدية أم لا؟ لأنه مستحق للقتل شرعًا، وقال محمد أيضًا: فيمن قطع يمين سارق وخطأ لا دية عليه، وفي موضع آخر عن ابن القاسم عليه ديتها حكاه الشيخ أبو الحسن وغيره من الأشياخ.

فرع: إذا قتل الساحر بسحره فماله لبيت (المال) ولا يصلى عليه إذا كان مجاهرًا به، وإن كان مستترًا به فقال ابن عبد الحكم، وأصبغ إذا قتل فماله لورثته من المسلمين، ولا أمرهم بالصلاة عليه فإن فعلوا فهم أعلم. (قال المؤلف رحمه الله) مقتضى قتله كفرًا أن ماله فيء مطلقًا سواءً كان مستترًا أو مجاهرًا والله أعلم.

ثم تكلم على حكم الفيئة الباغية وهم عصاة متأولون كمقاتلة عثمان ومقاتلة علي يوم صفين ويوم الجمل، ولا يخرجهم القتال بالتأويل إلى حد الكفر فيغسل قتلاهم، ويصلي عليهم، ولا يتبعون بما استهلكوا من (الأموال إذا تابوا، ولم يطالب أحد من المبغاة المقاتلين لعلي رضي الله عنه في صفين بما استهلكوا من) نفوس وأموال، وقد أجمع أهل الحل والعقد على أن فئة معاوية بغاة ظلمة بالتأويل ثم ذكر (حكم) المحارب، والأصل (فيه) الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى:} إنما جزاء اللذين يحاربون الله ورسوله {الآية واختلف في سبب نزولها، والصحيح أنها نزلت في (العرنيين) كما خرجه البخاري ومسلم، وقيل: نزلت في قوم من أهل

ص: 1260

الذمة نقضوا العهد، وقيل: نزلت في قاطع الطريق وقيل: نزلت في الكفار، وفيها دليل على وجوب إقامة الحدود، (وعلى أنها لا تكفر الذنوب بانتفاء الطلب بها عند الله سبحانه، وهو معارض) لقوله صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارة لأهلها) ولقوله صلى الله عليه وسلم في عبادة بن الصامت: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى بذلك فأجره على الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه فبايعناه على ذلك).

وقد اختلف العلماء في المفهوم من هذه الآية في مسائل

الأول: هل هذه الحدود على الترتيب أو على التخيير في مذهب مالك في ذلك قولان أحدهما أن ذلك على التخيير رواه سحنون عن ابن القاسم عن مالك وصرف ذلك إلى اجتهاد الإمام ونظره، وعليه جمهور العلماء ما لم يقتل فإن قتل فلا خلاف أنه يقتل لا خيار للإمام في في غيره حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي عن المذهب، والثاني أنه على الترتيب، فلا يقتل من لم يقتل ولا يصلب ولا يقطع فإن قتل ولم يأخذ المال قتل ولم يقطع ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع، والذي يقتضيه كلام العرب أن الإمام مخير لأنه مقتضى ((أو)) ويجوز أن تكون للتنويع، وبه تعلق الشافعي رضي الله عنه وكان من أئمة اللسان.

المسألة الثانية: الحدود النصوص عليها في الآية أربعة بمقتضى النص

ص: 1261

وعجبًا لمن أسقط منها ما هو منها، وزاد فيها ما ليس منها، وهل هذا إلا إحادث شرع ولا يجوز إلا للمعصوم.

الحد الأول: القتل، وحقيقته واحدة، فإن قيل: ما معنى المبالغة فيه، قلت: هو نظير ما ذكره سيبويه وحكاه عن العرب: أنهم يقولون: إبل مغلطة، ولا يقولون بعير مغلط، والغلاط وشم في النعق، وهو تكثير بحسب المال لا بحسب الصفة في نفسها، ولذلك يقولون في الواحد مغلط.

والثاني: الصلب، وقد اختلف (الفقهاء) في معناه فروى (أشهب) أنه يصلب حيًا، ثم يترك حتى يموت جوعًا، ومن العلماء من فسره بأنه يصلب بعد القتل، ومنهم من فسره بأنه يصلب، ثم يطعن بالرمح طعنًا فهل يصلب وهو حي أو ميت فيه من الخلاف ما ذكرناه، فرواية ابن القاسم وابن حبيب عن مالك أنه يصلب حيًا، ثم يقتله بطعنة، ورواية غيره أنه يصلبه بعد قتله في الأرض، وبه قال الشافعي.

واختلف المذهب إذا صلب فروى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يتركه على الخشبة حتى تفنى الخشبة، ويأكله الكلاب، ولا يمكن أهله من إنزاله ردعًا وتهديدًا. وقال أصبغ وغيره:(ينزله) ويصلى عليه، ويدفن (قال سحنون): إذا صلبه الإمام أنزل من تلك الساعة، ودفع إلى أوليائه فيغسلوه ويصلوا عليه.

ص: 1262

فرع: إذا بنينا على انه ينزل (لأهله) من الخشبة ليغسلوه ويصلوا عليه (فيفعلوا ذلك) ورأى الإمام إعادته إلى الخشبة، فقال سحنون للإمام: أن يعيده إلى الخشبة، وروى عنه ابنه محمد أنه لا يعاد إليها بعد الصلاة عليه وبه أجابني حين سألته عن ذلك، ولو حبسه الإمام ليقتله فمات في السجن أو قتل فهل يصلب أم لا؟ الرواية أنه إن مات في السجن حتف أنفه فإنه لا يصلب، وإن قتل فيه أو قتله الإمام فليصلبه.

الحد الثالث: تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وعندنا أن للإمام القطع سواء أخذ نصابًا، أو أقل من ذلك، لأن ما لا يعتبر فيه الحرز لا يعتبر فيه النصاب. وقال الشافعي: لا تقطع يد المحارب فيما دون النصاب وههنا فروع:

الأول: القطع من الكوعين والكعبين كالقطع في السرقة، واختلفوا هل يتأتى القطع على الكوعين والكعبين، أم لا؟ قولان.

والثاني: إذا كان مقطوع اليمنى أو كانت شلاء. فقال ابن القاسم: تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى. وقال أشهب: تقطع يده اليسرى ورجله اليسرى. ومبنها على تحقيق المخالفة، فابن القاسم حققها حسًا، وأشهب أثبتها معنى، لأن اليد اليسرى هي منه اليمنى في المعنى لقيام المنافع.

الحد الرابع: النفي في الأرض، وهو رابع الحدود الثلاثة بمقتضى القرآن، وعجبًا ممن أسقطه ولم يره في الآية حدًا، وإنما رآه حالاً للمحارب لا حكمًا له، حكاه القاضي أبو الوليد الباجي وغيره عن ابن الماجشون وغيره.

قال القاضي أبو الوليد: قال ابن الماجشون: ليس عندنا النفي الذي

ص: 1263

ذكره الله عز وجل أن ينفى من قرية إلى قرية فيسجن بها، ونما قول الله تعالى:} أو ينفوا في الأرض {معناه: أن يطلبوا فيختفوا وأنتم تطلبوهم لتقام عليهم العقوبة، فإذا ظفر بهم فلا بد من أحد العقوبات الثلاث: القتل، أو الصلب، أو القطع وهو في ذلك مخير. قال (وهكذا قال) المغيرة وابن دينار، قال ابن حبيب: وقاله (ابن شهاب) وبه أقول. قال القاضي أبو محمد، وبه قال الشافعي قال الشيخ أبو الحسن: قال ابن الماجشون: هو الطلب لهم فيكون فرارهم واختفاؤهم ممن يطلبهم هو نفيهم.

قال المصنف عفا الله عنه: وهذا الكلام بعيد عن التحقيق وخارج عن كلام العرب، والمقطوع بصحته من اللسان أن النفي حد معطوف على الحدود الثلاثة التي قبله. وههنا فروع:

الأول: الصحيح من مقتضى الكلام أن النفي حد معطوف على الثلاثة الحدود وهو إخراجهم من بلدهم وحبسهم في البلد التي يغربون إليه حتى تظهر توبتهم. قال أصبغ: ويكتب إلى عامل البلد الذي غرب إليه بذلك ولا نفي على العبيد لحق السادات، وقال مالك مرة: النفي أن يضربه ويطيل سجنه، ولا يخرجه (وقال: النفي حبسه ببلده حتى تظهر توبته وهو قول أبي حنيفة، والقول الأول أسعد) بظاهر القرآن. قال المؤلف عفا الله عنه: هذه الحدود الأربعة في المحاربين هي التي ذكر الله سبحانه، فمن أسقط النفي فقد أبطل النص، ومن زاد عليها الضرب فقد استدرك على الله سبحانه:} وما كان ربك نسيا {. وروى مطرف عن مالك إذا استحق المحارب عند الإمام النفي فيجلده. قال غيره: يسجنه ببلده حتى تظهر توبته.

ص: 1264

قال أشهب: وإن وجده مع النفي لضعيف، ولو قاله قائل: لم أعبه. قال ابن القاسم: يأخذ بأيسر ذلك وهو الجلد والنفي. قال ابن القاسم: وليس بجلده حد إلا الاجتهاد من الإمام فمقتضى هذه الرواية إثبات الجلد حدًا خامسًا، والآية لا تقتضيه البتة.

فرع: اختلف المذهب في المرأة إذا حاربت. والصحيح أن حدها القطع، أو القتل من غير صلب، لأنها عورة، واختلف في نفيها، فإن قلنا: إن النفي السجن (نفيت)، وإن قلنا: إنه التغريب سقط إلا مع الولي أو الجماعة المأمونة.

تنبيه: إذا رأى الإمام أن يسلم المحارب إلى أولياء مقتوله فعفوا عنه. قال أشهب: ينقض ذلك ويقتل ولا عفو لهم فيه. وقال ابن القاسم: هم حكم قد نفذ فالعفو ماض ولا ينقض عليهم، ولا سبيل إلى قتله، والأول أصح.

قوله: "ويسقط عنه - إن جاء تائبًا قبل القدرة عليه - (حقوق) الله تعالى ويؤخذ بحقوق الآدميين" وهو كما ذكره لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم *} [المائدة: 34]. وفي العتبية عن أشهب: إذا تاب المحارب وقد كان زنى أو سرق، وفي حرابته لم يوضع ذلك عنه، وإنما تسقط عنه حدود الحرابة دون سائر الحدود، وصفة توبة المحارب أن يختلف إلى المسجد ويعرف جيرانه ذلك منه، ويظهر منه (فعل) الخير والندم على ما فات وإن لم يأت السلطان. قال ابن وهب وابن عبد الحكم: توبة المحارب أن يأتي السلطان تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله عز وجل. قال ابن الماجشون: إن لم تكن توبته إلا أن يأتي السلطان، ويقول له: جئتك تائبًا لم ينفعه ذلك حتى تعرف توبته قبل مجيئه.

ص: 1265

قوله: "ولا يراعى تكافؤ الدماء فيها" وهذا كما ذكره، لأنه ليس قتل قصاص، واعتبر الشافعي تكافؤ الدماء، ثم ذكر صفة المحارب، وسوى بين المحارب في المصر والبدو وهو صريح مذهب مالك رحمه الله. وقال أبو حنيفة: لا يكون محاربًا إلا في الصحراء والبرية عن البلد. وبه قال ابن الماجشون قال عبد الملك: لا يكونوا محاربين في القرية يريد بذلك القرية كلها، والدليل لنا ظاهر الآية. ومقتضاها العموم في المدينة والصحراء.

قوله: "ولا عفو في الحرابة لولي الدم" قد قدمنا الخلاف فيه، والصحيح كما ذكره القاضي، لأنه حق الله سبحانه ولمن طلبه أن يدافعه، وإن قتل اللص فشر قتيل وإن قتل المطلوب فخير قتيل لقوله صلى الله عليه وسلم:(من قتل دون ماله فهو شهيد). قال أشهب: جهاد اللصوص جهاد من أفضل الجهاد، قال مالك في أعراب قطعوا الطريق جهادهم أفضل من جهاد الروم.

واختلف المذهب في فرعين من هذا الباب:

الأول: هل يناشد المطلوب اللص الله تعالى أم لا؟ فعن مالك أنه يناشده الله ثلاثًا، فإن عاجله قتله، قال: يدعوه ليبادر إلى قتله، لأنه قد استحق حق الحرابة لخروجه.

الفرع الثاني: إذا طلب اللص الشيء اليسير من المال، هل يعطى أم لا؟

ص: 1266

المشهور أنه يعطاه، ولا يقاتل. وفي العتيبة وغيرها: لا يعطى اللص شيئًا، وإن قل وليقاتل فذلك أقطع لطعمهم، واختلف في فروع تتعلق بالمحارب.

الأول: ليس للإمام أن يؤمن المحارب إذا طلب الأمان بخلاف المشرك، لأن المشرك يقر على دينه، والمحارب فإنه لا يقر على حرابته، فإن أمنه الإمام فنزل على حكم الأمان، وقد كان امتنع من النزول قتله. قال ابن المواز: اختلف في ذلك فقيل: يتم له الأمان، وقيل: لا يتم له ذلك، ويؤخذ بحقوق الله سبحانه وسواء أمنه السلطان أو غيره.

الفرع الثاني: لو أن محاربين أخذوا مالًا واقتسموه فتاب أحدهم، وقد كان في حين حرابته أخذ حظ من المال فهل يغرم التائب جميع المال، لأن بعضهم تقوى ببعض أو إنما يغرم منه ما أخذ فقط قولان وبالأول قال ابن القاسم، وبالثاني قال ابن عبد الحكم وهو الصحيح.

الفرع الثالث: ما وجد بأيدي اللصوص فادعوا أنه لهم فهو لهم حتى يقيم مدعية البينة؛ قاله أشهب.

الفرع الرابع: إذا طالب اللص ففر من الطلب فهل يتبع أم لا؟ قال أصبغ عن ابن القاسم: إن كان قتل أحدًا فليتبع، وإن لم يقتل أحدًا فما أحب أن يتبع وفرارهم كالتوبة. قال سحنون: يتبعون ولو يلغوا (نكس) العماد.

الفرع الخامس: إذا ارتد المحارب ولحق بدار الكفر (يقاتلنا) معهم، ثم أسر استتابه الإمام، فإن تاب سقط عنه القتل بالردة، وأخذه بأحكام الحرابة في حقوق الله وحقوق الآدميين.

الفرع السادس: قال مالك في الذين يسقون الناس السيكران هم

ص: 1267

محاربون، وقال فيمن لقى رجلًا فسأله (طعامًا) فأبى فكتفه، وأخذ منه طعامه وثيابه يشبه المحارب يضرب وينفي، وكذلك من غتال رجلًا أو صبيًا فأدخله بيته فقتله، وأخذ منه متاعًا فهو محارب.

قوله: "وللرجل أن يدفع عن نفسه ما يصول عليه من إنسان أو بهيمة" وهذا كما ذكره، لقوله سبحانه:{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195].

قوله: "ولا ضمان عليه فيما يؤول إليه أمره" قلت: لأنه متصرف بالإذن، واختلف المذهب في المغضوض (إذا خرج إصبعه فكسر إحدى ثنيتي العاض وفيه قولان: أحدهما: ما قضى به صلى الله عليه وسلم حيث قال: لا شيء على المعضوض) لتعدي العاض بالعض، وأن المعضوض مأذون له في الدفع عن نفسه فلا شيء عليه، وإن آل دفعه عن نفسه إلى قتل العاض، وروى أن امرأة خرجت تحتطب فأتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بحجر فقتلته فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب فقال: قتيل الله لا تؤدى أبدًا وأهدر دمه.

ثم ذكر في خطأ الطبيب الحاذق روايتان: إحداهما: أنه مضمون لأنه كالقتل خطأ، والثاني: أنه لا يضمن لأنه تولد عن فعل مباح، وقد تقرر الخلاف في الاجتهاد هل يرفع الخطأ أم لا؟ وكذلك الخاتن والمؤدب إذا لم يجاوز الأدب المأذون فيه، فما كان من هذه الجنايات دون الثلث فعلى الجاني، وما زاد فعلى العاقلة، وتضمين حافرا البئر إذا كان متعديًا، وممسك الكلب العقور، وموقف الدابة حيث لا يجوز له إيقافها ظاهر من باب أن فاعل السبب كفاعل المسبب، ويضمن أهل المواشي ما أفسدته بالليل دون النهار اعتمادًا على قضاء النبي صلى الله عليه وسلم: (وذلك أن ناقة للبراء دخلت حائطًا فأفسدته

ص: 1268

فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى على أرباب الأموال حفظها بالنهار، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل. والله الموفق بفضله.

ص: 1269