الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الصلح والمرافق وإحياء الموات
وما يتصل بذلك
شرح: الأصل في الصلح الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله سبحانه:{والصلح خير} [النساء: 128] وأما السنة فما روي مرفوعًا إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- أنه قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا، أو حرم حلالاً) وقد روي موقوفًا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو على قسمين: صلح على الإقرار، وصلح على الإنكار، فالصلح على الإقرار جائز، بإجماع المسلمين،
وأما الصلح على الإنكار فأجازه الجمهور، ومنعه الشافعي لأنه من أكل المال بالباطل، واعتمد الجمهور على أنه شراء خصومه وافتداء من اليمين، وقد صح جوازه عن عثمان، وابن مسعود وغيرهما فكان حجة، وقسمه القاضي قسمين، معاوضة وإسقاط وإبراء، فالقسم الأول: أن يدعي على رجل شيئًا، ثم يبيعه منه فلا يجوز إلا في معلوم وحكمه حكم البيع، فيراع (في صحته) ما يراعي في البياعات، فيحرم فيه (من وجوه الربا ما يحرم في البيع ويحل فيه ما يحل فيه، والقسم الثاني: وضع بعض الحق المدعي فإن كان الغريم مقرأ فهو صلح على (الإقرار، وإن كان منكراً فهو صلح علي) الإنكار، وهل يراعي في الصلح على الإنكار ما يرعي في البيع أم لا؟ فيه قولان عندنا مثل أن يدعي دنانير فينكر فيصالحه عليها بدراهم مؤاجلة، فهو محرم عند ابن القاسم، لأنه صرف مستأخر، وأجازة أصبغ وغيره، ولم يره صرفًا وإنما رآه معاوضة على إسقاط المنازعة فقط، فإذا وقع الصلح فاسدًا بخروجه إلى باب الربا فهل يفوت بوقوعه أم يفسخ أبدًا، أو يفسخ ما لم يطل هذه الثلاثة الأقوال واقعة عندنا، والصحيح أنه كالبيع الفاسد فيفيته ما يفيت البيع الفاسد.
قوله: "وإحياء الموات على وجهين": قلت اختلف الفقهاء في إحياء الموات على ثلاثة أقوال، فاشترط فيه أبو حنيفة إذن الإمام قرب من العمران
أم لا؟ ولم يشترط الشافعي مطلقًا، وفصل مالك فاشترطه في القريب دون البعيد هذا هو المشهور من مذهبه، وقال أصبغ وسحنون: لا يفتقر إلى إذن الإمام فيما قرب، ولا فيما بعد، ورواه ابن عبدوس عن أشهب، والأصل في جوازه قوله -صلي الله عليه وسلم-:(من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق) والإحياء: البناء والغرس وحفر الآبار وشق العيون وغير ذلك من أنواع (العمارة) مما يعلم أنه إحياء، واختلف الرواية عن المذهب فيمن أحيا (أرضًا) وتركها حتى خربت، ثم أحياها رجل آخر فهل تكون للأول لأنه ملكها أولاً بالإحياء، أو للثاني لأنها كالموات حيث خربت فيه عندنا قولان المشهور أنها للثاني كالصيد إذا استأنس ثم استوحش، ثم صاده صائد فهو للثاني، لأنه باستيحاشه صار غير مقدور عليه.
فرع: إذا بيننا على المشهور من اشتراط إذن الإمام فيما قرب تعين النظر في أمرين:
الأول: حد القرب والنظر فيما إذا أحيي بغير إذن الإمام فيما اشترطنا فيما إذنه، وحد القرب عندنا مختلف فيه، أما البلدان فالقريب منها ما تلحقه مواشيها بالرعي في غدوها ورواحها وهو لهم مسرح، ومحطب، وأما الدار فحريمها إذا كانت محفوفة بما احتوت مرافقها التي يضطر إليها (ويعلمها)
الناس من مرافقها في العادة كمطرح التراب، ومصب الميزاب، ومواضع الطريق، وأما البئر فليس لها حريم معلوم لاختلاف الأرض بالصلابة والرخاوة، وحريمها في الحقيقة ما لا يضر بمائة، ولا يضيق مناخ إبلها، ومرابط مواشيها، وأما إذا أحيي بغير إذن الإمام ممن أوجبنا عليه الاستئذان فالحكم فيه للإمام إن حسن عنده أمر فعله، فإما أبقاه (بيد من أحياه)، وإما أزاله وإما أقطعه، وإما أبقاه للمسلمين وأعطاه قيمته، وهل يعطي قيمته مقلوبًا وهو المشهور لأنه متعد بالإحياء، أو قائمًا حكاه ابن القاسم في وثائقه.
فرع: هل للذمي أن يحي في بلاد المسلمين أم لا؟ اختلفت الرواية فيه عن المذهب، فحكي القاضي أبو الحسن بن القصار عن المذهب أنه ليس له ذلك، وقال ابن القاسم: له الإحياء لعموم لفظ الحديث إلا في جزيرة العرب لقوله -صلي الله عليه وسلم-: (لا يبقين دينان بأرض العرب) فإن أحيي في جزيرة العرب نزع من يده، وأعطي قيمة ما عمر، وقال مطرف وابن الماجشون له الإحياء في البعيد عن العمران دون القريب، ولا يجوز له الإحياء (في القريب)، وإن أذن له الإمام، ويعطي قيمته، وينزع من يده.
قوله: "وليس لحريم البئر حد إلا الاجتهاد"، وهذا كما ذكره،
والمعهود من الشريعة رفع الضرر (فما يعلم أن يضر) بالبئر الأول كذلك الحريم، وهو مختلف باختلاف الأرضي، هذا في آبار (البراري) والفلوات، وأما إذا أراد أن يحفر بئراً في أرض ملكه تضرب ببئر جاره، فهل يمنع من ذلك أم لا؟ حكي القاضي فيه روايتان المنع رفع للضرر، (والجواز) لأنه تصرف في ملكه بما يحتاج إليه.
قوله: "ومن حفر بئرًا في ملكه فإن البئر مع الأرض ملك له، وله منع الناس منها": اختلف الفقهاء في منع الماء للناس على ثلاثة أقوال: فقالت طائفة: لا يمنع ولا يباع مطلقًا كان في أرضه مملوكة أم لا؟ وهو مذهب أهل الظاهر، وقوم رأوا أنه مما يتصور ملكه، والمنع منه بالإطلاق، وفرق قوم من الفقهاء بين أن يكون في الأ {ض المملوكة فيملك، أو غير المملوكة فلا يملك، واعتمد الأولون على قوله -صلي الله عليه وسلم- (لا يمنع نفع ولا فضل ماء) وجعله رسول الله -صلي الله عليه وسلم- من الأشياء المشتركة كالحطب والنار، واعتمد من أجاز منعه على أنه كسائر (المتمولات الممتلكة).
وتحصيل مذهب مالك في ذلك: أن المياه على ثلاثة أقسام: عام، وخاص، ومتردد بين الخصوص والعموم، فالعام ضربان: الأول: الماء الجاري في الأرض المملوكة المستقر فيها، فهذا لا خلاف في المذهب أنه مملوك لمن جري في ملكه، واستقر في أرضه على صفة الملك لواحد كان أو للجماعة فلمالكه منعه، وتحجير فضله، والاختصاص بجميعه، وليس عليه أن يرسله إلى من تحته، لأنه بدخوله في أرضه وجريانه عليها، واستقراره فيها
صار ملكًا له، ويقتسمه الشركاء في هذه الأرض على حسب أملاكهم، والثاني: الماء الذي طريقة في الأرض المباحة كالماء الذي يسيل من شعاب الجبال وبطون الأودية، وهذا حكمه أن يسقي به الأعلى فالأعلى، إذا كان الأعلى قديمًا، وإن كان محدثًأ فسنذكره، واختلفت الرواية في تحديد السقي، فقال ابن وهب، وابن الماجشون وغيرهم يسقي الأول ويرسل جميع الماء في حائطة حتى يبلغ الماء في الحائط كله كعب من يقومفيه فحينئذ يغلق مدخل الماء ويرسله إلى جاره، وروي زياد بن عبد الرحمن عن مالك: أن الأول يجري الماء في (ساقيته إلى حائطه) قدر ما يكون الماء في الساقية إلى الكعبين حتى يروي حائطه، أو يفني الماء، فإذا روي حائطه أرسله كله، فاعتبر في هذه الرواية ري الحائط، وجعل الكعبين مقدار الماء في الساقية لا في أرض الحائط، وفي المدينة من رواية عيسي عن ابن وهب أن الأول يسقي حتى يروي حائطه، ثم يمسك بعد ري حائطه من الماء ما يبلغ إلى الكعب، فجعل الكعبين في هذه الرواية مقدار الماء المسقي بعد الري، وقال ابن كنانة: إن كان المسقي زرعًا فيمسك الماء حتى يبلغ النعل، وإن كان شجرًا فيمسكه حتى يبلغ الكعبين، فهذه (أربع) روايات واقعة عن مالك، وهذا إذا كان الأعلى قديمًا (لا يسبقه) الأسفل بإحياء وغرس، ثم أراد غيره إحياء ما فوقه، والسبق إلى الماء، فالقديم أحق، ويمنع المحدث من الأحداث إلى علي حسب دولته، فإذا رضي بحطه من الماء مما فضل عن الأقدم، فله ذلك، نص عليه سحنون.
والقسم الثاني: الماء الخاص وهو المصون في الأواني، أو في الآباء الممتلكة بالحر أو بالشراء، فهذا من جملة الأملاك التي يختص بها مالكها ولا يتصرف فيها غيره إلا بإذنه.
والقسم الثالث: المتردد بين الخاص والعام، وهو ماء (البئر) المحتقرة في الفيافي والبوادي للماشية، فلا يباع ولا يورث، وحافرها أحق (بقدر كفايته)، وعليه إرسال فضلته وورثه حافرها بمنزلته، والعادة تشهد في مثل هذا، لأن حافره إنما يحفره (لتشرب) ماشيته، ويتصدق بما فضل من مائة على من احتاج من مسافر أو مقيم إلا أن ينص حين الحفر على التمليك التام، ويشهد بذلك فلا سبيل عليه، وإذا وقعت الضرورة وتبينت الحاجة كان المسافر أولى من المقيم بالماء الذي فضل عن صاحبه لإضرار المسافر. وروي ابن وهب عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال:(لا يقطع طريق ولا يمنع فضل ماء ولا ابن السبيل على شربه للدلو والرشا والحوض، ويخلي بينه وبين الدلو فيستقي، ولا يلزم الاستقاء له)،وفي الأثر: أن أبناء السبيل اقتتلوا مع أهل الماء وجرحوهم فأهدر عمر رضي الله عنه جراحات أهل الماء وأغرمهم جراحات ابن السبيل، وقال: ابن السبيل أولي الماء من الساقي عليه، وهو مقتضي المصلحة والله أعلم.
وحكي القاضي قولين فيهما، وإذا أوجبنا على الجار أن يبذل فضل مائة المملوك لزرع جاره الذي خيف عليه الهلاك، هل يقضي عليه ببدل الفضلة بالثمن، أو بغير ثمن قولان مبنيان على اعتبار المصالح، وإنما يقضي عليه لزرع جاره الذي خيف هلاكه عطشًا إذا كان جاره قد زرع على أصل ماء ثم انهارت بئره، فأما إن زرع اتكالاً على فضل ماء جاره فلجاره المنع، إذا لا ضرورة حينئذ.
قوله: "ويستحب لمن سأله جاره أن يغرز خشبة في جداره أن لا يمنعه": قلت: اختلف الفقهاء هل يقضي بهذا على من امتنع منه أم لا؟.
فقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور: يقضي به اعتمادًا على نص حديث أبي هريرة: (ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتفاكم)، وقال مالك وأبو حنيفة: لا يقضي بها على من أباه اعتمادًا على قوله -صلي الله عليه وسلم- (لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس)، ومن هذا النمط ربيع عبد الرحمن بن عوف وخليج الضحاك بن خليفة ذكر مالك في موطئه أن الضحاك بن خليفة ساق خليجًا من العريض فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمه فأبي محمد، فقال له الضحكاك: لم تمنعني وهو لك منفعة تشرب به أولاً وآخرًا ولا يضرك، فأبي محمد فكلم فيه الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر محمد بن مسلمة فأمره أن يخلي سبيله، فقال محمد: لا، فكرر عليه، فامتنع، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك فأمره عمر أن يمر به ففعل الضحاك، روي أصبغ عن مالك فقال: لا يؤخذ بقضاء عمر بن الخطاب على محمد بن مسلمة في الخليج، وروي مالك أيضًا في موطئه عنعمر بن يحيي المازني عن أبيه قال: كان في حائط جده ربيع لعبد الرحمن بن عوف فأراد عبد الرحمن أن يحوله إلى ناحية من الحائط هي أقرب إلى أرضه، فمنعه صاحب الحائط فكلم عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب فقضي له بتحويله، وروي أصبغ عن مالك قال: يؤخذ بقضاء عمر
لعبد الرحمن في تحويل الربيع دون قضائه في الخليج، قلت: لعله فرق بينهما، لأن تحويل الربيع ليس من إحداث طريق لم يكن، ثم ذكر القاضي حكم فتح الكوة.
وتحصيل القول في ذلك على مقتضي المذهب: أن لا يمنع من إحداث ما ينتفع به، ولا يضر بجاره، فإن أضرت الكوة بجاره رفع الضرر شرعًا، وأما الجدار المشترك فليس له فتح الكوة فيه إلا بإذن الشريك ثم ذكر أن السقف لصاحب السفل، وعليه إصلاحه ليتمكن صاحب العلو من الانتفاع به تمكن مثله، فإن اختلفا في السقف حكم به لصاحب السفل، (كما ذكرنا: وقال الشافعي: هو مشترك بينهما؛ لأن السقف محمول على ملك صاحب السفل) فكان حائزًا له بملك حامله كالدابة يحمل عليها مالكها فالحامل والمحمول ملك له إلا أن يثبت خلافه، والعرف شاهد في الجدال المتداعي فيه (فمن شهد له به) العرف فهو له بعد يمينه، وقيل بغير يمين بناء على أن العرف كشاهدين، والقمط بسكون الميم جمع قماط، وأصل القماط الخرقة التي يلف بها الصبي.
قوله: "وليس لأحد الشريكين في الحائط أن يتصرف فيه إلا بإذن شريكه" وهذا حكم جميع الأملاك المشتركة، وإذا انهدم الحائط المشترك فهل (جبره) عليهما، وهل يجبر علي بنائه من أباه، في المذهب قولان: أحدهما: الجبر لقوله -صلي الله عليه وسلم- (لا ضرر ولا ضررا)،والثاني: نفي الجبر، لأن
جبر المالك على أن يبني ملكه غير معهود، وللقائل أن يقول تصور الجبر ههنا لحق الغير.
قوله: "ومن له حق في إجراء (مائة) على سطح غيره فنفقه السح على صاحبه"، وهذا كما ذكره لأن صاحب المسيل له حق في مرور الماء على السطح، فعلي صاحب السطح (تمكينه) من ذلك بحيث يتمكن من منفعته، ويتوصل إلى حقه بخلاف من له شرب في بستان، فاحتاجت ساقيته أو نهره إلى نفقه فهي عليهما جميعًا، لأن موضع الماء لهما والسطح لصاحبه فقط، ولا شيء معه فيه لصاحب المسيل، وقد تقدم الكلام في وجوب طرح المتاع من المركب يخاف عليه الغرق، وذلك من باب التسبب في إحياء النفوس، ولا كلام في وجوبه، ومن هذا المعني أكل المضطر الميتة إذا خاف الموت، وقد تقدم الكلام في كيفية التوزيع بين أهل السلع، وهل الرقيق كالمال أو كالأحرار، وفي ذكر موضع التقويم، ثم ذكر مسألة المركبين يصطدمان ولا ضمان علي واحد منهما، إذا لا يقدر على رد الريح، بخلاف الفارسين يصطدمان فيقتل أحدهما صاحبه فدية كل واحد منهما على عاقلة صاحبه والله الموفق.