المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ٢

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌ الإيلاء

- ‌ الظهار

- ‌[اللعان]

- ‌باب في العدة والاستبراء وما يتعلق بذلك

- ‌باب الرضاع وما يتعلق به

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب الإجارة

- ‌باب القراض

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الشركة

- ‌باب الرهون

- ‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

- ‌باب الصلح والمرافق وإحياء الموات

- ‌باب الوديعة والعارية

- ‌(كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق)

- ‌باب في الحوالة والحمالة

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الإقرار

- ‌باب اللقطة والضوال والآباق

- ‌كتاب الشفعة والقسمة

- ‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

- ‌فصل والدية تختلف باختلاف حرمة المقتول ودينه

- ‌فصل: وتجب بالجناية على العبد قيمته لا دية

- ‌((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد))

- ‌كتاب الحدود

- ‌كتاب القطع

- ‌كتاب العتق والولاء وما يتصل (به)

- ‌فصل"والولاء للمعتق إذا كان عنه

- ‌فصل"الكتابة جائزة ولا يجبر السيد عليها إن طلبها العبد

- ‌فصل"والتدبير إيجاب وإلزام

- ‌كتاب الأقضية والشهادات

- ‌كتاب الأحباس والوقوف والصدقات والهباتوما يتصل بذلك

- ‌كتاب الوصايا والمواريث والفرائض

- ‌كتاب الجامع

الفصل: ‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

قال القاضي رحمه الله تعالي: "المستحق عليهم الحجر ضربان" إلى آخره.

شرح: الحجر: منع المالك من التصرف في ملكه لمعني ما، والأصل فيه الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب فقوله سبحانه:{ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم} الآية [النساء:5]، وأما السنة فما ثبت في الصحيح أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- حجر على معاذ بن جبل، وقال لغرمائه خذوا ما وجدتم، وليس لكم غيره) قال الزهري: أدان معاذ ديناً فباع رسول الله -صلي الله عليه وسلم-[ماله] حتى قضي دينه، وقال:(ليس لكم إلا ذلك)، وأجمع العلماء على أن جنس الحجر مشروع، أما على الأيتام الذين لم يبلوغ الحكم فبالاتفاق، لأنه نص القرآن، وإذا اختلفوا في الحجر على العقلاء الكبار السفهاء فالجمهور على أن للقاضي أن (يستأنف) الحجر عليهم

ص: 1109

اعتمادًا على فعله -صلي الله عليه وسلم- حين حجر على معاذ، وعلى أنه إجماع الصحابة، حين وقعت قضية عبد الله بن جعفر مع أن الآية التي ذكرناها أصل في هذا الباب، تقتضي أن سبب الحجر السفه، فحيث وجد علق الحكم (عليه)، وللخصم أن يقول السفه جزء العلة، ومجموع العلة الصغر والسفه معاً بناء على جواز التعليل بالعلة المركبة، وتعليل الحكم الواحد بعلتين وهو الأصح من أقوال الأصوليين، وقال طائفة من العلماء لا يبدأ الحجر على الكبار، و (الدليل) لهم حديث حسان بن سعد وفيه أنه ذكر لرسول الله -صلي الله عليه وسلم- أنه يخدع في البيوع فجعل له رسول الله -صلي الله عليه وسلم- الخيار ثلاثاً ولم يحجر عليه).

وقسم القاضي المحجور عليهم على قسمين، وقال علماؤنا: أسباب الحجر سبعة، الصبا، والجنون، والتبذير، والرق، والفلس، والمرض، والنكاح في حق الزوجة، وسنذكر ذلك مفصلاً، ثم قسم المحجور عليهم لحق أنفسهم أقساماً، وبين ذلك رضي الله عنه أحسن تبيين.

قوله: "ولا تراعي عدالته في دينه أو فسقه": وهذا لأن المقصود من الرشد ضبط المال وإصلاحه وتنميته، ونبه على خلاف الشافعي حين راعي العدالة في الرشد، وأوجب الحجر على الفاسق المصلح لماله.

ص: 1110

قال مالك: وإذا احتلم الغلام فله أن يذهب حيث شاء، وهذا يدل على أنه لا بالبلوغ محمول على الرشد، وقال الشيخ أبو محمد بن أبي زيد يذهب بنفسه لا بماله.

قوله: "وأما (في) الصغيرة فيراعي مع البلوغ وإصلاح المال أن تتزوج، ويدخل بها زوجها": ويؤنس رشدها إذ لا يتصور إيناس الرشد من المرأة إلا (بعد اختبارها غالباً)، وفي المذهب في ذلك روايات:

الأولى: إنها بالبلوغ وإيناس الرشد محمولة على الرشد من غير اشتراط التزويج كالذكران، وهي رواية عن مالك، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة.

والرواية الثانية: أن المعتبر الدخول وأبناء الرشد من غير تحديد بمدة مقدرة.

والثالثة: أنها لا يحكم لها بالرشد إلا بعد سنة.

والرواية الرابعة: اعتبار سنتين بعد الدخول.

والرواية الخامسة: أنها لا يحكم لها بالرشد إلا أن تمر بها بعد الدخول خمس سنين.

والرواية السادسة: أنه لا يحكم لها بعد إلا بعد سبع سنين التي هي أقصي (أمد) الحمل، وهذا لا وجه له، وهذا كلها استحسانات ليس عليها من الشرع دليل.

ص: 1111

واختلف المذهب في فروع:

الأول: أفعال المهمل، وعندنا في ذلك روايتان، فروي ابن القاسم أن أفعاله كلها على الرد وروي ابن كنانة، وابن نافع أن أفعاله كلها ماضية، وزاد المتأخرون قولين: أحدهما أنه إن كان ظاهر السفه ردت أفعاله، (وإن كان خفي السفه مضت أفعاله)، القول الآخر: أنه إن كان (سفهه) حاصلاً قبل البلوغ، ثم استمر ولم يأت عليه حال رشد فأفعاله مردودة، لأنه لم يزل في ولاء، يبيع ما يساوي ألفاً بمائة.

(الفرع الثاني: المحجور عليه إذا رشد ولم يفك الحجر عنه هل تمضي أفعاله أو ترد فيه قولان حكاهما الإمام أبو عبد الله)، ثم ذكر علامات البلوغ، والاختلاف فيها إلا في الإنبات خاصة، وفي تقدير السنين، أما الإنبات فهو من علامات البلوغ عندنا، ولم يعتبره أبو حنيفة، واختلف فيه قول الشافعي، والدليل على أنه بلوغ، أو دلالة على البلوغ، قوله -صلي الله عليه وسلم- (الجزية على من جرت عليه المواسي وقال في بعض غزواته:(اقتلوا من جرت عليه المواسي) وحكم-صلي الله عليه وسلم- سعدًا في قريظة، فحكم بقتل مقاتلهم، وسبي ذراريهم، فكنا نكشف عن مآزرهم فمن أنبت منهم قتلناه،

ص: 1112

ومن لم ينبت جعلناه في الذراري، فقال -صلي الله عليه وسلم- (حكمت فيهم بحكم الله) وذكر أهل الآثار أن عثمان بن عفان أتي بغلام قد سرق فقال إن كان أخضر منزره فاقطعوه، واختلف في سن البلوغ فعن ابن وهب أن أقل ذلك خمسة عشرة سنة، وقيل ثمانية عشر، وقيل ما بينهما، وحديث ابن عمر حين (أغزاه) النبي -صلي الله عليه وسلم- وهو ابن خمسة عشر سنة، ورد ابن أربع عشر سنة، دليل على صحة ما ذهب إليه ابن وهب على أن حديث ابن عمر فيه اختلاف بيه (الرواة).

واختلف المذهب في أفعال البكر المعنسة، فروي ابن الحكم ومطرف عن مالك أنها إذا عنست جاز صنيعها في مالها، وإن كان لها أب أو وصي، وقال ابن القاسم: لا يجوز لها بيع، ولا عتق، ولا عطية، ولا كفالة، وإن أجازه الولد لم ينبغ للسلطان أن يجيزه، وعن ابن وهب وغيره أن بيعها جائز، وهبتها وصدقتها لا تجوز.

قوله:"ولا يحجر عليه إلا الحاكم": يعني الكبير السفيه، ونبه على خلاف محمد بن الحسن، حيث قال يحجر عليه الأب من غير حاكم وهو

ص: 1113

ضعيف وكل مختلف فيه فيفتقر إلى اجتهاد الحاكم بترجيح أحد القولين على الآخر.

قوله: "ولا ينفك (حجره إلا بحاكم" في هذه اللفظة روايتان أحدها ولا ينفك حجره فيتقيد ذلك بالكبير السفيه، والرواية الثانية: ولا ينفك الحجر، وهذا إطلاق في كل حجر، وهذا إطلاق في كل حجر، والرواية الأولى أجري على المشهور من المذهب، لأن للأب أو الوصي أن يفك الحجر من غير إذن حاكم، أما الأب فلا أعلم فيه خلافاً عندنا، وأما الوصي، فاختلفت فيه الروايات عن المذهب والمشهور أن الوصي من قبل الأب كالأب، فله أن يفك الحجر إذا علم رشده من غير افتقار إلى حكم حاكم، وقيل لا ينفك عنه الحجر إلا أن يعلم غيره رشده من غير حكم، وعندنا رواية ثالثة أنه لا بد من يثبت رشده ويتقرر عند الحاكم ثبوته.

قوله:"وأما المحجور عليهم لحقوق غيرهم فأربعة": وبدأت بالزوجات وهن قسم مختلف فيه، والمذهب كله متفق على الحجر عليهن فيما زاد على الثالث إلا في المعاوضات والمصالح، وقال الشافعي وأبو حنيفة لا حق لزوجها في مالها، ولا حجر عليها، والدليل لنا قوله -صلي الله عليه وسلم-:(تنكح المرأة لدينها، ومالها، ولجمالها) وذلك يدل على أن للزوج حقًا في مالها، هذا استدل به القاضي أبو محمد وغيره، وفيه نظر، وقال -صلي الله عليه وسلم-: (لا يجوز لامرأة

ص: 1114

أن تقضي في ذي بال إلا بإذن زوجها) رواه ابن الماجشون بإسناده إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- وقال-صلي الله عليه وسلم-: (لا يحل لامرأة ملك زوجها عصمتها عطية في مالها إلا بإذنه) فإن صح مقتضاه الحجر عليها في جميع مالها، وهو خلاف المذهب أن تصرفها بالعطية والائتلاف جائز في الثلث فما دونه، ولعله قياس على المريض فإن تصرفت في أكثر من الثلث فهل يحمل ذلك على الجواز حتى يسترده الزوج، وهو قول ابن القاسم، أو على الرد حتى يجيزه وهو قول مطرف وابن الماجشون، ثم إذا اختار الرد فقال مالك: يرد جميعه لأنه ضرر، وقال المغيره، يجوز منه مقدار الثلث (اعتباراً بالمريض، وقيل يجوز منه مقدار الثلث) إلا في العتق خاصة، إذا لا يتصور فيه التبعيض فيرد جميعه حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي وغيره، وأما المريض (والعبيد والمفلسون) فلا خلاف في الحجر عليهم، وألحق الحامل والزاحف في القتال والمقرب للقتل بالمريض، للاشتراك في العلة غالباً.

قوله: "ومن استدان من المحجور (عليهم) ديناً (بغير إذن وليه)، ثم فك حجره لم يلزمه ذلك فيمن حجر عليه لحق نفسه كالسفيه والصغير": وهذا كما ذكره، إذا لو لزمهم لم يكن للحجر عليهم فائدة بخلاف من حجر عليه لحق غيره لذهاب العلة، فإن فسخ السيد عن عبده الدين قبل عتقه بطل، ويكفي في ذلك الإشهاد من غير حاجة إلى حكم حاكم، وهذا في غير المأذون له، وأما المأذون فلا تفك عنه الديون، لأنها مقتضي الإذن له في التجارة.

ص: 1115

قوله: "ولولي المحجور عليه لسفه أو لصغر أن (يأذن) له في التجارة:: وهذا كما ذكره أن اختبار الولي لمحجوره مأذون فيه بمقتضي قوله سبحانه: {وابتلوا اليتامي} الآية [النساء:6]، ومخرج الخطاب على الغالب، وما استدان من دين فمتعلق بمال الاختبار (لا بذمته) لبقاء الحجر عليه، وقدر مال الاختبار تابع القدر مال اليتيم (وولي اليتيم) مصدق فيما يدعيه من النفقة على محاجيره الذين في حجره، وتحت حضانته فإن كان الأيتام عند الأم، أو الحاضنة لزمه إقامة البينة على ما يدعي دفعه من النفقة، ثم ذكر أن النفقة على الأيتام تابعة لأموالهم وأحوالهم، وتلزمهم نفقة أمهاتهم وآبائهم مع يسرهم، وعسر آبائهم، ويجوز تأديب الوصي ليتيمه وضربه وخلط نفقته، بنفقته على وجه النظر والمصلحة، وكذلك التجارة في ماله لقوله سبحان {ويسئولنك عن اليتامي قل إصلاح لهم خير} [البقرة: 220] ويأكل الوصي من مال اليتيم بالمعروف إذا كان محتاجاً إلى ذلك بقدر أجر له إذا كان ينظر في مصلحته ويقوم بأشغاله ومنع من ذلك أبو حنيفة والدليل لنا قوله تعالي: {ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف} [النساء:6] وبه أفتي ابن عباس وغيره، ولا يقبل قول الوصي في رد المال إلى اليتيم بعد الرشد إلا بالإشهاد" لقوله تعالي {فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم} الآية [النساء:6]، وقال أبو حنيفة: القول قوله مع يمينه لأنه أمين، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور لأنه مقتضي النص.

فصل

قال القاضي رحمه الله: "وأما المفلس فإذا طلب غرماؤه أو بعضهم الحجر عليه (فللحاكم) أن يحجر عليه ويمنعه التصرف في ماله": وهذا كما

ص: 1116

ذكره، وقد ذكرنا أن الأصل في ذلك أن النبي -صلي الله عليه وسلم- حجر على معاذ بن جبل، وإنما يجوز الحاكم الحجر علي المديان بالديون الحالة الزائدة على قدر ماله، لا بالديون المؤجلة، وإذا أفلس (الغريم) نفسه، ومكن غرماءه من ماله، فقسموه من غير حكم، فهو كحكم الحاكم بتفليسه، وهذا حكم الحاضر، وأما الغائب فلا يخلو أن يكون قريب الغيبة مثل الأيام فليكتب الإمام في الكشف عن أمره حتى يعلم ملؤه من عدمه، وإن كان بعيد الغيبة وعرف ملؤه فهل يفلس أم لا؟ قولان قال ابن القاسم: لا يفلس اعتباراً بما علم من ملئه وقال أشهب: يفلس وتحل ديونه أخذاً بالاحتياط.

قوله: "ويمنعه التصرف في ماله" قلت: للحجر أربعة أحكام: التصرف في المال بالتفويت، والثاني: حلول دينه، وبيع ماله وقسمته على الغرماء، والثالث: حبسه إلى ثبوت (إعساره)، والرابع: الرجوع إلى (عين) المال.

(أما الأول: منع التصرف) في المال، ولا خلاف أن الحجر يمنع التصرف في المال بالإتلاف، فلا يجوز عتقه ولا هبته ولا بيعه بالمحاباة، لأن ذلك إتلاف لمال الغرماء، والحاكم بتحجيره عليه قد منعه من ذلك فأما بيعه بالقيمة فموقوف على إجازة الغرماء.

واختلف المذهب في عتقه أم ولده هل يمضي، إذا ليس له من رقبتها إلا الوطء أم لا (إجراء لها مجري) الرقيق في انتفاعه بها، فإمضاء ابن القاسم في الكتاب وفي كتاب ابن سحنون، وقيل: مردود قاله المغيرة: وإذا قلنا بمضي العتق على قول ابن القاسم: فهل يتعبها أم لا؟ ففي كتاب

ص: 1117

محمد يتبعها مالها، وقال ابن القاسم: لا يتبعها إلا أن يكون يسيرًا، وأما ما لا يتعلق بماله وتصرفاته كالطلاق، والخلع، واللعان، واستحاق النسب وغير ذلك فلا خلاف أنه ماضي عليه.

واختلف المذهب في فرعين:

الأول: إذا أقر بعد الحكم بتفليسه بدين عليه هل يقل إقراره أم لا؟ ثلاثة أقوال المشهور أنه لا يجوز إقراره بدين مطلقاً لقريب و (لا) بعيد.

الثاني: إقراره ماض إن كانت ديونه ثابتة بإقراره للتساوين وإن كانت (بغير) بينة فلا يجوز إقراره إلا أن يقيم المقر لهم بينة لما في ذلك من إدخال النقص عليهم في المحاصة بقوله.

والثالث: جوازه إذا علم أن رب الدين كان يتقاضاه.

الفرع الثاني: إذا أقر المفلس بقرض معين، أو وديعه بعينها، ففيه ثلاثة أقوال أجاز ابن القاسم (إقراره) بذلك، وأبطله اصبغ إلا ببينه على ذلك، والثالث جوازه) إذا كان على أصل القراض والوديعة بينه، (وإن لم تقم علي عينه)، فإن لم تكن على أصله بينة فهو إقرار باطل وهذا حكم المديان بعد تفليسه، وتحجير الحاكم عليه، وأما قبل الحجر فيمنع من الإتلاف كما ذكرناه وأما معاوضته وما يلزمه بالشرع من النفقات والأضحية والصدقة اليسيرة فجائز، واختلف المذهب في جواز رهنه، وقضاء بعض غرمائه دون بعض،

ص: 1118

فعن مالك في ذلك روايتان.

فرع: وإذا أبطلنا إقراره بالدين (يتعلق) بذمته إن أفاد مالاً غير ما حر عليه فيه، ويحلف المفلس على دين يقوم له به شاهد واحد، فإن نكل عن اليمين مع شاهده فلغرمائه من أحب منهم أن يحلف قاله ابن حبيب، وكذلك إن نكل عن اليمين المردودة، وإن أراد سفراً فلمن بقي له عليه دين حال منعه من السفر.

قوله: "وتحل الديون المؤجلة عليه بفلسه" وهذا مذهب مالك رضي الله عنه لخراب الذمة بالفلس والموت فتحل الديون في المحلين عندنا قال ابن شهاب: مضت السنة أن الدين الذي عليه يحل بالموت، وقال غيره: لأن الله سبحانه لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين، وقال الحسن وغيره: لا تحل الديون بالموت، وللشافعي في حلول الديون المؤجلة بالفلس روايتان، والصحيح ما ذهب إليه مالك لما ذكرناه، وأما ديون المفلس، أو الميت فباقية إلى آجالها (لاستمرار) الذمم، وانتقال حق رب الدين إلى الورثة والغرماء، ثم ذكر أن حقوق الغرماء منها ما يتعلق بمال معين كبائع السلعة يجدها بعد التفليس على الشرائط التي نذكرها، ومنها ما يتعلق بالذمة، ويوجب المحاماة، وفي الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال:(أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره) وروه الزهري على مساق آخر عن

ص: 1119

أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هاشم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قال: أيما رجل غاب أو فلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو إسوة الغرماء ولتعارض هذه الأحاديث اختلف الفقهاء في ذلك فحمل الحديث الأول جماعة من الفقهاء على الوديعة والعارية وهذا ضعيف لم ثبت في الرواية الصحيحة من ذكر البيع، وقد بينه عبد الرازق في مصنفه مسنداً إلى النبي -صلي الله عليه وسلم- وفيه:(أيما رجل باع متاعاً فأفلس الذي ابتاعه، ولم يقبض الذي باعه (شيئاً فوجد بعينه فهو أحق به، وإن مات ابتاعه فصاحب المتاع) إسوة الغرماء، وفي طريق الزهري: فإن كان قبض من ثمنها شيئاً فهو إسوة الغرماء ذكره أبو عبيد في كتاب الفقه.

وتحصيل مذهب الفقهاء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

قال قوم: صاحب السلعة أحق بها من الغرماء في الموت والفلس (وهو قول الشافعي وأحمد وأبو ثور.

وقال أبو حنيفة والكوفيون هو إسوة الغرماء في الموت والفلس).

وقال مالك: هو أحق بها في الفلس دون الموت على شروط

ص: 1120

نذكرها، وذلك إذا تعذر الثمن من مال المفلس، وههنا فروع:

الأول: إذا أراد الغرماء أن يدفعوا لبائع السلعة ثمنها من أموالهم ويأخذوها لأنفسهم فلا يخلو أن يحطوا عن المفلس من دينهم أم لا؟ فإن التزموا دفع ثمنها من أموالهم والحطيطة عن المفلس من ديونهم فلا خلاف في المذهب أنهم يمكنون من ذلك، وقال ابن كنانة: ليس لهم دفع ثمنها من أموالهم بحال ولا معني، وإلا أرادوا دفع ثمنها من أموالهم من غير حطيطة عن المفلس فهل يمكنون من ذلك أم لا؟ قولان عندنا، المشهور: أن ذلك لهم، وقال أشهب: ليس لهم ذلك إلا بعد الحطيطة، ولو اتفق الغرماء على أن يدفعوا الثمن للبائع من مال المفلس، ويتمسكوا بالسلعة لجاز ذلك، ويكون نماء السلعة (ويقضي لهم عليه).

الفرع الثاني: إذا قبض البائع الثمن، فقد اختلف الفقهاء فيه، فقال داود، وإسحاق، إن قبض من الثمن شيئًا فهو أسوة الغرماء اعتماداً على مساق حديث عبد الرازق، وقال مالك هو بالخيار بين أن يرد ما قبض، ويختص بسلعته، أو يحاص بما بقي له من الثمن، (ولو قبض بعض الثمن ووجد بعض السلعة فهو بالخيار بين أن يضرب ببقية الثمن) أو يرد ما قبض، ويأخذ ما وجد، ويضرب بقية ثمن ما فات، وهذا ما لم يتغير المبيع بغير انتقال فذلك فوت فليس حينئذ مع الفوت إلا المحاصة، والفوت كالحنطة يطحنها، أو يزرعها، أو يخلط جيدها مع رديئها، والكبش يذبحه والثوب يصبغه، والخشبة يقطعها، والهزيل يسمنه، وقد قيل: إن طحن القمح لا يكون فوتًا في باب العيوب، ويتخرج ذلك ههنا.

واختلف عندنا في صبغ الثوب ودبغ الجلد هل هو فوت أم لا؟

واضطرب في ذلك قول ابن وهب، ونبه على أنه ليس بفوت، وروى عن

ص: 1121

مالك أنه سئل عن قطع مثله، فوقف فيه وقال لا أدري، فإن أضاف إليه (صناعة) مثل الغزل ينسجه، أوعينًا مثل البناء في الأرض، فله الرجوع في عين سلعته، ويكون شريكاً للغرماء بقيمة ما زاد، وأما إذا خلط السلعة بجنسها المماثل لها كالزيت يخلط بمثله، والزبيب بجنسه ونحو ذلك، فله أخذ مكيلته، ويتنزل المثل منزلة العين ولو ولدت الأمة، أو الماشية فله أخذ الولد مع أمه لأنها كالعين الواحدة فولدها كعضو منها، وأما الثمرة والصوف على ظهور الغنم كالغلة إلا أن تكون الثمرة مأبورة يوم الشراء، أو الصوف كاملاً على ظهور الغنم فحينئذٍ يدفع مع أصله، ويرجع للبائع، لأنه عين شيئه.

فرع: إذا باع ثوباً أو ثوبين فوجد أحدهما قائماً وفات الآخر، فله أن يأخذ القائم، ويحاص الغرماء بقيمة الفائت من الثمن الأول، ولو ولدت الأمة فمات أحدهما فقد ذكرنا أن الولد مع أمه كالعين الواحدة فليس له أخذ الباقي بجميع الثمن، أو المحاصَّة، فإن بيع الولد، وبقيت الأمة أو عكسه ففيه اختلاف، تحصيله إن بيعت الأم، وبقي الولد فقولان أحدهما أنه يأخذ الباقي بحسابه من الثمن حكاه الشيخ أبو القاسم، والثاني أنه يأخذ الباقي في جميع الثمن وهو قول سحنون، وكذلك إذا بيع الولد، وبقيت الأم فالمشهور أنه يأخذها بجميع الثمن وهو قول ابن القاسم، وقيل: يأخذها بحصتها من الثمن، ويحاص الغرماء بما ينوب الولد من الثمن وهما كسلعتين في صفقة.

فرد: إذا ابتاع عبدًا فجنى، ثم فلس المشتري قبل قبض البائع الثمن فله المحاصة مع الغرماء، فإن أراد البائع أن يفديه من الجناية، فذلك له ويأخذه حينئذٍ بنفسه بجميع الثمن، ولا يحاص بما فداه به، (لأن ذلك منه يتنوع، ولو وجده مرهوناً فأراد فداه وأخذه بالثمن، فله الرجوع إلى محاصة الغرماء بقدر

ص: 1122

ما فداه به)، والفرق بين أن يفديه من الرهن أو من الجناية ظاهر، لأن الرهن متعلق بذمة المشتري بخلاف الجناية، فلهذا أوجبنا له المحاصة بقدر الفدية من الرهن دون الفدية من الجناية.

فرع: قد ذكرنا أن البائع أحق بسلعته إذا فلس المشتري قبل دفع الثمن، وهذا إذا كان البيع صحيحاً، واختلف المذهب في المبيع الفاسد هل يكون البائع أحق به من السلعة كالبيع الصحيح أو لا؟ قولان، قال سحنون: كالبيع الصحيح)، وقد محمد: لا يكون أحق بها.

فرع: إذا فاتت السلعة بالبيع فللبائع المحاصة لا غير، فإن ردت بعيب على البائع المفلس وهو المشتري أو لا فهل للبائع أن يرد ما أخذ في الحصاص ويأخذ سلعته أم لا؟ المنصوص عن ابن القاسم أن له ذلك، وقيل حكم مضي فلا يرد، خرجه الشيخ أبو الحسن اللخمي.

قوله: "وفي الموت لا رجوع له": وهذا كما ذكره، هذا مذهب مالك رحمه الله لأن ذمة الورثة كذمته بخلاف الفلس لخراب ذمته.

قوله: " وإذا جمع الحاكم مال المفلس": يتعلق به الكلام في (تلف) مال المفلس، وفصل القاضي بين أن يتلف بعد جمع الحاكم له، وقبل بيعه، أو يتلف ثمنه على يد الحاكم، فضمان الأول من المفلس في الثاني روايتان، وحكي الشيخ أبو الحسن، وغيره فيه خلافاً مطلقاً في المذهب فيما إذا تلف مال المفلس بعد أن جمع قبل البيع أو بعده يرجع حاصلة إلى أقوال ثلاثة: الأول: المشهور عن مالك أن مصيبته (من المفلس حتى يقبضه الغرماء كان عرضاً أو عيناً، والثاني رواية عبد الملك عن مالك أن مصيبته) من الغرماء

ص: 1123

من حضر منهم ومن غاب، ومن علم ومن لم يعلم، كان دينه عيناً، أو عرضًا، أو حيوانًا، أو ما كان، والثالث: إن كان عينًا فضمانه من الغرماء، وإن عرضًا فضمانه من المفلس وهو قول المغيرة وغيره، والصحيح أنه باق على ملك المفلس حتى يقبضه الغرماء وههنا فروع:

قد ذكرنا أن البائع أحق بسلعته في الفلس، وإذا حكمنا له بأخذها فهل ذلك نقض للبيع الأول، أو ابتداء بيع قولان عندنا، وتظهر ثمرة ذلك في مسائل منها: إذا باع عبداً فأبق عند المشتري، ثم فلس فقال ابن القاسم: ليس له ذلك)، وقال أشهب: له ذلك فإن وجده كان أحق به، وإلا رجع فحاص، وفي كتاب ابن حبيب عن أصبغ: ليس له أن يختاره، وهذا بناء على أنه بيع الآبق.

فرع: هل يكون في الفلس أحق بالعين كما يكون أحق بالعرض أم لا؟ قولان عندنا ففي المدونة فيمن أسلم عينًا دنانير أو دراهم ثم فلس المسلم إليه فربها أحق بها في الفلس إذا عرفت وهي كالمكيل والموزون، وقال أشهب: يكون إسوة الغرماء، ومبناه على الخلاف في تعيين الدراهيم والدنانير.

فرع: إذا كان العرض من قرض ففي كتاب محمد فيمن أقرض عرضاً أو عبداً هو أسوة الغرماء، لأن الحديث إنما جاء في البيع، وقيل: هو أحق به كالبيع، حكاه أبو محمد الأصيلي لقوله -صلي الله عليه وسلم- (أيما رجل أدرك ماله

ص: 1124

بعينه)، وهذا عام وملاحظة للمعني وهو فيهما واحد.

فرع: اختلف المذهب في الحوالة هل يكون المحال أحق بالسلعة إذا كانت من بيع، وأحيل بثمنها وفلس المحال عليه، فقال ابن القاسم: لا يكون أحق (بالسلعة) وقال غيره هو أحق، ومبناه على الحوالة هل هي من باب البيع أو من باب المعروف.

فرع: إذا باع ثمرة قد أزهت ثم فلس المشتري بعد أن يبست فقال مالك: هو أحق بها لأنها عين ماله، وقال مرة هو إسوة الغرماء لانتقال حالها.

فرع: اختلف المذهب هل تقع المحاصة مع الغرماء بنفقة الزوجات والأبوين والصداق، (والجنايات، ومتعة المطلقة أم لا؟ بناء على أن ذلك هل يلحق بالمعاوضات أو بالهبات)، وموجبات الأحكام قولان عندنا، ثم ذكر حبس المديان إذا أدعي الفلس من غير بيان وهو الحكم الرابع الذي أوجبه الحجر، والواجب أولاً (خلعه) من ماله فيؤخذ العين وتباع عروضه للتجارة أو للقنية، واختلف في فروع.

الأول: هل تباع خاتمة عليه أم لا؟ قال ابن القاسم: تباع، وقال أشهب: لا تباع وكذلك اختلف المذهب في ثياب جمعته هل تباع عليه أم لا؟ قولان، وكذلك كتب العلم هل تباع عليه أم لا؟ وفي كتاب محمد: لا تباع (عليه) للغرماء، وإن مات كان الوارث (وغيره) ممن هو أهل للانتفاع بها سواء، وقال ابن عبد الحكم: تباع عليه، وتباع كتابه المكاتب، وخدمة المعتق

ص: 1125

إلى أجل، والمدبر ودينه المؤجل ويترك له من النفقة ما يعيش به هو وأهله الأيام، وفي كتاب محمد: الشهر، وعن ابن كنانة في كتاب المدنيين لا يترك له شيء من النفقة وهل يترك له كسوة زوجته أم لا؟ قولان قال سحنون: لا يترك له كسوة، والمشهور خلافه، وإذا خليت كسوته وكسوه ولده وزوجته فهل تجرد لهم أم لا؟ قولان قال سحنون: تجرد، وقال غيره لا تجرد.

فصل في الحبس وإنما يحبس من جهل حاله، وأدعي الفقر، فإذا ثبت فقره فهل يقضي عليه باليمين على صحة الشهادة لأنها إنما تعلقت بالظاهر فقط، أو لا يحلف، قولان.

قوله: "ومدة الحبس غير مقدرة" وقال ابن الماجشون: لا يحبس في الدريهمات (أكثر) من نصف شهر ويبلغ في الكثرة أربعة أشهر وفيما بين ذلك الشهرين، وهل يحبس الولد في دين الوالد أو نفقته قولان عندنا، وصح أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- سجن في تهمة وسجن الصحابة بعده) وقال -صلي الله عليه وسلم- (يحل عرضه وعقوبته) والعقوبة هنا السجن وعرضه أن يقول مطلني ظلمني ونحوه، وذكر أبو عبيد أن رسول الله -صلي الله عليه وسلم- قدم عليه ناس من البادية ومعهم إبل فصحبهم في الطري قرجلان وباتا معهم، فلما أصبحوا فقدموا بعض إبلهم فجاؤوا إلى رسول الله-صلي الله عليه وسلم- فحبس أحدهما، وقال لصحابه أذهب فأطلب ما ذهب، فذهب فجاء بما ذهب، فقال رسول الله -صلي الله عليه وسلم-: (استغفر لي، فقال له

ص: 1126

يغفر الله لك، فقال له النبي-صلي الله عليه وسلم- وأنت يغفر الله لك) فأخذ منه بعض الفقهاء السجن بمجرد الدعوي مع الشبهة، ويحبس النساء في الدين كالرجال، وتجعل معهن امرأة أمينة، ويمنع المسجون من دخول زوجته عليه تضييقاً سيما إذا سجن في أمر بين، ولا يمنع المسجون من أن يزوره من إخوانه من النسب والإسلام، وإذا لم (يجد من) يشهد له، وقد طال سجنه أخرج، وقد سئل مالك عن التجار الذين يأخذون أموال الناس ثم يقولون ذهبت منا، ولا يعرف ذلك، فقال يحبسون حتى يوفوا الناس حقوقهم أو يتبين أنه لا شيء له، قال: فهذا لا يعرف ولا يعجل سراحهم حتى يستبرأ أمرهم، وفي كتاب محمد، وابن حبيب عن مالك وأري أن يخرج هؤلاء من السوق، وإذا ثبت عسر المحبوس خلي سبيله، وهل للغرماء أن يدوروا معه حيث دار، ويلازموه؟ المنصوص ليس لهم ذلك، والحجة عليه قوله -صلي الله عليه وسلم- (خذوا ما وجدتم معه ليس لكم غيره) ولأن الملازمة حبس، وقد ثبت موجب نفيه وهو مقتضي قوله سبحانه:{فنظرة إلى ميسرة} ويحبس الوصي على الأيتام فيما عليهم من دين إذا كان لهم بيده مال، لأن امتناعه من الأداء من باب اللدد، وهل يطاف بالمفلس في السوق (والملعن بالسفه)، وينادي عليه، فيه خلاف عندنا، وجري العمل عليه حفظاً لأموال الناس، وهل

ص: 1127

يؤخذ المديان بعمل صنعة يكتسب منها، ويؤدي الدين، قال الجمهور: ولا يؤاجر اعتمادًا على الآية وقضية معاذ، وقال أحمد بن حنبل يؤاجر، واختاره اللخمي إذا كان صانعًا (إنما عوامل غالبًا على صناعته، ثم ذكر فلس (الصناع) ومستأجريهم، وتحصيل القول فيه فأنهم إذا قبضوا السلع وأفلس أربابها فهم أحق بها في أيديهم إذا كانوا قد عملوا الصنعة في الموت والفلس، لأن صنعتهم بأيديهم ولم يسلموها، وإن كان التفليس قبل العمل فهو بالخيار بين أن يفسخ الإجارة، أو يكون أسوة (الغرماء) إن عمل، وإن فلس الصانع فلرب السلعة أن يخلص بقيمة تلك السلعة، وباقي مسائل التفليس (مذكور في المطولات).

ص: 1128