الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الحدود
قال القاضي رحمه الله: "الزنا موجب للحد" إلى آخر الفصل.
شرح: الزنا شرعًا هو: إيلاج الذكر في فرج آدمية إيلاجًا محرمًا بالأصل" احترازًا من الإيلاج في فرج الحائض فإنه محرم بالسبب العارض، وقد ثبت بالتواتر من دين النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الزنا بقواطع الكتاب، وصحيح الأخبار، وإجماع الخاص من الأمة والعام، والحد فيه مشروع قولًا وعملًا قال الله سبحانه:{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد مائة جلدة} [النور: 2] وقال تعالى: {فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفهن الموت} الآية [النساء: 15](وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية: خذوا عني (فقد جعل الله لهن سبيلًا) فالبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مئة والرجم وقد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلك- ماعز، والعامرية واليهودي واليهودية لما تحاكما إليه فقال لهم: ما تجدون في التوراة فحرفوا وجحدوا الحق على عوائدهم
المعلومة فأقام صلى الله عليه وسلم عليهما الحد. وإن لم يرض الزانيان بذلك، وهذا حجة على من يقول: إن (الأساقف) من أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا في ذلك فإنه لا يحكم (بينهم) حتى يرضى الزانيان وقع ذلك من رواية عيسى عن ابن القاسم في (المدينة) وغيرها والصحيح أنهم إذا تحاكما إلينا، فالإمام مخير عملًا بمقتضى قوله تعالى:{فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] فإن اختار الحكم حكم بينهم رضي الزانيان أو كرها إذا رضي أساقفهم وعلمائهم بحكم المسلمين.
قوله: "والحد (في الزنا) نوعان: جلد ورجم" هذا (رد علي) من لا عبرة به ممن أنكر الرجم، كيف وقد أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله عز وجل.
قوله: "والجلد (نوعان) منفرد بنفسه ومضموم إليه غيره": إشارة إلى التغريب ونوعه أيضًا إلى تمام ونقصان إشارة إلى حد الحر والعبد، وحد المحصن الرجم حتى يموت ولا يجلد قبله، وهذا تنبيه على خلاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن قال بقوله من الصحابة، فقد صح عن علي رضي الله عنه أنه جلد شراحة الهمدانية ورجمها، جلدها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة،
وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال به من الفقهاء عدد كثير كالحسن البصري وأحمد وإسحاق وداود وغيرهم واعتمد الجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم، (رجم ماعز والغامدية والعسيف واليهود ولم يجلدهم).
ثم ذكر أن شروط الإحصان ستة:
الشرط الأول: البلوغ، وهذا كما ذكره لقوله صلى الله عليه وسلم، (رفع القلم عن ثلاث، فذكر الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يفيق) ولا خلاف بين المسلمين أن الاحتلام والحيض والسن علامات (على) البلوغ واختلفت الرواية إذا أنبت ولم يحتلم فقال مالك: يحد وإن يحتلم إذا أنبت، واستحب ابن القاسم أن لا يحد، واحتج مالك بأنه صلى الله عليه وسلم (أمر بقتل من جرت عليه المواسي) وقتل من بني قريظة المقاتلة، وسبى الذرية، وقتل من الصبيان ما أنبت، أعطى له حكم الرجال.
وتحصيل القول في هذا الشرط: أنهما إن كانا كبيرين فلا إشكال في وجوب الحد بشروطه، وإن كانا صغيرين فلا حد عليهم، وإن زنا صغير ببالغة
كبيرة عوقبا ولم يحدا، وإن زنا كبير بصغيرة لم تستطع الرجل (عوقب فإن كانت تستطيع الرجال فهو زنا وعليها الحد، قال الشيخ أبو الوليد: ولو أصاب صغيرة لا تستطيع الرجال) وجب عليه الحد. قال ابن القاسم: وإن كانت (بنت) خمس سنين. وقال أشهب وابن عبد الحكم: لا يحد.
واختلف المذهب إن زنا ببهيمة ففي كتاب الرضاع عن مالك أنه يحد، لأن وطأها حرام، وقال ابن شعبان: لا يحد.
الشرط الثاني: من شروط الإحصان العقل، واشتراطه ثابت، لأن المجنون غير مكلف إجماعًا.
الشرط الثالث: الإسلام ولم يشترطه الشافعي قال مالك: ولا حد على النصراني إذا زنا ويعاقب إذا أعلن ذلك، وقال المغيرة: يحد حد البكر، لأنه غير محصن، وقد ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم رجم اليهودين عملًا على حكم التوراة، لأن الرجم ثابت فيها فحكم صلى الله عليه وسلم عليهما لما رضي الأسقاف بحكمه الذي هو حكم التوراة، وإنما شرطنا الإسلام في الإحصان، لأن (الإحصان) مشروع لفضيلة المحصن على البكر، ولا فضيلة مع الكفر، ولأن أنكحة الكفار فاسدة فلا يتصور منهم الإحصان، وكذلك الحرية لأن حد العبد على الشطر، والرجم لا يتشطر، وهو الشرط الربع.
الشرط الخامس: التزويج الصحيح احترازًا من النكاح الفاسد، لأن النكاح الفاسد لا يتناوله اسم الإحصان شرعًا، وقد انعقد الإجماع على أن الإحصان لا يحصل بنفس العقد (إذ لا يحصل بنفس العقد) العفاف وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الثيب
بالثيب جلد مائة والرجم) والثيوبة (تقتضي) الوطء لا بنفس العقد.
قوله: " (وليس) من شرطه أن يجتمع الإحصان من الطرفين" وهذا كما ذكره لأنه شرط في محله، فحيث وجد، ترتب عليه حكمه فلا يشترط في إحصان، أحدهما: إحصان، الآخر: عندنا خلافًا لأبي حنيفة ولو زنا مجنون بعاقلة، أو عاقل بمجنونة حد العاقل منهما، وكذلك الكافر يزني بكافرة فالحد على المسلم منهما، وهو نقض للعهد فيقتل، لأن الكافر إذا نقض العهد قتل. واختلف المذهب إذا زنى بكافرة في دار الحرب هل يقام عليه الحد وهو الصحيح أم لا؟ خوفًا من الارتداد واللحوق ببلد الكفر قولان عندنا والمشهور ما ذكرناه.
قوله: "وأما الجلد الكامل وهو مائة جلدة" بانفرادها "فحد الزاني البكر": وهذا النوع جبر على مقتضى المذهب في التنويع، وقد اختلف الفقهاء في تغريب الزاني على ثلاثة مذاهب. أنكره أبو حنيفة مطلقًا، لأنه زيادة على النص، وهو عنده نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد باطل، فالزيادة باطلة، وأثبته الشافعي مطلقًا حتى في العبد والمرأة وخصه مالك في الحر الذكر تغليبًا لحق السيد، ومراعاة لنقص المرأة، إذ لا تسافر شرعًا إلا ومعها ذو محرم، وتكليف ذي محرمها ذلك إضرار به، وفي كتاب ابن المواز: أن عمر بن الخطاب غرب امرأة إلى مصر، وفي الموطأ أنه غرب عبدًا. ونفى
عمر بن عبد العزيز محاربًا من مصر إلى شعب، وأمر أن يعقد في أعناقهم الحديد. ونفى عمر بن الخطاب من المدينة إلى البصرة وإلى فدك وغير ذلك، فقال ابن القاسم: وأسوان عندنا، ودونها منتفي إذا حبس فيها، ونص القاضي على أنه إذا غرب حبس في البلد الذي يغرب إليه سنة، وهو كما ذكره، واختار بعض شيوخ المذهب أن يضيق عليه إذا سجن، وأن لا يدخل عليه أهله إلا غبًا، نصوا على هذا في المحارب، والزاني عندي مثله بجامع حكم الردع.
ثم ذكر القاضي أن حد العبد والأمة خمسون على الشطر من حد الحر لقوله سبحناه: {فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء: 25] هذا نص في (الإماء) والذكور من العبيد كالأيامى لاجتماعها في النص بالرق الذي هو موجب للتشطير.
قال القاضي رحمه الله: "والأسباب التي بها يثبت الزنا ثلاثة" إلى قوله: "ولا حد على الزاني بجارية ابنه".
شرح: الأسباب المتفق عليها شيئان: الإقرار، والبينة (وظهور الحمل)، فأما ظهور الحمل فقد خالف فيه أبو حنيفة والشافعي، والصحيح أن ظهور الحمل من حرة غير طارئة لا يعلم لها نكاح، أو أمة لا يعلم لها زوج وسيدها منكر لوطئها كالاعتراف. قال محمد: وأجرى عمر بن الخطاب الحمل إذا لم يعلم أنه من نكاح أو ملك مجرى البينة أو الاعتراف ونحوه، عن عثمان وعلي وابن عباس وغيرهم، وقد رأى بعض شيوخنا أنه إجماع سكوتي، إذ لا مخالفة لهؤلاء من الصحابة. قال عمر بن الخطاب: الرجم في كتاب الله على من زنى حق إذا كانت البينة أو الاعتراف أو
الحمل، ويكتفى من الإقرار (بالمرة الواحدة إذا أقام على ذلك، ولم يرجع عنه، واشترط أبو حنيفة وأصحابه تعدد الإقرار) أربع مرات في أربعة مجالس أخذا بظاهر حديث ماعز، والغامدية، ويعارضه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث العسيف:(واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) ولم يشترط عددًا فهذا يبين أنه صلى الله عليه وسلم: (إنما أراد الستر على ماعز وعلى الغامدية، ولم يعتبر تعدد الإقرارات وكثرتها، فإن رجع على إقراره إما أن يرجع إلى شبهة فلا خلاف في قبول رجوه، وإما أن يرجع إلى شبهة ففيه قولان، المشهور أن رجوعه هاهنا مقبول أيضًا وهو مذهب المدونة. وروى أشهب وعبد الملك عن مالك أنه لا يقبل رجوعه إلا لأمر يعذر به وهو قول أبي حنيفة والشافعي. قال محمد بن المواز: إذا رجع إلى وجه مثل أن يقول: وطئت امرأتي حائضًا فظننت أنه زنى فذلك عذر، وكذلك إذا قال: وطئت في نكاح فاسد أو أدخلت على غير امرأتي فوطئتها وأنا لا أعلم، أو رأيت امرأة على فراشي فظننت أنها امرأتي فوطئتها، أو وطئت جارية مشرعة ونحو ذلك مما يذهب على العامة، فإنه يعذر بذلك كله، لأنه شبهة ظاهره (مقبولة درءًا للحد)، وقد
صح عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي هريرة وغيرهم أن رجوعه إلى غير شبهة مقبول درءًا للحد، وسواء كان رجوعه قبل إقامة الحد عليه، أو بعد ذلك. وروى أشهب عن مالك إذا رجع بعد إقامة أكثر الحد لم يقبل رجوعه، والأول أصح، لأن التوبة مقبولة في كل حين وزمان، قال: وكذلك كل حق هو لله تعالى بخلاف ما للناس وهاهنا فروع مختلف فيها وهو: إذا أقر بالزنا، ثم رجع عن ذلك فلم يحد فقذفه رجل بالزنا فهل يحد القاذف اعتبارًا بالرجوع وهو قول أشهب أو لا يحد اعتبارًا بالإقرار، وهو قول ابن القاسم.
قوله: "وأما البينة فشهادة أربعة رجال عدول يشهدون مجتمعين": هذه الشهادة التامة في هذا الباب هي التي اجتمعت فيها الأوصاف التي ذكرها القاضي، فإن جاءوا مفترقين فالمشهور من المذهب أنهم قذفه. وحكي القاضي أبو محمد بن عبد الملك والشافعي أن يحكم بشهادتهم مجتمعين ومفترقين، وفي النوادر عن ابن القاسم: لا ينبغي للإمام أن ينتظر القاذف، ومن شهد معه إذا لم تتم شهادتهم، فإن جهل القاذف فجاء اليوم بشاهد أو بشاهدين، وقال: أتى ببقيتهم بعد ذلك حتى تتم أربعة مفترقين، فإنه تقبل شهادتهم، ويحد الزاني. قال محمد: لو أتى رجل إلى الإمام فقال: أشهد
أن فلانًا زنا فيرجأ إلى أن يأتي بأربعة شهداء، فإنه صار خصمًا فإن ذكر أربعة حضور أو قربت غيبتهم يوثق، وكلف أن يبعث إليهم، وإن ادعى بينة بعيدة حد، ثم إن جاء بهم حبطت عنه جرحة القذف.
مسألة الزوايا هي مسألة مشهورة عند الخلافين وهي: إذا شهد أربعة على رجل أنه زنا في بيت وكل واحد من الشهود يقول: إنه رآه في زاوية غير الزاوية التي يقول الآخر مع اتفاق المجلس، والجمهور على أن الحد ساقط عنه، لأنه اختلاف وتهاتر وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة بوجوب الحد وهو خروج عن المقصود في باب الحدود. وقال ابن حبيب: إذا اختلفت البينة قال بعضهم: زنا بها في غرفة، وقال بعضهم: في سفل، وقال بعضهم: في سفل، وقال بعضهم:(متكئة)، وقال بعضهم: مستقلية، وقال بعضهم: يوم كذا، وقال بعضهم: ليلة كذا بطلت الشهادة، ولا تلفيق في هذه الشهادة، وقال ابن الماجشون: إذا اختلفوا في الأيام والمواطن لفقت الشهادة ولم تبطل.
فرع: هل يجوز أن أن يكون الشهود على الزنا هم الطالبون القائمون بطلب الحد أم لا؟ أجازه مطرف وابن الماجشون، وفي العتيبة: إذا تعلقوا به وأتوا به إلى السلطان، لم تجز شهادتهم وهم قذفة.
فرع: إذا وصفوا فقالوا جميعًا: رأينا الفرج في الفرج كالمردود في المكحلة فهي شهادة ماضية فإن لم يصفوا فهل تصح شهادتهم أم لا؟ قولان، والصحيح أنها تصح منهم إذا كانوا علماء وإن كانوا جهلًا فلابد من الوصف. ولو وصف الزنا ثلاثة، وقال الرابع بين فخذيها حد الثلاثة حد القذف، وهل
يعاقب الرابع أم لا؟ قولان. فقيل: عليه العقوبة، وقيل: لا عقوبة عليه. وقال أشهب: عليه الحد، ولو وصف اثنان الزنا، وشهد اثنان بالخلة والملاصقة والنفس العالي، فهي شهادة غير عاملة، وهي قضية المغيرة مع أبي بكرة وأصحابه.
فرع: المقر بالزنى لا تلزم مطالبته بحكاية الفعل وصفته بخلاف الشهود إلا أن يتم المقر مغفلة، أو جهل كما فعل صلى الله عليه وسلم مع ماعز.
فرع: لو رجع واحد منهم عن الشهادة ففيه تفصيل إما أن يرجع قبل الحكم بها أو بعد الحكم بها، وقبل إقامة الحد أو بعد إقامة الحد، فإن رجعوا أو واحد منهم قبل الحكم فهم قذفة، ولا حد على المشهور عليه، وإن رجعوا بعد الحكم بها، وقبل إقامة الحد فهل يرجم المشهود عليه أو يجلد إن كان بكرًا أم لا؟ قولان لابن القاسم، (وتفرقة) لأشهب، القول الأول: أن الحد يقام ويضمن الشهود الدية في أموالهم إذا رجم، فإن كان الحد جلدًا أقيم وعوقب الشهود الدية في أموالهم إذا رجم، فإن كان الحد جلدًا أقيم وعوقب الشهود إلا أن يعذرا في الرجوع، وهذا بناء على أنه حكم مضى، فلا ينقض، والقول الثاني: لابن القاسم: أنه لا يحد؛ أي لا يجلد ولا يرجم لأن رجوعهم شبهة يدرأ بها الحد. وقال أشهب: يقام عليه الحد الأدنى التغريب إذا كان بكرًا، ولا يرجم) إن كان ثيبًا، وكذلك لا يقطع في السرقة ولا يغرم الدية فيما يكون فيه القصاص فأمضى في هذا القول الحد الأدنى دون الحد الأعلى، وهذا ضعيف لأن طريقها الشهادة، وقد بطلت بالرجوع عنها، ولا فرق بين جلد أو رجم، فإن رجعوا بعد إقامة الحد لم يكن رجوعًا، واختلف الرواية فيما يلزمهم، فقال: ابن القاسم: يضمنون الدية
في العمد والخطأ. وقال أشهب: إن أقروا بتعمد الكذب قتلوا لأنهم قتلوا عمدًا بشهادتهم فهو قصاص متعين، وإذا كان الحد ضربًا فاعترفوا بالزور فهل يضرب كل واحد (من) الأربعة جميع الحد الذي أقيم على المشهود عليه، أو يتوزع جميعه على الأربعة فيضرب كل واحد منهم خمسة وعشرون سوطًا قولان. وههنا (فرعان):
الأول: إذا كان الشهود على الزنا خمسة فرجع واحد منهم، فهل يحد الراجع أم لا؟ قولان، والصواب: أن يحد لأنه قاذف، فإن رجع بعد الحكم وإقامة الحد فلا شيء عليه من الدية، لأن الحكم مستقل دون شهادته، فإن كانوا أربعة ورجع واحد منهم بعد الحد فاختلف في قدر ما يغرمه من الدية هل ربعها أو جميعها بناء على ما ذكرناه من توزيع الحد، فإن كان واحد من الأربعة مسخوطًا، وعلم ذلك بعد الرجم فهل يمضي الحكم أو ينقض قولان:
قال ابن القاسم: ينقض الحكم، وعلى الثلاثة دية المرجوم، وقال عبد الملك وأشهب: يمضي الحكم ولا ينقض، وكذلك (العبد) والنصراني والمولى عليه وولد الزنا، لأن هؤلاء ليسوا من (أهل الشهادة). قال ابن القاسم: إن تبين بعد الرجم أن (أحد) الشهود (عبد) فهو من خطأ الإمام والدية على عاقلته، وإن علم الشهود الذين شهدوا معه أنه عبد فالدية عليهم، ولا شيء على العبد. قال ابن سحنون: وقيل: لا شيء على الإمام إلا أن
يعلموه أنه عبد، وأن شهادتهم لا تجوز فعليه الدية، لأن النظر في البينة والكشف عنها إلى الإمام. وقال أبو مصعب: إذا علم العبد وحده أن شهادته لا تجوز، ولم تعلم البينة بذلك فالدية عليهم أرباعًا.
فرع: تجوز الشهادة على الشهادة في الزنا، وهل يشترط في شهود النقل أن يكونوا أربعة على كل واحد أو يكتفي بشهادة اثنين على كل واحد فيه قولان في المذهب، والصحيح أن النقل فرع عن الأصل فيلزم فيه ما يلزم في الأصل.
ثم ذكر أن ظهور الحمل أحد الأسباب الثلاثة التي بها يثبت الزنا، وقد قدمنا الخلاف فيه.
قوله: " (ويقام) الحد على المشهور عليه (حين تتم الشهادة عليه) تاب أو لم يتب": "وهذا تنبيه على مذهب الشافعي القائل بأنه إذا تاب سقط الحد عنه اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ماعز حين ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فراره حين مسته الحجارة وقال: فهلا تركتموه) قال أبو داود: (لعله أن يتوب الله عليه).
ثم ذكر تأخير الجلد للعوارض الموجبة له وهي ثلاثة: المرض، والحمل، والزمان وقد تقدم.
قال القاضي رحمه الله: "ولا حد على الزاني بجارية ابنه" إلى آخر الباب.
شرح: ثبت في الشريعة درء الحدود بالشبهات، ولذلك قلنا: لا يحد الوالد إذا زنى بأمة ابنه لأن له فيها شبهة لقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت ومالك لأبيك) فللأب شبهة في مال ابنه شرعًا ويحد الابن إذا زنا بأمة والده، إذ له أن يتزوج أمه أبيه، وليس للأب أن يتزوج أمة ابنه، وكذلك إذا وطئ جارية له فيها (شرك) لاختلاط ملكه بملك شريكه، ويلحق به الولد لشبهة الملك، ولو يختلف قول مالك أنها إن حملت (منه) قوم عليه نصيب شريكه، فإن لم تحمل فهل يقوم عليه نصيب الشريك أم لا؟ قولان عندنا أحدهما: أن سقوط الحد عنه مؤذن بتمليك نصيب الشريك بالتقويم تخفيفًا لوقوع الشبهة فيجب التقويم على حال، والثاني: أنه لا يقوم اعتبارًا بإباحة غيره، وكذلك إذا وجد امرأة على فراشه فظن أنها زوجته فوطئها فلا حد عليه عندنا خلافًا لأبي حنيفة، فإنه أوجب عليه الحد في ليلة (الزفاف) خاصة. ثم ذكر استكراه امرأة على الزنا، وصور فيه أربع صور:
الصورة الأولى: أن يستكره حرة فعليه الحد لا عليها، وعليه صداق المثل من باب قيم المتلفات خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا شيء عليه سوى الحد، فإن كان المستكره عبدًا فهو جان وسيده بالخيار بين أن يسلمه في جنايته أو يفيده بصداق المثل.
الصورة الثانية: أن يكون أمة فعليه ما نقصه الوطء لأنها مال.
الصورة الثالثة: أن يكون النصراني حرة مسلمة فهو نقض عهد، فيقتل، وينبغي أن تجب عليه قيمة البضع، لأنه من باب (المتلفات) والغرامات.
الصورة الرابعة: أن يكره نصراني أمة مسلمة فلعيه ما نقص من قيمتها، ولا يقتل لأنها جناية على مال، فلا يكون ناقضًا للعهد بالجناية على المال على الأصح.
ثم ذكر أن للسيد إقامة الحد على رقيقه إذا زنى أو شرب خمرًا لقوله صلى الله عليه وسلم: (أقيموا الحدود على أرقائكم) ولقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها) وليس له إقامة حد السرقة عليه، لأنه مثله فيصير ذريعة إلى نفي (العتق) المثلة وحكي الشيخ أبو الحسن عن المذهب أن للسيد إقامة الحد على عبده إن كان جلدًا، ولا يقيم عليه حد السرقة ولا القتل ولا القصاص ولا الحرابة فإن فعل وأقام البينة على صحة ذلك لم يكن عليه شيء، وإلا عتق عليه بالمثلة. وقال أبو حنيفة: إقامة الحدود إلى الإمام لا للسيد.
فإذا بينا على المذهب فكانت أمة ذات زوج حر أو عبد لغيره فليس له إقامة الحد عليها، لأن ذلك إبطال لمنفعة الزوج وفراشه، وعليه أن يرفع إلى الإمام
فرع: إذا قلنا بأن له إقامة الحدود فهل يكتفي بعلمه ذلك ويقوم مقام الإقرار أو لابد من الشهادة قولان. وفي الموطأ أن عبد الله بن عمر بعث عبدًا له قد سرق هو أبق إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده، فأبى سعيد أنه يقطع يده وقال: لا يقطع الآبق إذا سرق، فقال له عبد الله بن عمر: في أي كتاب وجدت هذا؟ ثم أمر به عبد الله بن عمر فقطعت يده.
قوله: "وينبغي للإمام إحضار طائفة من المؤمنين الحد" وهذا كما ذكره لقوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) قال ابن القاسم: ويحضر السيد لجلد عبده أربعة نفر عدول، لأن العبد قد يعتق يومًا ما فيشهد بين الناس فيخير من شهد عليه بما ترد به شهادته، فإن كانوا ثلاثة والسيد رابعهم لم يحده، وليرفع إلى الإمام. وقال عطاء وغيره: الطائفة اثنان، وقيل: ثلاثة، وعن ابن عباس:(هي أربعة إلى أربعين رجلًا من المؤمنين)، قال الحسن: عشرة، وقال مجاهد: الواحد فما فوق، واختار الزمخشري أنها الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي صفة غالبة كأنه الجماعة المحافة حول (الشيء) ثم ذكر
حكم اللواط، وقد انعقد إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على تحريمه، وقال الله سبحانه:{لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها} الآية [الأعراف: 80]. وقال: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} [الإسراء: 32] فدل على أن اللواط أشد من الزنا، لأنهم أتوا ما لم يأت أحد ممن سبقهم بها ولأنه إتيان من لا يستباح بوجه خلاف الزنا فإن المرأة تستباح بالنكاح.
واختلفوا في مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في الحد الواجب فيه بناء على أنه هل يسمى في اللغة زنى أم لا؟ ومبنى المسألة على القياس في اللغة، والأصح امتناعه، ومذاهب الفقه فيه ثلاثة أقوال، فقال قوم: حكمه الرجم مطلقًا أحصنا أم لا؟ اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتلوا الفاعل والمفعول به). قال مالك: لم نزل نسمع من العلماء أنهم يرجمان أحصنا أم لا. قال ربيعة: الرجم عقوبة أنزلها الله سبحانه بقوم لوط، وبذلك حكم أبو بكر الصديق وكتب به إلى خالد بن الوليد بعد مشاورة خير القرون وكان أشدهم فيه علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وقال الشافعي: هو كالزنا فيفرق بين الثيب والبكر، وقال أبو حنيفة: ليس فيه حد، وإنما فيه التعزير، وصح عن أبي بكر الصديق أنه كتب أن يحرقوا بالنار، وفعل ذلك ابن الزبير وهشان بن عبد الملك. قال ابن حبيب: فمن أخذ بهذا لم يخطئ، والرجم هو الذي جاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب ومالك: عليه العمل.
المسألة الثانية: إذا كانا عبدين رجما أيضًا. وقال أشهب: يجلد العبدان خمسين خمسين، ويؤدب الكافران.
المسألة الثالثة: إذا وطئ امرأة أجنبية في دبرها فحكم ذلك حكم الزنا رجم المحصن وجلد البكر وتغريبه؛ قال ابن المواز، ورواه ابن حبيب عن ابن الماجشون، وقال القاضي أبو الحسن بن القصار حكم ذلك حكم اللواط (يرجمان) مطلقًا.
المسألة الرابعة: الشهادة على اللواط كالشهادة على الزنا، وقال أبو حنيفة:(بشهادة) شاهدين.
المسألة الخامسة: اختلفوا في المرأتين تتساحقان، ففي العتيبة عن ابن القاسم ليس في ذلك حد وهو اجتهاد الإمام. قال ابن شهاب: سمعت رجلًا من أهل العلم يقولون تجلدان مائة. وقال أصبغ: تجلدان (خمسين خمسين) ونبه القاضي على خلاف الشافعي في حده، وخلاف أبي حنيفة في طريق توبته. وأما واطئ البهيمة فعليه الأدب الاجتهادي. وقال ابن شعبان: يحد، ولا يقتل هو ولا البهيمة خلافًا لمن قال به استنادًا
لقوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها) وهو منكر الإسناد.
فروع تتعلق بهذا الباب:
المسألة الأولى: هل يحفر للمرجوم أم لا؟ قال مالك: لا يحفر للمرجوم مطلقًا، وما سمعت أحدًا ممن مضى يوجب ذلك. وقال ابن وهب ذلك للإمام، وقال أصبغ: أحب إلي أن يحفر له، وقال بعض الأشياخ: لا يحفر للمقر، لأنه إن هرب ترك، ويحفر للمشهود عليه لأنه إن هرب لم يترك. حكاه الإمام أبو عبد الله وغيره عن ابن شعبان، وقال الشافعي: يحفر للمرأة، والدليل لنا أن ماعز فر، ولو كان في حفرة لما فر وحفر صلى الله عليه وسلم للعامرية إلى صدرها، وفي حديث اليهوديين: فرأيت رجلًا يجنأ عليها يقيها الحجارة. قال أشهب: فإن حفر له فأحب إلي أن تخلى يداه، وكذلك لا يربط المرجوم لأنه عليه السلام لم يربط ماعز بنت مالك الأسلمي.
المسألة الثانية: هل يرجم قاعدًا أو قائمًا الجمهور على أنهما يرجمان
قاعدين، وقال بعض أهل العلم: يقام الرجل، لأنه أبلغ في الألم الرادع.
المسألة الثالثة: قال مالك: يسأل الإمام الزاني هل هو بكر أو ثيب ويقبل قوله أنه بكر إلا أن تقوم البينة أنه ثيب، وقيل: لا يسأله حتى يكشف عنه، فإن وجد من ذلك علمًا وإلا سأله وقبل قوله دون يمين. قال ابن المواز: وهذا أحب إلينا.
المسألة الرابعة: الضرب في الحدود كلها سواء بسوط بين سوطين اعتمادًا على أنه الثابت عملًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: الضرب في الزنا أشد منه في القذف وشرب الخمر، ويجرد الرجل في الحدود كلها. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يرد في القذف، ولا تجرد المرأة وليترك عليها ما يسترها، فلا يقيها الضرب والجلد في الظهر وما يقربه، ولا يعرف مالك الإعطاء، ويكون الجلاد عدلًا، ولا يضع سوطًا فوق سوط. قال ابن شعبان: يعطى كل عضو حقه من الضرب إلا الوجه والفرج. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يضرب في الأعضاء كلها إلا الوجه والرأس والفرج.
المسألة الخامسة: روى ابن المواز عن ربيعة في العبد يستكره الحرة يجلد ويباع لغير أرضها لتبعد عنها معرته.
مسائل تتعلق بالإكراه على الزنا، فقد تقرر أن المرأة إذا أكرهت فلا حد عليها، والد على الواطئ المكره، فإن كانت هي المكرهة للرجل حدث، وهل عليه حد أم لا؟ قولان في المذهب؛ حكاهما الشيخ أبو الحسن وغيره، فإن أكرها جميعًا فلا حد على المرأة، واختلف في الرجل هل يحد أم لا؟ قولان عندنا مبنيان على الإكراه، هل يتحقق في حق الرجل
وهو الظاهر أم لا؟ لأنه لا ينعظ إلا مريدًا ملتذًا فإنه ضرب من الاختيار؛ قاله الشيخ أبو الحسن، وفيه نظر لأنه من لوازم الطبع البشري فليس داخلًا تحت الاختيار.
فرع: إذا أكره على الزنا ففعله مكرهًا سقط عنه الحد، ووجب عليه صداق المثل، وانظر هل يرتفع بالإكراه الحكم فيما بينه وبين الله أم لا؟ الظاهر ارتفاعه لانتفاء الاختيار فهو غير فاعل حقيقة لسلب الاختيار. وحكى الشيخ أبو الحسن اللخمي نصًا أنه إثم وإن أكره لأنه لم يكن له أن يفعل، وإن هدد بالقتل، وهذا فيه نظر، إذ لا معنى للإكراه حينئذ.
مسألة: اختلفت الرواية في مَن قرب إسلامه فزنى، وزعم أنه لم يعلم بتحريم الزنا فقال في «المدونة»: يحد ولا يعذر أحد بهذا. وقال أصبغ وغيره: لا حد عليه، وكذلك إذا أسلم بدار الحرب وترك صلوات لم يعلم بفرضها، فالصحيح أنه يقضيها، وقيل: لا قضاء عليه.
مسألة: إذا ثبتت الشهادة على الزنا فقال: أنا بكر صدق كما ذكرنا، لأن الأصل البكارة، فإن قال: أنا عبد فكذلك أيضًا، ويقام عليه حد العبد قال الشيخ أبو الحسن: فإن قال: أنا عبد وله زوجة لم يصدق ورجم، لأنه يتهم أن يرق نفسه لينجو من القتل، وهذا فيه نظر، فإنه إذا قبل قوله لم تكن له زوجة فينبغي أن يقبل من وجودها لتطرق الاحتمال في المحلين.
مسألة: إذا شهد أربعة بالزنا واثنان بالإحصان فرجم ثم رجع جميعهم حد شهود الزنا دون شهود الإحصان.
واختلف في الدية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها على الشهود بالزنا خاصة وهو قول ابن القاسم. والثاني: أنها على الجميع أسداسًا وهو قول أشهب وعبد الملك. والثالث: أنها مشطرة (نصفها على شهود الإحصان) ونصفها على شهود الزنا، لأن جميعهم قتلوه.
[فصل في القذف]
قال القاضي رحمه الله: "فصل القذف موجب للحد" إلى آخره.
شرح: قد تقرر في الشريعة، وعلم من دين الأمة صيانة النفوس والأعراض والفروج والأموال وتواصلت على التحفظ بها الأنبياء، واتفقت (عليه) الشرائع، وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراض (ثلث الدين) في الحديث الصحيح الثابت المتفق على صحة في حجة الوداع حيث قال:(إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) خرجه أهل الصحيح، واتفق عليه أئمة السنة وهو مؤكد (أحكام) الكتاب وصريح الوحي في قوله سبحانه:{والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} الآية [النور: 4] وقال: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} الآية [النور: 23]. وانعقد الإجماع على تحريمه، وفي الصحيح إن آية القذف لما نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال عاصم بن عدي الأنصاري:(جعلني الله فداك) (إن وجد رجل مع امرأته رجلًا فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته أبدًا، وإن ضربه بالسيف قتل وإن
سكت سكت على غيظ، وإلى أن يجيء بأربعة شهداء، فقد قضى الرجل حاجته ومضى اللهم افتح وخرج فاستقبله هلال بن أمية، أو عويمر فقال: ما وراءك؟ فقال: شر، وجدت على بطن امرأتي خولة بنت عاصم شريك بن سحماء، فقال: هذا والله سؤال ما أسرع ما يثبت به فرجعا، فأخبر عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلم خولة فقالت: لا أدري الغيرة أدركته أم بخلًا على الطعام، وكان شريك نزيلهم وقال هلال: لقد رأيته على بطنها، فنزلت آية اللعان ولا عن بينهما)، فقد تقدم معناه في كتاب اللعان، وقد ضرب عمر الذين شهدوا على المغيرة الزنا إذ لم تتم شهادتهم، واختلفت الآثار في قذفة عائشة الذين رموها بالإفك وهو: حمنة بنت جحش، وحسان بن ثابت، ومسطح بن ثابت، وزيد بن رفاعة، وعبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ومن ساعدهم هل حدهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول البراءة من السماء أم لا؟ وهو خلاف معلوم مشهور ذكره أهل (السير) والأخبار. وقال الإمام أبو القاسم الزمخشري في التفسير وهو من أئمة الشرع واللسان: ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول وحسان ومسطحًا وقعد صفوان بن المعطل الذي قذف بالإفك بعائشة لحسان فضربه ضربة بالسيف فكف بصره وقيل: إنه المراد بقوله: {والذي تولى كبره} [النور: 11] والصحيح أنه عبد الله بن أبي سلول. قال أصبغ: وقد جلد النبي صلى الله عليه وسلم الذين خاضوا في أمر عائشة كل واحد منهم حدًا واحدًا، ولو كان على ما قاله المخالف يجلد كل واحد منهم حدين: حد عن عائشة، وحد عن صفوان حكاه ابن يونس في جامعه، والشيخ أبو الحسن في تبصرته. واشترط القاضي أبو محمد في وجوب
الحد بالقذف تسعة شروط: اثنان في القاذف وخمسة في المقذوف، واثنان في الشيء المقذوف به، وفي هذه الشروط تدخل (جل) مسائل القذف. فأما الشرطان في القاذف: العقل والبلوغ، احترازًا من المجنون والصبي، ولا حد على القاذف المجنون الذي لا يفيق أصلًا منذ بلوغه، لأن الحد مشروع لرفع المعرة، ولا تتعلق بالمجنون، فإن أفاق أحيانًا فإن قاذفه يحد وكذلك يحد هو في نفسه إذا كان قاذفًا أو مقذوفًا، وكذلك الصبية التي لم تبلغ ولا تطيق الوطء لا حد عليه سواء كان قاذفًا أو مقذوفًا، وكذلك الصبية التي لم تبلغ ولا تطيق الوطء لا حد على قاذفها، فإن كانت ممن تطيق الوطء ولم تبلغ المحيط فهل يحد قاذفها، لأنها مثلها يوطأ أم لا حد عليه. قولان. المشهور عن مالك أن قاذفه يحد إذا كان مثلها يوطأ، وإن لم تبلغ لأن ذلك عار يلحقها ويرغب في تزويجها بخلاف الصبي، وإن كان مثله يطأ ولم يبلغ. قال ابن القاسم، وابن عبد الحكم: لا حد على قاذفه، قال محمد: ومن قال لمجنونة في حال جنونها: يا زانية فعليه الحد إلا أن تكون أصابها الجنون من صغرها إلى كبرها لم تفق، ولا حد عليه، ولا يلحقها اسم الزنا؟ قال مالك: ولا يحد الصبي والصبية في زنى أو غيره حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية، وإن تأخر حتى يبلغا سنًا لا يبلغه أحد إلا احتلم، والذي اختاره الشيخ أبو الحسن اللخمي في الجارية يوطأ مثلها، وإن لم تبلغ المحيض أن يحد قاذفها، لأن المعرة تتعلق بها بخلاف الصبي كما ذكرناه، ولا حد عليها حينئذ إن قذفت غيرها، ولم يعتبر الشافعي وأبو حنيفة إطاقة الوطء، وإنما (اعتبرا) المحيض، فلا حد عندهما على من قذف الصبية المطيقة للوطء غير البالغ
وهو نحو ما رواه ابن الجهم وابن عبد الحكم، والمعتمد عليه من المذهب ما ذكرناه، وإنما اشترطنا الإسلام لأن عرض الكافر منهوك لا حرمة له شرعًا، وإن كان الفاسق المسلم لم يحد قاذفه وهو أعظم حرمة من الكافر، فالكافر أولى، وإنما شرطنا الحرية (بناء) على ما ذهب إليه مالك وجمهور أهل العلم خلافًا لمن أوجب الحد على قاذف العبد. والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، لأن حرمته ناقصة بالرق الذي هو من آثار الكفر، وقال صلى الله عليه وسلم:(من قذف مملوكه وهو بريء جلده يوم القيامة) ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم لوجوب الحد عليه في الدنيا. وهاهنا فروع: إذا قذف كبيرًا بما كان منه في حال صغره أو رقه هل يحد اعتبارًا بالحال أم لا؟ اعتبارًا بزمان الكفر والصغر والرق فيه ثلاثة أقوال في المذهب، المشهور أنه يحد سواء أثبتت ما قاله أم لا وهو قول ابن القاسم، والثاني: أنه لا يحد إلا أن يقول ذلك في مشاتمه فيحد إلا أن يثبت ذلك بالبينة. وقال عبد الملك: إن أثبت ذلك لم يحد، وإلا فعليه الحد، وقول ابن القاسم: أن عليه الحد، وإن ثبت ذلك ضعيف في القياس (لأن إثبات ذلك بالشهادة يرفع عنه حكم القذف).
الفرع الثاني: يجلد القاذف ثمانين إن كان المقذوف حرًا مسلمًا، كان القاذف مسلمًا، أو كافرًا كتابيًا إذ المقصود انتهاك حرمة المسلم، واختلفت الرواية عن مالك في الحربي إذا قذف مسلمًا فقال ابن القاسم: يحد، وقال أشهب: لا حد (عليه)، والأول أصوب، لأن المقصود حفظ حرمة المسلم.
الفرع الثالث: إذا قال لها زنيت وأنت مستكرهة لم يحد عند ابن القاسم، وقال محمد سحنون: يحد لأنه يريد التعريض.
الفرع الرابع: إذا قال لمن هو مجنون يفيق أحياناً زنيت وأنت مجنون فعلى قول ابن القاسم: يحد، أثبت ذلك أم لا؟ وعلى قول عبد الملك: لا حد عليه إذا أثبت ذلك، وعلى قول أشهب: إن قاله في حال المشاتمة حد إلا أن يثبت ذلك، وإن قاله في غير المشاتمة فلا حد عليه (فرعه تخريجاً) الشيخ أبو حسن اللخمي.
الفرع الخامس: إذا مات عن عبد موصى بعتقه فقذف قبل النظر في الوصية فهل يحد قاذفه أم لا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يحد اعتبارًا بحكم المئال في حريته. والثاني: أنه لا يحد حتى يحكم بعتقه. والثالث: التفرقة بين أن يكون مال الميت مأمونًا فيحد قاذفه، لأنه (في حكم) الحر المحقق، أو غير مأمون فلا حد على قاذفه إلا بعد الحكم بعتقه، وهذا إذا قال لعبده:(إذا مت) فأنت حر (فإن قال: أعتقوا عبدي) بعد موتي فقذفه رجل فلا حد على قاذفه قولًا واحدًا حكاه الإمام أبو عبد الله لأن عتقه إنما يتحقق بعد عتق الورثة أو الموصى به، بخلاف أن يقول: إذا مت فأنت حر هذا أقرب إلى العتق المحقق، لأنه من باب الشرط والمشروط.
الفرع السادس: إذا مات الحر عن أمة حاملة منه فقذفها هل يحد أم لا؟ قولان. قال محمد: لا حد عليه حتى تضع لإمكان أن يكون ريحًا ينفش وقال غيره: عليه الحد إذا كان حملها ظاهرًا بناء على الأغلب.
الفرع السابع: لا يجب الحد إلا أن يكون المقذوف متمكنًا من الوطء، لأن المجبوب ومن جرى مجراه لا يتأتى منه الوطء فلم تلحقه معرة بالقذف كالصبي والحصور والمحبوب، وأما العنين فيحد قاذفه لأنه قد ذكره. قال الشيخ أبو الحسن: المجبوب جب قبل بلوغه لا حد على قاذفه الذي إذ
لا معرة تلحقه، فإن جب بعد بلوغه حد قاذفه.
ضابط كلي: ثمانية لا حد على قاذفهم: الصبي، والمجنون الذي لا يفيق، والعبد والكافر والزاني والحصور الذي لا آلة له، والمجبوب والصغيرة التي لا تطيق الوطء. وأما الشرط الخامس: وهو عفة المقذوف فلأنه مقتضى النص لأن الله سبحانه قال: {إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات} والإحصان وإن كان مشركًا فالمراد به العفاف، والآية وإن كانت خاصة السبب لأنها نزلت في شأن عائشة فهي عامة إلى يوم القيامة. قال الزمخشري:"الغافلات" السليمات النفوس النقيات القلوب اللائي ليس فيهن دهاء ولا مكر، لأنهن لم يختبرن الأمور ولم يريد قط الأحوال فلا يفطن لم تفطن له المجربات العارفات. وأنشد:
بلهاء تطلعني على أسرارها
…
ولقد لهوت بطفلة ميالة
وكذلك البله من الرجال لقوله صلى الله عليه وسلم: (أكثر أهل الجنة البله) وههنا سؤال يتعلق بالآية، وذلك إذا كان المراد بالآية عائشة فكيف قيل المحصنات بصيغة الجمع، وأجاب عنه أئمتنا بوجهين: أحدهما: أن المراد بهن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعظم الله شأنهن، وأثبت هذا الوعيد العظيم لقاذفهن. والثاني: المراد به عائشة وبناتها إلى يوم القيامة، لأنها أم المؤمنين، ولقد غلظ الله سبحانه في حديث عائشة وأنزل من القوارع المشحونة ما أنزل على طرق مختلفة وأسباب (متباينة) كل واحد منها كاف في بابه ولو لم ينزل فيها إلا هذه الآية التي كلها على مقتضاها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعًا وتوعدهم بالعذاب العظيم، وأخبر بأن ألسنتهم وأيديهم
وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذين هم أهله ومستحقوه حتى يعلموا عند ذلك أن الله هو الحق المبين. وعن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة وكان يسأل عن تفسير القرآن حتى سئل عن هذه الآية (المنزلة) في شأن عائشة رضي الله عنها، فقال: من أذنب ذنبًا فتاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه مبالغة وتعظيمًا لأمر الإفك.
قوله: "وأما ما يراعى في الشيء المقذوف به فهو أن يكون المقذوف بوطء يلزم به الحد وهو الزنا واللواط" لا غير ذلك، والثاني: أن ينفى نسبة عن أبيه فإن قذفه بسرقة أو قتل أو شرب خمر، فعليه التعزيز دون الحد. واستنبط العلماء ذلك من مسلكين: أحدهما: الإجماع. والثاني: أن الله سبحانه شرط في تخلصه من القذف، أن يأتي بأربعة شهداء ولم يعلم في الشريعة اشتراط هذا العدد إلا في الزنا واللواط، ولو رماه بالوطء فيما دون الفرج، فقال ابن القاسم: يحد لأن ذلك من التعريض، وقال أشهب: لا حد عليه حكاها القاضي أبو محمد.
ثم اللفظ الصادر من القاذف إما أن يكون نصًا في القذف أم لا؟ فإن كان نصًا ترتب الحد بلا خلاف وإن كان من باب دلالة الفحو أو التعريض (فسيجيء) حكم التعريض (ونحن نتبع فروع هذا الأصل فنقول: إن صرح بالقذف أو عرض به حد كما سنذكره في التعريض) فإن كان اللفظ محتملًا عوقب بعد أن يحلف أنه ما أراد قذفًا، فإن نكل في هذه الصورة عن اليمين
فهل يحد أم لا بناء على أنه هل هو كالمال (فيحد أو) بخلاف المال فلا يحد قولان في المذهب؛ حكاها الشيخ أبو الحسن وغيره، وإن شتمه بما لا يحتمل القذف عوقب أيضًا لأنه من باب الضرر والأداء للمسلم هذا في الأجنبي (وسيجيء) حكم التعريض في المحتمل.
فرع: لا خلاف أنه إن قال (له): يا زان، أو رماه بالوطء فعليه حد القذفه، وإن قذفه ببهيمة أدب أدبًا وجيهًا، ولا يحد، إذ لا يحد من أتى بهيمة وكل ما لا يقام فيه الحد فليس على من رمى رجلًا بذلك حد الفرية.
فرع: إذا قال له: يا زان، وعلم المقذوف من نفسه ذلك كان له أن يطلب حده، ويقوم به، لأن الله سبحانه أمر بالستر.
فرع: لو قال له: يا مخنث، فرفعه إلى الإمام حلف أنه لم يرد قذفه، وأدب هذا ظاهر (الرواية) عن ابن القاسم، وقال غيره: هذا إذا كان في كلامه أو في عمله أو في يديه توضيع وتأنيث وإلا حد ولم يحلف.
فرع: قال أشهب: إذا قال لرجل: يا مؤاجر، فعليه الحد. وقال ابن المواز: أن لا حد عليه إلا أن يقول له: يا مؤاجر بارت إجارتك في مشاتمه، فعليه الحد، فاعتبر قرينه المشاتمة.
فرع: قال يحيى بن عمر: ومن قال لزوجته وغيرها: يا قحباء فعليه الحد.
فرع: قال ابن الماجشون: من قال لرجل: يا مأبون، وهو رجل في كلامه تأنيث يضرب الكبر ويلعب في الأعراس، ويغني ويتهم بذلك، فعليه الحد إلا أن يثبت ذلك عليه.
فرع: لو قال لرجل: يا قران. قال ابن القاسم في كتاب محمد بن المواز: يجلد لزوجته إن طلبته، لأنه قذفها دونه. وقال في غير كتاب ابن المواز: يحد ولم بذكر زوجته. وقال يحيى بن عمر: يجلد عشرين سوطًا ولا حد فيه، قال علي: إن قال له: يا قران (جلد) إن كانت له زوجته أو أخت أو جارية وإلا عوقب. وإن كانت له زوجتان فعفت إحداهما وقامت الأخرى، فقال: أردت التي عفت حلف أنه أرادها (ولم يحد) فإن نكل حد.
فرع: ومن قال لرجل: يا أحمق، فقال: أحمقنا ابن الزانية حد. ومن قال لأعزب: يا زوج الزانية، فلا حد عليه. وإن قاله للمتزوج فعليه الحد. وإن قال له: يا فاجر بفلانة حد، إلا أنه تكون له بينة على أمر ما صنعه بها من الفجور. قال مالك: وإن قال له: يا فاسق يا فاجر، نكل. وإن قال: يا خبيث، حلف أنه لم يرد قذفًا، فإن نكل نكل ولم يحد. وقال أشهب: إن لكل حد، وقاله محمد، وابن الماجشون، وقيل: هو في النساء أشر منه في الرجال، وأشهب سوى بين المرأة والرجل، وقال: إن نكل عن اليمين حد فيها، وكذلك إن قال له: يا ابن الخبيثة والخبيث أشر من الفاسق لقوله تعالى في اللواط: {ونجيناه من القرية التى كانت تعمل الخبائث} [الأنبياء: 74]. ولو قال: جامعت فلانة حرامًا حد، إلا أن يقيم البينة أنه تزوجها (تزويجًا فاسدًا ولو قال ذلك في نفسه لم يصدق، ولو قال: كنت تزوجتها) حد، إن كان مشاتمة، (ولو) قال بين (أنجادها) فهو تعريض يوجب الحد. وقال أشهب: لا حد عليه لأن عمر بن الخطاب حد زياد الذي قال: رأيته بيم فخذيها. ولو قال: زنت يدك أو عينك أو فمك، فقال ابن القاسم: عليه الحد
لأنه تعريض. وقال أشهب: لا حد عليه. وقو قال لرجل: يا محدودًا في الزنا، حد له إلا أن يثبت ذلك عليه، وإن قال:(يا شارب) الخمر، نكل ولم يحد، ومن قال لامرأته: يا زانية، فقالت له: زنيت معك. (وقال أصبغ) لكل واحد منهما حد على صاحبه (لأن كل واحد منهما قذف صاحبه). قال ابن القاسم: تحد المرأة للقذف، والزنا إلا أن ترجع على الزنا ولا حد عليه في قذفها لأنها صدقته. قال أشهب لها أن تقول: إنما قلت ذلك على وجه المجازية ولم أرد قذفًا ولا إقرارًا فالحد (على الرجل) للقذف ولا حد عليها.
ولو قال لرجل: يا زان، فقال له: أنت أزنى مني، فعليهما الحد. وإن قال له: يا ابن الزانية، فقال له: لعن الله ابن الزانية. فقال أصبغ: هو تعريض يحد له. وقال ابن القاسم: يحلف الثاني ما أراد قذفًا ولا حد عليه، فإن نكل سحن، وقيل: يحد إن نكل، ولو قال لجماعة: من ركب منكم دابتي أو لبس ثوبي فهو ابن لزانية، فإن كان قد يفعل ذلك أحدهم حد له (وإن أراد) من يفعل ذلك في المستقبل ففعله أحدهم فلا حد عليه وهو شتم، وكذلك كل ما لا يجوز فعله إلا بإذنه، فأما الأمر العام مثل: أن يقول: كل من دخل المسجد أو الحمام فهو زان فعليه الحد دخل (أحد) أم لا؟ أراد الماضي أو المستقبل أم لا؟ فإنه يحد ساعتين ولو طلب بحق حجده فقال له الطالب: فلان وفلان يشهدان عليك، فقال: من يشهد علي منهما فهو ابن الزانية، فشهدوا عليه أو أحدهما فعليه الحد، ولو قيل له: ذكر عنك أنك فعلت كذا وكذا فقال: من ذكر (ذلك) عني فهو ابن الزانية فعليه الحد، ولو ذكر شيئًا
سوى الفاحشة نكل بقدر المقول فيه والقائل: (فمن عرف منه الأدنى زيد في عقوبته سيما إن قال ذلك لرجل فاضل، فإن كان القائل) من أماثل الناس وكانت منه فلتة كانت عقوبته أخف. قال مالك: "يتجافى السلطان عن ذي المروءة. قال مالك في كتاب محمد، ومن قذف رجلًا بالزنى فجاء باثنين يشهدان أن القاضي ضرب هذا المقذوف في الزنى بشهادة أربعة، قال:(لا يتجافى) ذلك القاذف، ويحد هو الشهود إذا كانوا أقل من أربعة، وفي هذا نظر لأنهما لم يقولا له: يا زان، إنما شهدا على حكم، فالظاهر على أن لا حد عليهما، وفي وجوب الحد بعد شهادتهما على القاذف نظر لصحة سقوطه عنه لقيام الشهادة. قال مالك: ومن قال لرجل: يا شارب الخمر، أو يا خائن، أو يا آكل الربا، أو يا حمار، أو يا ابن الحمار، أو يا ثور، أو يا خنزير، فعليه النكال. وقال أشهب: إذا قال له: يا حمار، فعليه الحد. حكاه الشيخ أبو الوليد.
فأما الشرط الثاني في الشيء المقذوف به وهو نفى نسب المقذوف عن أبيه فقط، وهو أيضًا موجب للحد بلا خلاف، وذلك لأن فيه معرة على المقذوف، وعلى أبويه، وقيد بالأب فقط تحرزًا من الأم، لأنه لو نفاه عن (أبيه حد ولو نفاه عن) أمه لم يحد لأن لحوقه بأمه مشاهد (ظاهر) إذا الولادة مما يدرك بالعيان، وتقوم عليها الشهادة القاطعة فنافيه عن أمه كاذب ولا يلحقه بالكذب في ذلك معرفة بخلاف أن ينفيه عن أبيه، لأن لحوق نسبه بأبيه حكم لا حسي فنافي النسب عن أبيه لا يعلم صدقه من كذبه فيلحق المقذوف بذلك معرة، ونافي نسبه عن أمه يعلم كذبه، إذ الولادة- كما ذكرنا- تدرك بالعيان هذا الذي اعتمد عليه علماؤنا في الفرق بين (نفي النسب
عن أبيه، او أمه)، قال بعض العلماء: إنه مقتضى قوله تعالى: {ادعوهم لإبائهم هو أقسط عن الله} الآية [الأحزاب: 5].
قال الإمام أبو عبد الله: اختلف في الوجه الذي يوجب الحد على قاطع النسب فقال: لأن الأم زنت به وألحقته بهذا الأب، وقيل: لأن الأب زنى مع غير هذه الذي تقول: إنها ولدته، وقيل: لأن ذلك زنى من غير هذين وإنما أتت به ولم تلده.
فرع: إذا قطع نسب رجل (حد) مسلم حد له كان أبوه حرًا، أو عبدًا كافرًا، أو مسلمًا، لا اعتبار في ذلك بالولد دون الأبوين للحوق المعرة به.
الضابط الكلي في هذا أنهم- أعني الولد والأبوين- إما أن يكونوا كلهم أحرارًا أو كلهم مماليك، أو بعضهم، وبعضهم، فإن كانوا كلهم مماليك أو كفارًا- فلا حد- على القاذف كما لو قذفهم بالزنا أو باللواط، وإن كانوا كلهم أحرارًا فلا إشكال في وجوب الحد، وإن كان الولد مسلمًا حرًا وجب الحد من غير اعتبار بحال الأبوين، وإن كان الأبوان حرين مسلمين دون الابن حد لقذف الأم، وإن عفت فلا مقال للأب، ولا للابن كالأب، وإن كانت الأم وحدها حرة حد بقذفها، ولها العفو وهو أبين لمن نأمله.
فرع: إذا قال لرجل: ما لك أصل ولا فصل. ففي العتبية قال مالك: لا حد فيها، لأنه نفى الشرف. وقال أصبغ: عليه الحد ورآه نفيًا للنسب وقيل: إن كان من العرب ففيه الحد وإلا فلا.
فرع: لو قال له: يا ابن منزلة الركبان، ففي الواضحة أنه يحد. وكذلك لو قال: يا ابن ذات الراية، لأن المرأة في الجاهلية كانت تنزل الركبان وتجعل على بابها راية، وذلك فعل (البغاة).
فرع: إذا نفى مجهولًا عن نسبه لم يحد إذ لا يثبت للمجهولين ما ادعوه من الأنساب. رواه محمد بن المواز.
فرع: لو قال في جماعة: أحدكم زان، لم يحد، إذ لم يعرف (من أراد)، وإن قال به جميعهم فقد قيل: لا حد عليه. حكاه الباجي، إذ لم تتعلق المعرة بواحد معين وهو الظاهر.
فرع: إذا قال لابن أمة أو كتابية: يا ابن الزانية، فلا حد عليه لأنه قذف لأمه. لو قال له: يا ابن الزانية، ففيه الحد لأنه قطع لنسبه، حكاه القاضي أبو محمد.
فرع: إذا قال: يا منبوذ، فعليه الحد، لأنه عرض بنفي نسبه.
فرع: إذا قال لرجل: لا أبا لك. ففي الموازية عن مالك: "لا شيء عليه إلا أن يريد النفي (لأنه مما يقوله الناس في حال الرضا، قال غيره: إن قاله على وجه المشاتمة والغضب فهو أشد فيحلف أنه ما أراد النفي)، فإن حلف خلي وإن نكل نكل".
فرع: لو قال له: أنت ابن فلان ونسبه إلى عمه أو خاله، أو زوج أمه حد. وقال أشهب: لا حد عليه إلا أن يكون في مشاتمة وهذا صواب، لأن العم قد يسمى أبًا قال الله العظيم:{نعبد إلهك وإله ءآبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133] فجعل العم أبًا.
فرع: لو قال له: يا ابن اليهودي أو النصراني أو الأقطع أو الخياط، حد، إلا أن يكون (ذلك) في آبائه. قال مالك: إلا أن يكون من العرب أو من الموالي. وقال ابن وهب عن مالك: أنه يحد له إن قاله لعربي أو مولى، ولو قال له: يا ابن زينب وليس في امهاته من اسمها زينب حد له، لأنه قذف أباه وحمله على غيره أمه. ولو قال لولد قرشبة: يا ابن البريرية فلا شيء عليه، إذ ليس في الأم نفي. وقال مطرف:(يحد) لأنه حمل أباه على غير أمه، ومن نسب رجلًا إلى غير أبيه أو جده فعليه الحد، وإن لم يكن على وجه المشاتمة. وقال أشهب: لا يحد إلا أن يقوله على وجه المشاتمة ولو نسبة إلى جده في مشاتمة لم يحد، لأن الجد أب. وقال أشهب: يحد إذا اتهم الجد بأمه.
وفروع هذا الباب كثيرة ولم يتعرض القاضي لنفي رجل من ولائه. ونص في المعونة وغيرها على أنه إذا نفى رجل من ولائه فهو كنفيه إياه من نسبه لقوله عليه السلام: (الولاء لحمة كلحمة النسب) فإذا وجب الحد في نفي النسب، وجب في (نفي) الولاء. وقال بعض شيوخنا: هذا فيه نظر، ويجب أن لا يثبت الحد في نفي الولاء لأنه معلوم بالعتاقة، وهي ثابتة بالحس كما في ولد الأم عن أمه (ولعل الذي عدل) عليه القاضي بأن العتاقة وإن كانت معلومة بالمشاهدة فهو متوقفة على ثبوت الملك وهو مما يثبت حكمًا لا مشاهدة.
قوله: "ويلزم (الحد) بالتعريض الذي يفهم منه القذف" وهذا كما ذكره وهو صريح مذهب مالك، وخالفه فيه الشافعي وأبو حنيفة قالا: لا حد في التعريض، والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك إجماع أهل اللسان العربي على أن التعريض يقوم مقام الصريح وضعًا، وقد جلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من الخلفاء في التعريض، وقد قال تعالى في التعريض حاكيًا من قوم شعيب:{إنك لأنت الحليم الرشيد} [هود: 87].
وإذا كان التعريض في (عرف) اللغة ومعهود التخاطب يقوم مقام التصريح وجب الحد به.
قال بعض علماؤنا: لا عذر للشافعي في إسقاط الحد في التعريض، لأنه عربي فصيح ثابت القدم في علم اللسان، فرب تعريض وإبهام أفصح من صريح الكلام. وإذا أجرينا التعريض مجرى التصريح كان ذلك عامًا في كل معرض. وروى عن مالك أنه لا يحد الأب في التعريض إلا أن يصرح، لأن عند الأب من الشفقة وصلة النسب ما ليس عند الأجنبي. وروى الأصبغ عن مالك أنه لا يجلد الأب إذا قذف ابنه (لا في تعريض ولا في صريح، والمعتمد عليه من مذهب مالك وأصحابه أن الأب يجلد لقذف ابنه) إذا طلب ابنه في التصريح، وفي التعريض خلاف وتسقط عدالة الابن بذلك إذا طلبه لقوله تعالى:{فلا تقل لهمآ أفٍ} [الإسراء: 23]. ورواه ابن المواز عن مالك. وكذلك اختلف المذهب في التعريض من الزوج هل هو كالتعريض من الأجنبي أم لا؟ وفيه قولان عندنا. قال ابن الماجشون: من قال في المشاتمة إنك لعفيف الفرج حد، قال ابن القاسم ولو قال فعلت بفلانة في أعكافها، أو
بين فخذيها حد، لأنه تعريض وقال أشهب: لا يحد ومن قال لرجل يا بن العفيفة، قال ابن وهب: بلغني عن مالك أنه يحلف ما أراد القذف، ويعاقب، وقال أصبغ إن قاله على وجه المشاتمة حد، وههنا مسائل تتعلق بالعفو عن الحد في الصريح والتعريض والمعتمد عليه من القول في ذلك أن قول مالك قد اختلف في حد القذف هل حق الله تعالى، وبه قال أبو حنيفة، أو حق الآدمي، وبه قال الشافعي وعن مالك الروايتان المشهور عنه أنه حق الآدمي، فكان الواجب على مقتضاه (جواز) العفو عنه بلغ الإمام أم لم يبلغ على مقتضى القول (الآخر) أنه حق الله فالعفو (عنه) غير جائز أيضًا بلغ أم لا؟ إلا أن المشهور عنه أن إن بلغ الإمام لم يجز العفو إلا أن يريد المقذوف سترًا على نفسه، وإن لم يبلغ جاز العفو مطلقًا، قال الشيخ أبو الوليد في منتقاه: "اختلف قول مالك في غير الأب. ففي المدونة: كان مالك يجيز العفو بعد أن بلغ الإمام، قال في كتاب ابن المواز وإن لم يرد سترًا قال: ثم رجع مالك فلم يجزه بعد البلوغ، إلا أن يريد سترًا، وأما قبل البلوغ فالعفو جائز. رواه ابن القاسم وابن وهب وابن عبد الحكم، وقول أشهب: ليس بلازم، وله القيام به متى شاء إلا أن يريد سترًا. قال مالك: مثل أن يكون قد ضرب الحد قديمًا فيخاف أن يظهر ذلك عليه. قال أصبغ: إن عفا وقال: أردت سترًا لم يقبل منه بعد البلوغ، ويكشف الإمام عن ذلك، فإن خاف الإمام أن يثبت ذلك أجاز عفوه. وقال ابن الماجشون: يقبل قوله: إن قال: أردت سترًا ولا يكشف الإمام عن ذلك.
فرع: قال الشيخ أبو إسحاق التونسي في تعليقاته وإذا بلغ الإمام أو
الشرط أو الحرس لم يجز العفو فيه، لا فانظر كيف أنزل الشرط، والحرس منزلة الإمام، وكذلك حكاه القاضي أبو الوليد.
فرع: إذا عفا عنه، ثم قام فليس له ذلك عند ابن القاسم، وذلك له عند أشهب بناء على أنه حق لله سبحانه. قال الشيخ أبو إسحاق في تعليقاته: يجب على هذا أن يقوم به غير المقذوف، لأنه حق لله سبحانه. ووقع لابن القاسم إذا قذف رجل رجلًا عند الإمام بحضرة عدول أقام عليه الحد، وتأوله محمد أن ذلك بعد القيام المقذوف به، والعفو في النكال والتعزيز جائز بخلاف الحد.
فرع: في العتبية عن أشهب عن مالك: لا يجوز لقاذف أن يعطي المقذوف دينارًا على أن يعفو عنه بناء على أنه حق لله سبحانه، وعلى قول مالك حق للمقذوف، فله أن يأخذ عليه كما له أن يأخذ على إسقاط الشفعة، وللمرأة أن تأخذ على إسقاط حقها من القسم ونحو ذلك.
فرع: للمقذوف أن يكتب كتابًا أنه متى شاء قام بطلب الحد. قال مالك: وأنا أكرهه، وذلك إذا كان قبل البلوغ.
فرع: لو أقام بينة على قاذفه عند الإمام، ثم أكذبهم، وأكذب نفسه. ففي الموازية لا يقبل منه ويحد القاذف (لأنه كالعفو، ولو صدقه القاذف، فأقر على نفسه بالزنى، قال أصبغ: إن ثبت على إقراره جلد للزنى، ولم يحد القاذف) وإن رجع عن إقراره بعذر درئ عنه الحد أعني القاذف. قال ابن حبيب: وهذا أحب إلي ما لم يثبت أنه أراد بإقراره إسقاط الحد عن القاذف فيسقط إقراره.
قوله: "وحد القذف مختلف بالحرية والرق" وهذا كما ذكره وهو صريح
مذهب مالك وجميع أصحابه أن حد العبد في القذف أربعون، لأنه على الشطر من الحر. روى مالك في موطئه أن عمر بن عبد العزيز جلد عبدًا في فرية ثمانين. قال أبو الزناد: فسألت عن ذلك عبد الله بن عامر فقال: أدركت عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان والخلفاء هلم جرا فما أدركت أحدًا جلد عبدًا في فرية أكثر من أربعين. والذمي كالمسلم قياسًا، ولا يكون الذمي أحسن حالًا من المسلم.
قوله: "والحدود كلها سواء في الإيجاع والصفة" وهذا كما ذكره، وحكم ذلك أن يكون وسطًا بين القوة واللين اعتماد على ما رواه مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أتى برجل اعترف على نفسه بالزنا فأتى بسوط لم يقطع ثمرته، فقال: دون هذا، ثم أوتي بآخر مكسور فقال فوق هذا) وخرج أبو داود عن أبي بن سهل بن حنين عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه اشتكى رجل منهم حتى أضني فعاد جلده على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودونه أخبرهم بذلك فقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفخست عظامه ما هو إلا جلدة على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربونه بها حصول واحدة).
واختلف المحدثون في (صحة) إسناد هذا الحديث، كما اختلف الفقهاء في الأخذ بمقتضاه. فأخذ به الشافعي وعضده بقوله سبحانه في قضية أيوب عليه السلام:{وخذ بيدك ضغثًا فاضرب به ولا تحنث} [ص: 44] وأباه علماؤنا كافة إلا قليل منهم. وذكر الزمخشري في تفسير القرآن، وهو من فحول العلماء في ليط الجلد المنصوص عليه في الوحي:"أشار إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز اللحم" رفقًا من الله سبحانه بخلقه ورحمة. قلت: كما أن في قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء أربعة، وإلا حد في ظهرك فقال: يا رسول الله إني لا أرجو أن ينزل الله ما يبرئ ظهري) خرجه الشيخان. ففي لفظ: "الظهر" إشعار بأنه لا يتعدى في الحدود إلى غيره من الأعضاء كما ذكرناه عن مالك، وكذلك في التعزيز (والضرب فيما خف أمره من التعزيز) على ثيابه وعلى رأسه حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي وغيره.
قوله: "وما كان منها من جنس واحد وسببه واحد تداخل (وأجزى) واحد عن جميعه": وهذا كما ذكره لأنها إذا كانت (بسبب واحد) كتكرار الإيلاج والاجتراع جرعة بعد جرعة، والأحداث المكررة قبل الطهارة، فيترتب عن جميعه حكم واحد في هذه الصور كلها، ومن أهل العلم من رأى أنه
إذا قذف جماعة بكلمة واحدة، فعليه حد لكل واحد منهم، وقضية الإفك ترد عليهم، ولو كان الأمر كما قاله المخالف لحد صلى الله عليه وسلم حدين حد لعائشة وحد لصفوان، فإن اختلفت الأسباب لم تتداخل الحدود، واستوفى جميعها كالزنى والشرب والقذف (إلا أن يكون أحدهما فرعًا عن الآخر كالشرب والقذف) فإن الصحابة لما اختلفوا في تقدير حد الشرب قالوا: نرى أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر افترى، فيجلد جلد المفتري. فإن كانت الحدود أجناسًا مختلفة كالزنى وشرب الخمر والقطع استوفى الحدان إلا أن يكون فيها قتل، فإن ما دونه يدخل فيه القذف، فإن قذف حد، ثم قتل، لأن المعرة اللاحقة للمقذوف لا نزول بقتله في حق غيره واختلف في فروع من هذا النمط وهو إذا قذف فحد فلم يكمل الحد حتى قذف ثانية رجلا آخر: هل يبتدئ الحد الثاني أم لا؟ ثلاثة أقوال: الابتداء، والإتمام للأول والثاني، والفرق بين أن يذهب من الحد الثاني اليسير كالأسواط العشرة فما دونها فيتمادى، ويجزئه عنهما، أو الكثير فيبتدئ للثاني حدًا ثانيًا وعلى قول أشهب: إذا ذهب من الحد اليسير، وما يقرب منه استؤنف لها، فكان ما بقي من الحد الأول لهما، ويتم للمقذوف الثاني بقية حده وحده، وإذا لم يبق من حق الأول إلا اليسير كمل الحد الأول وابتدئ للثاني. وعند ابن القاسم متى مضى شيء من الحد للأول (استؤنف حد القذف للثاني الحد لهما، ولا يحتسب بما مضى من الحد الأول) وهذه كلها اختيارات مذهبية. قال ابن القاسم: ومن اجتمع عليه قصاص في بدنه وحدود لله برئ بما هو لله، لأنه أكد إذ لا عفو فيه، وإن سرق وزنى وهو محصن رجم، ولم يقطع، لأن القطع يدخل في القتل.
قوله: "ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم قتل": وهذا كما ذكره ولا خلاف بين الأمة فيه، لأن ذلك أعم على ارتداده. قال الله العظيم: {فلا وربك لا يؤمنون حتى
يحكموك فيما شجر بينهم} الآية [النساء: 65] فجعل اعتقاد إصابته في الحكم شرطًا في الأيمان. وخرج أبو عبد الرحمن النسائي عن أبي هريرة قال: (مررت عن أبي بكر وهو متغيظ على رجل من أصحابه فقلت: يا خليفة رسول الله، من هذا الذي تغيظ عليه، فقال: ولم تسأل؟ قلت: أضرب عنقه؟ قال: فوالله لأذهب كلمتي غضبه، ثم قال: ما كانت لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم. وروى أبو داود من حديث عكرمة عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا ينزجر، قال: فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فأخذ المغول فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلًا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى تعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول في بطنها فاتكأت عليه حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا اشهدوا أن دمها هدر) ولعله صلى الله عليه وسلم علم بالوحي صحة قول الأعمى، فلذلك أهدر دمها.
فرع: إذا وجب قتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم فهل يستتاب أم لا؟ سمعت أشياخنا يحكون فيه قولين: المشهور أنه لا يستتاب، وإذا كانت توبة القاذف لغيره لا يسقط عنه حد القذف ففي قذفه صلى الله عليه وسلم أولى، والشاذ أنها تقبل، لأنها ردة، والمرتد يستتاب. واختلف قول مالك في الكافر: إذا تاب بالإسلام من
سبه صلى الله عليه وسلم هل يسقط عنه سبه أم لا؟. فمن قبل إسلامه، وأسقط ما قبله اعتمد على قوله تعالى:{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38] وعلى قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يجب ما قبله) ولأن ذلك ليس أعظم من كفره، والكفر ممحو بالإسلام ومن لم يقبل إسلامه فلتعظم حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من سب الله تعالى فحكمه أن يقتل، وهل يستتاب أم لا؟ سمعت الأشياخ يحكون فيه قولين: أشهرهما: أن توبته مقبولة، وفرقوا بينهما، ولم يزل ذلك يجري في المذاكرات، وكذلك من تنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم أو استهزأ بحديثه، وضحك عند سماعه شيئًا منه استخفافًا به، أو قال: إن إزاره وسخ فإنه يقتل ولا يستتاب.