المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كتاب الأقضية والشهادات - روضة المستبين في شرح كتاب التلقين - جـ ٢

[ابن بزيزة]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الطلاق

- ‌ الإيلاء

- ‌ الظهار

- ‌[اللعان]

- ‌باب في العدة والاستبراء وما يتعلق بذلك

- ‌باب الرضاع وما يتعلق به

- ‌كتاب البيوع

- ‌كتاب الإجارة

- ‌باب القراض

- ‌باب المساقاة

- ‌باب الشركة

- ‌باب الرهون

- ‌كتاب الحجر والتفليس وما يتصل به

- ‌باب الصلح والمرافق وإحياء الموات

- ‌باب الوديعة والعارية

- ‌(كتاب الغصب والتعدي وما يتصل بذلك من الاستحقاق)

- ‌باب في الحوالة والحمالة

- ‌باب الوكالة

- ‌باب الإقرار

- ‌باب اللقطة والضوال والآباق

- ‌كتاب الشفعة والقسمة

- ‌كتاب الجنايات (وموجباتها من قصاص ودية وما يتصل بذلك من أحكامها)

- ‌فصل والدية تختلف باختلاف حرمة المقتول ودينه

- ‌فصل: وتجب بالجناية على العبد قيمته لا دية

- ‌((فصل: والردة محبطة للعمل (بنفسها) من غير وقوف على موت المرتد))

- ‌كتاب الحدود

- ‌كتاب القطع

- ‌كتاب العتق والولاء وما يتصل (به)

- ‌فصل"والولاء للمعتق إذا كان عنه

- ‌فصل"الكتابة جائزة ولا يجبر السيد عليها إن طلبها العبد

- ‌فصل"والتدبير إيجاب وإلزام

- ‌كتاب الأقضية والشهادات

- ‌كتاب الأحباس والوقوف والصدقات والهباتوما يتصل بذلك

- ‌كتاب الوصايا والمواريث والفرائض

- ‌كتاب الجامع

الفصل: ‌كتاب الأقضية والشهادات

‌كتاب الأقضية والشهادات

الأصل في القضاء بين الناس الكتاب والسنّة والإجماع. أما الكتاب فقوله سبحانه: {يداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فأحكم بين الناس بالحق} الآية [ص: 26] وقوله سبحانه: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} [النساء: 105]. وقوله سبحانه: {يأيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط} [النساء: 135]. وقال سبحانه: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} [النساء: 65]. وقال تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [النساء: 58]. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل). وقال صلى الله عليه وسلم: (المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين).

ص: 1351

وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين) إشارة إلى عظم الخطر في خطة القضاء وبعدا لتخلص منها. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر يا أبا ذر: (إني أراك ضعيفًا، وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم). قال علماؤنا: لا يتولى القضاء من علم منه الرغبة فيه والحرص عليه لأنه غير معان ولا مؤيد لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنا لا نستعمل على عملنا هذا من أراده أو حرص عليه)، وقال لعبد الرحمن سمرة:(لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليه، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها) خرّجه الشيخان البخاري ومسلم. وخرّج الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ابتغى

ص: 1352

القضاء وسأل فيه شفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده).

وفصّل علماء الشافعية الأمر في طلب القضاء تفصيلاً حسنًا جاريًا على مقتضى الفقه، فقالوا: إن كان طالب القضاء ليس من أهل الاجتهاد والعدالة كان تعرضه له محظورًا، وصار بالطلب له محظورًا وإن كان من أهله فله أحوال: أحدهما: أن يكون القضاء في غير مستحقه، إما لنقص (علمه) أو لظهور جوره فيجب أن يحبطه دفعًا لمن لا يستحقه فهذا سائغ لما تضمنه من منكر، ثم ينظر فإن كان أكثر قصده إزالة غير المستحق كان مأجورًا، فإن كان أكثرها اختصاصه بالنظر فيه كان مباحًا. والحالة الثانية: أن يكون القضاء في مستحقه وهو من أهله، ويريد أن يعزله عنه، إما لعداوة بينهما أو ليجربه إلى نفسه نفعًا، فهذا الطلب محظور عليه، وهو مجروح لتعرضه له. والحالة الثالثة: أن لا يكون في القضاء ناظر فينظر حاله فيطلبه لهذه الخطة، فإن كان لحاجته إلى رزق القضاء وخراجه مستحق في بيت الحال كان مباحًا وإن كان لرغبة في إقامته وخوفًا من أن يليه غير المستحق له، كان طلبه له مستحقًا، فإن قصد بطلبه المباهاة والمنزلة، فلأصحاب الشافعي فيه قولان الكراهية، والجواز، الكراهة لقوله سبحانه:{تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو في الأرض ولا فسادًا} [القصص: 83]. والجواز اعتمادًا على قوله تعالى حاكيًا عن يوسف عليه السلام: {قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} [يوسف: 55]. واشترط العلماء (في القاضي شروط) منها ما هو على الإيجاب، ومنها ما هو على وجه الندب والاستحباب.

قال القاضي: "ولا يستقضي إلا فقيه من أهل الاجتهاد لا عامي مقلد" وهذا كما ذكره .. أما كونه فقيهًا فاحترازًا من العامي، ولا يجوز أن يكون

ص: 1353

القاضي عاميًا عندنا خلافًا لأبي حنيفة، والمعتمد لنا قوله سبحانه:{لتحكم بين الناس بما أراك الله} [النساء: 105] وذلك لا يتصور إلا أهل الاجتهاد، وقال سبحانه:{فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى} [ص: 26] والعامي لا يعرف الحق من الباطل، فلذلك أوجبنا أن يكون فقيهًا واشترط القاضي أن يكون من أهل الاجتهاد، وقد اختلف فقهاؤنا هل اشتراط كونه من أهل الاجتهاد واجب أو مستحب، والذي عوّل عليه القاضي في كتبه كلها أنه شرط وجوب. قال في شرح الرسالة والمعونة وغيرهما: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد عارفًا بالكتاب والسنّة وطريق الاجتهاد وترتيب الأدلة وكيفية النظر فيها، وتخريج الفروع عن الأصول، وهل يجوز له أن يقلد غيره في نازلة أم لا؟ أما إن ضاق الوقت عن الاجتهاد، ولم يجد سبيلاً إليه فيتعين عليه تقليد الأعلم، وإن كان في فسحة من النظر، ومهلة يمكنه فيها الاجتهاد، ولم يخف فوات الحادثة فهل يجوز له تقليد غيره أم لا؟ فيه تردد وخلاف، والأصح جوازه اعتمادًا على أن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يقلد بعضًا حيث لا يمكنهم الاجتهاد، (وقد قال معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث بعثه إلى اليمن: أجتهد رأيي). وهذا يدل على بطلان ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن العامي يجوز أن يكون قاضيًا، ويقلد غيره. قال مالك في كتاب ابن حبيب: لا أرى خصال القضاء تجتمع اليوم في أحد، فإن اجتمع منها خصلتان ولي القضاء العلم والورع. قال ابن حبيب: فإن لم يكن العلم فالعقل، فبالعقل يسأل، وبالورع يعف. قال سحنون: فإن كان فقيرًا أغنى من بيت المال، وشروط القضاء وآدابه كثيرة مذكورة في الدواوين الكبيرة.

ص: 1354

قوله: "ولا يكون الحاكم عبدًا ولا امرأة": أما العبد فلنقصه بخساسة الرق الذي هو من آثار الكفر ولا خلاف في ذلك بين العلماء، وأما المرأة (فللعلماء في كونها حاكمًا ثلاثة مذاهب، فأجاز الطبري كونها قاضية في كل شيء، ومنعه مالك وجماعة أصحابه في كل شيء، وأجاز أبو حنيفة قضاءها فيما تجاوز فيه شهادتها فقط. وروى نحوه عن مالك، الدليل لنا قوله صلى الله عليه وسلم: (ناقصات عقل ودين) الحديث. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أخروهن حيث أخرهن الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم:(لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولأنها ولاية لفصل الأحكام، وتنفيذ القضايا، فلا يجوز كالإمامة الكبرى، وأما الطبري فرأى أن الغرض من الحاكم تنفيذ الأحكام، (وسماع) البيانات (والقضاء) بين الخصوم، وذلك متأت من المرأة كتأتيه من الرجل، ويلزمه عليه جواز ولايتها الإمامة الكبرى، إلا أن المقصود منها حوزة (البيضة) وحماية الحوزة والندب عن الأمة وجباية الخراج، وحفظ أموال المسلمين وصرفها في وجوبها، وذلك قد يتأتى من المرأة والعبد، وبهذا انقض القاضي

ص: 1355

أبو بكر بن الطيب علي أبي الفرج بن ظرارة في مجلس الخلافة ببغداد.

قوله: "وينبغي للحاكم أن يجلس في المسجد" وهذا تنبيه على خلاف الشافعي لأنه كره جلوس القاضي في المسجد تنزيهًا له عن الخصومة ودخول أجلاف الناس إليه. قال مالك في المدونة القضاء في المسجد من الأمر القديم، وفي كتاب ابن حبيب: كان قد مضى من القضاة لا يجلسون إلا في رحاب المسجد خارجًا، إما في موضع الجنائز، أو في رحبة القضاء. قال مالك: وإني لاستحب ذلك في الأمصار من غير تضييق ليصل إليه اليهود والنصارى والحائض والضعيف، وحيث ما جلس القاضي فهو جائز، وقال أشهب: لا بأس أن يقضي في منزله، وحيث أحب والمستحب عند متأخري أشياخنا أن لا يقضي في المسجد لقوله صلى الله عليه وسلم:(جنبوا مساجدكم برفع أصواتكم وخصوماتكم) ويجلس وقتًا معينًا من النهار يعلمه أهل الخصومات ليأتوا إليه فيه، ولا يجلس للقضاء في أيام الأعياء، وقال محمد بن عبد الحكم: ولا في يوم التروية ويوم عرفة، وكذلك يرخص له في ترك الجلوس يوم (الطين) والوحل إلا في ضرورة. وينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في المجلس، والإقبال عليهما إذا كانوا بين يديه، فإن

ص: 1356

كان أحد الخصمين ذميًا فهل يرجح المسلم عليه في المجلس أم لا؟ قولان: أحدهما: أن المسلم يتقدمه في المجلس بالشيء اليسير، وفي كتاب ابن حبيب يسوي بينهما (وإن كان أحدهما ذميًا). وحكى الإمام أبو عبد الله، قال: أخبرني شيخي عبد الحميد الصائغ، قال: كانت في بني إسرائيل عجائب منها إذا مات الحاكم فيهم تركوه في بيت، فإذا افتقدوه من الغدو، وجدوا أمارة تدل على حال، فمات قاض من قضاتهم ففعلوا به ذلك، فلما أصبح دخل عليه أخوه، فرأى ذباب تدخل من إحدى أذنيه، وتخرج من الأخرى فأرعب لذلك، فلما نام رآه في المنام فسأله عن ذلك، فقال: يا أخي تحاكم إلي خصمان فأصغيت إلى أحدهما أكثر من الآخر فعاقبني الله بما تراه.

واختلف الفقهاء في جلوس أهل العلم معه، فقال ابن المواز: لا (أحب أن) يقضي إلا بحضرة أهل العلم ومشاورتهم وهو قول أشهب، وكان عثمان بن عفان إذا جلس للقضاء أحضر أربعين من الصحابة، ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رآه أمضاه، ومنع ذلك مطرف وابن الماجشون قالا: ولكن إذا ارتفع عن مجلس القضاء استشارهم لأنه قد يكون حضورهم سببًا لحصن يدركه، ولا يجلس إلا بمحضر عدول السماع إقرار الخصوم، ويفرد النساء عن الرجال بالخصومة، ويجعل لهن وقت لا يخالطهن فيه الرجال.

قوله: "ولا يحكم بعلمه في شيء من الأشياء لا فيما علمه قبل ولايته ولا بعدها لا في مجلسه ولا غيره". وهذا الأصل قد اختلف فيه المذهب اختلافًا مشهورًا والمعتمد عليه من مذهب مالك أنه لا يقضي بعلمه في شيء من الأشياء على الإطلاق، إلا في التزكية والجرحة، فيقبل شهادة من علمه

ص: 1357

(عدلاً من غير حاجة إلى تزكية، ويرى شهادة من علمه) فاسقًا وعكسه الشافعي، فقال: يقضي بعلمه في كل شيء، وقال عبد الملك، يحكم بعلمه فيما علمه في مجلس حكمه مثل: أن يعترف الخصم بمحضرة، ثم ينر ولا يقضي فيما عدا ذلك وهو قول سحنون والدليل لنا من أوجه:

الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم بعلمه في المنافقين بل امتنع من قتلهم مع علمه بكفرهم، إذ لم يعلم الناس كفرهم كعلمه، ولذلك قال:(أيتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه).

والدليل الثاني: ما أخرجه أهل الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بعث أبا جهم مصدقًا فلاح رجلان فشجهما فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان منه القصاص فبذل لهما مالاً يرضيا به) فقال: إني أخطب الناس، فذكر لهم ذلك، أفرضيتهما؟ فقالا: نعم فخطب الناس فقال أرضيتما؟ فقالا: لا، وقد كان ذكر قصتهما، وأنهما رضيا بهما المهاجرون فمنعهما النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نزل فراودوهما فرضيا ثم صعد المنبر، فقال: أرضيتما؟ قالا: نعم.

ص: 1358

والدليل الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلى فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحوها أسمع) الحديث.

والدليل الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث هلال بن أمية لما لاعن زوجته إن جاءت به على نعت كذا، فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك (فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة لرجمتها) فقد علم صلى الله عليه وسلم (أنها زنت لإخباره أنها إن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك) ثم لم يحكم بالحد لعدم البينة، وعند المخالف يجب أن يرجمها إذا علم بذلك.

فإذا بنينا على المشهور عندنا أنه لا يحكم بعلمه لا في مجلسه ولا غيره فسمع إقراره الخصم في مجلسه فإنه يرفع ذلك إلى من هو فوقه، وهل يرفع إلى من هو تحته أم لا؟ قولان في المذهب. وفي كتاب محمد عن مالك لا تقبل شهادة القاضي فيما أقر به الخصم عنده في حين المحاكمة، وإنما يرفع شهادته فيما عنده في غير مجلس الحكم، وأما في مجلس الحكم فلا تقبل فيه شهادته، ولا يرفع إلى غيره. قال الشيخ أبو الحسن: وأما ما كان من العلم قبل أن يجلس الخصمان للحكومة جاز أن يرفع شهادته، واختلف في قبول شهادته فيما أقر به عنده في (غير) المحاكمة، ورأى أن تقبل إذا لم يكن

ص: 1359

حكم، كما تقبل في العبد يشهد بشهادة، فلم ترد حتى عتق أنه (ينفذها) وتقبل منه، فإن حكم بعلمه لم يرد حكمه لاختلاف أهل العلم فيه.

ثم ذكر أن التزكية لا تقبل إلا من اثنين عالمين بطرقها عارفين بأحكامها، وصفة تزكيتها أن يقولا: إن فلانًا عدل رضا، فإن اقتصر على أحد اللفظين أجزى، وكذلك إذا أتيا بما يتضمن ذلك ويدل عليه، قال مالك: ولو قالا هو من أهل الخير أو فيه خير، كانت تزكية من (العالم) بها.

قوله: "وإذا نسي (الحاكم) حكمًا حكم به، فإن شهد به عنده عدلان (نفذ) بشهادتهما"، وكذلك عندنا إذا أنكر أن يكون حكم به فشهد رجلان على حكمه به، ثبت الحكم بشهادتهما، وهذا تنبيه على خلاف الشافعي وأبي حنيفة حيث قالا: إن لم يذكر حكمه لم تنفع شهادة الشهود شيئًا، وإن ساغ له الحكم على الشهادة فيما يشهد به الشاهدان فكذلك حكمه لأنها شهادة فيها حق لمن شهد بالحكم له ففيها حق للغير فيلزم إمضاؤها، ولو وجد حكمًا في ديوانه بخطه، ولم يذكر أنه حكم به لم يجز له الحكم به إلا أن يشهد به عنده شاهدان، وقال ابن أبي ليلى: يحكم بخطه في الديوان لأنه كالشهادة وهو فقه سديد، بناء على العمل بالشهادة على الخط، ولو أنكر المحكمة عليه أن يكون خاصمًا عند ذلك القاضي، وقال القاضي: كنت خاصمت وأعذرت إليه، ولم تأت بحجة فحكمت عليك، ففي كتاب ابن حبيب عن أصبغ: القول قول القاضي. وحكى الشيخ أبو القاسم بن

ص: 1360

الجلاب أنه لا يقبل قول القاضي إلى ببينة. قال الشيخ أبو الحسن: وهو شبه في قضاة اليوم. ولو قال القاضي: شهدت عليه البينة وحكمت عليك بشهادتهم، فأنكرت البينة ذلك، ففي العتبية عن ابن القاسم يرجع الأمر إلى السلطان، فإن كان القاضي عدلاً لم ينقض قضاءه (وقال سحنون): ولا يرجع على الشهود بشيء. وفي كتاب محمد: إذا شهد رجلان فحكم القاضي بشهادتهما على رجل بمائة دينار، ثم أنكر الشاهدان، قالا: إنما شهدنا بمائة للآخر غير المحكوم عليه، والقاضي على يقين أن الشهادة كانت على ما حكم، قال: فعلى القاضي أن يغرم المائة للمحكمة عليه، لأن الشهود شهدوا بخلاف قوله:"ولا يجوز للقاضي أن يرجع على المشهود له" لأنه يقول حكمت بحق، فإن قال القاضي: أنا أشك أو وهمت نقض الحكم، ورجع إلى ما تقوله البينة، وإن أنكر الحاكم والمحكوم عليه الحكم، وقال: ما حكمت بهذا فشهدت البينة للمحكوم له أنه كان حكم له به، فإن الحكم يمضي، وعلى الحاكم أن ينفذ ما تضمنه الحاكم.

قوله: "ولا يحلف المدعى عليه بمجرد (دعوى المدعي) دون أن ينظم إليها سبب يقويها": وهذا الذي يسميه علماؤنا اعتبار الخلطة والمقصود وجود سبب ما يطرق الدعوى، ويصحح تعلقها خلافًا للشافعي وأبي حنيفة حيث قالا: أنه يحلف بالدعوى على أي وجه كان واختلف القائلون باشتراط زيادة على نفس الدعوى هل يشترط أن تكون الدعوى مما يشبه مثلها

ص: 1361

على المدعى عليه بشبهة تقوم على ذلك، ودليل يختلف باختلاف المدعى عليه، وقيل: لا بد من اشتراط المعاملة بينهما، والمبايعة بالنقد مرارًا أو (بالنسيئة) مرة واحدة، إذا كانت الدعوى في مال، وصح اشتراط الخلطة عن جماعة من السلف منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإنما اعتبرها مالك، ومن قال بقوله من أهل المدينة من باب حماية الذرائع ورعاية المصالح، إذ لولا اعتبرها لما شاء أحد من أهل الرذالة أن يؤذي أحد من أهل الديانة والحلم والأمانة إلا آذاه بنفس الدعوى الفاجرة، وفي ذلك إضرار بالناس (وتطرق) لإيذائهم، فإذا قوي السبب، وقامت الظنة، غلب على الظن إمكان ما يدعيه المدعي. قال علماؤنا لا خلطة بينهم: التجار في السفينة، وفي الأسواق والرجل الغريب يدخل بلدة فيدعي أنه أودع عند رجل مالاً، والسارق، والسمسار.

واختلف بماذا تثبت الخلطة، فقال ابن كنانة:(تثبت الخلطة) بشاهد واحدة أو امرأة، قال محمد: إن أقام شاهدًا حلف معه المدعي، لم يحلف المدعى عليه، والذي اختاره الأشياخ أن الشاهد الواحد تثبت به الخلطة، وكذلك تثبت بالمرأة الواحدة العدالة (لأن المراد إثبات لطخ للدعوى، وذلك يحصل بالمرأة الواحدة) وبالشاهد الواحد، قال الشيخ أبو الحسن: المراد في بيوعات النقد، وفي الدعوى في المبيعات والصناع والودائع والغضب والتعدي والجرح دعوى الشبهة لا المبيعات. قال بعض المالكية: الاجتماع في المسجد خلطة.

قوله: "وإذا حكم المتداعيان بينهما رجلاً (ارتضياه) جاز حكمه

ص: 1362

عليهما": التحكيم في الأموال وما في معناها جائز عندنا لازم لمن ألزمه ببينة وافق حكم قاضي البلد، أو خالفه. وقال أبو حنيفة: لا يلزم الخصمين منه إلا ما وافق حكم قاضي البلد، وجعله الشافعي في أحد قولية فتيا لا حكمًا، وكذلك إذا كان المحكم عدلاً من أهل الاجتهاد، أو عاميًا مسترشدًا بالعلماء، فإن كان عاميًا فحكم، ولم يسترشد فهو جور مردود، وإن وافق (يلزمهما ما حكم به عليهما إن وافق) مذهب إمامهما، فإن كانا مالكيين فحكم بينهما بمذهب الشافعي أو أبي حنيفة، أو شافعيين فحكم بمذهب مالك أو أبي حنيفة لم يلزمهما ذلك، ويشترط فيه أن يكون مجتهدًا بحيث لا يخرج باجتهاده عن مذهب إمامها. قال سحنون: لا ينبغي التحكيم في لعان، ولا في إقامة حد، وإما ذلك لقضاة الأمصار العظام. قال أصبغ: ولا تحكيم في قصاص ولا طلاق ولا عتاق ولا نسب ولا ولاء، وهذه الأشياء للإمام.

واختلف المذهب إذا حكمًا عبدًا أو امرأة أو مسخوطًا من لا يجوز قضاؤه، ففي كتاب بن حبيب عن مطرف لا يجوز حكم أحد من هؤلاء، وإن حكم أحدهما بصواب لم يلزم، وأجازه أصبغ في جميعهم المرأة والعبد والصبي (والمسخوط إذا كان الصبي يعقل وأجازة أشهب في كتاب ابن سحنون في جميعهم إلا الصبي). وأجازه ابن الماجشون في جميعهم إلا في المرأة والعبد، ولا يجوز تحكيم النصراني ولا المجنون ولا (المبرسم).

قوله: "وافق حكم قاضي (البلد)، أو خالفه" تنبيهًا على خلاف أبي حنيفة.

ص: 1363

قوله: "ويحكم على الغائب (ويسمع) البينة عليه" وهذا تنبيه على خلاف أبي حنيفة الذي لا يقول بالحكم على الغائب، ومذهب مالك الحكم عليه في كل شيء إلا في الرباع ففيها خلاف، فقيل: يحكم عليه فيه كسائر الممتلكات، واستحسن مرة التوقف عن الحكم فيها لأن مأمونة لا يخاف عليها. والدليل لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوج أبي سفيان:(خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف) الحديث. وقال عمر بن الخطاب في أسيفع حاضرًا، وقد انعقد الإجماع على جواز الحكم على العاقلة بوجوب دية الخطأ عليهم، وإن كانوا غائبين، وقول أبي حنيفة أنه يسمع البينة عليه، ولا يحكم عليه لا معنى له، إذ لا فائدة لسماع البينة إلا ليحكم بمقتضاها، والعمل بموجبها، ثم ذكر كتاب القاضي إلى القاضي وثبوت الحق عند المكتوب إليه، أو عند من أقيم مقامه، وذلك حكم أوجبته الضرورة لإنفاذ الحقوق والتحرز من ضياعها، ولا تنفع الشهادة على خط القاضي في بلد آخر، ولا بد من إقامة شهادة عادلة عنده أن ذلك كتاب القاضي إليه، وإن شهدا عليه بالحكم فهو أبلغ فهما طريقان، أما الشهادة عنده بأنه كتاب القاضي أشهدهم به من لفظه لا من كتابه، وأما الشهادة بتفصيل مضمونه فهو أثبت من الأول وألزم المنصوب مقام القاضي الأول، إذا مات الأول أو عزل أن يحكم بما في كتاب، وإن لم يكن له، وهذا تنبيه على خلاف أبي حنيفة القائل بأنه لا يجوز للثاني أن يحكم بما فيه وهذا ضعيف لأن القاضي إما أن يكتب بأنه قد حكم، ويلزم كل من ثبت عنده من الحكام تنفيذه، أو بكتب بما ثبت عنده فيجري ذلك مجرى

ص: 1364

الشهادة، فتنتقل الشهادة عنه كما تنقل عن الشهود الغائبين أو المرضى ونحوهم.

قوله: "وحكم الحاكم ينفذ في الظاهر ولا يحيل الباطن على ما هو عليه" وهذا مذهب مالك والشافعي وجمهور الفقهاء، وشذ أبو حنيفة فقال: إنه يتعلق بالظاهر والباطن، والدليل لنا عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(إننا معاشر الأنبياء إنما نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر). وقال صلى الله عليه وسلم: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)، وقد ارتكب أبو حنيفة في هذه المسألة (مرتقى صعبًا، واجترى فيها على هتك الشريعة، وإفساد الملة) وقد تعرض الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في الطعن عليه فيه، والترتيب لقوله وتزييف رأيه في كتاب الحيل من جامعه الصحيح. وصور أبو حنيفة على هذا الأصل الفاسد فروعًا فاسدة فقال: إذا ادعى رجل على أجنبية أنها زوجته، وأقام على ذلك شاهدين بزور شهدا بالزوجية، وحكم الحاكم بشهادتهما فيجوز له عنده أن يطأها وتصير له زوجة عند الله تعالى، وعندنا أنها محرمة عليه مع علمه وهو زان، وفي وجوب الحد عليه نظر، وكذلك لو ادعت المرأة على زوجها أنه طلقها ثلاثًا، وشهد بذلك شاهدي زور، وحكم بشهادتهما الحاكم، فيجوز له أن تتزوج غيره، ولا يجوز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو يسلم أن زوجها لم يطلقها إلى غير ذلك من فروعه الفاسدة في هذا الأصل المبنية على الهوى البعيدة عن الحق بالإطلاق، وله في ذلك تفصيل ننزه كتابنا عن ذكره. وهذه المسألة من أكثر معايبه، وأذم مساوئه.

ص: 1365

قوله: "ولا تقبل شهادة غير العدول، ولا يكفي ظاهر الإسلام من العدالة" وهذا لا خلاف فيه لقول الله عز وجل: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وقوله سبحانه: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282]. وقال عمر بن الخطاب: (لا يؤمر أحد في الإسلام بغير العدول)، وظاهر الإسلام شرط من شروط العدالة، والشاهد على ثلاثة أقسام: معلوم العدالة فتقبل شهادته، ومعلوم الجرحة فلا يقبل قوله، ومستور (الحال) فهل يحمل على العدالة، أو على الجرحة فيه خلاف بين أهل العلم، ومذهب مالك أن شهادته غير مقبولة واكتفى أبو حنيفة وغيره في ذلك بنفس الإسلام، وشرط العدالة أن يكون الشاهد بالغًا عاقلاً احترازًا من الصبيان والمجانين وشهادة الصبيان جائزة فيما بينهم، على ما سيجيئ.

قوله: "حرًا": احترازًا من العبد وهي مردودة عندنا خلافًا لداود بن علي، والدليل لنا قوله سبحانه:{ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2] وهذا خطاب للأحرار، ولأن الرق نقص يمنع من قبول القول قاسيًا على الأرجح.

وقولنا: "مسلمًا": احترازًا من الكافر وهي مردود مطلقًا، وقال أبو حنيفة: هي مقبولة على غير أهل ملتهم في السفر، والمعتمد له قوله تعالى:{أو آخران من غيركم} الآية [المائدة: 106]. وسببها معلوم في حديث تميم الداري.

وأما قولنا: "ثقة أمينًا" فهو خصوصية العدل الذي يتميز بها عن غيره، وقد قال العلماء في صفة العدل: هو المجتنب للكبائر كلها وأكثر الصغائر. قال ابن الخطيب: العدالة هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعها حتى تحصل الثقة بصدقة. قال الماوردي: أوصاف

ص: 1366

العدل أن يكون صادق المحبة (ظاهر الأمانة) عفيفًا عن المحارم، متوقيًا للمآثم، بعيدًا عن الريب، مأمونًا في الرضا والغضب، مستعملاً للمروءة في دينه ودنياه، ثم ذكر الأمور العارضة للعدل المانعة من قبول الشهادة وحصرها في التهمة الموجبة لاضطراب النفس باتهامه من صدق خبره، وذلك كشهادة الابن لأبويه، والأبوين له، وهي مردودة للتهمة، وكذلك الأجداد والجدات، وهذا الذي ذكر فيه تفصيل وخلاف، وأما شهادة الأب لولده على أجنبي فمردودة بلا خلاف عندنا، وأما شهادته لأحد ولديه على الآخر، إذا لم يعلم كيف منزلتهما عنده ففيه خلاف الجواز والمنع من باب التهمة لأمكن أن تكون شهادته لأقربهما منه رأفة، ولذلك لا تجوز شهادته كصغير أو كبير، ولا السفيه على رشيد لأنه يتهم في بقاء المال تحت يده، وتجوز للكبير على الصغير وللرشيد على السفيه، إلا أن تقوم في ذلك ظنة واختلف إذا كانا صغيرين، أو كبيرين، أو سفيهين، أو صغير رشيد، وسفيه كبير، وتجوز للعاق على البار، ولا تجوز شهادته للبار على العاق لاتهامه، ومنع سحنون من ذلك كله جملة من غير تفصيل، وهو ظاهر كلام القاضي، وأجاز ذلك داود وأهل الظاهر مع ثبوت العدالة بناء على أن العدل لا يتهم. والدليل على خلاف ما قالوه قول النبي صلى الله عليه وسلم:(لا تقبل شهادة خصم ولا ضنين) والظنة ههنا معلومة إذا شهد لابنه على أجنبي، وأما شهادته لأحدهما على الآخر ففيها خلاف مشهور. ففي كتاب محمد: لا تجوم شهادته لأحد أبويه على الآخر، إلا أن يكون مبرزًا، ويكون الشيء يسيرًا. وقال ابن نافع: شهادته لأحدهما على الآخر جائزة إلا أن يكون الابن في ولاء الأب، ولو شهد على أبيه بطلاق أمه، فإن كانت الأم منكرة لذلك جازت شهادته، لأنها شهادة عليهما وإن كانت الأم هي القائمة

ص: 1367

بالشهادة، منعها أشهب وأجازها ابن القاسم جملة من غير تفصيل، ولو شهدا بطلاق غير أمهما، إما أن تكون أمهما حية أو ميتة، فإن كانت ميتة جازت شهادتهما على الأب لانتفاء التهمة، وإن كانت تحية وهي القائمة بشهادة ولديها على أبيهما، فمنع ابن القاسم من قبول شهادتهما وردها بالتهمة، وأجازها أصبغ، واختلف في شهادة الأخ لأخيه على أقوال فقيل: جائزة مطلقًا، وقيل: مردودة مطلقًا، وقيل: تجوز في الأموال مطلقًا، وقيل: تجوز في اليسير من الأموال، وقيل: تجوز فيما لا تدركه فيه العصبية (والغضب) ولا تجوز فيما يقع فيه ذلك، وقبل: تجوز شهادته له إلا فيما فيه شرف له، أو في نفيه عنه معرة، وقيل: تجوز شهادته إن كان مبرزًا وإلا فلا. قال أصبغ: لا تجوز شهادته أن فلانًا قذفه لأنه يدفع بها معرة واختلف في شهادته له في جراح الخطأ لأنها مال، والصحيح جوازها، وكذلك اختلف في شهادته له في جراح العمد، فالمعروف من المذهب المنع لأنها مما تدركه في مثلها الحمية، وأجازها أشهب في العتبية، وفي كتاب محمد: تجوز شهادته أن فلانًا قتل أخاه إذا كان الولي والوارث غيره. قال أصبغ: وفيه اختلاف وهذا أحب إلينا وكذلك اختلف هل يجوز تعديه لأخيه أم لا؟ والمنع أصوب حفظًا للشهادة، وطريقًا (إلى التهمة).

واختلف في شهادة الأصهار، ففي العتبية عن ابن القاسم: لا تجوز شهادة الرجل لزوج ابنته ولا لزوجة ولده. وقال في كتاب ابن سحنون: ولا تجوز شهادة الرجل لربيبته، ولا لزوجة ولده إلا في الشيء اليسير التافه، وأجازها سحنون (لهؤلاء) وكذلك شهادة الصديق لصديقه إذا كان لا يناله معروفه ولا صلته. قال مالك: شهادته له جائزة. وقال ابن كنانة: تجوز في اليسير دون الكثير وذلك كله من باب رد شهادة العدل بالتهمة، وكذلك لا

ص: 1368

تجوز شهادته على عدوه في حطام الدنيا. قال سحنون: إن كانت العداوة غضبًا فيه فجرمه وفقه جازت الشهادة، وأجاز أبو حنيفة شهادة العدو على عدوه وكذلك المتهاجران إذا سلم عليه ولم يكلمه لم تجز الشهادة، واختلف إذا اصطلح لمتهاجران، فقال محمد: الشهادة جائزة. وقال مطرف وابن الماجشون: إن كانت الشهادة بحدثان الصلح لم تجز، وإن طال جازت. وقال ابن القاسم في أربعة أتوا متعلقين برجل فشهدوا عليه بالزنا لم تجز شهادتهم، لأنهم خصماؤه. وفي كتاب ابن حبيب: شهادتهم جائزة، واختلف أيضًا في شهادة الرجل على ابن عدوه بمال أو بما لا يلحق الأب منه معرة، فأجازها محمد، وإن كان الأب (حيًا إلا من) في ولاء أبيه، وقال: ترد سواء كان الأب حيًا أو ميتًا. قال ابن القاسم: لا تجوز إذا كانت عدوًا لأب الصبي، وشهد بعد موته، ولو كان مثل شريح وسليمان بن القاسم ولا تجوز شهادة الوصي ليتيمه، وفي شهادته عليهم روايتان: الرد، والقبول، ولا تجوز شهادة أحد الزوجين للآخر عندنا، وأجاز ذلك الشافعي، ولو شهد لزوجته وهي أمة بأن مولاها أعتقها فردت شهادته، فلها أن تختار لنفسها على مقتضى إقرار الزوج، وليس له إصابتها، واختلف إذا أرادت البقاء على الزوجية هل له إصابتها لأنها أسقطت حقها، أو يمنع منها ليلاً يرق الولد فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو الحسن، كذلك لا تجوز شهادة الأجير أن يستأجره إلا أن يكون مبرزًا في العدالة إذا كان الأجير في نفقته وإن لم يكن في نفقته جازت شهادته له، وسواء كانت النفقة بالتطور أو من الإجارة،

ص: 1369

واختلف في شهادة الزاني إذا تاب من الزنا هل تجوز اعتبارًا بالتوبة، أو لا تجوز تغليبًا للتهمة، وكذلك صاحب كبيرة إذا تاب عنها هل تقبل شهادته فيها أم لا؟ والصحيح القبول لقوله تعالى:{ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك} [النور: 5] وهذا الاستثناء رجع لكل ما تقدم من حقوق الله سبحانه، ووقع لسحنون في رجل جنى على رجل فاقتص من الجاني أنه لا تجوز شهادة المقتص منه مثل ذلك الجرح؛ حكاه الشيخ أبو الحسن.

قوله: "والثالث شهادة البدوي للقروي أو عليه في الحقوق" التي يمكن التوثق بها في الحاضرة.

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة فأجاز الشافعي وأبو حنيفة شهادة البدوي للقروي، وعليه في سائر الحقوق والأموال والحدود وكل شيء له أو عليه، وأجازها مالك في الأموال ومنعهما في الحقوق التي جرت العادة بالتوثق فيها في الحاضر كالوثائق والصدقات والأحباس، ونحو ذلك، فهذا لا تجوز شهادة أهل البادية فيه، إذ العادة جرت أن مثل هذا يشهد به في الحاضرة لأن الناس لا يتركون التوثق في الأحباس والصدقات والوصايا بإشهاد جيرانهم، وأهل بلدهم ولا يستشهدون أهل البوادي إلى لريبة. قال الشيخ أبو الحسن: إلا أن تعلم بينهم خلطة أو يكون جميعهم في سفر، وتجوز شهادة البدوي بين الحضريين في القذف والجرح والقتل.

قوله: "ومثله أن يشهد الفاسق أو الصبي أو العبد أو الكافر بشهادة في حال النقص فردت، ثم (يبلغ) الصبي، (ويعتق) العبد ويسلم الكافر

ص: 1370

وتحسن حالة الفاسق بالتوبة" وهذا راجع إلى القسم الثالث الراجع إلى الحال، وبطلت فيه شهادة هؤلاء للتهمة أن يكونوا إنما شهدوا الآن بها ليزول عنهم عار ردها أو لا؟ ثم ذكر تبغيض الشهادة، وصور فيه صورتين: إحداهما: أن تجتمع في الشهادة ما فيه تهمة، وما لا تهمة فيه مثل أن يشهد بحق واحد لابنه ولأجنبي أو لنفسه ولأجنبي فلا تقبل في الجميع، ومن (هذا الأسلوب) أن يشهد بوصية له فيها شيء، فإن كان الذي له فيها مما له بال، وقد ردت الشهادة كلها، وإن كان يسيرًا لا بال له، ففيها ثلاث روايات: أحدهما: قبول الشهادة في الجميع، والثانية: ردها في الجميع، والثالثة: قبولها في غير ماله وردها في مالهن وهذا مبني على تبعيض الشهادة. قال أصبغ في العتبية في رجلين شهدا على وصية، شهد كل واحد منهما لصاحبه، فإن كانت في كتاب واحد بطلت الشهادة، فإن كانت بغير كتاب جازت، وحلف كل واحد مع شهادة الآخر. قال في المبسوط: إذا شهد الموصى له جازة شهادته لغيره ويحلفون معه ويستحقون، وإن شهد معه آخر جازت

ص: 1371

شهادتهما لأهل الوصايا، وحلف مع الشاهد الآخر، وستحق يسيرًا كان أو كثيرًا. قال مالك: فيمن شهد في ذلك حق له فيه شيء لم يجز له ولا لغيره، قال في المجموعة: لأن أحدهما لا يأخذ منه شيئًا إلا إذا دخل عليه صاحبه، ولو اقتسما (قبل الشهادة جازة شهادته) قال أشياخنا: إذا قال الشاهد أعلم أن شهادتي فيما يصيبني (لا تجوز) وإنما أقصد بأداء الشهادة لأجنبي، وذكرت ما أوصى لي به لأؤدي المجلس حسبما كان لا لأنها تنفعني كان ذلك أبين أن لا ترد لأجنبي في يسير أو كثير. والصورة الثانية: أن تجمع الشهادة ما يختلف جنسه في قبول الشهادة فيه مثل: أن يشهد النساء بوصية فيها مال أو عتق أو يشهدن بطلاق (وعتق)، فتقبل شهادتهن في المال والدين دون العتق والطلاق.

قوله: "والمراعي في (ذلك) أن يشهد المزكي بأنه عدل رضا" قد قدمنا أن هذين اللفظين مأخوذان من كتاب الله عز وجل: {ممن ترضون من الشهداء} [البقرة: 282] وفي قوله: {ذوي عدلٍ منكم} [الطلاق: 2] فإن عبر بلفظ يقتضي ذلك، ففي الاقتصار عليه (خلاف). قال القاضي: ولا يكفي من ذلك أن يقول: لا أعلم له زلة ولا خزية ولا أعلم إلا خيرًا، وإني أرضى به لي وعلي. قال أبو إسحاق: يجزي على هاتين اللفظتين ما في معناهما مثل أن يقول: هو من أهل الخير وهو من أهل الفضل ونحوه. ومن اشتهر بالصلاح والدين قبلت شهادته من غير تزكية ولو عدله رجلان وجرحه آخران ففيه روايتان، قيل: يؤخذ بأعدلهما، والتجريح بالعدالة لا بالعدد، وقيل: بالعدد، وليس عليه عمل، وقيل: يؤخذ بالجرح لأنه يخفى ولا يظهر.

وحكى الخلاف في قبول الجرح المجمل والذي اختاره المحققون من

ص: 1372

أشياخنا أن التجريح المجمل لا يصح إلا من العلم، فلا بد من تفسير الجرح، والتجريح يقع بترك الواجبات أو فعل الكبائر إلا الغيبة إلا أن تتكرر، وقيل: لا يجرح بها، وغن تكررت.

واختلف المذهب هل يشترط في التجريح اتفاق المجروحين على سبب واحد بجرح، واشترطه سحنون في كتاب ابنه، ولم يشترطه مرة أخرى مثل: أن يكون كل واحد منهما شهد بسبب مجرح فيقول أحدهما: شارب خمر، ويقول الآخر: عامل بالربا، فهذا تجريح صحيح على أحد القولين، وباطل على القول الثاني إلا أن يتفقا على السبب الواحد، ويجرح الشاهد بترك الجهة إذا توفرت شروطها الشرعية وإلا فلا، وهل بالمرة الواحد أو بثلاث مرات فيه خلاف بين الأشياخ، ويجرح المليء بمطل غريمه بحث واجب له عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم:(مطل الغني ظلم) وهل ذلك بالمرة الواحدة، أو حتى يتكرر ذلك منه، فيه خلاف بين أشياخنا. قال سحنون: ومن كان قادرًا على الحج بماله يحج فهو مجروح، إذا طال زمان تركه مع صحة بدنه واتصال فوره منذ عشرين سنة إلى ستين سنة، وقيل: لا تقبل شهادته، قيل له: وإن كان بالأندلس قال: وإن كان بالأندلس ولا يجرح الشاهد (بعداوة) في الدين إلا من هو أعدل منه بخلاف العداوة (وقال أحمد بن سعيد ويجرح في العداوة) من لا تقبل شهادته إلى بتعديل، لأن الذنوب تخفى ولا يطلع عليها العدول، وإذا شاء المشهود عليه التمكين من الطعن في الشاهد العدل المبرز مكنه القاضي من ذلك قاله سحنون. قال أصبغ: لا يمكن من الجرح بالإسفاه عليه، وأما بالعداوة يمكن. حكى القولين أبو إسحاق في تعليقه، وحكى الشيخ أبو الحسن عن مطرف أنه يمكن إذا جرح

ص: 1373

من هو مثله أو فوقه أو دونه بالإسفاه والعداوة إذا كان عارفًا بوجوه التجريح. قال ابن الماجشون: يجرح (بمن فوقه، ومثله) ولا يجرح بمن هو دونه إلا في العداوة، وأما بالإسفاه فلا، وقد ذكر أنه لا يجرح بعداوة الدين، فلهذا جازت شهادة المسلم على الكافر والعدل على الفاسق بلا خلاف، ثم ذكر أن القيام بتحمل الشهادة فرض على الكفاية، لأنها من مصالح الدنيا، ومن أشد المعاش، قال سبحانه:{ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا} [البقرة: 282] وقد اختلف العلماء في معناه، فقيل: المراد به وقت التحمل، وقيل: وقت الأداء وهو الصحيح، قال تعالى:{واستشهدوا شهيدين من رجالكم} [البقرة: 282] وقد يتعين فرض الكفاية في بعض الحال، والشهادة من هذا القبيل، وكما منع الله الشاهدين من الإباء، فكذلك منع صاحب الحق من المضار. قال تعالى:{ولا يضار كاتبٌ ولا شهيدٌ} [البقرة: 282]. قال القاضي: "وتحمل الشهادة من أفضل البر" لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى} [المادة: 2].

ولما يتعلق بذلك من حفظ أموال الناس وحقوقهم وحقوق الله سبحانه. قال الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعضٍ لفسدت الأرض} [البقرة: 251] قال (سفيان بن عيينة) هو ما يدفع الله تعالى بالشهود من التجامد والتظالم، ولذلك يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أكرموا الشهود فإن الله يستخرج بهم الحق، ويدفع بهم الباطل)، قال الإمام جمال الدين

ص: 1374

أبو الفرج بن الجوزي هذا حديث منكر الإسناد رواته كذابون، وكذلك أداؤها هو فرض كفاية كتحملها، وقد يتعين حيث تتعين الشهادة، وقد قال سبحانه:{وأقيموا الشهادة لله} [الطلاق: 2]. وانعقد إجماع الأمة على أن أخذ العوض على تحملها وأدائها حرام. اللهم إلا أن يكون في موضع تلزم بالمشي إليه مشقة وكلفة فيريد الخصم الإتيان بالشهود لتحمل الشهادة، فهذا جائز على كراهة، ولم يزل أهل العلم، والفضل (يأنفون) عنه إلا أن يكون في ذلك كتاب وثيقة أو تسجيل حكم، فجاز أخذ الإجارة على الكتب لا على الشهادة، (والتأنف) عن ذلك طريق أهل الفضل وشأن ذوي المروءات، واتخاذ ذلك مكتسبًا وحرفة طريق أهل الرذالة والجهالة على هذا الأمر قديمًا وحديثًا، وقد كان خارجة (ومجاهد) يقسمان بين الناس بغير شيء والله الموفق للصواب.

قال القاضي رحمه الله: "والبينات تختلف باختلاف الحقوق المشهود بها من التوسعة والتضييق".

جمع في هذا الفصل أحكامًا كثيرة وأنواعًا مختلفة، وفصل القول في جميعها بعد أن أجملها في أربعة أقسام (شاهد) ويمين وكتاب قاض، ومعنى يقتضيه شاهد الحال، وانظر مراده في هذا القسم الرابع فهو مما جرت العادة بالتنبيه عليه، ولعله إشارة إلى المرأة تتعلق بالرجل وهي تدمي تدعي ليه أنه استكرهها، وقد بلغت من فضيحة نفسها إلى حال تشهد العادة بصدقها غالبًا، وأن المدعى عليه من يليق به ذلك والمرأة من الستر بحيث لا تفعل

ص: 1375

ذلك بنفسها، وإدخاله اليمين، والمعنى الذي يقتضيه شاهد الحال مع (البينة) فيه نظر؛ إلا أن يريد أن ذلك طريق بإثبات الحق كالبينة، وفصل ذلك إلى ستة عشر قسمًا.

الأول: أربعة شهود وذلك مخصوص بالزنا واللواط، ونفصل القول في ذلك، فأما على رؤية الزنا واللواط فلا يكفي في ذلك عدول يرون الفرج في الفرج كالمردود في المكحلة كما تقدم، وأما الشهادة على الشهادة، وعلى كتاب الحاكم فهل يفتقر في ذلك إلى أربعة، أو يكتفي باثنين فيه قولان في المذهب قد قدماهما قبل أحدهما أنه يكتفي بشهادة اثنين على كل واحد من الأربعة لأنه نقل لا شهادة على الزنا، والثاني: أنه لا يكتفي إلا بأربعة على كل واحد من الأربعة، فعلى هذا لا يثبت الحكم بإقامة الحد إلا بستة عشر شاهدًا وهذا رحمة من الله لخلقه، وظاهر كلام القاضي أنه لا يكتفي في ذلك باثنين لأنه أدرج الشهادة على الشهادة، وعلى كتاب القاضي به تحت الشهادة على رؤيته.

قوله: "وأما الرجلان فلحقوق الأبدان التي يطلع الرجال عليها غالبًا": يعني كالزنى والقذف والقتل والجراح والنكاح والرجعة والطلاق والعتاق، ورؤية الأهلة وأحسن من قوله أن يقال: الشاهدان العدلان لسائر الأحكام البدنية والمالية من حقوق الله سبحانه، وحقوق الآدميين ولا لمعنى لاقتصاره هنا على ذكر حقوق الأبدان إلا من حيث إن الرجال يختصون بها لا يشاركهم النساء فيها، فأراد ذكر ما وقع الاختصاص به، ولو ذكر الحقوق المالية لدخل فيها النساء. وأما الرجل والمرأتان والشاهد الواحد واليمين والشاهد والنكول، فكل ذلك مخصوص بالأموال، وما يكون المقصود منه المال، لأن الله سبحانه إنما ذكر شهادتين في الأموال، وقد اختلف قول مالك في جراح العمد هل يجب القود فيها بالشاهد واليمين أم لا (فعنه) في ذلك روايتان مبنيتان على أن الواجب به التخيير أو القود. وقول القاضي: "ففي

ص: 1376

الأموال وحقوقها" أما الشهادة (على المال) فظاهرة كالشهادة بالقراض والسلف والملك وغير ذلك، وأما حقوقها فكالشهادة بالبيع والإجارة والرهن والشفعة ونحوه.

قوله: "وفي حقوقها المتعلقة (بالأبدان) خلاف": إشارة إلى أن الشهادة على الوكالة بطلب مال وعلى إسناد الوصية التي ليس فيها إلا المال، وقد اختلف المذهب في قبول الشاهد والمرأتين في هذا القسم، فقال ابن القاسم وأبو وهب: يقبل في ذلك شاهد وامرأتان. وقال أشهب وعبد الملك: لا يقبل في ذلك إلا رجلان ولا يقبل فيه الرجل والمرأتان لأن الوكالة فعل بدن، وإذا لم يقبل فيه الشاهد واليمين فكذلك الرجل والمرأتان، لأن أحدهما لا يقبل إلا حيث يقبل الآخر، وذكر أن الشاهد، ونكول كالشاهد واليمين، ومراده أنه كما يحكم بالشاهد ويمين المدعي كذلك يحكم الشاهد ونكول المدعى عليه خلافًا للشافعي.

قوله: "وقد بينا الخلاف في الشاهد والنكول": انظر أين بين ذلك فلم يقع له ذكر.

قوله: "وأما المرأتان بانفرادهما ففي عيوب النساء والولادة": هذا يبين قوله في أول الفصل ثم هي بعد ذلك على ثلاثة أضرب: منها منفرد بنفسه يريد كشهادة الرجال والنساء في العيوب ومنها ما يختلف أنواعه فينفرد بعضه، ولا ينفرد سائره، وهذا كشهادة المرأتين في الرضاع، فلا ينفرد ذلك (في الرضاع) حتى ينضم إليه الظهور والانتشار على مقتضى ما فسره في أثناء كلامه على أحد القولين فيه وينفرد في عيوب الفرج والولادة ونحو ذلك مما لا يطلع عليه الرجال وحكم المرأتين والنكول حكم الشاهد واليمين (معنى ذلك

ص: 1377

أنه يحكم بشهادة المرأتين مع نكول المدعى عليه في الأموال وحقوقها كما يحكم بالشاهد واليمين) في الأموال وحقوقها فكذلك يحكم (بشهادة المرأتين) بنكول المدعى عليه مع رد اليمين على المدعي. وقال أبو حنيفة: إذا نكل المدعى عليه كررت عليه الأيمان ثلاثًا، فإن نكل أخرى غرم من غير يمين المدعي. واختلف قول الحنفية إذا كان ذلك في قتل عمد أو جراحة فلهم فيه قولان: أحدهما: أنه يحبس أبدًا حتى يحلف أو يعترف، وهو الذي اعتمد عليه أبو حنيفة، والآخر: أنه يحكم عليه بالدية، وعليه اعتمد صاحبه أبو يوسف: وأما يمين المدعي مع قوة السبب فله أمثلة منها يمين المشتري للسلعة إذا اختلف هو والبائع في مقدار الثمن، وكان المشتري قد قبض السعة فقوى جانبه ورجع سببه بالقبض، وكذلك اختلاف لزوجين في قبض الصداق، فالقول قول الزوج بعد الدخول لأنه قبض السلعة، فإن لم يدخل فالقول قول المرأة لأن سلعتها بيدها، وذلك من باب تحكيم العرق والشهادة بمقتضى العادة، ثم ذكر شهادة الصبيان، وذكر بقبولها تسعة شروط: أن يكونوا ممن يعقل الشهادة، وأن يكونوا أحرارًا ذكورًا محكومًا لهم بالإسلام وأن يكن المشهود به جرحًا أو قتلاً، وأن يكون ذلك بينهم خاصة، وأن يكونوا اثنين فأكثر، وأن تكون شهادتهم قبل تفرقهم، وأن لا يختلفوا، هذا أقصى الشروط التي ذكرها القاضي، وأعلم أن شهادة النساء والصبيان خارجة عن الأصل، أما النساء في غير الأموال فلأن الله تعالى إنما ذكر شهادتهن في الأموال فأجيزت في الولادة والاستهلال من باب الضرورة، وكذلك القول في شهادة الصبيان كالقول في شهادة النساء، أما شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والاستهلال وعيوب الفرج والسقط والحيض، والرضاع، قال أصبغ: وما تحت الثياب، وذلك كله على وجه الضرورة. قال الشيخ أبو الحسن: شهادة النساء في الولد على ثلاثة أوجه

ص: 1378

على (نفس) الولادة وعلى الاستهلال وعلى (المولود)، أما شهادتهن على الولادة فلا يخلو أن يكون الولد موجودًا (أم لا، فإن كان موجودًا جازت شهادتهن عليه، لأن وجوده يصدقهن، فيشهدن أن هذه ولدته، واختلف إذا لم يكن الولد موجودًا) فأجازها ابن القاسم، ومنعها ربيعة وسحنون، قال الشيخ أبو الحسن: ورأى شهادتهن لا تقبل إذا لم يكن الولد موجودًا إذا كانت المناكرة بقرب الولادة، لأنه يقدر على إظهار الولد، وإن كان مقبورًا أو طال الأمد، وتعذر الكشف عليه قبلت شهادتهن وإلا لم تقبل، وكذلك تقبل شهادتهن على الاستهلال، واختلف إذا شهدتا أنه ذكر هل تقبل شهادتهن أم لا. وقال أشهب: لا تجوز شهادتهن على أنه ذكر، لأن هذا مما يمكن أن يراه الرجال، وقال أصبغ: إن فات أمره بالدفن، وطال مكثه، قبلت شهادتهن على ذلك، وإلا لم تقبل ولا فرق بين أن يستحق ميراثه بيت المال أو غيره من الورثة، وقد فرق بينهما، والصواب أنه سواء، وتقبل شهادة النساء في عيوب الفرج، واختلف إذا كان العيب في غير الفرج فقيل: ينقر الثوب ليراه الرجال، وقيل: يرجع فيه إلى شهادة النساء، وهل تقبل في ذلك المرأة الواحدة لأنه كالحكم أم لا بد من امرأتين فيه خلاف في المذهب، واختلف في شهادة النساء فيما بينهن في العرس والحمام والمأتم في القتل والجراح هل تقبل أم لا؟

ومبنى الخلاف على ما ذكرناه من اعتبار الضرورات في مثل هذه الحال، فتجوز شهادة المرأتين وإن لم تكونا عدلين، لأن هذه مواطن لا يحضرها العدول، وإن عدل منهما اثنان اقتصر بشهادتهم في القتل من غير قسامة وفي الجراح بغير يمين، لأن شهادة اثنتين فيما لا يحضره الرجال كشهادة رجلين، وأما شهادة الصبيان، فقد اختلفت الرواية فيها، وقال محمد بن عبد الحكم: لا تجوز شهادتهم فيما بينهم، لا في جراح ولا في قتل، لأن الله سبحانه، إنما أجاز شهادة أهل العدل والرضا والمشهور جواز

ص: 1379

شهادة الصبيان فيما بينهم (للضرورة، وإذا بنينا على المشهور من جواز شهادة الصبيان فيما بينهم) فقد اختلف المذهب في مسائل تتعلق بذلك.

المسألة الأولى: من لم يحضر من الصبيان معهم في المعترك هل تجوز شهادتهم بينهم أم لا؟ فيه قولان: الجواز والمنع، وصورة المسألة: أن لا يكون الصبيان المشهود منهم ولكنهم (مروا بهم) وهم يلعبون في المعترك. قال مالك: تجوز فيما بينهم في المعترك الذي يكون بينهم، وقال ابن مزين: تجوز شهادتهم كانوا معهم في المعترك أم لا؟

المسألة الثانية: الإناث هل يشهدن فيه أم لا؟ قال محمد: لا تجوز شهادة الإناث، وإن كان ذلك فيما بينهن، وأجازها عبد الملك وغيره في الذكور والإناث.

المسألة الثالثة: هل يشهدن في القتل كما تجوز شهادتهن في الجراح أم لا؟ فيه قولان: المشهور جوازها في القتل والجراح، والشاذ أنها لا تجوز إلا في الجراح فقط.

المسألة الرابعة: إذا شهد كبار عدول بمعاينتهم بخلاف ما شهد به الأصاغر. قال عبد الملك: تسقط شهادة الصغار بشهادة الكبار. وقال غيره: لا تسقط، وهي متعارضة فيقع الترجيح.

المسألة الخامسة: اختلف المذهب إذا خالط الصبيان رجل هل تسقط شهادتهم لإمكان أن يكون جنبهم أم لا؟ وفيه قولان: أحدهما: سقوط شهادة الصبيان لما ذكرناه من إمكان التخبيب، والثاني: أن شهادتهم ماضية.

ص: 1380

المسألة السادسة: إذا اختلفت شهادة الصبيان فشهد اثنان أن هذين قتلاه، وقال المشهود عليهما: بل أنتما قتلتماه فقيل: تسقط الشهادتان وهو الصواب لاختلافهما، وقيل: تكون الدية على عاقلة الأربعة.

المسألة السابعة: شهادتهم لكبير أو عليه، المشهور أنها غير جائزة، وأجازها ابن حبيب للكبير وعليه، وأجازها محمد لكبير في القتل ولم يجزها في الجراح.

المسألة الثامنة: قال مالك: ليس في الصبيان قسامة، وعنه رواية أخرى أنه يقسم مع شهادة الصبيان. وفي كتاب ابن مزين: يقسم مع شهادة الصبي الواحد في العمد ولخطأ، وصورة ذلك: إذا شهد الصبيان بالجرح فنزا الجرح فمات، هل للأولياء أن يقسموا مع شهادتهم أم لا؟ فيه قولان.

المسألة التاسعة: هل يراعى ما يكون بين الصبيان من قرابة أو عداوة فيه قولان: قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة القريب لقريبه ولا العدو على عدوه، وحكى أشياخنا قولاً ثانيًا: أن القرابة والعداوة في شهادة الصبيان غير معتبرة ونص عبد الملك على جوازها مع العداوة.

المسألة العاشرة: إذا اتفقت شهادة الصبيان وثبتوا عليها ولم يرجعوا بني على ذلك، فإن رجعوا عنها أخذنا بأول قولهم، ولم يلتفت إلى آخر قولهم.

قوله: "وأما شهادة السماع ففيما لا (يتعين) وذلك في أربعة أشياء: النسب والموت والولاء، والحبس والوقف، وقيل في النكاح، وتقادم الملك". (قال المؤلف رحمه الله) الشهادة على السماع جائزة داخلة تحت قوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف: 81] لأن السماع المستفيض يحصل به العلم، فالشهادة به شهادة العلم، ولا خفاء في وجوب العمل بها هذا طريقه إلا أن لخروجها عن أصل العيان اختصت بحال دعت إليه الضرورة فيها فوقفت على هذه الحال دون سائر المواضع وهي الأربعة التي ذكرها القاضي: النسب والموت والولاء والحبس، واختلفت في مسائل تتعلق بهذا.

ص: 1381

الأولى: إذا كانت الشهادة على سماع مستفيض يحصل به العلم وتثلج به النفس فهي الأولى في مراتب السماع، وتجوز الشهادة على السماع في الرباع فيما قدم، وإن لم يقع بها العلم نص عليه الشيخ أبو الحسن وغيره من أشياخ المذهب، وهي على ثلاثة أقسام يبقى بها في اليد ما هو تحت اليد ولا ينزع بها ما عليه يد، واختلف هل يؤخذ بها ما ليس عليه يد. قال محمد: ولا تجوز في ذكر الحقوق، ولا في الودائع.

المسألة الثانية: إذا حكمنا بشهادة السماع في عفو الأرض أو خراب لا يد عليه، وقضي لمن شهد له به، فهل يفتقر مع ذلك إلى يمين أم لا؟ قال ابن القاسم: يقضي له به بعد يمينه، وقال أشهب: بغير يمين كالشهادة على السماع في الولاء والنسب.

المسألة الثالثة: الشهادة على السماع في النكاح مختلف في جوازها. قال سحنون: جل أصحابنا يقولون في النكاح أنه إذا انتشر خبره أن فلانًا تزوج فلانة، ويسمعون الدفاف فله أن يشهد أنها زوجة وكذلك في الموت تسمع النياحة فيشهد أن فلانًا مات، وإن لم يحضر جنازته، وكذلك القاضي يولي ولا يحضر ولايته إلا ما سمع من الناس، فهذا كله تجوز الشهادة فيه على السماع.

المسألة الرابعة: اختلف المذهب هل من شرط شهادة السماع أن يسمع من العدول أم لا؟ والمشهور أنه ليس بشرط، فإن نقلوا عن قوم عدول أشهدوهم فهو نقل لا شهادة سماع، وقيل: لا ينتفع بشهادة السماع حتى يعرفوا أن الذين كانوا يسمعون منهم عدول. قال عبد الملك: ولا تجوز من غير أهل العدل من سامعين أو مسموعين أن دار فلان لفلان الغائب (قلت) لأن هذا انتزاع من الحاضر للغائب فتطلبت فيه العدالة قولاً واحدًا، ولا يقتصر في شهادة السماع على شاهدين دون أن يكشف ذلك من غيرهما، فإن

ص: 1382

لم يوجد علم ذلك عند غيرهما لم تقبل شهادتهما لأن الأمر المستفيض والمنتشر لا يختص بعلمه الرجال.

وتجوز شهادة السماع في الأحباس القديمة. قال مالك: وههنا أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا تعلم الآن عندنا إلا بالسماع. قال محمد بن عبد الحكم: ويجوز أن يشهد على امرأة أنها زوجة فلان إذا كان (يحوزها) بالنكاح، وإن كان تزويجه قبل أن (يولد) كما يشهد أن هذا ابن لها، وإن لم يحضر، قال مالك: ويقضى بها في الولاء المنتشر الذي يقع العلم به مثل نافع مولى ابن عمر. قال ابن الماجشون في المبسوط: أقل ما يجزئ في الشهادة على السماع أربعة.

قوله: "وشهادة الأعمى جائزة، وكذلك الأخرس إذا (فهمت إشارته) " وهذا مذهب مالك الذي لا اختلاف فيه عندنا أن شهادة الأعمى جائزة مطلقًا في كل شيء إلا فيما طريقه الرؤية فقط، فأما ما طريقه سماع الصوت أو اللمس أو الذوق أو الشم فكل ذلك جائز عندنا خلافًا للشافعي وأبي حنيفة فإنهما قالا: لا تقبل شهادته إذا تحملها أعمى أو أخرس، والدليل لنا: أن الصحابة والتابعين رووا عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الحجاب، وليس كذلك طريق إلى الصوت وقال صلى الله عليه وسلم:(فكلوا واشبوا حتى ينادي ابن أم مكتوم). ولا فرق بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا بالصوت، (وإذا كان للأعمى) وطء زوجته بالإجماع وهو لا يعرفها إلا بالصوت، فشهادته أولى بالجواز، لأن الإقدام على الفروج أغلظ من الشهادة بالحق.

قوله: "ومن شهد بشهادة ثم رجع عنها" إلى آخره. الرجوع عن الشهادة

ص: 1383

جائز إذا استند إلى وجه صحيح، فأما أن يرجع بإكذاب نفسه أو بدعوى الغلط، ولا يخلو إما أن يرجعوا عن شهادتهم قبل الحكم أو بعد الحكم بها، فإن رجعوا قبل الحكم بها قبل رجوعهم، ولم يحكم بشهادتهم ولم يلزمهم بالرجوع شيء إذا لم يتلفوا شيئًا إلا أن يقرروا بتعمد الكذب والزور، فعلى الإمام أن يعاقبهم عقوبة شديدة وعقوبة شاهدة الزور، وإن رجع الشهود بعد الحكم بشهادتهم غرموا ما تلفوا بشهادتهم بلا خلاف إن كان رجوعهم لإقرارهم بتعمد الكذب، وإن ادعوا الغلط فهل يرجع عليهم بشيء أم لا؟ قال عبد الملك: لا يرجع عليهم إذا ادعوا الغلط بشيء، والمشهود أنهما إذا شهدا بمال، وقالا: غلطنا في ذلك أن الحكم لا ينقض ويغرم الشاهدان المال، ولا يرجع على المشهود عليه، وإنما قلنا: إن رجوعهم بعد استيفاء الحكم لا ينقض به الحكم، لأن رجوعهم إن كان تكذيبًا لأنفسهم فذلك (تفسيق) منهم لأنفسهم، والحكم لا ينقض بقول فاسق، وإن كان عن غلط فيجوز أن يغلطوا في قولهم آخر فليس نقض الأولى بأولى من نقض الآخر، لا سيما وقد تعلق بقولهم الأول حق المشهود له.

واختلف المذهب إذا شهدوا بأن فلانًا قتل فلانًا عمد، ثم قتل به فأقروا بتعمد الزور في شهادتهم هل يقتلون (وهو الصحيح نظرًا) وهو قول الأشهب، أو لا يقتض منهم، وعليهم الدية، وهو قول ابن القاسم، ولا خلاف في ادعائهما الغلط أنهما لا يقتلان ولكن يغرمان الدية على المشهور ويغرم أحدهما برجعه النصف، لأنه أتلف ذلك بشهادته.

قوله: "ولا يمنع ذلك قبول شهادتهم في المستأنف": يريد ادعوا الغلط، ولم يقروا بتعمد الكذب، لأن الإنسان غير معصوم من الغلط، وإن أقروا بتعمد الكذب فقد شهدوا على أنفسهم بالجرحة والفسق، والفاسق مردود الشهادة مطلقًا.

ص: 1384

قوله: "ولو ثبت فسق الشهود بعد الحكم، والاستيفاء بشهادتهم لم يلزم الحاكم بشيء مما تلف بشهادتهم، ولو ثبت رقهم أو كفرهم ضمن" وهذا كما ذكره، والفرق بينهما ظاهر، وهو أن العدالة اجتهادية للحاكم أن يقول: غلب على ظني العدالة بالاجتهاد وهو في الكفر الرق مفرط في اختيار حال الشهود، لأن ذلك ظاهر ليس كالعدالة.

فصل: قال القاضي رحمه الله: "وإذا تداعى الرجلان شيئًا بأيديهما أو في يد غيرهما مما لا يدعيه لنفسه أو ليس في يد أحدهم حكم به لمن أقام البينة على أنه له" وهذا كما ذكره، وذلك أن التقسيم في هذه المسألة يرجع إلى ثلاثة أشياء إلى اليد وإلى البينة، وإلى صفة الدعوى، لأن ذلك كله يمكن الاختلاف فيه، فنقول: إن كانت الدعوى متساوية، وادعى كل واحد جميعه، فإما أن يكون في أيديهما معًا، أو في (أيد أحدهما) أو لا يد عليه البتة، فإن كان الشيء في أيديهما، أو في يد غيرهما، فأقاما (معًا) البينة عليه حكم به لهما (بعد ايمانهما) إن تساوت البينة في عدالتهما، فإن كان البينة أحدهما أعدل من الأخرى قضي له به، هذا إذا كان في أيديهما معًا أو في يد غيرهما، فإن كان في يد أحدهما فهو لصاحب اليد مع يمينه، فإن أقام الآخر البينة فالبينة أولى من اليد، فإن أقام صاحب البينة أيضًا حكم بأعدل البينتين، فإن تكافأتا، سقطتا وكان صاحب اليد أولى.

واختلف المذهب إذا تنازعا عفوًا من الأرض، فقيل: يقتسمانه بمنزلة ما لا بد عليه. وفي المدونة: يبقى كغيرها من عفو بلاد المسلمين، وكذلك اختلف المذهب أيضًا إذا تكافأت البينة في الترجيح بالأكثر، فمذهب المدونة أنه يرجح بالأعدل، ولا يرجع بالأكثر (فروى ابن حبيب) عن ملك أنه إذ استووا في العدالة رجح بالأكثر، واختلف أيضًا إذا أقام أحدهما شاهدين

ص: 1385

والآخر رجلاً وامرأتين أو شاهدًا واحدًا، وقال: أحلف معه. فأجرى ابن القاسم الشاهد واليمين مجرى الشاهدين، فإن كان أعدل قضى به مع يمين القائم به، وقال مرة الدار لصاحب الشاهدين ورجحه على الشاهد واليمين.

وأما صفة الدعوى فمثل أن يدعي أحدهما جميعه، ويدعي الآخر نصفه، أو يدعي ثلثه. واختلف المذهب أيضًا في كيفية القسمة في هذه الصورة على قولين: أحدهما: أن القسمة على عدد الرؤوس بالسوية، والمشهور أن القسمة على صفة اختلاف الدعوى، وذلك أنه إذا ادعى أحدهما جميعه، وادعى الآخر نصفه، فمدعي النصف قد سلم لصاحبه النصف، ونازعه في النصف (فيأخذ مدعي الجميع ثلاثة أرباعه ونصفه بالتسليم من صاحبه وربعه بحق القسمة) ويأخذ مدعي النصف الربع فقط، وعلى هذا المنهج تجري مسائل الاختلاف في حال الأنصباء على هذين القولين، والصحيح أن القسمة على صفة اختلاف الدعوى لأن مدعي النصف مثلاً مقرًا بأنه لا حق له في النصف الآخر، فكان مدعي الكل قد حازه، ولا مخاصم له فيه، على هذا تخرج المسائل في الأصل، ولو ادعى أحدهما الكل، والآخر النصف، والثالث الثلث فإن قلنا: إن القسمة بينهما كالعدد فلا إشكال، وإن قلنا: إن القسمة على صفة الدعوى قسم بينهم على ستة وثلاثين سهمًا، لمدعي الكل خمسة وعشرون سهمًا، ولمدعي النصف سبعة أسهم ولمدعي الثلث أربعة، وإنما ذلك لتسلم السماع، وتقريب العمل فيه أن يقال لمدعي النصف سهمان وثلث من اثني عشر، ولمدعي الثلث سهم وثلث، فيضرب لتسلم السهام، فتبلغ ستة وثلاثين سهمًا وهكذا على هذا التقدير يقع العمل في مثل هذه المسألة.

قوله: "فإن كان مالاً حكم بأعدل البينتين": انظر معنى هذا التقييد بقوله: "فإن كان مالاً" ولعله إشارة إلى مسألة النتاج، وهي إذا شهدت البينة لكل واحد (منهما) أنها نتجت عنده كان تكاذبًا ولا يقضى بشيء من

ص: 1386

البينات، وهذا من مواضع التنبيه ونكت الكتاب، والذي ظهر لي الآن فيه هو ما ذكرته.

قوله: "ومن ترك (ابنين) فأقر أحدهما بثالث أعطاه ثلث ما في يده": وهذا الإقرار يتعلق به حكمين حكم النسب، وحكم المال، أما النسب فلا يثبت عندنا بإقراره، ويثبت به المال، واختلف المذهب في القدر الذي يلزم المقر أن يعطيه، فالمشهور أنه (يعطيه ثلث) ما بيده، لأن إقراره على نفسه وعلى أخيه فمقتضاه ثلث ما في يده وهو الذي كان يلزمه لو اعترف الأخ الثالث والشاذ أنه يعطيه نصف ما بيده، لأن المال الذي بيده قد أقر لأخيه بنصفه، وكان الأخ الثالث الجاحد ظالمًا لهما فمقصود المسألة: هل يجعل إقراره على نفسه وعلى أخيه، أو على نفسه خاصة، وكذلك لو ترك ولدين فأقر أحدهما بدين على الميت فإقراره مقبول على نفسه وهو شاهد على أخيه إن كان عدلاً فيحلف المدعي مع شهادته، ويأخذ جميعه، وإن كان غير مقبول الشهادة ببعض الإقرار عندنا فيلزمه من الدين ما كان نصيبه أ، لو اعترف أخوه.

وقال أبو حنيفة: يلزم المقر جميع الدين في حصته وهو ضعيف في النظر، لأن إقراره على نفسه وعلى أخيه فلم يلزم ظلم غيره، ثم تكلم على اختلاف الزوجين في متاع البيت والرجوع في ذلك إلى العادة فما شهدت العادة أنه (متاع) الرجل فهو له، وما شهدت أنه من متاع المرأة فهو لها، وإن كان مما يصلح لهما فقولان: المشهور أنه للرجل مع يمينه، لأنه رب المنزل، والشاذ أنه لهما بعد إيمانهما وهو قول المغيرة، وسواء كان (هذا الاختلاف قبل الطلاق أو بعده، وسواء كانت) الدار لهما أو لأحدهما، أو بكراء وورثتهما

ص: 1387

في ذلك بمنزلتهما، وهذا كله من باب تحكيم العادة، وشهادة العرف وقد قال الله سبحانه:{وأمر بالمعروف} [لقمان: 17]. وقال في قصة يوسف عليه السلام: {وشهد شاهدٌ من أهلها إن كان قميصه قد من قبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبرٍ فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 26، 27] وأمر صلى الله عليه وسلم أن تعطى اللقطة لمدعيها بمعرفة العفاص والوكاء، إذ لا يعرفها إلا ربها غالبًا.

قوله: "ومن مات عن دين فيه شاهد (وعليه دين) فللورثة أن يحلفوا ويحكم لهم، ثم يأخذ الغرماء (بديونهم) منه، فإن فضل كان للورثة، وإن أبى الورثة أن يحلفوا حلف الغرماء، واستحلفوا" وهذا كما ذكره، وأن الورثة يقومون مقام الموروث، ولو كان الميت حيًا لحلف مع شاهده، فكذلك ورثته فإذا أخذوا المال بشاهدهم ويمينهم قضوا منه الدين، لأن الدين مقدم على الميراث وإن كان الدين مستغرقًا للدين فلا شيء للورثة أن الإرث بعد الدين، فإذا تزاحما فالدين مقدم، فإن امتنع الورثة من اليمين فليس للغرماء إجبارهم عليها، لأن من حق الورثة أن يقولوا لا فائدة لنا في يمين يستحق بها غيرنا، وللغرماء حينئذ أن يحلفوا عندنا إذا نكل الورثة وينزلون منزلة الورثة، وقال الشافعي: ليس لهم ذلك، لأن الشاهد ليس لهم، وإنما قام بحق الميت، وعندنا أنه صار حقًا لهم في المعنى، فإذا حلف الغرماء، وثبت في الدين، وكان فيه فضل (عن الدين) لم يستحق الورثة البقة لنكولهم عن اليمين أولاً وامتناعهم عنها إلا أن يظهر لامتناعهم عذر مثل: أن يقولوا كنا نظن أنه لا يفضل لنا شيء، فلم نر أن نحلف على ما يستحقه غيرنا، فإذا فضل ما نأخذه، فلنا أن تحلف عليه ونأخذه.

قوله: "ومن أحلف خصمه، ثم علم أنه بينة أقامها، وحكم له بها" وهذا فيه تفصيل وذلك: أنه إما أن يكون عالمًا بالبينة أو غير عالم، فإن كان غير

ص: 1388

عالم بالبينة فلا خلاف عندنا أن له القيام بها بعد أن أحلف غريمه، وإن كان عالمًا بها، فلا يخلوا أن تكون البينة حاضرة أو غائبة وإما أن تكون بعيدة الغيبة، فإن كانت غائبة بعيدة الغيبة وهو عالم بها، فله استحلاف غريمه بلا خلاف، قال مالك: إذا قال بينتي غائبة بعيدة الغيبة لحلفه لي فعلى الإمام أن يحلفه رجاء أن ينكل، ثم أراد القيام بها، فهل له ذلك أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه ليس له ذلك، لأنه لما علم بها، وعدل إلى اليمين صار تاركًا لها فمحمل يمينه على الترك لها، وقال مالك وابن وهب في كتاب محمد: له أن يقوم بها. قل به ابن القصار وقال: لأن المدعي لو أقر بعد يمينه لوجب عليه الحق فوجب إذ أقام المدعي البينة في هذا الحال أن يكون له ذلك أصله الإقرار. واختار الشيخ أبو الحسن أن يسأل، فإن قال: إنما أحلف على علمي بالبينة رجاء أن ينكل (ولا أتكلف ببينة) أو لأن ذلك أقرب لأخذ حقي من ضرب الأجل إن ادعى مدفعًا بالبينة، أو تجريحًا أو ليتبين أنه ممن يحلف على الباطل، أو لأن السعي في تعديل الشهود يشق علي، فإنه يحلف على صحة ذلك، ويقوم بالبينة، وإن لم (يذكر) وجهًا كان ذلك تركًا للبينة، وإن أشهد أنه يحلفه لا لإسقاط البينة بل لما ذكرناه من الوجوه قام (ببينته) بلا خلاف. وقال القاضي:"ولو أحلفه عالمًا بها تاركًا لها" لم يكن له ذلك، وفيه خلاف هذا فيه مسامحة منه، لأنه إذا علم أنه تاركًا لها فليس محل الخلاف وإنما الخلاف في الصورة المحتملة، وظاهر كلام القاضي أن الخلاف في محل تقرر فيه الترك لها، وهذا لا قائل به.

قوله: "ويحلف الحالف على فعل نفسه قطعًا وعلى فعل غيره علمًا" وهذا كما ذكره. وصورة ذلك: أن يدعي رجل بمال فيقر له به، ويزعم أنه

ص: 1389

قضاه فيحلف في فعله على القطع، ولو ادعى على موروثه حلف على العلم أنه قد قضاه، لأنه يصل إلى القطع في فعل نفسه دون غيره وكذلك إذا ادعى عليه في حق له أنه اقتضاه (إياه) فيحلف على القطع في إبطال هذه الدعوى عليه وعلى العلم في حق موروثه فيقول: لا أعلم أنه اقتضاه. ولو حلف في هذه الصورة على البت كان كاذبًا بلا خلاف، لأن القطع في مثل هذا لا يتصور لاحتمال أن يكون موروثًا اقتضاه ولم يشعر. واختلف إذا شهد شاهد (بمال) فنكل المشهود له عن اليمين حلف المطلوب ثم وجد الطالب شاهدًا آخر بذلك الحق. ففي كتاب محمد يستأنف الحكم، ويحلف مع هذا الثاني وإلا رد اليمين فيحلف المدعى عليه ثانية. وروى ابن كنانة عن مالك أنه لا يضم الثاني إلى الأول، ولا يحلف مع الثاني، ويكتفى باليمين الأول ووجود الشاهد الثاني كعدمه، لأنه حق قد استحلف عليه، ولو ادعى عليه (فأحلفه) ثم وجد المدعي شاهدًا واحدًا، فقال ابن القاسم وغيره: يحلف مع الشاهد الواحد ويستحق. وقال ابن كنانة: ليس له ذلك، لأن المدعى عليه قد أسقط بيمينه الحق الذي ادعى عليه به، ولو شهد شاهد بصدقه، أو حبس على الفقراء أو شهد لصغير فحلف الثاني إلى الأول ويقضي بهما، وإذا شهد للصغير بمال حلف المشهود عليه، وترك حتى (يبلغ) الصغير فيحلف الصغير مع شاهده ويستحق، فإن نكل الغريم في هذه الصورة غرم مكانه، وهل يحلف الصغير إذا كبر أم لا؟ فيه قولان. قال محمد: لا يحلف الصغير إذا كبر، وقيل: لا ينتزع الحق من الغريم إذا نكل ولكن يرجى (إلى حال البلوغ)، فإن نكل الصبي بعد بلوغه حلف المطلوب (وإذا شهد شاهد لسفيه حلف معه لأنه كالرشيد في اليمين، فإن نكل

ص: 1390

السفيه حلف المطلوب) وبريء، وليس للسفيه أن يرجع بعد إلى اليمين.

قوله: "وتغلظ الأيمان (بالزمان والمكان) ": والدليل على (التغليظ) بالزمان قوله صلى الله عليه وسلم: (من حلف عند منبري على يمين كاذبة ولو على شراك من أراك فليتبوأ مقعده من النار). وقد استحلف أبو بكر وعمر عند المنبر وطولب عثمان بن عفان بيمين وجبت له (عند المنبر) فأبى أن يحلف وافتدى من ذلك، لأن المقصود من الأيمان الزجر والردع، وذلك في الأمكنة الشريفة أبلغ، وتغلظ في الدماء واللعان بالزمان لقوله سبحانه:{تحسبونهما من بعد الصلاة} [المائدة: 106] والمراد صلاة العصر. وفي صحيح مسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) فذكر فيهم من حلف بيمين كاذبة بعد العصر، ولا تغلظ بالمكان في الشيء القليل. قال مالك: يحلف في مكانه في أقل من ربع دينار، وحيث يعظم من المسجد الجامع في ربع دينار في سائر المساجد، وتحلف المرأة في بيتها في أقل من دينار، وفي دينار فأكثر في

ص: 1391

الجامع، وإن كانت في الشرف أو المرض بحيث لا تحرج نهارًا أخرجت ليلاً، وإن كانت ممن لا تخرج أحلفت في أقرب المساجد إليها.

وقال القاضي في معونته: "إذا كانت من ذوي الشرف والقدر جاز أن يبعث الحاكم إليها من يحلفها في بيتها"، لأن في ذلك صيانة لها، واختلف هل يقام الحالف. ففي كتاب ابن سحنون يحلف جالسًا، وفي كتاب محمد قائمًا، وليس في الصحيح إقامة الحالف، ومن حلف جالسًا أجزأه، وهو واسع، وهل تغلظ الأيمان باللفظ أم لا؟ المشهور أنها لا تغلظ، وليقتصر على أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو، ولو قال:"والله" أجزأه، ولو قال:"والذي لا إله إلا هو" أجزأه أيضًا، وقيل: لا يجزئه (قاله أشهب في كتاب محمد قال حتى يقول: "والله الذ لا إله إلا هو"، وفي كتاب محمد يحلف بالله الذي أحيى وأمات). وقال ابن الماجشون: "يحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم" ويحلف اليهود والنصارى في كنائبهم حيث يعظمون ويحلف اليهودي ويقول: بالله الذي أنزل التوراة على موسى، ويقول النصراني: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، ويحلف المجوسي في بيت ناره وغيرها، ومن الكفار من لا يحلف بما يحلف به المسلم لأنه ينكر التوحيد. ثم ذكر أن الافتداء من اليمين والصلح عنها جائز لما روي أن عثمان بن عفان خاصمه يهودي عند عمر بن الخطاب في أربعة آلاف درهم، فتوجهت اليمين على عثمان فأبى أن يحلف وغرم المال، فلما فعل ذلك قال: والله ما له علي شيء، فقال له عمر: ما حملك أحد على أن تحلف، قال: خفت أن تصادف يمين قدر، فيقول الناس: ظلم عثمان اليهودي.

قوله: "ومن أراد كتب وثيقة على غيره أملاها المكتوب عليه، لا أن يستنيب صاحب الحق".

والأصل في ذلك قوله تعالى: {وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه} الآية [البقرة: 282] والنيابة في ذلك جائزة والله الموفق بفضله.

ص: 1392