الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب الرهون
قال القاضي رحمه الله: "باب الرهون": إلى قوله: "ولا يجوز غلق الرهن".
شرح: الرهن مصدر رهنت داري رهنًا، وقد يستعمل الشيء في نفسه، وهو جائز، والأصل في جوازه الكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله سبحانه:} وإن كنتم على سفرٍ ولم تجدوا كاتبًا فرهن مقبوضة {الآية] البقرة: 283 [، فإن قيل لا حجة فيها لتوقف الجواز فيها على شيئين: فقدان الكاتب في السفر، قلنا هو خطاب خرج عن الغالب فلا مفهوم له، يبينه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر عند يهودي في (ثلاثة) آصع من شعير، ومات ودرعه مرهونة.
ومن أهل العلم من قصره على مورده من الآية وهو شاذ لا يعول عليه، قال به مجاهد وغيره. ويجب الكلام في الحد الذي ذكره القاضي.
قوله: "احتباس العين وثيقة": إشارة إلى الشيء المرهون في نفسه، وحد القاضي ليس بجامع لخروج الغلات والديون عنه، وهو عندنا: "كل ما
يمكن أن يستوفى الدين منه، أو من ثمن منافعه عينًا كان أو غلة أو دينًا" كرهن الدين عند من هو عليه أو غيره مفردًا أو مشاعًا مما يصح بيعه، أو مما لا يصح كجلود الميتة بعد الدباغ، والعبد الآبق، والبعير الشارد على ما فيه من خلاف، وكالثمرة قبل بدو صلاحها، (كان) مما يعرف بعينه أو مما لا يعرف بعينه كالدنانير والدراهم إذا طبع عليها على المشهور مما سنذكره ملكًا للراهن أو مستعارًا له ليرهنه، ونحن نرسم هذه الجملة مسألة (مسألة).
قوله: "ليستوفي الحق من ثمنها أو من ثمن منافعها": إشارة إلى المدير وغيره، فإن الحق إذا امتنع استيفائه (من عينه) لامتناع بيعه لم يمتنع استيفاء الحق من ثمن منافعه وخدمته.
قوله: "عند تعذر أخذه من الغريم": إشارة إلى الانتقال وهو في الحمالة على هذا الترتيب أيضًا على المشهور كما سنبينه.
المسألة الأولى: قد ذكرنا أن احتباس الرهن إنما هو لاستيفاء الحق منه، أو من ثمن منافعه ومن المعلوم أن استيفاء الحق يتمكن من الأعيان القائمة، والغلاة كخراج العبيد، وكراء المساكن والديون الثابتة في الذمم، فيجوز أن يرهن ذلك كله، فيرهن داره وغلة عبيده، وخراج مسكنه ودينه عند من هو عليه أو غيره لإمكان الاستيفاء من جميع ذلك، ومنع الشافعي من رهن الدين، وشرط أن يكون الرهن عينًا، ولا وجه لذلك لإمكان حوزه واستيفاء الحق منه وهو فائدة الرهن. والله أعلم.
المسألة الثانية: رهن المشاع جائز عندنا وعند الشافعي خلافًا
لأبي حنيفة.
وسبب الخلاف هل تمكن حيازة المشاع أم لا؟ والدليل لنا أنه كما يصح قبضه بالبيع فيصح ارتهانه كالمقسوم، ومن الحنفية من منع بيع المشاع، فالاحتجاج عليهم حينئذ بجواز بيعه على جواز رهنه لمخالفهم في الأصل، والصحيح أنه متصور التسليم في المحلين.
فرع: إذا بنينا على الصحيح من جواز رهنه تعين النظر في صفة حوزه، ولا يخلو أن يكون باقيه للراهن أو (لغيره)، فإن كان للراهن فلا يتصور حوزه إلا بقبض جميعه، وارتفاع يد الراهن عن جملته. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي:"وإن كان جميع الدار أو العبد أو النوب للراهن فرهن نصف ذلك، ورفع يده عن جميع الرهن كان محوزًا".
واختلف المذهب إذا كانت أيديهما (عليه هل يكون محوزًا أم لا؟ وكذلك في الصدقة، وإن كان باقيه لأجنبي فحوزه بحلول المرتهن محل الراهن، وارتفاع يد الراهن عنه، وسواء كان ذلك النصيب المشاع تحت يد المرتهن، أو تحت يد الشريك حائزًا للمرتهن، أو تحت يد عدل، أو تحت أيديهما) معًا، وسواء كان المشاع مما لا يبان به كالعقار هذا أصل المذهب.
فرع: إذا ارتهن نصيبه من دار وأكرى نصيب شريكه وسكن فقال ابن القاسم: فسد الرهن بسكناه، إذا لم يقم المرتهن، فإن قام فله المقاسمة، إذ له أن يقول ليس لك أن تفسد عليه حيازة رهني، ولو حاز المرتهن ما رهنه من المشاع بغلق، أو غيره صح الحوز وللمرتهن أن يمنع الراهن من السكنى (حتى يقاسمه الرقاب، وإن كانت مما ينقسم، فإن كانت الدار مما لا ينقسم فللمرتهن أن يمنع الراهن من السكنى) ويكرى جميعها، فإن كان رهن توثقة
فقط فجميع الكراء للراهن، وإن كان رهن توثقة وانتفاع فالكراء بينهما على الأجزاء المرتهنة.
المسألة الثالثة: يجوز البيع على رهن معين، ولا كلام في لزومه بالتعيين، ويجوز أن ينعقد على رهن غير معين، وعلى الغريم حينئذ أن يعطي الصنف المعتاد، ولا يلزم البائع قبول (ارتهان) ما لم تجر العادة بارتهانه مما في حفظه كلفة كالعبيد والدواب في حق من لم (يعهد) ذلك.
المسألة الرابعة: يجوز أن يكون الرهن مما يجوز بيعه، ومما لا يجوز بيعه مما يصح تملكه احترازًا من الخمر والخنزير. ويدخل تحت هذا الضابط أنواع الثمرة قبل بدو الصلاح، والعبد الآبق والبعير الشارد، والجنين في بطن أمه وجلود الميتة بعد الدباغ، وجلود السباع المذكاة لأخذ جلودها، والمصحف والولد الصغير دون أمه، والأم دون ولدها، ونحن نفصل ذلك فنقول: رهن الثمار قبل بدو صلاحها جائز، وسواء كان طيبها عند محل أجل الدين، أو قبله أو بعده، أما إذا كان طيبها عند محل أجل الدين فلا إشكال حينئذ، فإن كان الطيب قبل ذلك وشرط إيقاف ثمنها (إلى محل الأجل) جاز إذ لا جهالة، فإن شرط المرتهن بيعها إذا طابت، وأن ينتقد ثمنها، فلا يخلو أن يكون ارتهانها بعد عقد البيع، أو في أصل العقد، فإن كان بعد عقد البيع جاز اشتراط تعجيل الثمن لسلامة أصل العقد من الغرر، وإن كان الارتهان في أصل العقد للبيع لم يجز لما في ذلك من الغرر والترجية في الثمن الذي لا يدي متى يتعجله لاحتمال أن تهلك الثمرة فيتأخر الثمن، أو أن تسلم ولم يبلغ ثمن ثمرتها مقدار الدين، وإن مات قبل طيب الثمرة وترك ما يوفي منه الدين، وفي الدين، وسلمت الثمرة للورثة، وإن ترك ما يفي ببعض الدين قبض ما أمكن، وانتظر بالباقي بدو الصلاح وبقيت تحت يده إلى الاستيفاء، فإن كان على الميت الراهن ديون كثيرة فلمرتهن الثمرة
محاصتهم في الحال لجملة دينه، ويبقى الثمرة بيده إلى إبان البيع فتباع، فإن وفيت بدينه رد ما أخذ في المحاصة، وتحاص فيه الغرماء، وإن كان ثمن ثمرتها أكثر من دينه رد الفضلة مع ما نابه أولًا في الحصاص، وإن كان ثمنها أقل فقد كشف الغيب أنه ليس له في الحاصة إلا بمقدار (ما بقى) فقط، فيرد ما زاد على ذلك للغرماء فيتحاصوا فيه أيضًا، وأما لعبد الآبق والبعير الشارد فرهنه جائز في أصل العقد في القرض، وبعد تقديره في الذمة، وبعد عقد البيع، وهل يجوز رهنه في أصل العقد أم لا؟ قولان في المذهب: الجواز، والمنع، والمشهور الجواز والشاذ المنع، ومبنى الخلاف على الخلاف في الرهن هل له قسط في الثمن أم لا؟ ومنع في الكتاب رهن الجنين في بطن أمه، وأجازه ابن ميسر، وهذا إذا كان في أصل العقد، أما بعد العقد فهو جائز. وقسم الشيخ أبو الحسن اللخمي الرهن على خمسة أصناف:
الأول: ما يجوز بيعه وملكه، ولا خلاف في جواز رهنه.
والثاني: ما يجوز ملكه، ولا يجوز بيعه للغرر كالعبد الآبق، والبعير الشارد وقد قدمنا ما فيه.
والثالث: ما يجوز ملكه ولا يجوز بيعه لا للغرر، بل لمعنى آخر كأم الولد، وجلود الميتة قبل الدباغ وعظام الميتة. قال الشيخ أبو الحسن: فهذا القسم لا يجوز رهنه. قلت وفيه تفصيل وتعليل، فأما أم الولد فلا يجوز رهنها، إذ ليس له أن يستأجرها، ولا أن يبيعها، فلا يرهنا، إذ لا يملك منها رقبة ولا منفعة، وأما جلود الميتة بعد الدباغ فلا تباع على المشهور، لأن طهارتها خاصة، فلذلك لا ترهن، وأجاز ابن وهب بيعها بعد الدباغ،
فيجوز رهنها، وكذلك عظام الميتة إذا صلقت على خلاف فيها.
والقسم الرابع: ما لا يجوز ملكه كالخمر والخنزير والسم ونحوه، ولا خلاف في امتناع بيع هذا القسم ورهنه.
والقسم الخامس: ما اختلف في جواز بيعه، من هذا المصحف (وكتب الفقه) وجلود السباع المذكاة، وجلود الميتة بعد الدباغ ونحو ذلك مما اختلف في جواز بيعه، فيختلف في جواز رهنه على حسب الاختلاف في جواز بيعه، وقد قدمناه، ويجوز رهن الأم دون ولدها الصغير ولا يفرق بينهما في البيع، وتباع هي وولدها، ومرتهنها أحق بثمنها دون ثمن ولدها، ويوزع الثمن بينهما، ويكون في الباقي مما ينوب الولد إسوة الغرماء، ويرهن الولد دون أمه، وتكون الأم مع ولدها عند المرتهن ليتم حوزها، وقيل لا يرهن حتى يبلغ حد التفرقة إلا أن تكون معه أمه.
فرع: إذا ارتهن عصيرًا فصار خمرًا أريقت عليه، وهل يلزم المرتهن أن يرفع أمره إلى (الإمام) أم لا؟ قولان، اللزوم خوفًا من أن يكون حاكم الموضع ممن يرى (تخليلها). والثاني أنه لا يلزم إذا أقام على ذلك بينة، فإن صارت خمرًا، فغفل عنها حتى عادت خلًا فهي في الدهن، فإن كان الراهن نصرانيًا رهن خلًا عند مسلم، فصار خمرًا أسلم ذلك إليه ولم يرق، فإن عادت خلًا أو خلله انتزعت منه وعادت إلى الراهن توفية لمقتضى العقود الشرعية.
فرع: رهن المدير فيه تفصيل تحقيقه أنه لا يخلو أن يرهن رقبته أو خدمته، فغن رهن رقبته على أنه يباع قبل الموت لم يجز، فإن وقع ذلك فهل يعود حقه في الخدمة، وتباع خدمته وقتًا بعد وقت على حساب استئجار العبد والأمة، أو يبطل حقه من الرقبة والمنفعة معًا فيه قولان عندنا، وإن رهن
رقبته على أنه إن مات الراهن، ولا مال له بيع المدبر للدين السابق على التدبير، فلا يخلو أن يكون هذا الرهن في قرض، أو بيع، فإن كان في قرض جاز، وإن كان في بيع بعد العقدة جاز أيضًا، وإن كان في أصل عقدة البيع فأجازه اللخمي وغيره على الخلاف في جواز رهن الغرر، وقد تقدم ما فيه، وأما رهن خدمته فجائز.
فرع: أجاز مالك رهن المصحف، ومنعه الشافعي، وقال في الكتاب: ولا يقرأ فيه المرتهن فإن أباحه له الراهن للقراءة، إما أن يكون في سلف، أو في بيع، فإن كان في سلف لم يجز ذلك، لأنه سلف جر نفعًا، كان ذلك في أصل السلف أو بعد عقده، وأما في البيع فظاهر الإطلاق المنع، وأجاز أشهب في أصل البيع، ومنعه بعد العقد لإمكان التهمة على أن تكون إباحته للانتفاع به في مقابلة النظرة، فيكون من باب سلف جر نفعًا.
فرع: إذا ارتهن (دارًا) ثم ثبت أنها حبس ففي المذهب قولان في هذه الصورة، أحدهما أن منافعها للمرتهن، إذ هي على ملك الراهن من الحبس، والثاني أنه لا شيء له من غلتها إذ الرهن إنما يتعلق بالرقبة لا بالمنافع، وقد قدمنا الخلاف هل تعود على المرتهن رقبة المدير في منافعه أم لا؟
فرع: يتعلق بما قدمناه من رهن الغرر، وهو أن يشترط المرتهن منفعة الرهن وهو مما يسرع إليه التغير كالحيوان والثياب ونحوها، فهل يجوز ذلك أم لا؟ قولان كرهه في الكتاب وقال ابن القاسم: وأنا لا أرى به بأسًا كالإجارة، وهذا إجارة وبيع، وأجرى الأشياخ هذا الخلاف على الخلاف في جواز ارتهان الغرر، وقد قدمناه.
المسألة الخامسة: قد ذكرنا أن وثيقة الرهن قد تكون مما يعرف بعينه، ومما لا يعرف بعينه كالدراهم والدنانير والفلوس، وكل ما يكال أو يوزن.
وتحصيل القول فيما لا يعرف بعينه إذا رهن أنه لا يخلو أن يطبع عليها أم لا، فإن طبع عليها فلا خلاف في جواز ارتهانه وإن لم يطبع عليه، فإن كان تحت يد (عدل جاز، وإن كان تحت يد) المرتهن لم يجز للاتهام على أن يتسلفها. قال أشهب: لا أحب ارتهان الدنانير، والدراهم، والفلوس إلا مطبوعة للتهمة على أن يتسلفها، فإن لم يطبع حين الرهن، وعثر على ذلك لم يفسخ البيع، وأجبر على طبعه من أباه، ويجوز رهن الحلي، وإن لم يطبع عليه، لأنه مما يعرف بعينه، ولا يكاد يلتبس غالبًا.
المسألة السادسة: يجوز أن يكون الرهن ملكًا للراهن أو مستعارًا له ليرهنه، وبجواز ذلك قال الشافعي، إذا علم المعير فإن حل أجل الدين وكان مليًا حكم عليه بقضائه، ورجع الرهن من المستعار إلى ربه، فإن كان عديمًا استوفى الدين من ثمن الرهن المستعار، ويقضي السلطان على الراهن ببيع الرهن، وإن كره ذلك ربه، لأنه إنما أعاره لذلك فإن بيع وقضى ثمنه الدين عن الراهن فلربه الرجوع عليه، واختلف المذهب بم يرجع المعير على المستعير، فقال ابن القاسم: يرجع عليه بقيمة المرهون، وقال أشهب إنما يرجع بثمنه (الذي بيع عليه به، واختاره بعض المتأخرين، وإلا كان بيعًا بالقيمة) وهو لا يجوز.
وتظهر فائدة الخلاف إذا كان أحدهما أكثر من الآخر، فإن بيع بأكثر من الدين يقضي الدين وفضلت من الثمن فضلة، وقفها الإمام، فإن ضاعت فضمانها من ربها، ولا ضمان على المستعير، فإن هلك المرتهن المستعار في يد المرتهن يرجع المعير على المستعير بقيمته إن كان مما يغاب عليه. وقاص الراهن المستعير المرتهن، إذ هو ضامن فيما يغاب عليه، فإن كان مما لا يغاب عليه فلا ضمان على المرتهن، ولا على المستعير.
فرع: إذا أعاره عبدًا ليرهنه في دراهم، فرهنه في طعام فالمشهور أنه ضامن له لتعديه وقال أشهب: لا ضمان عليه في العبد وهو رهن في عدد الدراهم التي أعاره ليرهنه فيها، والأول هو الصحيح، لأنه إنما أعطاه له لوجه مخصوص، فلا يخرج عنه لما في ذلك من التعدي على المالك. والله أعلم.
قوله: "وهو جائز بكل دين لازم": ويتعلق به الكلام فيما يجوز أخذ الرهن فيه، ونبه على مذهب المخالف القائل أنه لا يجوز الرهن إلا في السلم فقط، (فقصر) الآية على محلها، ويجوز أخذ الرهن في سائر الأثمان في البيوعات إلا في الصرف وفي رأس مال السلم، لأن أخذ الرهن في الصرف، وفي رأس مال السلم يؤدي إلى التأخير، وهو ممتنع إجماعًا، ويجوز أخذ الرهن في المسلم فيه، وفي القرض والغصب وقيم المتلفات، وأوراش الجنايات، وفي قتل الخطأ، لأنه مال على العاقلة، فيجوز أخذ الرهن منهم
فيه، وفي العارية المضمونة، وفي المنافع المضمونة في الذمة، وفي الجعل (بعد العمل) لأنه لازم، وفي المهور، لأنها ديون محققة، ولا يجوز أخذ الرهن في الحدود ولا في القصاص، ولا في كتابة، ويجوز أخذه في جراح العند التي لا قود فيها كالمأمومة، والجائفة لأنها أوراش مالية، وأما قتل العمد والجراح التي يقاد منها، فهل يجوز أخذ الرهن فيها أم لا؟ ففيه تفصيل، فإن بنينا على قول من يرى أنه ليس فيها إلا القود فلا يجوز أخذ الرهن فيها، وإن قلنا بالتخيير فيها بين القود والدية، وجبرنا القاتل على المال، وإذا أراد الولي ذلك فهذا مال أو ما يصير إلى المال فيؤخذ عنه الرهن والكفيل.
قوله: "ويجوز عقده قبل وجوب الحق وبعده مقارنة له": قلنا أما إذا كان سابقًا أو مقارنًا فلا كلام فيه، فإن تأخر عن العقد، فإن كان على شرط زيادة في الأجل أو منفعة يشترطها فلا يجوز لأنه سلف جر نفعًا، وإن لم يكن على ذلك فهو جائز، ويجرى على تقديم الرهن على الحق المضمون، وكلا القسمين جائز عندنا كما ضكره، وقال الشافعي: لا يصح ذلك، ولا وجه له وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وإذا كان الرهن شرطًا في أصل العقد للبيع أو القرض كان أبين، لأنه يجري في الجبر على تسليمه مجرى البياعات، وإذا كان بعد العقد كان في الجبر على تسليمه عي حكم الهبات.
قوله: "ويلزم بمجرد القول": قلت: لأنه من جملة عقود المعاوضة.
قوله: "والقبض شرط في صحته": وهذا صريح مذهب مالك أن
العقد يوجب (لزوم) الرهن للراهن ويجبر الراهن على الإقباض، والعمدة لمالك قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول، وقد قال تعالى:} فرهن مقبوضة {] البقرة: 283 [إشارة إلى أن حكم الرهن أن يكون مقبوضًا ألا تراه أنه إن امتنع من ذلك جبر على الإقباض والتمكين، فإذا رفع الراهن يده عنه وأجازه المرتهن، أو جعل على يد عدل صح بلا خلاف، وإن بقيت يد الراهن عليه مع القدرة على حوزه حتى فلس الراهن الراهن (أو مرض) أو مات بطل الرهن، إلا أن يكون بقاؤه في يد الراهن بغير تفريط في المرتهن (في القبض مثل أن يرهنه دارًا عائبًا فيخرج المرتهن لحوزها فيموت الراهن قبل حيازة لها)، أو يكون مجدًا في الطلب، قائمًا به مستمرًا عليه، فلم يتمكن من القبض حتى قام الغرماء فهذا رهن صحيح على الأصح، إذ لا تفريط، وقيل يبطل ويكون إسوة (الغرماء) لعدم الحوز، وهو ظاهر إطلاق الكتاب. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وإنما تبطله التهمة أن يكونا قصدا إلى بقائه"، وشرط القاضي استدامة القبض احترازًا من أن يعود اختيارًا إلى يد الراهن مطلقًا بأي وجه رجع من إجازة، أو وديعة، أو استخدام، أو عارية أو غير ذلك، هذا كله سواء في إبطال الحوز، وعندنا رواية أنه لا يبطل الحوز رجوعه بأجرة. وإذا فرعنا على المشهور من أن رجوعه (يبطل) الحوز،
فرجع بإجارة إلى يد الراهن من غير المرتهن مثل أن يرهن دارًا، ثم يكريها من المرتهن رجل، ثم يكريها مكتريها من راهنها فقال ابن القاسم في العتبية: إن كان المكتري الذي أكراها المرتهن منه من سبب الراهن فالكراء لازم، وذلك فساد لرهنه ما دامت في يده. يريد إن علم المرتهن بذلك، وإن كان أجنبيًا صح الرهن.
فرع: وإذا بنينا على ما قدمناه من أن رجوع الرهن إلى يد المرتهن يبطل حوزه، فقام يطلب رده ليعود له الحوز، فله ذلك إلا أن يفوت ويحال بينه وبينه بقيام الغرماء.
وإذا أجزنا له القيام بطلب الرد فهل يكون له ذلك في العارية، أو يحمل على عارية المثل ففيه تفصيل، أما إن كانت العارية مؤجلة، فليس له الارتجاع قبل الأجل، وله الارتجاع بعد (انصرام) الأجل ما لم يستحدث دينًا، أو يقوم عليه الغرماء، وأما إن كانت العارية مبهمة فهل له الارتجاع في الحال أو يحمل المبهمة على (أجل المثل) قولان عندنا.
وإذا أجزنا له القيام في رده فإنما ذلك إذا قال جهلت أن ذلك نقض للرهن وأشبه قوله فله الرد بعد أن يحلف، ولو أحدث فيه ربه بعد رجوعه إليه بيعًا أو تدبيرًا أو عتقًا أو تحبيسًا لكان ذلك (فوتًا) يمنع القيام بالرد، فإن كان الرهن رضا أذن له في حرتها حمل على أول بطن، فإذا رفع زرعه قبضها، وليس له أن يسترده، ولو أجره صاحبه من أجنبي بإذن المرتهن فسد الرهن فإن أجرة المرتهن بإذن الراهن لم يفسد، ولو استأجره المرتهن من الراهن فهل يبطل الرهن أم لا؟ فصل فيه الشيخ أبو الحسن اللخمي فقال: إن ولي الراهن العقد بنفسه فسد الرهن، وإن وليه وكيله جاز، وهذا لا معنى له، لأن يد وكيله كيده شرعًا، وإذا خرج الرهن من يد المرتهن غلبة لم يفسد الرهن كالغصب وآباق العبد، فإن وجد الآبق في يد الراهن، فقال المرتهن أبق
ولم يعلم ذلك لم يصدق وفسد الرهن عن قيام الغرماء، فإن ثبت أباقه لم يفسد.
فرع: إذا اشترطنا القبض المستدام، فهل يشترط أن يكون قبضا للرهن أم لا يشترط. وتظهر فائدته فيما إذا كان الرهن تحت يده بإجارة أو مساقاة، ثم ارتهنه فهل يكون حوزه بذلك حوزًا للرهن أم لا؟ فيه قولان فقال ابن القاسم ذلك حيازة، وعنه في كتاب محمد لا يكون حوزًا، لأنه محوز (بوجه) غير الرهن، وتظهر فائدة هذا إذا قام الغرماء، هل يكون أحق به أم لا؟، وكذلك إذا كان المرتهن غير المستأجر مثل أن يؤاجر بغيره أو يساقي غلامًا في حائطه، ثم يرهنه من رجل آخر فهل يكون ذلك حوزًا للمرتهن أم لا؟ فيه تفصيل، فإن حاز العامل أو المستأجر الرقاب للمرتهن، أو جعل المرتهن مع العامل رجلًا فهو حوز صحيح، وإن لم يحز العامل للمرتهن، ولم يجعل معه المرتهن أمينًا، فليس بحوز، وفي الدمياطية فيمن ارتهن بعيرًا وهو في الكراء فعلفه المرتهن، وقام به فهو حوز، وإن كان تحت يد المستأجر فهل يضمن الرهن أم لا؟ قولان عندنا، أحدهما: أنه لا يضمنه، إذ ليس أصل حوزه بالرهن، وإنما حازه بحكم الإجارة وهو قول عبد الملك، والثاني أنه يضمن على حكم الرهان.
فرع: ارتهان ما في الإجارة بخلاف ارتهان فضلة الرهن فحوز المستأجر للمرتهن ليس بحوز على ما قدمناه، وحوز فضلة الرهن حوز، لأن الفضلة محازة عن ربها، والمستأجر محاز لربه.
فرع: إذا كان الرهن تحت يده بغصب، (ثم تعامل) الغاصب والمغصوب منه تحت يد الغاصب رهنًا صح ذلك عندنا خلافًا للشافعي لصحة الانتقال من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن عندنا، وقال الشافعي: لا
يصح ويبقى على ضمان الغاصب إلا أن يقبضه، وكذلك رهن الوديعة ويجب أن يعلم المودع الذي هي تحت يده أنها رهن في حق فلان فيحوزها للمرتهن (لا للمودع فإن لم يعلم المودع أو علم إلا أنه قال أحوزها للمرتهن)، فهل يكون الرهن صحيحًا أو باطلًا، أما إن عثر على ذلك قبل قيام الغرماء فللمرتهن طلب الحوز لنفسه، وإن قام الغرماء، وفلس الراهن فلا يخلو أن يكون المودع حاضرًا أو غائبًا، فإن كان غائبًا ففلس الراهن قبل قدوم الغائب ولم يقره المرتهن في طلب الحيازة، ففي صحة هذا الرهن قولان أحدهما صحته، ويكون المرتهن أحق به من الغرماء إذا لم يفرط. والثاني: بطلانه لعدم الحوز.
واختلف المذهب إذا رهنه بعض الوديعة، ورضى المودع أن تكون الوديعة تحت يده لهما جميعًا، ففي المبسوط لعبد الملك: لا يجوز ذلك فليس ذلك بحوز، وقيل هو حوز ومن هذا الأصل اختلافهم في حوز الأب لولده الصغير إذا تصدق عليه ببعض داره، أو عبد وكانت يده عليه له ولولده، ففي صحة هذه الصدقة قولان حكاهما الشيخ أبو الحسن وغيره.
قوله: "ويجوز أن يجعلان على يد أمين يرضيان به": وهذا تنبيه على مذهب المخالف لأن من الفقهاء من رأي أن قبضغير المرتهن لا يكون قبضًا، والجمهور على خلافه، لأنه محوز على الراهن في المحلين، وهو المقصود. وههنا (فروع):
الأول: إذا اختلفا فادعى أحدهما إلى كونه عند المرتهن، (وديعة) وادعى الآخر إلى كونه أمين ففيه تفصيل. لبابه أنه إن كانت عادة حكم بها،
وإن لم تكن هناك عادة فقال ابن القاسم القول قول من ادعى العدل لتقابل الدعوى، وحصول المقصود بكونه تحت يد عدل، وقال غيره القول قول المرتهن.
الفرع الثاني: إذا اختلفا في العدل الذي يوضع على يده، فادعى أحدهما إلى شخص وادعى الآخر إلى غيره، ففيه قولان عندنا، أحدهما أن النظر في ذلك إلى الحاكم فيوقفه حيث شاء لتقابل الدعوى، والثاني: أن القول قول المالك إذا ادعى ما لا ضرر فيه على (الآخر)، إذ هذا نظر لماله.
الفرع الثالث: إذا كان المرتهن رجلين جعلاه حيث شاءا، ويجوز أن يجعلاه تحت يد أحدهما، وينظر الآخر فيه، ويتفقده، ولا يرفع يده عنه، فإن ضاع، وكان مما يغاب عليه فضمانه منهما معًا.
مسألة: قد بينا أن القبض شرط في الاختصاص بالرهن، فقبض العرض والحيوان حوزها والبينونة بها، وقبض الأعدال والسفن والأنهار والأرضين والأشجار والعقار وضع المرتهن يده عليها، وارتفاع يد الراهن عنها، ويمنع المرتهن الرهن من التصرف فيها في المستقبل، وحوز مسكن الراهن خروجه عنه، وإخلائه من شواغله إلا أن يدخلها في الرهن، ويرفغ يده عنهما فتتبع المسكن، ولو ارتهن تابوتًا دون ما فيه فحازه عنه جاز، وكذلك الحائط دون رقيقه وثمرته ودوابه، فحوز الأصل حوز لما فيه، فإذا حال بينه وبين الرقاب وما فيها صح، وكان المرتهن الأصل أو ما فيه، وإن كان الرهن طعامًا مختزنًا فحوزه تسليم المفتاح إلى المرتهن أو إلى أمين وطابعه (كمفتاحه).
قوله: "وضمان الرهن من مرتهنه": اختلف العلماء في ضمان الرهن
على ثلاثةِ أقوال فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور الرهن أمانة تحت يد المرتهن فلا ضمان عليه فيه بحال اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم: «الرهن ممن رهنه، له غنمه وعليه غرمه» وقال قوم هو مضمون على الإطلاق وهو قول أبي حنيفة والكوفيين اعتمادًا على ما روى أن رجلًا رهن فرسًا من رجل فهلك في يده فقال صلى الله عليه وسلم للمرتهن: (ذهب حقك) وفرق مالك رضي الله عنه بين ما غاب عليه فيقع (في ضمان المرتهن) استحسانًا لمكان التهمة، وما يغاب عليه مما لا يستقل بنفسه كالثياب، والبسط، والسلام، وغير المضمون أربعة أقسام:
الأول: ما لا يبان به كالعقار على اختلاف أنواعه، والثاني أن يكون مما يغاب عليه إلا أنه داخل بالعقد على أن يبقى في موضعه، ولا يغيب عليه كالثمار في رؤوس النخل والزرع القائم أو في الجرين والأندر، وهذا موكل إلى الأمانة. والثالث: ما لا يغاب عليه مما هو مستقل كالحيوان على اختلاف أنواعه، فإذا ادعى هلاكه قبل قوله إلا أن تكذبه قرائن، وقد اختلف المذهب في ضمان الرهن إذا كان حيوانًا على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يضمن، والثاني أنه لا يضمن، (والثالث: أنه يضمن كل ما يستباح ذبحه وأكله دون ما لا يستباح ذلك فيه).
والقسم الرابع: ما يبان به، ولا يغاب عليه كالسفن ترتهن، وهي على ساحل البحر، وآلات السفن ونحو ذلك، فهذا غير مضمون، لأنه مما لا يغاب عليه.
فرع: إذا ارتهن رهنًا مما يغاب عليه فضاع عنده (فضمنه)، ثم أفلس ولا مال له إلا ما على الراهن فقال ابن القاسم: الراهن إسوة الغرماء بناء على أن الدّين ليس يرهن في الرهن إذ لم ينعقد الأمر على ذلك، وقال (أشهب) الراهن أحق بما عليه، والأول أصح، واختلف المذهب في خمسة مسائل:
المسألة الأولى: إذا قامت البينة على تلف ما يغاب عليه هل يسقط الضمان تحكيمًا للبينة أم لا رجوعًا إلى حكم الأصل.
المسألة الثانية: إذا اشترط (نفي) الضمان فيما فيه الضمان، أو إثباته في محل سقوطه، هل يوفي بالشرط أم لا؟ قولان عندنا.
المسألة الثالثة: ما أصاب الرهن من سوس أو قرض فأر أو حرق نار
هل يضمنه المرتهن أم لا؟ وفي الدمياطية عن مالك: المرتهن ضامن وعليه (تفقده ونفضه)، وفي كتاب محمد: لا ضمان عليه وهو المشهور، وألحق القاضي وغيره الحيوان بالعقار، إذ لا يخفى هلاكه.
قوله: "وكذلك إن كان على يد أمين": يعني أن ضمانه من الراهن سواء كان حينئذ مما لا يغاب عليه أم لا؟ وهو نصه في «المعونة» ، وإنما لم يضمنه المرتهن إذ لم يقبضه فلا ضمان عليه حينئذ مطلقًا كان مما يغاب عليه أم لا؟ فإشارة القاضي بقوله: «وكذلك أي سقوط الضمان الذي هو أقرب مذكور إلى التفريق.
قوله: «ونماء الرهن داخل معه إن كان مما لا يتميز» : يتعلق به الكلام في غلاة الرهن. وقد اختلف العلماء في غلاة الرهن هل يدخل ذلك في الرهن أم لا؟ على ثلاثة مذاهب: فقال قوم إن جميع ذلك يدخل في الرهن وبه قال أبو حنيفة والثوري، وقال قوم: إن جميع ذلك لا يدخل في الرهن.
وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن غلات الديار والعبيد والحيوان والثمار غير داخلة في الرهن، وما كان على صورة الرهن وخلقته داخل في الرهن (كولد) الجارية المرتهنة وقال ابن القاسم في الصوف إذا كان موجودًا يوم الرهن، ثم جز، فهو داخل في الرهن، وقال أشهب: هو غلة لا يدخل فيه.
قوله: «ونفقته على راهنه» : وهذا صريح مذهب مالك رحمه الله، ونبه
بذلك على خلاف أحمد بن حنبل وغيره القائل إن الرهن إن كان حيوانًا فعلى المرتهن نفقته، وله ركوبه والانتفاع به، معتمدًا في ذلك على قوله صلى الله عليه وسلم:(الرهن محلوب ومركوب) والجمهور من أهل العلم على أنه ليس للمرتهن الانتفاع بشيء من الرهن اعتمادًا على قوله صلى الله عليه وسلم: (الرهن من رهنه غنمه وعليه غرمه). ولذلك وجبت على الراهن نفقته ومؤنته وسقيه وعلاجه وإن كان عبدًا، فمات فعلى الراهن كفنه ودفنه، فإن أنفق المرتهن على الرهن بأمر الراهن أو بغير أمره فله الرجوع عليه بقدر النفقة، وهل يكون الرهن رهنًا في النفقة أم لا، المنصوص أنه لا يكون رهنًا بالنفقة إلا أن يقول له الراهن أنفق عليه على أن نفقتك في الرهن فحينئذ يكون أحق به من الغرماء، لأن رقبته مرتهنة في الدين، والنفقة لأنها دين، وقال أشهب النفقة على الرهن كالنفقة على الضالة، فالنفقة في هذا مبدأ على غيره من الغرماء، فإن ارتهن زرعًا ببئرها، فانهارت فهل يجبر الراهن على الإصلاح أم لا؟ المشهور أنه لا يجبر، وعن ابن القاسم أنه يجبر إن كان مليًا.
وإذا بنينا على المشهور أنه لا يجبر على الإصلاح فأصلح المرتهن لخوف هلاك الزرع أو النخل فهل تتعلق نفقته بعين النخل، أو الزرع، فما زاد على ذلك باطل ليس فيه شيء، أو يتعلق الزائد بذمة رب النخل فيه قولان.
قوله: "ومال العبد ليس برهن معه": قلت: لا يقتضي عقد الرهن دخول المال كما لا يقتضيه عقد البيع إلا بالشرط، وقد تقدم ما فيه.
قوله: "ويثبت رهنًا (بتقاررهما) ما لم يفلس الراهن": يتعلق به الكلام في صفة الحوز، وفي من يحوز عقد الرهن منه، وهو للراشد الذي لم يتعلق (بماله) حق غيره، احترازًا من المفلس، فلا يجوز رهن المفلس عندنا.
واختلف قول مالك في رهن من أحاط الدين بماله، ولم يحكم بتفليسه هل يجوز رهنه أم لا؟ فالمشهور جوازه قبل التفليس، والشاذ أنه لا يجوز وللمأذون له في التجارة والمكاتب أن يرهنا ويرتهنا ويرهن الوصي عن محجوره للمصلحة، ولا يرهن أحد الوصيين إلا بإذن الآخر.
وأما صفة الحوز ففيه تفصيل، أما قبل قيام الغرماء فيكفي في ثبوته الإقرار به، ولا يلزم معيانة البينة له، وأما بعد الموت، أو المرض، أو الفلس، فالمنصوص اشتراط معاينة الشهود الحوز، فإن لم يثبت ذلك لم يكن حوزًا، وكان للمرتهن إسوة الغرماء، قاله ابن القاسم في كتاب محمد.
فرع: إذا استقرض الوصي ليتيمه من نفسه حاز الرهن لنفسه، فهل يكون هذا حوزًا صحيحًا أو لا؟ قولان حكاهما اللخمي، والصحة أولى لحصول الحيازة حسًا وحكمًا كحوز الوديعة.
قوله: "وإذا كان فيه فضل جاز أخذ حق آخر عليه": يتعلق به الكلام في جواز ارتهان فضلة الرهن، ويجوز رهن الفضلة عند من (الرهن) تحت يده وعند غيره، فإن رهنها عنده وزاد في الدين على ارتهان الفضلة جاز، وكان حائزًا للرهنين جميعًا فإن كان الرهن في هذه الصورة تحت يد عدل ورضى العدل أن يحوز الفضلة لمرتهنها جاز، وإن لم يرض بذلك، ولم يحزها له ففي صحة الرهن في هذه الصورة قولان حكاهما الشيخ أبو الحسن
اللخمي فإن ارتهن الفضلة عند غير المرتهن الأول فلا يخلو أن يرضى الأول بذلك أم لا؟، فإن رضي به فلا خلاف في صحة الرهن، ويتم حوز الثاني ويبدأ الأول عليه، فإن علم الأول بارتهان الفضلة ولم يرض به، وكان في قيمة الرهن زيادة على (قدر) الحق ففي المذهب في هذه الصورة قولان، فقال ابن القاسم في كتاب محمد: لا يجوز إلا برضاه، لأن الأول إنما حاز لنفسه، وقال أصبغ بجوازه، وإن لم يرض الأول قياسًا على المخدم يهب صاحبه رقبته لغير المخدم فيجوز ذلك وإن لم يعلم المخدم، وكذلك إذا كان الرهن في هذه الصورة على يد عدل، فإن حاز لهما جاز وإن لم يرض بالحيازة للفضلة فالمشهور البطلان، ويتعلق بهذه المسألة الكلام في ضمان فضلة الرهن، وتحصيل القول في ذلك أنه إذا كان الرهن كله تحت يد المرتهن الأول لنفسه ولصاحب الفضلة، فضاع، وكان مما يغاب عليه، فهل يضمن المرتهن جميعه، أو يسقط عنه ضمان الفضل لأنه فيه أمين (فيه قولان عندنا، قال ابن القاسم: يسقط عن الأول ضمان الفضلة لأنه فيها أمين) وقال أشهب: ضمانه كله من الأول إذ لم تتعين الفضلة، فهو رهن واحد ولو كان الرهن كله على يد الثاني مرتهن الفضلة جرى فيه الخلاف المتقدم.
قوله: "والرهن متعلق بجملة الحق وبابعاضه فما بقى جزء منه فهو رهن به": وهذا تنبيه على مذهب المخالف القائل أن للراهن أن يسترد من (الرهن) بقدر ما أدى من الدين.
قوله: "ولا يجوز غلق الرهن": وهذا كما ذكره لثبوت نهيه صلى الله عليه وسلم عن
غلق الرهن لما فيه من الغرر والجهل.
قوله: "فإذا حل الحق وتعذر أخذه من الغريم باعه": قلت: فائدة الرهن أن يتخلص المرتهن من دينه من ثمن الرهن، أو من ثمن منافعه، ولذلك يختص به المرتهن، فإن باعه الراهن بنفسه، ووفى منه دينه فهو الواجب بالأصل، ووكيله بمنزلته، ويصح أن يوكل الراهن المرتهن على بيعه كالأجنبي، فإن وكله فهل له عزله لتعلق حقه بالوكالة أم لا؟ فيه قولان المشهور أنه ليس له عزله لتعلق حقه بالوكالة. والشاذ أن له عزله، وهو قول الشافعي وإسماعيل القاضي من أصحابنا اعتبارًا بسائر الوكالات.
فرع: إذا وكل الراهن المرتهن على البيع فهل يستحب له الرفع إلى الحاكم وهو المشهور عن مالك دفعًا للخصومة، أو يستقل بنفسه توفية لمقتضى التوكيل حقه في قولان، وبجوازه من غير حاجة إلى الرفع، قال أشهب.
فرع: إذا بنينا أنه لا يبيع، فباع نفذ البيع، ولا يرد، وقيل إن كان من الأشياء التي لها بال كالدور، والعقار، والحيوان، يرد البيع فيه ما لم يفت، فإن فات مضى قاله في كتاب محمد وفي العتبية عن ابن القاسم أحب (قوله) إلى (أن يمضي إذا أصاب وجه البيع، وإن كان له بال).
قوله: "وإذا اختلف المتراهنان في غير الرهن فالقول قول المرتهن": يتعلق به الكلام في اختلاف المتراهنين، ويتصور الاختلاف في مسائل:
الأولى: التداعي في أصل الرهن والقول قول الراهن إذ الأصل عدمه، قال أشياخنا، ولو ادعى المرتهن أن مال العبد أو ثمرة النخل رهن، وأنكره الراهن فالقول قوله، إذ الأصل عدمه.
المسألة الثانية: الاختلاف في عين الراهن مثل أن يقول أحدهما: رهنتني هذا الثوب (بعينه) ويقول الآخر: هذا الفرس، فالقول في هذه الصورة قول المرتهن، لأنه مدعى عليه.
المسألة الثالثة: اختلافهما في قدر الحق، فالرهن شاهد للمرتهن فيما يدعيه إلى قيمته، فإن قال المرتهن هو في عشرة، وقال الراهن في خمسة، فإن كانت قيمة الرهن عشرة فالقول قول المرتهن مع يمينه وهو أحق به لحوزه له، فإن كانت قيمة الرهن خمسة فالقول قول المرتهن على المشهور. وفي العتبية: إذا كانت قيمة الرهن خمسة فالقول قول المرتهن لأنه يقول: رضيت أن آخذه في عشرة، فإن كرهت أن تفديه فدعه، وهذا بناء على أنه شاهد على نفسه لا على الذمة، فإن كانت قيمته سبعًا حلفًا جميعًا، وكان رهنًا في (قدر) قيمته.
واختلفت الرواية في فروع من هذا النمط.
الأول: إذا بنينا على أن الرهن شهد مع بقاء عينه، فهل يشهد على نفسه أو على الذمة فيه قولان عندنا، أحدهما أنه شاهد على (الذمة) فيحلف المرتهن، ويأخذ من المطلوب العشرة التي حلف عليها، وشهد بها في الرهن، فإن أبي الراهن أخذ الرهن أجبر عليه، والثاني أن الرهن شاهد على نفسه،
فيحبسه المرتهن فيما حلف عليه، ولا يتعلق ذلك بذمة الراهن ولا يجبر على أخذه إلا أن يشاء أن يفديه، فله ذلك مراعاة لأصل ملكه.
الفرع الثاني: إذا جعلناه شاهدًا على نفسه، وحلف المرتهن هل له أن يحلف الراهن أم لا؟ قولان عندنا، أحدهما: أن المرتهن يحلف أنه في عشرة، فإذا حلف المرتهن استحلف الراهن أنه لم يرهنه في عشرة، ثم يسلم الرهن للمرتهن، وإذا استحلفنا الراهن، قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: له يمين الاستحقاق، وليس على المرتهن كبير مؤنة في بيعه، فكان أولى أن يحكم على الراهن باليمين، وحمله على ذلك (كاذبًا) على مقتضى دعوى المرتهن. حكى القولين أبو الحسن اللخمي وغيره.
الفرع الثالث: إذا كان الرهن على يد عدل هل يكون القول قول المرتهن إذا ادعى مثل قيمته كما لو كان في يد المرتهن، أو يكون القول قول الراهن فيه قولان: قال محمد بن المواز القول قول المرتهن وإن كان على يد عدل، لأنه إنما أخذه توثقًا فلا فرق. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: إذا كان على يد عدل فالقول قول الراهن إذ ليس بحائز له، وإنما رجح قوله إذا كان (في) يده اعتبارًا (بحق) الحوز.
الفرع الرابع: إذا ادعى المرتهن أنه في عشرة، وادعى الراهن أنه في خمسة، وكانت قيمته سبعة، فقد قدمنا أنهما يتحالفان معًا لاختلاف الروايات، وهل يحلف المرتهن على عشرة التي هي دعواه، أو على قيمة الرهن المشهور أنه يحلف على أنه رهن في عشرة، ويأخذه إلا أن يفكه ربه بها، إذ هو شاهد على نفسه، لا على الذمة (وقال محمد له أن يحلف على مقدار قيمة الرهن لا غير، وهذا يحقق أن الرهن شاهد على نفسه لا على الذمة).
الفرع الخامس: إذا حلف المرتهن أنه في عشرة، وكانت قيمة الرهن سبعة فأراد الراهن أن يأخذ الرهن ويدفع المرتهن السبعة، قال ابن نافع: ذلك له ولا حجة للمرتهن، والمشهور أنه للمرتهن، وليس للراهن أخذه إلا أن يفكه بالعشرة التي حلف المرتهن على صحتها.
قوله: "فإن كان في يد المرتهن حلف على ما ادعاه" يعني على العشرة في الصورة التي ذكرناها وكان القول قوله في قدر الرهن يريد إذا كانت قيمة الرهن عشرة، فإن كانت قيمته سبعة حلف الراهن على نفي ما زاد، وفرق القاضي بين أن يكون الرهن تحت يده، أو تحت يد عدل، وقد ذكرنا علة الفرق، ثم تكلم القاضي على ما إذا تلف الراهن وصفته مع فوات عينة تتنزل منزله فإن اتفقنا على صفة قومت، وإن اختلفا (فالقول قول المرتهن لأنه الغارم، وهذا إذا اختلفا في قيمته، وإن اختلفا) في مقدار الحق شهدت الصفة بذلك على حكم شهادة العين.
فرع: اختلف المذهب متى تعتبر القيمة فقيل يوم القبض، وقيل يوم الحكم.
قوله: ومن رهن عبداً، ثم اعتقه نفذ عتقه إن كان موسراً": واختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال: قال الشافعي: لا ينفذ عتقه أصلاً، موسراً كان، أو معسراً تغليباً لحق المرتهن على الرهن، وقال أبو حنيفة: ينفذ عتقه موسراً، ويعجل للمرتهن دينه، وإن كان معسراً رد عتقه، وإذا بيننا على المذهب، وأمضينا العتق مع اليسر فالواجب أن يعجل للمرتهن دينه، فإن أتي الراهن برهن آخر بدل العبد، فقال ابن القاسم: ليس له
ذلك، ويحكم له على الراهن بتعجيل الدين، وأجازه الشيخ أبو بكر الأبهري لحصول المقصود من الرهن بعوضه، وإذا كان الراهن معسرواً لم ينفذ عتقه، وبقي رهناً بيده إلى الأجل، فإن استمر الإعسار رد عتقه وإلا نفذ.
قوله: "ومن رهن أمه لم يجزله وطؤها": وهذا كما ذكره، لأن في وطئها إعادتها إلى قبضة، وتعريضها لأن تكون أم ولد، فإن أذن له المرتهن في وطئها بطل الرهن، لأن إذنه في الوطء مبطل للحوز المستدام المشترط في صحة الرهن، فإن وطئها بغير إذنه إما أن تحمل أم لا، فإن لم تحمل فهي رهن بحالها، وإن حملت وكان معسراً يبعت عليه، وقضي الحق من ثمنها، وإن كان معسراً كانت أم ولد، وعجل للمرتهن حقه اعتباراً بالعتق، فإن أوجبنا بيعها مع العسر فكانت قيمتها أكثر من الدين بيع منها بقدر الحق، وكان ما بقي بحساب أم الولد، أن الزيادة لا حق للمرتهن فيها، ولا سيبل إلي بيع الولد، إذا هو حر على كل تقدير، قال أشهب إن وجد من يبتاع منها بقدر الدين فعلت، وأعتق ما بقي، وإن لم يجد استوفي بالدين إلى الأجل، فإن وجد أيضاً ذلك، وإلا بيعت كلها، وقضي الدين، وكان ما بقي، وإن لم يجد استوفي بالدين إلى الأجل، فإن وجد أيضاً ذلك، وإلا بيعت كلها، وقضي الدين، وكان ما بقي لربها يصنع به ما شاء فإن وطئها المرتهن فلا يخلو أن يكون وطؤه لها بإحلال الراهن وإذنه أم لا، فإن كان بغير إذنه فهو زان، وعليه الحد، وإن كان بإذنه، فنص القاضي أبو محمد على سقوط الحد للشبهة وتلزمه قيمتها للراهن لتكمل الشبهة في درء الحد عنه، فإن حملت كانت له أم ولد، ولا شيء على المرتهن من قيمة الولد، لأن السيد حين أباح له الوطء رضي بحرية الولد، لأنه مقتضي ما دخل عليه الواطئ.
قوله: "وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن فللمرتهن إجازته وفسخه": وهذا فيه تفصيل وتحصيل القول فيه أنه لا يخلو أن يتعدي الرهن في بيعه قبل حوز المرتهن أو بعده، فإن باعه قبل الحوز ففيه قولان: المشهور أن البيع ماض، والمرتهن مفرط، والثاني: أن المرتهن مخير بين إمضاء البيع، أو رده لتعلق حقه بالرهن إلا أن يتبين تفريطه، وأما إذا قبض المرتهن الرهن فتعدي الراهن فباعه فالمرتهن بالخيار بين فسخ البيع وإمضاه، لأن المرتهن قد قبض الرهن، وحازه وهذا هو المشهور، والشاذ أن البيع ماض، ويوقف الثمن إلى محل الأجل، قال ابن القاسم: ليس عليه أن يعطيه رهناً غيره، لأنه مفرط حين تركه يبيعه، وف يكتاب محمد: يمضي البيع والثمن للراهن ولا يتعجل للمرتهن حقه، ولا يوضع له رهن في مكانه، ولا ينفض ما بينهما من بيع، أو سلف، وقد قيل يجبر على رهن آخر مكانه قاله ابن الماجشون فإن لم يجد له رهناً فللمرتهن رد سلعته، وله أن يمضيها بالثمن إلا الأجل من غير رهن، فإن باعه (بأمر) المرتهن ومضي البيع، فإن أراد تعجيل الحق، وزعم أنه إنما أجاز البيع ليتعجل الحق فالقول قوله مع يمينه كما ذكر القاضي.
والله الموفق.