الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومجازيهم فقال: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ) الضمير يعود على اللَّه تعالى أي أنه تعالى عليم بما يعملون علم من يبصر ويرى، وقدم الجار والمجرور (بِمَا تَعْمَلُونَ) على (بَصيرٌ) للاهتمام بالعمل، وإنه مناظر الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإن الاستقامة هي أقصى درجات الإحسان، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان:" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك "(1).
كان في هذه الآية النهي عن الظلم، ثم أردفها بالنهي عن الارتكان إلى ظالم، فقال:
(1) متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ
(113)
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، الواو عاطفة هذا النهي على النهي السابق، وهو قوله تعالى:(وَلا تَطْغَوْا) الركون الاستناد، فيقال ركن إلى الجدار أو الجبل أو الركن إذا استند إليه، ويتضمن ذلك النهي الاعتماد على الظالم، والإدهان إليه والميل إليه، والتودد له، والتقرب منه، ومعاونته في الأمر الذي يفعله، وقوله تعالى:(الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين وقع منهم الظلم، وإن لم يتصفوا بالظالمين، وإذا كان النهي عن مساندة الذين وقع منهم ظلم، فأولى بالنهي من يكون الظلم عادة وسياسة مستمرة لهم، ويلاحظ أن التعبير بالموصول فيه بيان بسبب النهي، وهو مرفوع الظلم منهم، ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في معاونة الظالمين:" ومن سعى مع ظالم، فقد سعى إلى جهنم "؛ لأنه عاونه في ظلمه، ولو أن الذين يظلمون لا يجدون من يعاونهم، ويمانعهم، وينصرونهم على المظلومين ما استمروا يرعونها، حتى تكون فيها أشواك الأذى الممزقة.
ولقد وجدنا ناسا في عهد طاغوت رأيناه أشد من فرعون عتوا، يمالئونه على المسلمين، حتى قتل، وآذي وقطع أطراف الشباب، ووصل عدد قتلاه خمسة
وثلاثين ألفا من المسلمين غير من قتلوا تحت حر السياط والتعذيب في سجونه التي فاقت سجن الحجاج طاغية العرب عددا، والحجاج كان عربيا، فلم يعذب، ولم يضرب بالسياط، لأن مروءة العربي تمنعه.
وقد كتب الزمخشري في هذا كتابة قيمة ننقلها من تفسيره، رضي الله عنه:
" والنهي متناول الانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله تعالى: (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين وقع منهم الظلم، ولم يقل الظالمين، فكيف بالظالم، وحُكي أن الموفق (أحد خلافاء العباسيين في عهد انحلال الحكم العباسي) صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما آفاق قيل له، هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم. وعن الحسن (البصري) رحمه الله: " جعل الله الدين بين لائين (لا تَطْغَوْا)، و (لا تَرْكَنُوا). . . . . ".
ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين:
" عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله، بما فهمك الله من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه:(. . . لَتبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ. . .). واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك آنست وحدة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرًا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلَّما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الك بك إلى العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: (فَخَلَفَ
مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، فإنك تعامل من لَا يجهل ويحفظ عليك من لَا يغفل، فداوِ دينك، فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض، ولا في السماء والسلام " هذا كتاب واعظ، لتابع من أجل التابعين، وإن كان من أصغرهم سنا.
ويسترسل الزمخشري في نقل ما قاله العلماء في الظالمين، والذين يركنون إليهم كما نرى فيمن اتسموا بسِمة العلم، قال رضي الله تعالى عنه وقال سفيان (الثوري): في جهنم دار لَا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. . . . .
وعن الأوزاعي " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا ".
وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه ".
ولقد سئل سفيان الثوري، عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء، فقال: لَا. فقيل له يموت، فقال:" دعه يموت ".
رضي الله عن الزمخشري، وإن كنا لَا نرضى عن فتيا سفيان الثوري الأخيرة، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن القتل بالعطش، وهذا أمر بالإسعاف.
ولقد قال بعد النهي عن الركون إلى الظالم (وَمَا لَكم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أؤلياءَ)، (مِن) هنا لاستغراق النفي و (أَوْلِياءَ) النصراء أي ليس لهم من الذين