الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(يُفَصِّلُ الآيَاتِ) ينزل عليهم الآيات المبينة للقدرة من خسف وكسوف، وزلازل وغيث يحيي الأرض، وغيث يدمر ما عليها، كل هذه لتكون آيات بينات تدل على القدرة، وعلى أن الكون يسير بإرادة مختارة، وأنه يبدئ ويعيد، وينشئ، ثم يميت، ثم يحيي، وهو على كل شيء قدير.
وإن اللَّه تعالى أشار إلى هذه القدرة العظيمة رجاء أن يؤمنوا بالمعاد فقال تعالى: (لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنونَ).
أي: لعلكم ترجون لقاء ربكم وتوقنون به، فالرجاء ليس من اللَّه، ولكن الرجاء من الخلق وهو على كل شيء قدير، أي لعلكم إذا تأملتم ما في السماوات والأرض من خلق توقنون بلقاء ربكم ولا تنكرون ولا تظنون ظنا. بل تستيقنون استيقانا، وهنا إشارات بيانية في هذه الآية وما قبلها نذكرها إجمالا:
أولاها: أن تعريف الطرفين في قوله: (الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ) للقصر، أي لَا حق سواه.
الثانية: في قوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) فيها دليل على وجود الصانع المنشئ والمدبر، وأن وراء كل جزئية من الكون سرا إلهيا، هو الذي يدبر، وهو الذي يقوم عليه فهو الحي القيوم.
الثالثة: أن قوله عن البعث: (لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) فيه إشارة إلى أن البعث لقاء اللَّه، وقدر (بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ) على الفعل (تُوقِنُون) لمزيد الاهتمام.
وبعد ذكر اللَّه تعالى رفع السماوات، وما فيها من أجرام ذكر الأرض وما فيها من آيات بينات فقال عز من قائل:
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
(3)
بعد أن بين سبحانه وتعالى قدرته في رفع السماء بغير عمد ترونها، وما فيها من كواكب ونجوم رمز إليها بأجلها شأنا، وهي الشمس مصدر نورها، والقمر،
وكان رمزا لمن استمد نوره منها، وهو من أكبر أتباعها. أنزل آياته إلى الأرض وهي قريبة من الأنظار غير بعيدة عنها، وفيها يمرحون، ومن خيراتها يتخذون نماءهم؛ ولذا قال:(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ)، أي بسطها طولا وعرضا بحب يسهل افتراشها أو الانتقال في أجزائها شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا وليس ذلك دليلا على أنها غير كروية، بل كونها كروية ثبت من الليل والنهار، ومن أدلة عقلية كثيرة وكرويتها لَا تنافي مدها، وجعلها مفترشا لابن آدم، وذلك لكبرها وامتداد أطرافها.
ثم أخذ يبين سبحانه ما جعل فيها، فقال تعالى:(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) أي جعل فيها جبالا كالأوتاد لها، كما قال تعالى:(وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، ورواسي جمع راسٍ، وقال البيضاوي وغيره: إنها جمع راسية، وجاءت التاء لأنها وصف لأجبُل. ونحن نرى أن ذلك تكلف لَا داعي إليه؛ لأنها جمع (راسٍ).
وهو وصف لما لَا يفعل وفواعل تجمع ما تكون وصفا لما لَا يفعل، و (رِاسٍ) من رسا إذا ثبت، فـ (رَوَاسِيَ) معناها ثوابت مستقرة كأنها أثقال تزن الأرض، وعطف على الرواسي الأنهار (وَأَنْهَارًا) للتقابل بينهما؛ لأن الجبال أحجار أو نحوها، والأنهار ماء سهل فهما متقابلات في الجملة؛ ولأن أودية الماء تكون بجوار الجبال وتتخذ منها، أو تتكون مياه الأنهار ما ينحدر من الجبال، أو تنزل الأمطار على الجبال، ثم تنحدر حتى تجري في الأنهار، كما ترى في نهر النيل، إذ إنه تكون من البحيرات التي ترفدها بمائها ثم تنحدر المياه من جبال الحبشة، فيكون فيضانه بخيراته التي أفاض اللَّه بها على عباده، فأوجد الخصب في وادي النيل، وأخصب مصر من وقت أن جرى فيها.
وإنه من وراء الأنهار يكون إنبات النبات، وإثمار الأشجار، فإن هذا كله يكون من الماء الذي جعل اللَّه تعالى منه كل شيء حي، وكذا قال سبحانه وتعالى بعد الأنهار وجريانها وتحدرها من الجبال:(وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَينِ)،
أي جعل سبحانه وتعالى صنفين متقابلين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، وجعل منها زوجين أي الذكر والأنثى، فمنه الذكر الذي يلقح بما تحمله من البذر الرياح اللواقح، والأنثى التي تحمل بذر الذكر، كما تحمل أنثى الحيوان بذر الذكر في رحمها.
ومن هذا يتبين أن كلمة زوجين تتضمن معنى التقابل الذي يعم التقابل بين الذكر والأنثى، والتقابل في الألوان، والتقابل في الطعم، والتقابل في الصغر والكبر، وهذا كله في أرض واحدة، وكان مقتضى اتحاد الأرض واتحاد الماء أن تكون شيئا واحدا في لونه أو طعمه، أو ذكورته أو أنوثته، أو صغره أو كبره، ولكن تعددت وتخالفت، فدل هذا على وحدة الصانع الحكيم العليم المريد الذي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
ثم بين سبحانه بعض العلاقة بين السماء والأرض، وهي الليل والنهار، فهما من دروان الأرض حول الشمس، وكل يدور في مداره، فبدوران الأرض يكون الليل والنهار، وبدوران الشمس تكون الفصول الأربعة. ولقد قال تعالى:(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) بسكون (الغين) وهاك قراءة بفتح الغين وتشديد الشين من التغشية، وكلاهما بمعنى اللباس الذي يغشى الجسم، وفي هذا الكلام استعارة تبعية وأصلية، فأما الأصلية: فهي تشبيه الظلمة بالثوب الأسود، والضوء بالجسم الأبيض، وتبع ذلك أن شبه النهار بأنه يغشى الليل.
وإن هذا من اتصال الشمس بالأرض، أي اتصال الأرض بالسماء.
هذه آيات اللَّه تعالى، وبيناته، وخلقه، وتكوينه، وهي تدل على أنه فعل فاعل مختار لما يريد، وأن الأشياء لا تنشأ عنه سبحانه نشوء المعلول عن علته، كما يقول الفلاسفة، ويسميهم الناس حكماء وليسوا كذلك؛ ولذا قال الله تعالى:(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ).