الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
(72)
وعد الله تعالى أن يعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وكان الوعد هو ذات الجنات، لَا إعدادها، وفي ذلك إشعار بأنها موجودة مهيأة قائمة ثابتة، ليس أمامهم إلا أن يدخلوها، ولذا لم يذكر دخولها، بل ذكر وجودها، وذكر سبحانه أن الأنهار تجري من تحتها، فقال سبحانه وتعالى:(وعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وجريان الأنهار يفيد ثلاثة أمور:
أولها: أن ساكنها يتمتع بمنظر بهيج، وثانيها: أنها تجعل جوها لطيفا، لَا قَر ولا حرور، وثالثها: أنها تمد جذور أشجارها بالماء الطيب الذي يجعلها وارفة الظلال لَا يُبس فيها، بل لها غصون خضراء تجعل المتعة كاملة.
وقال تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن) والمساكن الطيبة هي المساكن التي يستطيب نازلها الإقامة فيها، وهي ممهدة تمهيدا طيبا للإقامة، وقد روي أنها قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر، والزبرجد، وروي أنها تكون لبِناتٍ من فضة وذهب، ولا تعارض في أن تكون كذلك، ولكن نقول إنها مساكن طيبة تطيب الإقامة فيها، وتستريح النفس والقلب بالإقامة، و (عَدْن) قال الزمخشري فيها: إن جنات عدن التي وعد بها الرحمن، ويدل عليه ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وعدن دار الله تعالى التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لَا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك "(1).
وإن هذه الآية، وهذه الآثار تدل على أن جنات عدن جزء من الجنة يكون فيها الأبرار، والأطهار، هذا كله جزاء مادي، وهنا جزاء معنوي وهو رضوان الله تعالى، فقد قال عز من قائل:(وَرِضْوَان مِنَ اللَّهِ أَكبَرُ) الرضوان هو الرضا
(1) جزء من حديث جاء في كنز العمال: تفسير سورة الإسراء - ج 1، ص 324، برقم (4485).
العظيم، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وإن الإحساس بالرضا من الله رب الخلق، وخالق الخلق سعادة لَا تعدلها سعادة، ولقد قال في ذلك الزمخشري كلمة قيمة ننقلها. " وشيء من رضوان الله تعالى أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض كان ذلك أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم، وإنما تتهيأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته، تنغصت عليه، ولم يجد لها لذة، وإن عظمت، وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس الحرة من مشايخنا يقول: لَا تطمع عيني، ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة كما تطمع وتنازع إلى رضاه عني، وأن أحشر في زمرة المهديين " اهـ.
ونرى أنه يفهم من قول الزمخشري أن قوله تعالى: (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ) أن معناه شيء من رضوان الله أكبر، أي أن أول شيء من رضوان الله تعالى أعظم من كل هذا النعيم.
ويقول سبحانه: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والإشارة هنا إلى نعيم أهل الجنة، وتاجه رضوان الله تعالى، هو الفوز والفلاح، والحصول على أعظم جزاء، ويصح أن تكون الإشارة إلى رضوان أكبر؛ فإن ذلك الرضا العظيم جزاء لَا يُنَاهد، والعبارة تدل على القصر بتعريف الطرفين وضمير الفصل (هُوَ)، أي لَا فوز غير هذا، والله أعلم.
* * *
الجهاد ماض إلى يوم القيامة
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ
وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
* * *
بين الله تعالى حال المشركين، وما هم عليه، وذكر العذاب الذي يستقبلهم في الدنيا والآخرة، ثم بين حال المؤمنين، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين في الجهاد، غير وانين ولا مقصرين.
والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين معه، وكان الخطاب للنبي ابتداء، لأنه القائد الأعلى، ولأنه الهادي والمرشد، والموجه،
(جَاهِدِ) معناها ابذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بألسنتهم، ويقولون آمنا بأفواههم، وما هم بمؤمنين، ولا شك أن بذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين يختلف، فالكفار الذين أعلنوا الكفر وفتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعا بالسيف والقتال، والكفار الذين لم يعلنوا الكفر وأبطنوه، ولم يفتنوا المسلمين بالإيذاء والتعذيب. . كان يفعل ذلك المشركون في مكة ولكنهم يثيرون الفساد، والدس والفت في عضد المؤمنين فدفعهم يكون بدفع أذاهم وشرهم، ومقاومة ما يبثونه في المؤمنين من تضليل، وأن يبعدهم عنهم، وبطلان ما يدعون إليه، وإقامة الأدلة عليهم ومنع تاثيرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم "، ولا شك أن الجهاد باللسان له مقامه في جهاد المشركين، وأشد ما يكون تأثيرا في جهاد المنافقين.
ومن جهاد المنافقين ألا يبش لهم، حتى يطمعوا في خداعه، بل يشعرهم بأنه في حذر منهم، ويقول ابن مسعود: يستنكر أفعالهم بيده، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه. وفي الجملة يسد عليهم باب خديعتهم، وقال الحسن البصري: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود، وذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة
منافق، ويرى ابن جرير أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم، وأظهروا كفرهم، ويقول في ذلك إنهم في هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكفر، فيدخلون في عموم الكفار المظهرين الكفر.
ولقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين بينه الله تعالى بقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. . .) وسيف لكفار أهل الكتاب، وبينه سبحانه وتعالى بقوله:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)، وسيف للمنافقين بينه الله سبحانه بقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)، وسيف للبغاة، كما قال تعالى:(. . . فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. . .).
وإنه قد روى أن الذي تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تكشف نفاقهم في الردة التي وقعت عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ارتد الأعراب الذين قال الله تعالى عنهم:(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. . .).
وإنه لهذا قال ابن جرير بقتل المنافق وقد لاحظ وصف الظهور، كالذين ارتدوا في عهد الصديق وقاتلهم عندما أرادوا أن يؤدوا الصلاة، ولا يؤتوا الزكاة، فقال لهم رضي الله عنه:" سلم مخزية، أو حرب مجلية ".
وقوله تعالى: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي عاملهم بخشونة، ولا ترفق بهم فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة عليهم حتى لَا يمعنوا في الكفر، وعسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم، وهذا عذابهم في الدنيا، ويكون بالهزيمة، والخزي والخسران.
أما جزاؤهم في الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى:(وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) والمعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذي يؤويهم، وهو جهنم وفى هذا نوع من التهكم؛ لأن المأوى يأوي إليه الإنسان ليجد فيه المستقر والراحة والاطمئنان، فذكر المأوى في هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى:(. . . فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم).
ثم ذم الله تعالى هذا المأوى فقال: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي آووا إليه. اللهم قنا عذاب النار.
لقد قال صلى الله عليه وسلم: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان "(1) فقول الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم، كان أوضح أوصافهم الكذب والحلف، ولذا تال تعالى:
(1) سبق تخريجه.
(يَحْلِفُونَ باللَّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كلِمَةَ الْكُفْرِ وكفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ).
كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبي كثيرا، ولا يكفون ألسنتهم، ويقولون إذا أظهروا الإيمان، إنما نحن نستهزئ بهم، وكان الله يُعْلِم نبيه بأحوالهم وأقوالهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرفهم في لحن أقوالهم، كما قال تعالى:(. . . وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .).
وكانت كلماتهم الفاسقة، تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب فقال رجل من المنافقين، وزيد بن أرقم بجواره، قال ذلك المنافق:(لئن كان هذا الرجل " أى الرسول " صادقا فنحن شر من الحمير، فقال زيد رضي الله عنه: فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار).
كان هذا القول وأشباهه يصل إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما يجابههم بهذا الذي ينقل، عندئذ يجدون المطية التي اختاروها، وهي مطية كل كذاب مهين، وهي الحلف بالله تعالى من غير أي حريجة.
ولذا يقول في بيان حالهم عندما يكشف أمرهم وتعلم أقوالهم:
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا
…
(74)
قلنا: إن أقوالهم المنافقة كثيرة لَا تخص واحدة دون الأخرى، بل كلما تكشتَف قول ينبئ عن نفاقهم - كذبوه وحلفوا اليمين الغموس الفاجرة، وقد أشرنا إلى أن اليمين الفاجرة، كانت المساغ لكذبهم، لعنهم الله هم وأخلافهم في هذا الزمان، وقد قالوا كلمة الكفر أي ما قالوه فيه كلمة واحدة هي كافية لطردهم من رحمة الله، واستحقاقهم نار جهنم، وهي إنكار الرسالة المحمدية؛ إذ هي الكلمة التي أوقعتهم في حضيض الكفر، أو نقول " كلمة " بمعنى كلمات، وكلمة بها كلام قد يُؤَم (1)، والمراد أن كلامهم كله في الاستهزاء والتهكم، وإيقاع الفرقة، والدس والفساد، هو كفر.
وقال (بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي بعد إعلانهم الإسلام، وإبطانهم الكفر والنفاق، فهذه الكلمة أو الكلام قد كشف نفاقهم الذي كان مستورًا بإعلان الإسلام، فما استفادوا إلا بيان حالهم، ومعرفة الوصف الحقيقي لهم.
(وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) أرادوا أن يفسدوا أمر المؤمنين، وتوقعوا الفتنة والفشل فيهم، ولم ينالوه؛ لأن الله تعالى رقيب عليهم، وكاشف للمؤمنين أمرهم، وكلما أوقدوا نار فتنة أطفاها الله سبحانه وتعالى، وعادت الأمور بيضاء لا فتنة فيها، ولقد هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم أرادوا الفتك به بإِلقاء حجر عليه فكشف الله تعالى بالوحي أمرهم ولم ينالوا مأربهم، وهموا بقتله في عودته من تبوك ولم ينالوا ما يبغون؛ لأن الله تعالى عاصمه من الناس، فإنهم جمعوا عددا ما بين اثني عشر، وخمسة عشر رجلا للفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في أعلاها، على حسب اختلاف الرواة كي يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليك القصة كما رواها الإمام أحمد
(1)(وكلمة بها كلام قد يُؤَمّ)، شطر بيت من ألفية ابن مالك، ومعناه: أن " كلمة. تطلق، ويقصد بها " كلام "، مثل كلمة التوحيد: لَا إله إلا الله.
قال: " لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ، غَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُذَيْفَةَ: «قَدْ، قَدْ» حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ، فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ، هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟» فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَطْرَحُوهُ "(1).
وهكذا هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينالوا منه، وصدق وعد الله لرسوله إذ يقول له:(. . . بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. . .). وقد ذكر المفسرون أن النص الكريم (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) خاص في تلك الحادثة. ونحن نقول إن النص يشمل كل ما هموا به ولم ينالوه.
ثم يقول سبحانه: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) لقد ازداد عمران المدينة بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتسعت تجارتها، وكثر سكانها، ثم ما كانت تأتي به الحروب الإسلامية من غنائم زادت الخيرات واتسعت الموارد، وعمت سكان المدينة وغيرهم، ولكن المشركين لم يلتفتوا إليه وأن ذلك يوجب الحمد، ولكنهم لؤماء أخساء، قابلوا النعمة بالكفر، وتأكد لؤمهم بقلبهم النعمة نقمة، فهم بدل أن يشكروا النعمة كفروها، وقالوا إن هذا يشبه تأكيد المدح بما يشبه الذم في صيغته، كما في قول النابغة الذبياني:
(1) راجع القصة كاملة في مسند أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث أبي الطفل عامر بن واثلة رضي الله عنه (23280).
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
بيد أن كلام الله العلي الكبير فيه تأكيد ذمهم لَا تأكيد مدحهم، فكان حقه عليهم أن يعدوا محمدا ودينه بركة عليهم يقدرونها حق قدرها.
وقد ذكر سبحانه أن هذا الغنى من فضل الله تعالى مَنَّ به عليهم كان يوجب عليهم حسن الصحبة لمن جاوروهم الذين جاء الخير على أيديهم، لَا أن يتربصوا بهم الدوائر، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوار رب العزة، وهو الغني والناس جميعا فقراء إليه سبحانه، ذكر الرسول مع الله تعالى؛ لأن الخير كله أجراه الله تعالى على يديه، ولكي يعلموا أن مقدمه عليهم بركة وخير، ولأن الله تعالى أكرمهم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم.
ومع هذه المكايد والفتن فتح اللَّه تعالى لهم باب التوبة، فهو ينهى عن أن يقنط عباده من رحمته، فباب الرحمة والتوبة مفتوح، ولذلك قال تعالى فاتحا باب الأمل لهم:
(فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ).
أي إن يتوبوا توبة نصوحا يخلعون فيها أنفسهم من الكفر، كما يخلع الثوب النجس ليلبس طاهرا، (يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ)؛ أي يكون ذلك خيرًا لهم؛ لأن نفوسهم قد طهرت، وطهارة النفس في ذاتها خير، واستقامة النفس اطمئنان وإيمان، وخير أيضا؛ لأن النفاق ضعف، والإيمان قوة، وقوة النفس خير، وخير أيضا لأنه نجا من خزي النفاق وذله وجبنه، وخير لأنه نجا من عذاب يوم القيامة، وإنه يكون عكس ذلك إن استمروا على في بهم، وبقوا في رجسهم، ولذا قال سبحانه:
(وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، أي إن أعرضوا وانصرفوا إلى الفساد وساروا في طريقه يعذبهم الله في الدنيا بضعف نفوسهم
وخزيهم، وفقد الثقة فيهم، والخزي العظيم، ونفور الناس منهم، وضرب الذلة عليهم، وانتقام الله منهم، وكشف ما يضمرون، وقتلهم، كما فعل أبو بكر الصديق عندما ارتدوا، فأنزل بهم الهزيمة والخزي والعار بتأييد الله، وعذابهم في الآخرة جهنم وبئس المصير.
ومن عذابهم في الدنيا أنهم لَا ولي لهم ولا نصير، ولذا قال تعالى:(وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) - في الأرض - أي في هذه الدنيا، أي أنهم في الدنيا يفقدون الأولياء الذين يحبونهم ويوادونهم، إذ الولاية والمحبة توجب الثقة والمودة والإخلاص، وأخص ما يختص به المنافق أنه يفقد الإخلاص فلا يخلص لأحد، قريئا كان أو بعيدًا، وإذا فقد الإخلاص فليس ولي ولا حميم ولا نصير، أي لَا أحد يكون نصيرا لأن ذلك يكون بالثقة، ولا ثقة في منافق. اللهم اكفنا شر النفاق والمنافقين.
* * *
عهود المنافقين
قال الله تعالى:
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
* * *
في الآية السابقة بين الله تعالى كذب المنافقين، واستعانتهم في تأييد كذبهم بالأيمان الكاذبة التي لَا تصدر إلا عن مهين، كما قال تعالى:(وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10).
وذكرنا الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد خلف، وإذا اؤتمن خان "(1).
وقد كانت علامة النفاق الكذب، وقد ذكر الله تعالى الكذب، ونتيجته ويذكر الله تعالى خلاف الوعد، فيقول تعالت كلماته:
(1) سبق تخريجه.
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
الضمير في (مِنْهُم) يعود إلى المنافقين، وما أشد إنصاف الله تعالى في أحكامنا، وإنه سبحانه يعلمنا الصدق في أحكامنا فلا نسرف في القول فنعمِّم القول، والخبر عن خاص.
والعلماء يذكرون شخصا بعينه، أو أشخاصًا معينين، ونحن نميل دائما إلى أن تكون ألفاظ القرآن على عمومها من غير تخصيص أشخاص، وهنا نقول إن من خواص النفاق إخلاف الوعد، وإن الإخلاف يقع من بعضهم، وإن كان يحتمل أن يقع من كلهم، وعهد الله تعالى الذي يعاهد عليه بعضهم يشمل ما إذا عاهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو عاهد الله مناجيا ربه، أو أقسم بالله معقدا الأيمان أو نحو ذلك فهو في كل ذلك يعاهد الله تعالى، فمن أقسم أن يصدق إذا جاءه فقد عاهد الله تعالى، ومن نذر لله نذرا إذا أعطاه الله تعالى ليصدقن، فقد عاهد الله تعالى.
وقال تعالى: (لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ) اللام هي الموطئة للقسم، وقوله تعالى:
(آتَانَا مِن فَضْلِهِ)، لم يذكر فيه نوع ما يؤتيه، أهو علم، أم مال، أم جاه. . . إلى آخره، لم يذكر ما يعطيه الله تعالى صراحة، ولكن الظاهر أنه مال، بدليل
لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فهي نص في المال، ولعل مثل المال غيره، فمن آتاه الله تعالى علما، فصدقته أن يجعله لله خالصا، فلا يتجر به ولا يبيع كلام الخالق بالدرهم والدينار، ولا يفتي بغير الحق ولا يحل ما حرم الله، ولا يحرم ما أحل الله تعالى.
وقوله تعالى: (لَنَصَّدَّقَنَّ) جواب القسم، وليست جواب الشرط؛ لأنه يقدم جواب القسم على جواب الشرط، والدليل على ذلك نون التوكيد الثقيلة، ووجود اللام ونون التوكيد الخفيفة في المعطوف.
ونرى كما قلنا أن النص عام لَا يخص أحدًا منهم، وإن كان في مساق بيان أحوال المنافقين.
ولكن يذكر المفسرون خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الأكثرون إنه ضعيف السند في النسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن نذكره؛ لأنه مع ضعفه يصور طمع النفس التي لا تشبع، بل يزيده العطاء من فضل الله طمعا، ويوجد فيها شحا.
وذلك أنه مع ضعفه يصور النفس الإنسانية إذا استغنت، ونرى كيف يتحقق قوله تعالى:(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)، وهذه الرواية كما جاءت في كتب التفسير بالرواية، ونقلها الزمحشرى، ولم يضعفها، وإن كان علماء الرواية قد ضعفوها: روي أن ثعلبة بن حاطب، قال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قليل تؤدي شكره، خير من كثير لَا تطيقه "، فراجعه، وقال:" والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت كما تنمى الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل كثر ماله حتى لَا يسعه واد، قال: " ويح ثعلبه "، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدَّقَيْن لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا على ثعلبة وسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض. فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، وقال: ارجعا