الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان خليقا بالمشركين أن يؤمنوا إذ تحداهم وأعجزهم، ولكن لم يدفعهم العجز إلى الإيمان بل دفعهم إلى الجحود والعناد، ليس لحجة عندهم بل لأنه كان غريبا لم يألفوه أو يعرفوه، ولذا قال تعالى:
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ
…
(2)
والاستفهام هنا لإنكار الواقع وهو بمعنى التعجب من عجبهم، والتوبيخ على أنهم اتخذوا إرسال رجل منهم موضعا للعجب، فالرسول لَا يمكن أن يكون إلا رجلا منهم فلا يصح أن يكون ملكا من الملائكة كما قال تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
وقد كان تَعَجُّبهم لأمور ثلاثة:
أولها - أنه أوحى إلى رجل، وما كانوا يفهمون أن الرسالات تكون لرجال منهم.
ثانيها - أنه يتيم فقير، كان يسمى يتيم أبي طالب، وأنه ليس من الأغنياء وكانوا هم العظماء
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم).
ثالثها - أنه فوق هذا جاء للإنذار بالبعث فكان قولهم:
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
وفى هذا أشد العجب من أمرهم كما يقول تعالى:
(وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كنَّا ترَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .).
هذا تعجبهم، والإنكار التعجبي من عجبهم لتلك الحقائق الثابتة، والإرسال لا يكون إلا لرجل كما تلونا ولقوله تعالى:
(قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا
رَّسُولًا).
وأنكروا أنه يتيم فقير وهم يعلمون أنه من بيت الذروة من قريش، وإذا كان يتيم أبي طالب، فأبو طالب كان شيخ البطحاء وتدين قريش كلها له، كما كانت تدين لأبيه عبد المطلب ولجده هاشم، وأن النبوة لَا تُختار بالغنى ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكان محمد صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة تدين له قريش كلها بالخلق الكريم والصدق والأمانة حتى سُمي بالأمين ولا يمكن أن يكون المال والولد مقومات النبوة إنما الصدق والأمانة، والله هو الذي يختار كقوله تعالى:
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكم بِالَتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى. . .).
ولا ينبغي أن يعجبوا من الإنذار بالبعث والحساب والجزاء فإن هذه الدنيا متاعها قليل والعاقبة عند ربك للمتقين، وإن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى بل جعل حياته في الدنيا عاملا للخير أو عاملا لغيره، وفي الآخرة يكون الجزاء الأوفى.
ولننظر بعض نظرات إلى النسق السامي.
1 -
قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ منْهمْ) أكان للناس - ولهم عقول ومدارك - أن يتعجبوا من هذه الأمور.
2 -
(أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ)(أن) تفسيرية، وأنذر الناس هي لإيحاء الذي أوحاه الله تعالى لنبيه، والإنذار هو بيان ما يكون للكافرين من عذاب أليم، والبشرى بما يكون للمؤمنين من نعيم مقيم.
وقوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا) يقول الزمخشري عن معنى (اللام):
(وما الفرق أن تقول " أكان عند الناس عجبا ": أنهم جعلوه أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه علما يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم) ولعل المعنى الذي يريده
الزمخشري أن اللام تفيد هنا أن كان للناس عجبا أن يعجبوا من أنه أوحى إلى رجل منهم، وأن اللام تفيد الملك، أو الاختصاص أو الحق أي متى حق أن يتخذوا الرسول بالحق موضع تعجب واستغراب ثم استهزاء، وقال في بشارة المؤمنين وهو الجزء الأكبر من عمل النبي المبعوث (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) وقد بينا معنى البشارة والنذارة، ولم تذكر الجنان ولا النعيم المقيم كما ذي سبحانه في آيات كثيرة، ولكن ذكر ما يوجبه ويتادى إليه لَا محالة وهو أن لهم قدم صدقٍ عند ربهم وهي سبقهم إلى الإيمان والتصديق بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وهنا أمران بيانيان يجب أن نشير إليهما بمقدار ما ندرك.
أولهما - عبر عن السبق إلى الإيمان بقوله تعالى: (قَدَمَ صِدْقٍ) ونقول:
إن هذا مجاز عبر فيه باسم الجزء، وأريد الكل وذلك لأن المراد أن لهم السبق بالصدق، ولكن لأن السبق يكون بالقدم فهي التي بها يكون السير السريع أو البطيء فقد عبر عن ذلك بـ (قَدَمَ)، كما يقال في النعم:" لفلان أيادٍ عليَّ "؛ لأن الإعطاء يكون باليد عادة ".
الأمر الثاني - قوله تعالى: (صِدْقٍ) نقول أنه وعد، ووعد اللَّه صدق دائما ولكن المؤمنين أيضا قدموا بالصدق وهو الإيمان بالحق، فصدقوا الرسول وصدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه.
يقول الزمخشري: (فإن قلت لم سمي السابقة قدمًا؟ قلت لما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد).
وإضافة القدم إلى (صِدْقٍ) دلالة على زيادة فضل وإنه من السوابق العظيمة.