المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لجوجا، حتى كادت تزيغ قلوب فريق من هؤلاء المهاجرين والأنصار - زهرة التفاسير - جـ ٧

[محمد أبو زهرة]

فهرس الكتاب

- ‌(66)

- ‌(67)

- ‌(68)

- ‌(70)

- ‌(72)

- ‌(76)

- ‌(77)

- ‌(78)

- ‌(79)

- ‌(81)

- ‌(82)

- ‌(83)

- ‌(85)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(91)

- ‌(92)

- ‌(94)

- ‌(95)

- ‌(96)

- ‌(98)

- ‌(99)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(103)

- ‌(105)

- ‌(106)

- ‌(108)

- ‌(109)

- ‌(110)

- ‌(112)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(116)

- ‌(117)

- ‌(118)

- ‌(120)

- ‌(123)

- ‌(124)

- ‌(125)

- ‌(127)

- ‌(129)

- ‌(سُورَةُ يُونُسَ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(6)

- ‌(7)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌(12)

- ‌(13)

- ‌(14)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(20)

- ‌(21)

- ‌(22)

- ‌(23)

- ‌(25)

- ‌(26)

- ‌(27)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌(31)

- ‌(32)

- ‌(34)

- ‌(35)

- ‌(37)

- ‌(38)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(42)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(50)

- ‌(51)

- ‌(54)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(58)

- ‌(59)

- ‌(60)

- ‌(61)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(65)

- ‌(67)

- ‌(68)

- ‌(69)

- ‌(70)

- ‌(72)

- ‌(73)

- ‌(74)

- ‌(76)

- ‌(77)

- ‌(79)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(85)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(92)

- ‌(93)

- ‌(94)

- ‌(95)

- ‌(96)

- ‌(98)

- ‌(100)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(103)

- ‌(105)

- ‌(106)

- ‌(107)

- ‌(108)

- ‌(109)

- ‌(سُورَةُ هُودٍ)

- ‌(1)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(5)

- ‌(6)

- ‌(7)

- ‌(8)

- ‌(10)

- ‌(11)

- ‌(12)

- ‌(13)

- ‌(14)

- ‌(15)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(19)

- ‌(20)

- ‌(22)

- ‌(23)

- ‌(24)

- ‌(27)

- ‌(28)

- ‌(29)

- ‌(30)

- ‌(31)

- ‌(32)

- ‌(34)

- ‌(35)

- ‌(36)

- ‌(38)

- ‌(39)

- ‌(41)

- ‌(43)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(46)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(50)

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(54)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(59)

- ‌(60)

- ‌(61)

- ‌(62)

- ‌(63)

- ‌(64)

- ‌(65)

- ‌(66)

- ‌(70)

- ‌(72)

- ‌(73)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(76)

- ‌(77)

- ‌(79)

- ‌(81)

- ‌(84)

- ‌(85)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(88)

- ‌(89)

- ‌(90)

- ‌(92)

- ‌(93)

- ‌(94)

- ‌(95)

- ‌(97)

- ‌(98)

- ‌(99)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(103)

- ‌(104)

- ‌(105)

- ‌(106)

- ‌(107)

- ‌(108)

- ‌(109)

- ‌(111)

- ‌(112)

- ‌(113)

- ‌(114)

- ‌(115)

- ‌(117)

- ‌(118)

- ‌(119)

- ‌(121)

- ‌(122)

- ‌(123)

- ‌(سُورَةُ يُوسُفَ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(5)

- ‌(6)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌(12)

- ‌(13)

- ‌(14)

- ‌(15)

- ‌(16)

- ‌(17)

- ‌(18)

- ‌(20)

- ‌(21)

- ‌(22)

- ‌(24)

- ‌(25)

- ‌(26)

- ‌(27)

- ‌(29)

- ‌(31)

- ‌(32)

- ‌(33)

- ‌(34)

- ‌(36)

- ‌(37)

- ‌(38)

- ‌(39)

- ‌(40)

- ‌(41)

- ‌(42)

- ‌(44)

- ‌(45)

- ‌(46)

- ‌(47)

- ‌(48)

- ‌(49)

- ‌(50)

- ‌(52)

- ‌(53)

- ‌(55)

- ‌(56)

- ‌(57)

- ‌(58)

- ‌(59)

- ‌(60)

- ‌(61)

- ‌(62)

- ‌(64)

- ‌(65)

- ‌(67)

- ‌(68)

- ‌(70)

- ‌(71)

- ‌(72)

- ‌(73)

- ‌(74)

- ‌(75)

- ‌(76)

- ‌(78)

- ‌(80)

- ‌(81)

- ‌(83)

- ‌(85)

- ‌(86)

- ‌(87)

- ‌(89)

- ‌(90)

- ‌(92)

- ‌(93)

- ‌(95)

- ‌(96)

- ‌(97)

- ‌(98)

- ‌(99)

- ‌(100)

- ‌(101)

- ‌(102)

- ‌(103)

- ‌(104)

- ‌(105)

- ‌(106)

- ‌(108)

- ‌(109)

- ‌(110)

- ‌(111)

- ‌(سُورَةُ الرَّعْدِ)

- ‌(2)

- ‌(3)

- ‌(4)

- ‌(6)

- ‌(7)

- ‌(8)

- ‌(9)

- ‌(10)

- ‌(15)

الفصل: لجوجا، حتى كادت تزيغ قلوب فريق من هؤلاء المهاجرين والأنصار

لجوجا، حتى كادت تزيغ قلوب فريق من هؤلاء المهاجرين والأنصار ولكن اللَّه سلم، وارتدت أفئدتهم فتاب اللَّه تعالى عليهم بسبب تلك الخواطر التي جاشت، وكادت تضلهم وإن ذلك من رأفة اللَّه تعالى بهم، ولذا ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى:(إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رحِيمٌ) الضمير يعود على اللَّه جل جلاله، وهو مذكور قريبا من النص الكريم، وهو حاضر دائما في القلوب والعقول لمن تذكر، وتقديم الجار والمجرور في (بِهِمْ)، دليل على كريم العناية، يرأف بهم ويرحمهم، ويختصهم بذلك.

وكان في المخلفين ثلاثة تخلفوا من غير معذرة أبدوها، ومن غير سبب يبرر التخلف، وأحسوا بأنفسهم اللوامة تلومهم، وأمر النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بمقاطعتهم تأنيبا وتهذيبا، وتربية لضمائرهم، فهؤلاء بعد التجربة الشديدة تاب اللَّه تعالى عليهم، ولذا قال تعالى:

ص: 3469

(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‌

(118)

(الواو) عاطفة، والمعطوف عليه قوله تعالى على النبي والمهاجرين والأنصار، أي أن اللَّه تعالى تاب على النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار، وعلى الثلاثة الذين خلفوا بعد أن طهروا قلوبهم، ومنهم من خرج من ماله كله، ولنتكلم في معاني ألفاظ النص القرآني السامي.

ووصف اللَّه الثلاثة بأنهم (خلِّفُوا) أي تركوا، ولم يكونوا مع الذين نفروا للجهاد في تبوك، وعبر اللَّه تعالى بالبناء للمجهول، ولم ينسب إليهم أنهم تخلفوا، بل لم يذكر مَنْ خَلَّفَهُم، وإنما الواقع أنهم ما أرادوا القعود ابتداء، من وصف حالهم أنهم تباطأوا، وأخذوا يؤجلون يوما بعد يوم، حتى فاتهم الركب، فهم خُلِّفوا، ولم يريدوا التخلف ابتداء ولكن آل أمرهم إلى التخلف، وما أن

ص: 3469

بلغهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصل إلى تبوك، حتى أخذ الندم يغزو قلوبهم حسرة على أنهم لم يسارعوا، ولما لقيهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مغضبا منهم، إذ كان يعرف فيهم النجدة والإيمان، وكلهم كانوا من الأنصار، وهم مالك بن كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي.

ولقد تخلف منافقون فلم يبال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهم، وتخلف مؤمنون، واعتذروا فقبل النبي أعذارهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أحسوا بأنهم لا أعذار لهم، وأبوا أن يكذبوا فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى فيهم خيرا، ورأى فيهم قصورًا قد وقعوا فيه، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى أن يهذب نفوسهم بالاستنكار للفعل من جماعة المؤمنين فأمر المؤمنين ألا يخاطبوهم، ثم رأى أن يعتزلوا نساءهم، وألا يلقوهن، وأجاز لشيخ فيهم أن تلقاه امرأته، ولكن يعتزلها، ومكثوا على ذلك خمسين ليلة ثم نزل الوحي بقبول توبتهم، هذا ما يدل عليه قوله تعالى:(ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَت)؛ بتلك المقاطعة، أي أن الأرض باتساعها ورحبها صارت أضيق من كفة الحابل، لأنهم لَا يستطيعون الحركة لها، إذ فقدوا الأنس بالناس وخصوصا الذين طهرت نفوسهم، وزكت أرواحهم، ففي الكلام مجاز خلاصته أنهم شعروا بضيق الناس بهم لَا يقرئونهم سلامًا ولا يقولون لهم كلامًا أيا كان الكلام، لومًا أو عتابًا، أو تقريعًا، أو أي نوع من الكلام يسمعون، فعبر عن هذا بأن الأرض ضاقت بهم مع اتساعها ورحبها.

وانتقل تبرم الناس بهم إلى تبرمهم بأنفسهم، فصارت نفوسهم كأنها عبء ثقيل عليهم، (وَظَنُّوا أَن لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) الظن هنا بمعنى العلم، أي علموا أنهم لَا يجدون ملجأ من أمر الله تعالى إلا أن يلجأوا إليه هو، فاستقامت نفوسهم راجعة إليه بمعاودة التوبة وتكرارها، شاعرين بأنه راحمهم (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)(ثم) هنا للتراخي، لأنه قد مضت عليهم خمسون ليلة يحسون بالقطيعة، وبعد الخمسين تاب عليهم بأن أمر النبي والناس أن يقربوا إليهم، وألا

ص: 3470

يجافوهم، وأن يعيشوا بين المؤمنين، لأنهم منهم، وقوله تعالى:(لِيَتُوبُوا) أي ليجددوا توبتهم، ويداوموا عليها فيكونوا من التوابين الذين يرجعون إلى الله تعالى دائما، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، أي أن الله تعالى يقبل توبة عباده كثيرا فقال ما يدل على أن قبول التوبة النصوح المخلصة من صفاته، وقد قال تعالى في وصفه سبحانه:(غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ. . .).

ومن الخير في هذا المقام أن نذكر ابتداء غزوة تبوك ونهايتها، ونعرف كيف كان المهاجرون والأنصار، يتزاحمون على الذهاب مع شدة الحر، وإثمار الغرس وإحصاد الزرع، ولكن الجهاد أبقى وأوفر.

جاء في الصحاح أنه روى أن ناسًا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم من بدا له كره مكانه، فلحق به، وعن الحسن البصري، بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيرًا من مائة ألف درهم، فقال: يا حائط ما خَلَّفني إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله، ولم يكن لآخر إلا أهله، فقال: يا أهلاه ما أبطأني ولا خلفني إلا الضن بكم لَا جرم والله لأكابدن المفاوز حتى ألحق برسول الله، فركب ولحق به، ولم يكن لآخر لَا أهل ولا مال فقال: يا نفس ما خلفني إلا حب الحياة، والله لأكابدن الشدائد، حتى ألحق برسول الله فتأبط زاده ولحق به. . . وعن أبي ذر أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لما رأى سواده، " كن أبا ذر "، فقال الناس: هو ذاك فقال صلى الله عليه وسلم: " رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث "(1) وحده، وعن أبي خيثمة، أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله تعالى عليه

(1) رواه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 52. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 3471

وسلم في الضح، والريح!!. . ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح، فمد رسوله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال:" كن أبا خيثمة "، فكانه، ففرح به رسول الله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم واستغفر له. الكشاف للزمخشري.

وكان الثلاثة من هذا الصنف المخلص، ولكن لم ينبعث في نفوسهم ما انبعث في نفوس هؤلاء، وقد يكون الخاطر يخطر، ويحول مجرى النفس من اتجاه سليم إلى غيره، وقد يكون غيره، واللَّه عليم بذات الصدور.

هذا ذكر للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

ولنقص قصص الثلاثة كرواية أحدهم وأجرئهم في الحق مالك بن كعب.

لقد قدم النبي صلى اللَّه تعالى عليه السلام المدينة، وكان كلما قدم من سفر صلى ركعتين، ثم جاء المتخلفون وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فأبدوا معاذيرهم، فصدقها، ووكل باطنهم إلى اللَّه تعالى.

ولما جاء مالك بن كعب هذا ولنترك الكلمة له قال: " فلما سلمت عليه، فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟ فقلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا ولكن واللَّه لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكن اللَّه أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من اللَّه عز وجل، واللَّه ما كان لي عذر واللَّه ما كنت أفرغ ولا أيسر مني يوم تخلفت عنك، قال: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى اللَّه فيك، فقمت وقام إلى رجال من قومي، واتبعوني، فقالوا لي: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد

ص: 3472

كان كافيك من ذنبك استغفار رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم لك. فقال: فواللَّه ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.

قال: ثم قلت: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت فمن هما، قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي قال: ونهى رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فبلغنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباس فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم وأقول في نفسي: أحرك شفتيه برد السلام عليَّ أم لَا؟، ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال على ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك اللَّه، هل تعلم أني أحب اللَّه ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت له فنشدته فسكت ثم قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي من الدموع، وتوليت حتى تسورت الحائط فبينما أمشى بسوق المدينة إذا أنا بنبطى " أي فلاح "، من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة ويقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاء فدفع إليَّ كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه:

(أما بعد فقد بلغني أن صاحبك قد جافاك، وإن اللَّه لم يجعلك بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).

ص: 3473

فقلت حين قرأته: (إن هذا أيضا من البلاء، فَتَيممت به التنور، فسجرته).

حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يأتيني يقول لي: يأمرك رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟، فقال: اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر ما يشاء!! قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لَا، ولكن لَا يقربك، قالت: واللَّه ما به من حركة إلى شيء، وإنه واللَّه ما زال يبكي منذ ما كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.

فقال بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللَّه في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت: واللَّه لَا أستاذن فيها رسول اللَّه، وما أدرى ما يقول فيها إذا استأذنته، وأنا رجل شاب، فلبثنا عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.

قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على هذه الحال. . . سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج من اللَّه عز وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بتوبة اللَّه علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا. . . . وانطلقت أؤم رسول اللَّه، وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة اللَّه، يقولون لتَهنِكَ توبة اللَّه عليكم، حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللَّه جالس في المسجد والناس حوله فلما سلمت على رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور:" أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قلت: أمن عندك يا رسول اللَّه أم من عند اللَّه؟، قال:" لا بل من عند الله "، وكان رسول اللَّه إذا سر استنار وجهه.

ص: 3474

وذكر من بعد أنه كان من توبته أن ينخلع عن كل ماله، فقال:" أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فأمسك سهمه الذي أخذه في غزوة خيبر، وانخلع عن باقي ماله (1).

وهنا نقف وقفة قصيرة نتحدث فيها بثلاثة أمور:

أولها - لماذا أهمل أمر الذين تخلفوا وقدموا معاذير جلُّها كاذب، وأقلها فيه صدق، نقول: ترك أولئك لأن الكاذب منهم لَا يرجى منه خير، ولو عوقب ذلك العقاب ما أجدى معه، وربما عاند فزاد ضلالا، والنبي صلى الله عليه وسلم لَا يقدم على عمل يزيد الضلال ولا ينقصه، وربما كان الترك أجدى، والله يهدي من يشاء.

أما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا، والصدق بر وهو يهدي إلى البر، وكان لابد من أن يرحض عن نفوسهم ما علق من شائبة التخلف، وذلك بالهجر الجميل، الذي أحسوا فيه بمغبة عملهم، وزاد نفوسهم صفاء.

الأمر الثاني: أنهم صبروا أعنف الصبر وأقواه، وهو الصبر على الحرمان من الأنس بالناس، والالتقاء نفسيا بمن يحبونهم، ويخالطونهم، فإن الإنسان اجتماعي مدني، تعيش نفسه في وسط نفوس متجاوبة.

الأمر الثالث - أن استنكار القبيح، أو ما يظن فيه قبح يغسل النفس منه، وإن المجتمعات الفاسدة هي التي لَا يستنكر فيها فعل القبيح، ولو تكاثر عدد الصالحين، فالاستنكار مهذب الإثم، والله سبحانه هو الحكيم العليم.

* * *

(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: المغازي - حديث كعب بن مالك (4418)، ومسلم: التوبة - حديث توبة كعب بن مالك (2769).

ص: 3475

الصدق والجهاد قوة الأمم

قال اللَّه تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)

* * *

إن الصدق أخص ما امتاز به الثلاثة الذين خلفوا في الأرض، وكانوا صفوة اللَّه ورسوله، رحض خطأ التخلف عن نفوسهم، ولقد صبروا على الاختبار، وصقلت نفوسهم، حتى قال النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم لأحدهم:" إنك منذ الليلة عدت كما ولدتك أمك "، لذلك كان يناسب هؤلاء أن يكون الأمر العام بالصدق ليرتفع كل مؤمن إلى هذه المرتبة التي تولى اللَّه تعالى تربيتهم، ومن يتولى اللَّه تربيته يحسن هذه التربية، ويكون ربانيا.

يقول تعالى:

ص: 3476

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اقترن الأمر بالتقوى مع الأمر بالصدق والدخول في زمرة الصادقين؛ لأن التقوى هي

ص: 3476

امتلاء النفس بخشية اللَّه تعالى، والوقاية مما يغضبه ولا يرضيه، فهي وقاية من العذاب، ومن هذه الوقاية طلب الرضا، فلا يقي من غضب اللَّه إلا طلب رضاه بطاعته ومحبته وعبادته، وإن الصدق طريقها، وهما معا، " ولقد سئل النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: يكون، فقيل: أيكون بخيلا؟ قال) يكون، فقيل: أيكون كذابا؟ قال صلى الله عليه وسلم: لَا يكون المؤمن كذابا " (1) وقال في الأمر بالصدق (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي كونوا في صحبتهم رحمهم الله، مثل الذين صدقوا في تخلفهم وغيرهم من الصادقين، و (أل) للاستغراق تشمل كل صادق من المؤمنين، فلا يقصد جمع معين؛ لأنه لَا عهد ليعين ذلك الجمع، فاللفظ يكون على عمومه، وتكون للاستغراق وعموم أصل الصدق الذين يصير الصدق وصفا ملازما لهم، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللَّه صديقا "، ويقول صلى الله عليه وسلم: " إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا " (2).

والصدق ليس مقصورا في معناه على الصدق في الخبر، بل إن ذلك أظهره وأقربه، وإن كان يشمل صدق الإيمان بأن يؤمن باللَّه ورسوله، وأن يقوم بما يوجبه الإيمان، ويصدق في الجهاد، ويصدق أمام الناس في إيمانه، فلا يخالف لسانه قلبه ولا عمله قوله، ومن الصدق صدق النفس فلا يكذب على نفسه، فيحسن عمله وهو قبيح، ولا يخدع نفسه، ومن الصدق الإخلاص في كل ما يظهر على لسانه، فلا يخادع ولا ينافق، وفي الجملة الصدق ملاك الأخلاق الفاضلة، والإيمان الصحيح، والعمل الصالح.

(1) موطأ مالك: الجامع (1862) عن صفوان بن سليم رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 3477