الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يفيد أن اللَّه تعالى يحث المؤمن على أن يعيش في بيئة يكون فيها الصدق سائدا، والبر مسيطرا، فإن فساد البيئة الفكرية والخلقية يؤدي إلى عموم الفساد، والبيئة الصالحة، تهذب آحادها، وتجعل الشر يختفي والخير يظهر، وظهور الخير يدعو إليه، وظهور الشر يحرض عليه.
وقد حرض الله تعالى أهل المدينة بعد الأمر بالصدق على الجهاد؛ لأن الجهاد من صدق الإيمان كما أشرنا عند الكلام في معنى الصدق، فقال تعالى:
(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ
…
(120)
قوله تعالى: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم. . .) نفي للشأن والكون، أي ما كان من شأن أهل المدينة من مهاجرين وأنصار آووا ونصروا وهم أهل النجدة والإيواء، ومن حولهم من الأعراب الذين أشربوا الإيمان أن يتخلفوا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويؤثروا الدعة والراحة، ويتركوه وحده يكابد المشاق، ويتحمل المتاعب في سبيل عزهم ورفع دينهم، ما ساغ لهم ذلك، وهم يرغبون في الدعة وطيب العيش الرغيد، وقوله تعالى:(عَن نَّفسِهِ)، أي متوقفين عن نفسه في أن يرغبوا له ما رغب فيه لهم.
لقد قال الزمخشري في ذلك: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، لَا أن يقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنه أعز نفس عند اللَّه وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها، للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها، ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفس رحيمة.
والمعنى على هذا في قوله: (وَلا يَرْغَبُوا بِأنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ) أي لَا يصونوا أنفسهم عما يرغبون فيه من عيش رغيد هين، وظل ظليل فلم يصونوا أنفسهم عن رغباتها، كما لم يُصن نفسه عن رغباتها.
ولنا أن نقول: إن عن نفسه معناها متجاوزين نفسه، ولذا كان التعدي بـ (على)، و (لا) في قوله تعالى:(وَلا يَرْغَبُوا) لتأكيد النفي بـ (ما)، أي ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول اللَّه، ولا كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم، فتكرار النفي تأكيد له.
وإن هذا خبر في موضع الطلب بأبلغ معاني الطلب، فيكون المعنى لا تتخلفوا عن رسول الله إذ يخرج للجهاد، ولا ترغبوا في الدعة، والإقامة في بحبوحة العيش، وتتركوا الرسول يخرج للجهاد وحده وإن ذلك له جزاؤه، ولذا قال سبحانه بعد ذلك مبينا الجزاءة (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). الإشارة في قوله تعالى:(ذَلِكَ) إلى النهي المفهوم من قوله تعالى: (مَا كانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم).
إن هذا النفير من أهل المدينة المأمور به، والمنهي عن التخلف عنه، وألا يرغبوا بأنفسهم، كما فعل أبو ذر إذ خرج يتبع الرسول حتى حسب أن بعيره يبطئه عن الوصول إلى الرسول، فسار على قدميه يحمل متاعه وآلة الحرب، وكما فعل أبو خيثمة وكانت له زوجة حسناء، قد تزوجها حديثا، فرطبت له الأرض بالماء وفرشت له الحصير، وقدمت له الرطب والماء فتذكر الشدة التي فيها الرسول وصحبه من المهاجرين والأنصار، فترك ذلك كله، وركب بعيره حتى لحق برسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، كما ذكر ذلك بسبب أنهم قد أدركوا وفهموا وعد
اللَّه تعالى واللَّه لَا يخلف الميعاد؛ وبسبب أنهم (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش شديد كذلك الذي اعتراهم في تبوك حتى كادت أعناقهم تتقطع من العطش، لولا أن النبي استسقى السماء لهم فأغدقت. (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي جوع شديد، كالذي أصابهم في هذه الغزوة، التي فتحت الباب للشام، إذ أصابهم جوع شديد حتى إنهم كانوا يتقاسمون التمرة، (وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفارَ) أي لَا ينزلون أرضا تدخل في حماية الكفار، يكون وطؤها فيه غيظ لهم، إذا انتهكوا حمى أرضهم، ولم يستطيعوا حمايتها من جيش الحق والإيمان، وذلك فيه عنت شديد لهم وإهدار لحرمات أرضهم، وفي ذلك إذلال لهم بعد أن كانوا لَا يمس أحدهم حماهم الذي يحمون (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا)، بأن يحاربوا فيهزموهم.
أي أن ظمأهم الشديد، وجوعهم الذي صبروا عليه، ووطأهم أرض العدو الكافر التي كانت لَا ترام، ونيلهم من بني الأصفر الذين يتحكمون، ولا مسيطر عليهم أو محاسب، ما من أمر يقوم به أهل الإيمان إلا كتب اللَّه تعالى لهم به عملا صالحا عند الله، ينال أهل الإيمان به رضاه أولا - واعتزازهم بالحق ثانيا، وجنة النعيم ثالثا، ولذا قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، أي أن ذلك الجزاء العظيم أجر للعمل الصالح، وسماه سبحانه أجرا تكرما منه وتفضلا، وإلا فلا أجر إلا بفضله لأنه المنعم، والعبد ملك لسيده، وسمي الذين يقومون بحق الجهاد محسنين؛ لأنهم قاموا بما وجب عليهم، وأحسنوا الطاعة، وأبلوا فاحسنوا البلاء.
هذا نوع الجهاد بأنفسهم، إذ تركوا الراحة ومتعتها، وأثروا البلاء فأخذهم الظمأ، والجوع، ووطئوا أرض العدو ونالوا منه نيلا.
وهناك نوع الجهاد بالمال، وقطع الفيافي والقفار، وما يكون فيه من جهد بالمال، والنفس، وقد قال سبحانه فيه:
(وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
قد كان الجزاء على العمل الصالح، على المشقات التي تحملوها، والجهود التي بذلوها من ظمأ قطَّع رقابهم وأمعاءهم، ومن جوع حرموا فيه من الزاد، ووطء أرض العدو وما فيه من إذلال كما قال علي: ما وطئت أرض قوم إلا ذلوا، ومن نيل نالوه منهم، أما في هذه الآية فالجزاء على النفقة: صغيرة كانت ولو بسوط أو علاقته، أو كبيرة كتجهيز عثمان جيش العسرة رضي الله عنه، وإن السير في الفيافي والقفار، ولو لم ينالوا ويطئوا أرض العدو هو ذاته له أجر وجزاء. قوله تعالى:(وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا)، الوادي: المنفرج بين الجبلين، ويراد به هنا الأرض، لأن قطع الوادي لَا يكون إلا بقطع الجبلين اللذين تعرج بينهما، وقد قال الزمخشري: واديا أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سالَ، ومنه الودي، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون لَا تصل في وادي غيرك.
لا ينفقون ولا يقطعون أرضا إلا كتب لهم بذلك عمل صالح يستحقون عليه جزاء ما عملوا، ولذا قال تعالى:(أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي كتب لهم ذلك ليعطيهم سبحانه وتعالى جزاء (أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ)، وعبر عن الجزاء بالعمل ذاقه وقال:(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) لبيان المساواة التامة بين أحسن العمل والجزاء، وللإشارة إلى أن الجزاء ذاته مشتق من العمل فهو ثمرته، ولله تعالى الفضل والمنة.
وقبل أن نترك الكلام في معاني هاتين الآيتين اللتين فيهما تحريض على الجهاد ننبه إلى أمرين:
أولهما - أن قوله تعالى (وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نيْلًا) أن النيل في أصل معناه بمعنى الأذى الذي ينزل بالعدو، ويقال نال منه بمعنى: نكبه بما يسوء ويلحق به ضررًا. .
الثاني - أن قطع الوادي والوصول إلى العدو، هو ذاته خير، لأنه قصد بقطع الوادي فعل أمر مثوب عليه، ومن يسعى في خير كان سعيه مشكورا، ولو لم يتم الفعل، ولقد قال تعالى:(. . . وَمن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. . .).
* * *
الفقه والجهاد
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
* * *
التفقه في الدين فرض كفاية، وكذلك الجهاد في سبيل اللَّه، وقد قرر الإمام الشافعي أن فرض الكفاية، واجب على الكافة، وإذا ترك أثم الجميع الكافة والخاصة، ووجوبه على الخاصة يكون فرض عين، ولنبين ذلك بمثالين: أولهما - أن الفقه في الدين، وتعرف أسراره فرض كفاية، وعلى الأمة أن تسهل قيام هذه الطائفة التي تكون لعلم الإسلام، بتحفيظ القرآن، ورواية الحديث،
وجمعه، ويكون حينئذ تعليم الدين فرض عين على هذه الطائفة التي كان ذلك التعليم أول أعمالها، وإذا لم تقم هذه الطائفة أثمت الأمة كلها الكافة، لأنهم لم يقيموها.
والمثل الثاني - الجهاد في سبيل اللَّه تعالى فإنه على الكافة أن تهيئ الأسباب للقادرين، وتمدهم بالعدة، والنفقة، والجهاد عليهم فرض عين فإن تخلفت الأمة عن الجهاد أثمت كلها.
وهذه الآية
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنونَ) وما بعدها تحدنا في هذين الفرضين حدا جامعا.
يقول تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ).
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ) هذا نفي مؤكد لنفورهم للحرب كافة نفيا مؤكدا وقد أكدته لام الجحود، والمعنى ما ساغ ولا صح أن ينفر المؤمنون كافة للجهاد، بحيث تخلو المدينة ممن يقوم بحق اللَّه تعالى، وحق العلم بالدين والفقه في القرآن. فاللام لتأكيد النفي - إذ مقتضى السياق ما كان المؤمنون أن ينفروا فجاءت (اللام) لتأكيد النفي.
وقد بين سبحانه من الذين لَا ينفرون، فقال:(فَلَوْلا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَةٍ منْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، فهنا نفوران، واحد منفي، وواحد مثبت، فأما المنفي، فهو النفور للجهاد، وهو منفي عن الكافة أي ليس للكافة أن ينفروا جميعا للجهاد، والنفير الثاني المثبت المحرض عليه، أن ينفر من كل فرقة طائفة - أي ناس متخصصون في التفقه في الدين، وهؤلاء ينفرون لهذا العلم من كل فرقة مقدار من الناس. واحد أو اثنان أو أكثر عددا، وإنهم ينفرون من فِرَقِهم إلى الرسول، وينفرون بعد تفقههم إلى قبائلهم.
وكان المؤمنون ينقسمون إلى قسمين أحدهما ينفر للجهاد، والآخر يبقى في المدينة، متعلما فقه الدين، وينفر إلى الرسول ليعلمه، ويرجع إلى قومه لينذرهم.
وهنا ملاحظات بيانية.
أولاها - أن مسمى الاتجاه إلى الفقه يدرسه نفير؛ لأنه أولا ينفر له ناس لدراسة القرآن وفقه الإسلام إلى النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، ثم يرجع إلى أهله، ولأن العكوف على علم الإسلام لَا يقل فضلا عن الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، وأنه جهاد مثله؛ لأنه من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيجاب، والجهاد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر برفع الاعتداء وتمهيد السبيل.
الثانية - أن قوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ. . .)(الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كان المؤمنون لَا ينفرون للحرب كافة، فإن طائفة تخصص للفقه لينذروا قومهم إذا رجعوا، وقوله تعالى:(فَلَوْلَا)، لولا هنا للتحريض على الفقة في الدين.
الثالثة - أن الفقه هو العلم، وهو العلم النافذ الذي يخترق العوائق لإدراك لب الدين، ويقول الغزالي في هذا المقام: كان الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدة الأعمال، والإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب.
الرابعة - أن اللَّه تعالى قال: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، ولم يقل لعلهم يتفقهون، وذلك لأن الخوف من عذاب اللَّه تعالى وتقليل الخوف من العذاب هو ثمرة الفقه في الدين.
الخامسة - أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي رجاء أن يحذروا أو يخافوا، والرجاء منهم لَا من اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللَّه تعالى عنده غيب السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير.
وقد تكلم الرواة في هذه الآية على الآثار الواردة عن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في مقام العلم بجوار الجهاد، وأن الآثار التي وردت في فضل العلم لا تقل عن الآثار التي وردت في فضل الجهاد، وكلاهما ينبعان من نبعة واحدة وهي إعلاء كلمة اللَّه، فالأول لبيان الحق، والثاني للذود عن حياضها، وتغيير السبل أمامها، حتى لَا يعوقها طاغ من طغاة الأرض، وقد روى أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال " طلب العلم فريضة على كل مسلم "(1).
ولقد روى الترمذي من حديث أبي الدرداء، أن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال:" من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهَل اللَّه له به طريقا إلى الجنة "(2)، وروي أن رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال:" فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم "(3).
وإن هذا الوصف هو للعالم الذي فقه في الدين، واعتز به، ولم ينافق فيه، ولم يتخذه سبيلا للعلو والفساد واجتياز المجالس عند الأمراء ونيل الدنيا به، وبالنفاق والكذب، والافتراء على اللَّه، ولقد قال الزمخشري في هذا الصنف من العلماء، ويظهر أنهم كثروا في عصره عندما انزلق العلماء إلى موائد السلاطين. فقد قال رضي اللَّه تعالى عنه فيما ينبغي للعلماء:
" وليجعلوا غرضهم، ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم، وإرشادهم، والتصغية لهم، لَا ما يتجه إليه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمُّون به من المقاصد الركيكة من القصور والترؤس، والتبسط في البلاد، والتشبه بالعظمة في ملابسهم، ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا، وفشو داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح لأحدهم مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه
(1) سنن ابن ماجه: المقدمة - فضل العلماء والحث على طلب العلم (224).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
رواه الترمذي: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2685). وابن ماجه: المقدمة - من قال العلم الخشية وتقوى الله (289) بلفظ مقارب.