الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للحاضر والغائب، وما يسُّر به الإنسان وما يجهر، وما يستخفى ويظهر، فقال تعالت كلماته:(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ).
هو تأكيد ما تضمنته الآية السابقة من علمه بما في الأرحام منذ وجودها فيها ومكنونها، وأدوارها، وقابلها، وكان التأكيد بذكر عموم علمه للغائب والحاضر، والغيب مصدر غاب، وأطلق على ما يغيب حتى اشتُهر، فيه مبالغة في غيبه عن الرؤية والحس، والشهادة من شهد بمعنى حضر، ثم أطلقت على ما هو حاضر محسوس، مبالغة في حضوره والحس به، والمعنى: عالمٌ بما يغيب عن الحس، وما هو محسوس حاضر، وقال (عالم) ولم يقل يعلم، للإشارة إلى أسمائه وأنه صفة ملازمة له سبحانه وتعالى، وذكر الغيب والشهادة لإثبات أن علمه واحد بالشاهد والمغيب على سواء؛ لأنه علم محيط، لَا يفترق فيه شيء عن شيء.
ووصف ذاته العلية بأنه فوق البشر وفوق كل ما هو من شأن البشر، فقال:(الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) الكبير أي المجسم في قدرته وإرادته، وكمال سلطانه وتدبيره وخلقه لكل هذا الوجود بسمائه وأجرامه وكواكبه وسياراته، وأرضه، وكل ما هو مسخر في هذا الوجود (الْمُتَعَالِ) أي التسامي في صفاته، وفي كل ما هو من شأنه فلا يشبه شيئا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى اللَّه سبحانه عن مشابهته للمواد علوا كبيرا وهو الواحد الأحد الفرد الصمد.
ثم بين سبحانه وتعالى علمه بالناس في سرهم وجهرهم، في خواطرِ نفوسهم وما تنطق به ألسنتهم، فقال تعالى:
(سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ
…
(10)
التفت سبحانه وتعالى من الغيبة إلى الخطاب عندما تحدث بعلمه عن الأحياء، فقال:(سَوَاءٌ منكم مَّنْ أَسَرَّ. . .) ليشعر الأناس من خلقه بأنه معهم، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم ويخاطبهم سبحانه وتعالى، وهذا إشعار لهم بمقام المشاهدة ليتجهوا إليه؛ ليحسوا برقابته، وكمال شهادته.
و (سَوَاءٌ) بمعنى يستوي منكم من أسر القول فلم ينطق بما تحدثه به نفسه، ومن يجهر بما في قلبه فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، يعلم ما يجول بالخواطر وأحاديث النفس، وما يجهرون به، يعلم ما يبيتون وما يظهرون، يعلم النيات والأعمال على السواء، فهم تحت رقابته وعلمه، وهو بكل أحوالهم محيط فيما يسرون، وما يعلنون، ويكون (مَنْ) فاعل يستوي.
(وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) المستخفي بالليل: السين والتاء للطلب، أي من هو طالب للاختفاء بالليل، فهو لَا يكتفي بخفاء الليل وظلمته، بل يطلب خفاء آخر بأن يكون في كُنّ من الأرض مستور لَا يعلمه أحد، و (السارب)، هو السائر في سِرب، أي في طريق ظاهر بالنهار، فحاله لَا تخفى على أحد؛ لأنه في وضح النهار، ولأنه سائر في سربه معلوم، وذكر هذا بجوار الاستخفاء بالليل للدليل على أنه لَا تفاوت في علمه بين الظاهر والخفي، بل الجميع في علمه على سواء، إنما التفاوت يكون فيمن يكون علمه مبنيا على الحس فيختلف عنده المحسوس عن غير المحسوس، وعلم اللَّه سبحانه وتعالى ذاتي، كل المعلومات عنده سبحانه وتعالى على سواء، ولإشعار الناس جميعا بأنهم تحت سلطان علمه المحيط.
ولقد قال العلماء: إن (سَوَاءٌ) بمعنى الاستواء تكون لمعادلة اثنين، ولا شك أن (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) عطوف على (مَّنْ أَسَرَّ)، فتكون سواء داخلة عليه، لأن عطف النسق على نية تكرار العامل، فسواء مقدرة في الاستخفاء، وسارب، فما هما المتعادلان؛ قالوا: إن (مَنْ) مقدرة في قوله تعالى: (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) لأنها معطوفة على (مُسْتَخْفٍ) فتقدَّر (مَنْ) الداخلة على (مُسْتَخْف)، وليس في هذا كبير خفاء.
وقد بيّن سبحانه إحكام رقابته على عباده ورعايته لهم فقال تعالى:
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين علم اللَّه تعالى بالغائب والحاضر علما واحدا، وعلم الإسرار والجهر علما واحدا، لَا فرق في علمه بين إسرار النفوس وجهار الألسنة، وأنه يعلم المستخفي في ظلام الليل كعلم السارب بالنهار على حد سواء، وفي هذه الآية:(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ) الآية تبين أن علم اللَّه تعالى يحيط بالحسنات والسيئات، ويحفظ الإنسان في حياته ما دام حيا، وكل بأمره، ويعرف حاضر أمره وقابله وتفسير أحواله وأسباب التغير كل في علم اللَّه تعالى وكل بإرادته، فالمستغرق في ضلاله يعلمه ويغير ما به إذا غير - ما بنفسه؛ ولذا قال تعالى:(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ)" المعقبات " جمع معقبة، والتاء للمبالغة مثل علَّامة وفهَّامة، فإنها تدل على المبالغة في العلم والفهم، ومثل رحالة ونسابة، فإنها تدل على كثرة الرحلة، ودقة العلم في النسب.
والمعنى تعقبه فهي تكون ملازمة له محتذية عقبه لَا تختلف عنه، والضمير يعود إلى الإنسان المتحدث عنه في قوله تعالى:(سَوَاءٌ منكَم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) فكما أن اللَّه تعالى يعلم سره وجهره، واستخفاءه وظهوره، قد أحاطه بمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحيطون به إحاطة الدائرة بقطرها، وهم من الملائكة يحصون عليه ما يفعل من خير وشر، ويكتبون ما يفعل من حسنات وسيئات، ولقد قال تعالى: إنها مع هذه الإحاطة الشاملة به وأنهم يعدون عليه سيئاته وحسناته، مع هذا فإن عمل هؤلاء الملائكة أنهم يحفظونه من أمر الله تعالى، ويقول الزمخشري: إن قوله تعالى: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) صفتان، أي بعد (مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ).
وتقدير الصفة الأولى، أي أن هذه المعقبات (تحفظه)، وقوله:(مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) صفة ثانية أي يحفظونه لأنه أمرهم بذلك، وكلفهم الحفظ وصيانته، وقال الزمخشري: إنه يؤيد لذلك قراءة (يحفظونه بأمر الله) فهم مكَّلفون الحفظ بأمر اللَّه تعالى.
ويصح أن يكون (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ليست وصفا جديدا بعد (يَحْفَظُونَهُ)، إنما التقدير يحفظونه من أمر اللَّه، أي مما كتب اللَّه تعالى عليه أن ينزل من صواعق أو خسف، أو غير ذلك من ملمات الأمور، فاللَّه سبحانه ينزل عليه ما قد يؤذيه، ويكلؤه بحفظه من الملائكة يحمونه، وكلا الأمرين بعمل من اللَّه تعالى، فهو رحيم في ابتلائه، ويقارب هذا المعنى ما قاله شاعر العربية في زمننا شوقى، إذ يقول:
وقى الأرض شر مقاديره
…
لطيف السماء ورحمانها
فاللَّه تعالى ينزل البلاء، وينزل معه الحماية والاتقاء.
ويصح أن نقول: إن المعنيين مرادان، إذ لَا تناقض بينهما، ويمكن الجمع فيهما إعمالا للقراءتين، فالحفظ بأمر اللَّه، ومما ينزله تعالى من أمور تكرثه كتعرض للغرق أو الحرق أو غير ذلك، وإن كل شيء بقدر، وكتبه اللَّه تعالى.
وإن التعبير عن الكوارث والنوازل بأنها من أمر اللَّه تعالى ينبئ بأن ذلك يكون في كثير من الأحيان عن معاصي يرتكبها الناس في ذات أنفسهم، أو مجتمعهم، أو تخاذلهم عما أمر اللَّه تعالى به من أخذ الأهبة.
وقد أشار سبحانه وتعالى أن الريح الصرصر العاتية قد تجيء بسبب الظلمِ، فقال في شأن الخير الذي يفعله الكافرون من غير إيمان (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
وقد صرّح اللَّه سبحانه وتعالى بأن المعاصي والمفاسق يصيب أصحابها بالجوع والفقر، فقال:(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112).
هذا بعض ما يدل عليه قوله تعالى: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي أن المحن تكون بأمر اللَّه ويحفظ الناس بحَفَظةٍ من الملائكة حتى لَا يعم الهلاك.
وإن الوقاية ليست في حفظ الملائكة فقط، بل إن تغيير الحال من ظلم إلى عدل، والنفوس من انحراف إلى استقامة، هو الحماية الكبرى، ولذا قال تعالى عقب حفظ اللَّه بالملائكة عند نزول قدره:(إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
والمعنى الجملي أن اللَّه تعالى لَا يغير ما بقوم حتى يغيروا أنفسهم، فإن كانوا في خير يأتيهم رزقهم رغدا من كل مكان لَا يغير حالهم إلى ضراء وبأساء إلا إذا غيروا أنفسهم من خير إلى شر وانحراف، ولا يغير اللَّه حال قوم أصابهم الضر والشر والخذلان والهزيمة أمام أعدائهم، إلا إذا غيروا حالهم من فساد إلى صلاح، ومن تخاذل نفس وتفرق كياني إلا إذا غيروا أنفسهم واجتمعوا على الحق، وتركوا التنابز والتدابر، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بالجملة الاسمية، وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة اسم اللَّه العلي الأعلى القادر على كل شيء وبالغاية (حتي)، فجعل تغير الحال الأليمة إلى حال صالحة راضية منتفية إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، أي إنهم يستمرون في الآلام تنزل بهم إلى أن يغيروا أنفسهم.
وما أحرانا نحن المسلمين بالاعتبار بهذه الآية، لقد كنا أعزّة بعزة اللَّه تعالى حتى تفرقنا، وأضعنا أحكام القرآن بيننا، حتى صارت غريبة تستغرب إذا ذكرت، وضاعت لغتنا، واستنكرت حال من يستمسك بها، وتقاتل المسلمون بعضهم ببعض، ووالوا الكفار واستنصروا بهم على بعض وصرنا وراء كل الأمم، فهل لنا أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير اللَّه حالنا.
ولكن أراد بنا هذا التخاذل، وقد قال:(وِإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْم سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ). (السوء) ما يسوء الأمم من الهلاك أو الهزيمة، أو الخسران، أو الحرمان، أو الفساد والدمار، إذا أراد اللَّه تعالى ذلك وأشباهه، مما تضيع به الأمم وتذهب قوتها من أعمالها، بأن ارتكبوا الشر واستعذبوا فعله، إذا أراد اللَّه ذلك بسبب ما في نفوسهم وما يرتكبون فإنه نتيجة حتمية لعملهم، وأراده اللَّه تعالى فيهم بسبب سوء ما يصنعون.
وقد سمعنا أن شر حاكم رآه التاريخ الإنساني أصيبت بلاده التي حكمت به بسبب تقاصره، وظلمه، وقتله الأنفس البريئة وطغيانه المستمر الدفين، ذُكِّر بالصلاة فقال: كيف أصلي له وهو لم ينصرني، ونسي أنه سبب الهزيمة النكراء، وإذا كان ما ينزل بسبب الظلم، وأراد اللَّه النزول كمسبب يكون ثمرة للاعتداء فإنه لا يرد، و (مرَدّ) مصدر ميمي، بمعنى الرد، ثم أكد أن الشر لَا محالة نازل بمن ظلموا أنفسهم، فقال تعالى:(وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)، أي ليس لهم غير اللَّه من والٍ يواليهم وينصرهم ويدفع عنهم.
وقوله تعالى: (وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)(مِنْ) الثانية لاستغراق النفي، والمعنى ليس لهم من غير اللَّه أي والٍ من العباد أو غيرهم، لأن ما ينزله اللَّه لا يدفعه أحد من عباده.
بعد أن بيّن سبحانه وتعالى علمه الشامل بكل شيء بين مظاهر الخلق والتكوين قال تعالى:
* * *
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
* * *
بيّن اللَّه سبحانه في الآيات السابقة ما يسير الإنسان، وعلم اللَّه المحيط الذي يشتمل ما يظهر وما يختفي، والمعقبات التي تحفظ وتحصى ولا تُرى.
ثم بين سبحانه وتعالى ما يرى وما يسمع، وما يحرق، واللَّه مسيّره، وموجهه، بحيث ترى آثاره، ولا يكون من الإنسان تفاعله، بل يتولى أمره رب العالمين، فقال تعالى:
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) الضمير يعود على اللَّه تعالى الذي يكون الحفظ من أمره، ومن كل ما يقدره، فهو الذي يرينا البرق حالة كوننا خائفين من منظره، ومن عاقبته، طامعين في أن يعقبه مطر يكون غيثا، وخائفين من أن يكون غيثا مدمرا مفسدا. والبرق ينشأ عند اصطدام سحابتين بعضهما ببعض فيحدث من الاصطدام النور البارق. ويقول علم خواص الأجسام: إن إحدى السحابتين تكون ذات كهرباء موجبة، والأخرى ذات كهرباء سالبة، فيحدث من احتكاكهما برق، ويكون معه الرعد، بيد أن الرعد لَا يصل إلى الأسماع إلا بعد فترة من رؤية البرق؛ لأن الرعد صوت الاصطدام والبرق صوته، ولكي يصل الصوت إلينا يمر بأجواء الفضاء فلا يصل إلى مسامعنا إلا بعد فترة يقطع فيها مروره، والصواعق إذا كانت أحيانا من هذا الاصطدام تكون مع البرق في فترة واحدة تقريبا. وهذه الآية تبين رؤية البرق، والتي تليها تبين سماع هزيم الرعد، والثالثة تبين إصابة اللَّه تعالى بالصواعق لمن يشاء.
ولقد ذكر سبحانه في الآية الأولى أنه يُرى الناس البرق خائفين طامعين، وذكر بعد البرق السحاب الملوء ماء، فقال سبحانه:(وَينشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) السحاب اسم جنس جمعي لسحابة، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو ياء النسب، مثل شجر وشجرة، ومثل عرب وعربي، فمفرده كما رأيت سحابة، والثقال جمع ثقيلة، وعبر سبحانه وتعالى بالنسبة للسحاب بأنه أنشأها، ولم يقل سيرها؛ لأن اللَّه تعالى يشير بذلك إلى رحمته بالناس، أي أن ماء البحر الملح يتبخر ثم يتكاثف ماءً عذبا، يثيره سبحانه وتعالى سحابا مملوء بلاء، فبين أنها ثِقالا لَا تحمله من هذا الماء العذب الفرات، ويرسلها لمن يشاء من
عباده، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43).
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى مزية البرق المثير للخوف والطمع معا ذكر ملازمها وهو الرعد فقال:
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ).
للمفسرين اتجاهان في هذا:
الاتجاه الأول: أنه يفسر الرعد بمن يسمعه، فالتسبيح ليس تسبيح الرعد ولكن تسبيح من يسمعه؛ لأنه يكون خائفا فزعا، كما يكون الفزع من كل صوت مزعج، فيجعله الخوف والفزع في حال إدراك لقوة منشئه كما تكون النفس عند رؤية أي أمر مزعج.
والاتجاه الثاني: أن الرعد ذاته يكون في حال تسبيح اللَّه تعالى وحده؛ لأن هذا الصوت المزعج الرهيب المفزع يكون خاضعا للَّه تعالى، دالا على توحيده، وعلى كمال سلطانه، فكل شيء يسبح بحمده ولكن لَا تفقهون تسبيحهم.
وإني أميل إلى الاتجاه الثاني؛ لأنه يتفق مع النسق القرآني، إذ إن النسق القرآني يبين خضوع الكون ومظاهره للَّه تعالى مسبحًا بحمده، وهي تدل على الباعث على هذا التسبيح، وهو حمده على نعمة إيجاده، وكمال خضوعه.
وقوله تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي من خوفه ووانه، و (خيفة) بكسر الفاء، وهي هيئة الخوف، أي هيئة الخوف الرهيب من اللَّه تعالى، فلا يدرك عظمة اللَّه القوي الجبار إلا من يكون قريبا منه سبحانه وتعالى. ومع تسبيح الرعد بهزيمه، والملائكة الأبرار بخيفتهم من اللَّه، ينزل اللَّه تعالى الصواعق وهي من احتراق البرق، فالبرق يحدث معه الرعد، وأحيانا يكون السحابتين السالبة والموجبة محدثة شرارًا ينزل على الأرض فيحرق ما يصيبه ومن تصيبه؛ ولذا قال تعالى:
(وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ) ومع هذا البرق الخاطف للأبصار الذي يرونه ويفزعون له، ويرجون المطر منه، وهزيم الرعد الذي يسبح للَّه تعالى، وتسبيح الملائكة من خيفته، وإرسال الصواعق الحارقة مع رؤيتهم هذه الظاهرة الدالة على القدرة القاهرة، والإبداع الباهر يجادل المشركون في اللَّه؛ ولذا قال تعالى:(وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ) يجادلون في قدرة اللَّه تعالى على إعادتهم في البعث، كما بدأهم، ويجادلون في اللَّه فيحسبون أن الأحجار تعبد لأنها تكون شفيعه عنده، ويجادلون في قدرتها فيحسبون أن لها قدرة مع قدرته سبحانه وتعالى، وغير ذلك من الأوهام الفاسدة التي يثيرونها حول الذات العلية، والجدل من جدل الحبل إذا فتله فتلا شديدا ليحمل به الأشياء الثقيلة، ويشد عليها، واستعمالها هنا بمعنى فتل الحجة الباطلة يريدون أن يعتمدوا تفكيرهم الفاسد، ووهمهم الباطل عليها، (. . . وَكَانَ الإِنسَان أَكْثَرَ شَيْء جَدَلًا).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك أن جدلهم في هباء أمام قدرة اللَّه تعالى، فقال سبحانه وتعالى:(وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) الضمير في (وَهوَ) يعود إلى اللَّه تعالى، والمحال: قال الأزهري: إنه القوة والشدة، ويقال: ماحلت فلانا أي قاومته حتى يتبين أينا أقوى، ومِحَال فِعَال من المماحلة، أي أنه لَا يغالبه في الوجود أحد فهو أقوى من كل الوجود، ومع ذلك يجعلون ذاته الكريمة موضع جدال. ولكنه الضلال الذي أوجد غمة على العقول فلا تدرك الحق المبين الواضح الذي قامت فيه الدلائل على قوته القاهرة.
ويجادلون في اللَّه بأوهام توهموها؛ ولذا بين سبحانه وتعالى أن دعوة اللَّه هي الحق ودعوة أندادهم هي الباطلة، فقال تعالى:
(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
بعد أن بين سبحانه علمه الذي لَا يفرق بين جهر وإسرار، وإخفاء وإظهار وقدرته الباهرة ويرونها عيانا في آياته في البرق والرعد والصواعق:(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) الضمير في (له) يعود إلى اللَّه جل جلاله، وتقديم (له) على ما بعدها يدل على الاختصاص أي له وحده لَا لغيره دعوة الحق.
و (دَعْوَةُ) إما أن تفسرها بمعنى الدعاء وهو العبادة، أي له وحده العبادة الحقة، والإضافة بيانية، أي أن المضاف إليه فيه بيان للمضاف، أي الدعوة التي هي الحق، والحق ضد الباطل أي العبادة الثابتة الصادقة التي هي الحق، وغيرها الباطل. وإما أن يفسرها بمعنى الطلب، والالتجاء، أي لَا يلجأ إلا إليه، ولا يجيب غيره دعوة اللاجئين المستغيثين، ولا مانع من إرادة المعنيين، لأنه لَا تضاد بينهما، ولا تضارب، فيمكن الجمع بينهما، ويكون المعنى العبادة هي الحق، ولا التجاء بحق إلا له سبحانه، وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك بطلان دعوة غيره، فقال تعالى:(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كبَاسِطِ كَفَّيْه إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ).
كثر في الكلام العربي تشبيه الذي لَا يقبض على شيء ثابت بالقابض على الماء، لأنه لَا يستقر في يده؛ إذ لَا يمكن القبض عليه، وجاء القرآن الكريم بأبلغ مما عند العرب في هذا المثل الرائع في لفظه ومعناه، فشبه حال من يدعو غير اللَّه بحال من يبسط يده للماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، أي ليرتفع إلى فمه، وما هو من شأنه أن يبلغه؛ ولذا كان النفي باسم الفاعل، فنفي عن الماء ذلك الوصف، ونفي الوصف أبلغ من نفي الفعل، والتشبيه تشبيه تمثيلي، فيه تشبيه حال بحال، ففيه حال من يدعو ما لَا يضر ولا ينفع ولا يجيب، ولا يدرك معنى الطلب أو العبادة، بحال العطشان الذي أمضه العطش، فيطلب من الماء أن يرتفع إلى فمه إذا بسط يده، ومد أنامله إليه على قرب أو بعد، فإن الماء لَا يجيء إليه، ولا يستطيع أن يتناول منه بهذه الطريقة ما ينقع غلته ويطفئ ظمأه.
ولقد روي عن علي كرم اللَّه وجهه في تفسير هذا التشبيه: كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لَا يناله أبدا فكيف يبلغ فاه.
وفسره مجاهد - تلميذ ابن عباس - بأنه يبسط يده إلى الماء في نهر أو عند غدير يدعوه إليه فلا يأتيه.
وأغرب بعض المفسرين فقال: إن المثل هو تشبيه حالهم في دعوتهم ما لا يضر ولا ينفع بمن يرى خياله في الماء يبسط يده إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه.
وكلها يفيد معنى محققا في عبدة الأوثان، وهو أنهم يتوهمون القدرة فيما لَا قدرة عنده على شيء، وهو مستحيل أن ينفع، وأن يحقق مبتغى.
وهنا إشارات بيانية:
أولاها: قوله تعالى: (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ) فقد أعاد الضمير على الأنداد بضمير العقلاء، وذلك على زعم المشركين في وصفهم إياها في صفوف العقلاء المدركين، وليست إلا أحجارا، وقال تعالى:(لا يَسْتَجِيبونَ لَهُم بِشَيْءٍ) الباء لاستغراق النفي، وتنكير (شيء) لبيان عموم النفي، أي لَا يستجيبون بأي شيء من الاستجابة.
الثانية: في قوله تعالى: (كبَاسِطِ كَفَّيْهِ) هنا مضاف محذوف، أي إلا كاستجابة باسط كفيه، والاستجابة مستحيلة، فتكون استجابة أندادهم مستحيلة.
الثالثة: في قوله تعالى: (لِيَبْلُغَ فَاهُ) فيه بيان وجه الاستحالة؛ لأنه يمكن أن يكون بلل الماء، ولكن لَا يمكن أن يرفع إلى الفم، فكأنه يرى الماء والعطش يقتله، وبمحاولته لَا ينال شيئا، فتعبه في هباء، ومن غير جدوى، ولقد قال تعالى:(وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).
ومعناها: ما دعاء المشركين الذين يشركون الأنداد مع دعائهم لها بالعبادة، والالتجاء في الحاجة إلا في ضياع إجابة له، فضراعتهم للأنداد ضراعة لأوهام، إذ