الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولا - قوله (أَرَأَيْتُمْ) هو استفهام عن الرؤية البصرية أو القلبية، وقد قلنا: إن الكلام يتضمن تصوير العذاب الذي يستهزئون به أنه لم يقع، والزمخشري يقول:(أَرَأَيْتُمْ) تدل على طلب الإخبار، أي أخبروني ما هي حالكم إذا نزل بكم العذاب بياتا أو نهارا.
ثانيا - عبَّر سبحانه عن نزوله ليلا بقوله: (بَيَاتًا) للدلالة على السكون والاطمئنان وأنه يجيئهم وقت اطمئنانهم وسكونهم فيكون أشد وقعا.
ثالثا - إن جواب الشرط في قوله تعالى: (إِنْ أَتَاكمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا) محذوف وهو الندم على الاستعجال والإحساس بالهول الشديد.
رابعا - قوله تعالى: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) وصفهم بالإجرام، أولا والإشارة إلى سبب إنكار البعث وعذاب اللَّه الذي يستحقونه وهو إيغالهم في الجريمة وللتوبيخ على فعلتهم، وقد قال في ذلك الزمخشري:" إن في حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وان أبطأ فضلا عن أن يستعجله ". فيشير بهذا إلى أنهم كان يجب عليهم أن يشعروا بالجريمة وأنها تستدعي عقابا لَا محالة؛ وذلك يوجب عليهم أن يتوقعوه لَا أن يستعجلوه.
إن وعد اللَّه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم آت لَا محالة يوم لَا ينفع نفس إيمانها بعد أن كفرت، ولذا قال تعالى:
(أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ
(51)
(ثُمَّ) عاطفة وهي للترتيب والتراخي، والترتيب هو ترتيب الاستفهام بعد الاستفهام، والاستفهام السابق كان لتصور العذاب وحالهم عنده ليعتبروا ولا يستعجلوا، وجاء الاستفهام الذي يليه وقد وقع العذاب فعلا؛ فالأول كان لتصوير العذاب متوقعا، والثاني لوقوعه بهم والتفاوت بينهم كالتفاوت بين المتوقع والواقع والتصور والحقيقة، وفيه الإشارة إلى أنهم لماديتهم لَا يؤمنون إلا بما يرون.
والتوقع هو ما يريد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوقعوه ويتصوروه، وإلا فهم مكذبون مستهزئون.
و (ثُمَّ) متأخرة والتقديم للاستفهام؛ لأن له الصدارة وتقدير القول أنه إذا ما وقع ورأيتموه رأي العين في الآخرة آمنتم به وصدقتموه، وقد قضى زمن التكليف وانتهت دار الابتلاء وجاءت دار الجزاء، إنه إيمان لَا ينفع.
ثم أردف سبحانه ذلك بتوبيخهم على تأخرهم في الإيمان واستعجالهم العذاب فقال سبحانه: (آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلونَ) أي تؤمنون به في هذا الوقت المتأخر وقد كنتم مكذبين وتستعجلون مُتحدين أو متهكمين أو ساخرين، فالاستفهام إنكاري توبيخي، والتوبيخ من نواح ثلاث:
أولاها - من ناحية إنكارهم البعث.
ثانيتهما - من ناحية تهكمهم على من ينذرهم.
ثالثتها - أنهم لَا يؤمنون إلا في الوقت الذي لَا ينفع النفس إيمانها.
وقوله تعالى: (وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) يقول كثير من المفسرين التابعين للزمخشري: (تَسْتَعْجِلُونَ) معناها تكذبون، وإني أقول أنهم كانوا مكذبين حقيقة ولكن كانوا يستعجلون فعلا ولو بظاهر القول، ويكون ذكر الاستعجال تهكما بهم وتوبيخا لهم في قوله تعالى:(وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) جمع بين الماضي والحاضر، وهو دليل على استمرار استعجالهم التهكمي وتكذيبهم باليوم الآخر ووعد اللَّه تعالى بالجزاء.
هذه حال المكذبين وإيمانهم بعدم وقوع العذاب وإنكارهم لتوقعه ثم إيمانهم به بعد أن يروه، ثم يبين سبحانه وقوع العذاب وتمكنه منهم فيقول تعالى:
(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
(ثُمَّ) للعطف والترتيب والتراخي، والعطف هنا يكون على الاستفهام السابق وما تضمن من توبيخ وتهكم بهم، كما تهكموا على أوامر اللَّه تعالى ونواهيه من قبل، ودعوتهم إلى الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب، والتراخي في الانتقال من مرتبة التوبيخ على الكفر إلى مرتبة العذاب العتيد الحاضر المهيأ.
قوله تعالى: (قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بني للمجهول للإشارة إلى أنه استخفاف منطقي يقال بحكم المنطق والوقوع لكفرهم، وعبر عنهم بالموصول (لِلَّذِينَ) للإشارة إلى سبب العقاب وهو ظلمهم بالشرك وقصد الضلال والإفساد في الأرض وأشاعه زور القول وبهتانه، وإفراطهم في الأخذ بالماديات التي سيطرت على أفهامهم وصاروا لَا يؤمنون إلا بها.
(ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) فيه إضافة العذاب إلى بيان له هو أنه خالد دائم ما دامت السماوات والأرض، وفي قوله تعالى:(ذُوقُوا) تشبيه للعذاب بالشيء الذي يذاق فيصيب إحساسهم، حتى أنهم يذوقونه كما يذاق الشيء المؤلم المرير.
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) فيه أن العذاب بسبب ما كنتم تكسبون من أعمال خبيثة فيها إيذاء للناس وإفساد لعقائدهم فهو جزاء وفاق، والجمع بين الماضي والمستقبل دليل على أنهم يكسبون الشر دائما لَا يناون عنه ولا يقصرون.
والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، والمعنى لَا تجزون إلا ما كنتم تكسبون، فجعل سبحانه الجزاء كأنه العمل الذي استوجبه أصلا، وذلك مبالغة في العدالة فالجزاء والعمل متساويان.
* * *
الجزاء شديد
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
* * *
ذكر لحالهم يوم القيامة عندما ينزل بهم ما كانوا يستعجلون به ويرونه حقا وصدقا وعيانا، وقد كانوا من قبل ينكرون وقوعه ويعجبون ويستهزئون ممن يذكرهم، وقد ذكر سبحانه صورة من القول الذي كان على ألسنتهم.
(يَسْتَنْبِئُونَكَ) النبأ هو الخبر ذو الشأن، والسين والتاء للطلب وهي، هنا لطلب البيان، فالمعنى يستخبرونك عن النبأ العظيم وهو أن الناس يحيون بعد أن يموتوا، وتجمع أجسامهم بعد أن صارت رفاتا وعظاما، وقد أمر اللَّه تعالى أن يجيبهم بتأكيد الوقوع مقسما. فقال سبحانه:(قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ).
(إِي) معناها " نعم " إنه حق ثابت واقع لَا محالة، وقد قدر علماء البيان أن كلمة (إِي) التي تكون بمعنى نعم، لَا تكون إلا ومعها قسم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما أمره ربه:(وَرَبِّي) أي الذي خلقني فبرأني ورباني، وفيه إشارة إلى تقريب تحقق ذلك الأمر الذي عجبوا منه واستنكروه واستهزءوا به، والقسم عليه (إِنَّهُ لَحَقٌّ) أكد أنه حق بالجملة الاسمية وبـ " إنَّ " التي للتوكيد وباللام.